قبل أسابيع قليلة التقيت بأحد نقاد السينما البريطانيين من رعيل الأمس. إنه واحد من الذين أسسوا حبي للنقد أمثال رتشارد كومب وفيليب ستريك ورتشارد راود وتوم ميل وبينيلوبي هيوستون ورايموند دورنات من بين آخرين. بعض هؤلاء رحل عن عالمنا، البعض لا يزال على قيد الحياة لكن لا أحد من الأحياء يزاول الكتابة اليومية في الصحف.
> هذا باستثناء هذا الزميل الذي ما زال يؤم المهرجانات. يشترك في إقامة ندوات وورش نقدية وتراه يتقدّم، بسنواته التي تفوق الخامسة والسبعين، ليقف في الصف الطويل من الصحافيين والنقاد الذين ينتظرون فتح بوابة الصالة للدخول إلى فيلم آخر قد يُثير الإعجاب وقد يُثير الأسى.
> القول إنه كان أكثر نشاطًا هو قول بدهي. الحقيقة أيضًا أنه كان أحد أكثر نقاد السينما البريطانيين شهرة في الثمانينات والتسعينات عندما كان يكتب في «ذا غارديان». بعد ذلك انتقل إلى «ذا إيفننغ ستاندارد» حيث بقي فيها طويلاً، قبل أن تبحث الصحيفة (ككل الصحف البريطانية الأخرى) عن نقاد من الجيل الجديد يخلفون الحرس القديم فتخصصه لاستعراض أفلام الـDVD هذا قبل أن يجد نفسه، ولأول مرّة، بلا صحيفة يومية بريطانية يكتب فيها.
> صاحبنا، بكل ما عنده من توق للبقاء في الخدمة، لم يستسلم ولو أنه اضطر لقبول وظيفة نقاد لأحد مواقع الإنترنت المعروفة، إذ يمر هذا الشريط وأنا أراه يتقدّم لأخذ مكانه في الصف يحضرني كذلك كل ذلك الجيل الأسبق الذي أشاع الثقافة السينمائية قبل عصر المتغيّرات التكنولوجية.
> أيامها كانت القراءة الوحيدة المتوفرة هي الموجودة في الصحف والمجلات والكتب. الوسيط المنفرد هو المطبوع، عوضًا عن المرئي اليوم. هؤلاء النقاد لم يملأوا أنفسهم غرورًا ويفرضون ذواتهم على القارئ. لم يبدأ أو ينهِ الواحد منهم مقالته النقدية وهو يتحدّث عن كيف رأى هو الفيلم وكيف استقبله وكيف عايشه. كانوا يتركون ذواتهم خارج مجال الكتابة لأن الموضوع هو الفيلم وليس الناقد ذاته.
> أعود إلى كلمة قالها ناقد مخضرم آخر غادرنا قبل حين هو الأميركي رتشارد كورليس الذي كتب في أحد مقالاته أن مشكلة النقد الحالية هو أنه هناك «الكثير من (اللايك) والقليل من المخ». كلام رائع. تكتب سطرين فيثيران الإعجاب. تكتب مقالات طويلة لا يقرأها إلا المتشبّثون بالثقافة لأبعد حدود، وهؤلاء هم القلة أسوة كذلك بكتاب الرياضة والسياسة والاقتصاد الذين يجدون أن الوسيط الإلكتروني أصبح الملجأ الأخير والعبء الكبير أيضًا.
> كثيرون من نقاد اليوم يكتبون لذلك الجمهور الذي لا يشتري الصحيفة المطبوعة ولا يكترث للمجلة التي كانت عماد الثقافة السينمائية. هم، النقاد، يعرفون تمامًا ما يفعلون، لكن السؤال هو إذا ما كان الجمهور يعرف تمامًا ما يفعل بالتخلي عن الوسيط الأجدى والأرحب كالصحيفة والمجلة والكتاب والإقبال عن تلك المقتطفات النقدية التي تشبه ألعاب «كلمات متقاطعة» حل لاعبها بعضًا قليلاً منها ثم انصرف عنها.
> المسألة تشمل الحياة الثقافية ذاتها عندما كانت السينما في عصر ذهبي حقيقي مفاده أفلام تؤول قراراتها إلى المخرجين فيبدعون ويتركوننا، نحن الهواة أبدًا، مشدوهين لإنجازاتهم.