القارئ العالمي... الأدب وقلق التلقي

جيل من الشبان لا ينظرون إلى العالم إلا من خلال الإنجليزية

رولان بارت
رولان بارت
TT

القارئ العالمي... الأدب وقلق التلقي

رولان بارت
رولان بارت

يلاحظ عبد الرحمن منيف في مقالة عنوانها «الكاتب والمنفى»، ضمن كتاب يحمل العنوان نفسه، ويضم مقالات وحوارات أجريت معه (نشر عام 1994)، أن بعض الكتاب العرب الذين يعيشون في منفى ثقافة ولغة مغايرة يواجهون وضعاً تكون فيه اللغة الأجنبية شَرَكاً تتحدد بموجبه ليس هويتهم الشخصية فحسب، وإنما طبيعة ما يكتبون، واللغة التي يكتبون بها؛ «لأنها، في الحالة الجديدة، تصبح أكثر من لغة، وأكثر من مجرد جسر بين ثقافتين وحضارتين. فبعد أن كانت تستهدف إبلاغ رسالة، ويفترض أن تكون واضحة ومحدودة، تصبح أساساً للجدارة من قبل الآخر، وضمن شروطه». اللغة الجديدة بثقافتها التي تحتوي الكاتب المنفي عن وطنه، ويمكننا أن نضيف المغترب بإرادته وليس بالضرورة المنفي، تطالب الكاتب، حسب ما يرى منيف، بـ«أن يكون جديداً ومختلفاً ليس عما كانه، أو ما يجب أن يصل إليه، وإنما عليه أن يستجلب من ذاكرته العجيب والمدهش ضمن مواصفات سوق استهلاكية لها قوانينها وآليتها الخاصة». وفي حوار آخر نعى منيف على الرواية العربية أن يكون همّها «مخاطبة العقل الغربي، بالقفز على القارئ العربي وتجاوزه، وبالتالي تصوير الواقع فولكلورياً، لإرضاء الغرب، وإظهار البراعة وإتقان الصنعة، حسب مقاييسهم...».

ستانلي فش

ثمة أمور عدة يمكن استخلاصها من ملاحظة منيف المهمة، لكني أود التوقف عند نوع القارئ الذي يبحث عنه بعض الكتاب العرب، ربما كثير منهم لا أدري، وليس المغتربين أو المنفيين وحدهم ممن يقصدهم منيف، وإنما غير المغتربين أو المنفيين أيضاً. وأظن أن ما يصدق على أولئك الكتاب العرب قد يصدق على كتاب من مناطق مختلفة من العالم غير الغربي، كتاب من آسيا وأفريقيا بصفة خاصة. إنه القارئ العالمي أو الأجنبي الذي يبحث عنه أولئك الكتاب، ليس رفضاً للقارئ العربي أو المحلي بالضرورة، وإنما سعياً إلى الانتشار والعالمية. أصفه بالقارئ العالمي، على افتراض أن ذلك القارئ موجود.

لا أظن من يكتبون باللغة الإنجليزية معنيين بالقارئ الذي أشير إليه؛ لأن كتابتهم بالإنجليزية تضعهم على أول الطريق نحو ذلك القارئ العالمي، أو القارئ المنتشر في كل أنحاء العالم. كتابتهم بحد ذاتها لا تضمن لهم الوصول إلى ذلك القارئ؛ لأن ثمة اعتبارات كثيرة تمارس تأثيرها في تعبيد الطريق أو ملئه بالعقبات حتى إن كان الكاتب يكتب بالإنجليزية، لكن الأكيد أيضاً هو أن الكتابة بالإنجليزية أو الترجمة إليها يضع الكاتب والكتاب على أول الطريق باتجاه ذلك القارئ الضمني/العالمي الذي لا أظن أنه كان في حسبان واضعي نظرية التلقي، أو بتحديد أكبر واضعي نظرية استجابة القارئ التي تعطي أهمية كبرى للقارئ في تحديد طبيعة النص على أساس أن كل نص يتضمن قارئاً يتخيله الكاتب ويتفاعل معه، وإن لم يعه بالضرورة.

الكاتب العربي، مثله في ذلك مثل أي كاتب لا تضعه لغته الأم مباشرة أمام فرص الوصول إلى العالم، يتطلع إلى الترجمة بوصفها الممر المحتمل نحو الانتشار أو العالمية. والكاتب هنا ليس بالضرورة روائياً أو شاعراً وإنما قد يكون باحثاً أو مفكراً أو صحافياً. ومن حق كل أولئك وغيرهم أن يتطلعوا إلى توسيع قاعدة قرائهم، فهو مطلب طبيعي. وتوسيع تلك القاعدة لن يتحقق، كما هو معروف، دون لجوء إلى لغة عالمية، لغة تضرب جذورها في بقاع العالم من شمال أوروبا حتى جنوب أفريقيا، ومن شرق آسيا حتى غرب الأميركيتين. الإنجليزية تأتي في المقدمة بالطبع، لكن الفرنسية والإسبانية وغيرهما تلحقان بالركب وإن على تباعد. وإذا كانت الترجمة البوابة المباشرة، فإن الكتابة بلغة منتشرة وعلى مستوى عالٍ من التمكن ستكون مدخلاً أفضل وأسرع إلى عالم القراء. والسؤال الذي يتماثل هنا هو عن القارئ الذي وصفته بالعالمي في النصوص غير الغربية. انتشاره في مختلف أنحاء العالم تبعاً لانتشار الإنجليزية يوحي بأنه قارئ عالمي بالمعنى الحرفي، لكن حقيقة الأمر هي أنه سيكون قارئاً غربياً، وليس بالمعنى المطلق وإنما بالتخصيص، قارئاً من أوروبا الغربية وأميركا الشمالية. إنه القارئ الذي تخيله أو افترضه واضعو نظريات التلقي واستجابة القارئ من أمثال الألمانيين هانز روبرت ياوس وفولفغانغ آيزر، والفرنسي رولان بارت، والأميركي ستانلي فش. لكن ذلك القارئ الغربي وإن هيمن على النص فلن يكون وحده المستهدف بالكتابة في تقديري. على أن من المهم أن نتذكر هنا أن المنظّرين الغربيين إن تخيلوا القارئ فإنهم لم يتخيلوا الكاتب غير الغربي في سعيه إلى القارئ الغربي. ذلك ما يهم العالم غير الغربي.

عبد الرحمن منيف

القارئ الغربي هو من يشير إليه عبد الرحمن منيف حين يتحدث عن الآخر، وقد يكون محقاً في أن المستهدف ليس أي قارئ بالإنجليزية أو الفرنسية أو غيرهما من اللغات الأوروبية، وإنما هو تحديداً القارئ الأوروبي أو الأميركي الملامح، القارئ المتفوق حضارياً والمهيمن سياسياً، والقوي اقتصادياً، القارئ الذي يعني الاقتراب منه اقتراباً من العالمية الحقيقية كما يتصورها الكثيرون، مثلما يعني الاقتراب من المبيعات أيضاً. استجلاب «العجيب والمدهش» لنيل إعجاب ذلك القارئ قد يكون أحد المؤشرات على ذلك اللون من الكتابة المصوغة لقارئ أجنبي تُلتمس العالمية من خلاله. وإذا كان من التعجل والظلم أيضاً لكثير من الأعمال الروائية وغير الروائية المكتوبة بلغات أوروبية بصفة خاصة، أن يقال إن العنصر الغرائبي فيها إنما وضع لإرضاء القارئ الغربي، فإن إلغاء ذلك الاحتمال تماماً قد لا يكون مبرراً من الناحية النقدية، لا سيما إذا تذكرنا أن دُور النشر تلعب دوراً أساسياً وحيوياً أيضاً في انتقاء ما يمكن نشره من الأعمال في أوروبا وأميركا. ويصدق ذلك على انتقاء الأعمال الصالحة للترجمة، فالمترجم قبل دار النشر يتصيد الأعمال التي يتوقع أنها جاذبة للقارئ «العالمي»، الغربي الملامح، مثلما هي جاذبة لدور النشر الغربية أيضاً، فالمواصفات لا تشمل عادة مدى اتصال العمل بقضايا وطنه، أو بهموم الناس في المنطقة التي أنتج فيها. قد لا تخلو من أهمية بالنسبة للمترجم ودار النشر، لكن أهم منها هو عنصر الجذب، العنصر الذي تحرص عليه كل دور النشر دون شك، لكن بمعايير مختلفة، فما يجذب قارئاً إنجليزياً أو فرنسياً ليس بالضرورة ما يجذب قارئاً هندياً أو عربياً. وقد يكون ذلك العنصر هو الفولكلوري، كما يقول منيف.

في مقالة نشرتها الصحيفة الهندية الإلكترونية «ذا هندو» (سبق أن ترجمتُها ونشرتها «الشرق الأوسط» تحت عنوان «حوارات عبر الثقافات.. سياسيات الترجمة»، ومتاحة في كتابي «الثقافة في زمن الجائحة») ذكر كاتب المقال أن دور النشر الغربية لا تقرر فقط ما يمكن أن يصل إلى القارئ الغربي، وإنما حتى ما يمكن أن يصل إلى القارئ في الهند أو نيجيريا من كتب منشورة في ألمانيا أو كوريا: «إذا كان كل كتاب مترجم، كما يقال، نافذة على ثقافة أخرى، فإن الناشرين البريطانيين والأميركيين هم الذين يقررون في الغالب أي النوافذ يمكن أن تفتح على ألمانيا، أو كوريا أو البرازيل للقارئ الهندي أو النيجيري. هل تفتح هذه النافذة على الجنوب أم الشمال؟ هل هذه النافذة تفتح على يمين ذلك البيت المعيّن للثقافة أم على يساره؟ رؤية القارئ الهندي أو النيجيري - رؤيته حتى لألمانيا وكوريا والبرازيل - تتشكل على يد مراكز تجارة اقتصادية وثقافية كولونيالية أو إمبريالية سابقة». هذه الهيمنة على سوق النشر هي ما يعيه بعض الكتاب في أنحاء مختلفة من العالم، فيصوغون نتاجهم على أساسه. ومن الصعب أن يلاموا إذا كانوا بحاجة إلى المال، لكن إذا كانوا زاهدين في ثقافاتهم ولغاتهم تفضيلاً للآخر، فإن من الصعب تبرئتهم.

قد لا تكون البلاد العربية أول ما يخطر بالبال حين يتحدث المرء عن قراء باللغة الإنجليزية، فدول مثل الهند ونيجيريا تعد الإنجليزية لغة رسمية أحرى بأن تتوجه إليها دور النشر بكتب منشورة بتلك اللغة. لكن الوضع يتغير – للأسف – بسرعة، والإنجليزية تنتشر كالنار في الهشيم وسط جيل من القراء الشبان لا ينظرون إلى العالم إلا من خلال الإنجليزية. فإلى أولئك يتوقع أن يتجه الكتّاب والمترجمون، والذين إليهم ترسل دور النشر أنظارها وتفتح الجيوب. أفراد أولئك الجيل، وأمثالهم في بقاع كثيرة أخرى من العالم، يرسمون بعضاً من ملامح القارئ العالمي الذي يلبس هوية اللغة الإنجليزية وإن بقيت ملامحه في حالة سيولة في عصر وصف بأنه عصر الحداثة السائلة.



لماذا جُنَّ نيتشه؟

نيتشه مع أمه
نيتشه مع أمه
TT

لماذا جُنَّ نيتشه؟

نيتشه مع أمه
نيتشه مع أمه

أنْ تصل إلى قمة الشعر كالمتنبي وفيكتور هيغو فهذا شيء مفهوم ومقبول وإن على مضض. أنْ تصل إلى قمة الفكر كديكارت وكانط وهيغل، فهذا شيء مفهوم ومعقول، وإن على مضض أيضاً. أما أنْ تصل إلى قمة الشعر والفكر في آن معاً فهذا شيء ممنوع منعاً باتاً. هذا شيء لا يحتمل ولا يطاق. هل لهذا السبب جُنَّ نيتشه؟ من يعلم؟ أم أنه اقترب من السر الأعظم أكثر مما يجب فعميت عيناه؟

في شهر مايو (أيار) من عام 1879 استقال نيتشه من جامعة بال بسويسرا بسبب أمراضه العديدة المتفاقمة على الرغم من أنه لم يكن قد تجاوز الخامسة والثلاثين عاماً: أي في عز الشباب. وقد اقتنعت الجامعة بظروفه وحيثياته وقبلت بأن تصرف له تقاعداً شهرياً متواضعاً يكفيه لدفع أجرة الغرفة والأكل والشرب وشراء بعض الكتب والمراجع. أما الثياب فلم يكن بحاجة إلا إلى أقل القليل: غيار واحد فقط، طقمان وقميصان. وكفى الله المؤمنين شر القتال. بدءاً من تلك اللحظة أصبح نيتشه شخصاً تائهاً مشرداً على الطرقات والدروب. بدءاً من تلك اللحظة أصبح فيلسوفاً حقيقياً وكاتباً ضخماً لا يُشقُّ له غبار. لقد بقيت له عشر سنوات فقط لكي يعيش حياة الصحو. بعدئذ سوف يقلب في الجهة الأخرى من سفح الجنون. ولكن هذه السنوات العشر كانت كافية لكي يضع مؤلفاته الكبرى التي دوخت العالم منذ مائة وخمسين سنة حتى اليوم. بدءاً من تلك اللحظة أصبح العالم كله بوديانه السحيقة وغاباته العميقة مثل كتاب مفتوح على مصراعيه لكي يتفلسف عليه. هل يمكن أن يمضي نيتشه حياته كلها في إعطاء الدروس الجامعية بأوقات محددة وإكراهات وظيفية مزعجة وتصحيح أوراق الطلاب؟ محال. هذه حياة لا تليق بفيلسوف بركاني زلزالي يكاد يتفجر تفجراً... نقول ذلك، بخاصة أنه كان يكره الفلسفة الجامعية وأستاذ الجامعة ويعدّه «كالحمار» الذي يحمل أثقالاً وأفكاراً جاهزة يكررها على مدار السنوات حتى سن التقاعد. هل هذه حياة؟ هل هذه فلسفة؟ على هذا النحو انطلقت عبقريته وانفتحت طاقاته الإبداعية على مصراعيها. عشر سنوات كانت كافية لكي يزلزل تاريخ الفلسفة من أولها الى آخرها.

كل كتاباتي ليست إلا انتصارات على ذاتي!

هذا ما كان يردده باستمرار. وهي بالفعل انتصارات على المرض والمخاطر والصعوبات. إنها انتصارات على تربيته الأولى بشكل خاص. والأهم من ذلك كله أنها كانت انتصارات على التراث الموروث المتراكم والراسخ في العقليات رسوخ الجبال. هنا تكمن الزلازل النيتشوية. أين أمضى الشهور الأخيرة قبل أن ينفجر عقله كلياً؟ لقد أمضاها في مدينة تورين الإيطالية الجبلية الساحرة وهناك شعر بالارتياح وباسترجاع الصحة والعافية إلى حد ما. لقد استقر فيها خريف عام 1888 وأظهر شهية هائلة للكتابة وتفجرت طاقاته الإبداعية في كل الاتجاهات. وما كان أحد يتوقع أنه سينهار بعد أربعة أشهر فقط، ولا هو كان يتوقع ذلك بطبيعة الحال. ولكن الأشياء كانت تتراكم والانفجار الصاعق قد اقترب. نقول ذلك بخاصة أنه استطاع تأليف 5 كتب متلاحقة في ظرف 5 أشهر فقط. من يستطيع أن يؤلف كتاباً كل شهر؟

فلماذا الإعصار إذن؟ لماذا الانهيار بعد كل هذه الانتصارات التي حققها على ذاته وعلى أمراضه وأوجاعه؟ هل لأنه أنهك نفسه أكثر مما يجب فانفجر عقله في نهاية المطاف من كثرة التعميق والتركيز؟ هل الفلسفة تجنن إذا ما ذهبنا بها إلى نهاياتها، إلى أعماق أعماقها؟ هل يمكن أن ينكشف السر الأعظم لمخلوق على وجه الأرض؟ لا أحد يؤلف 5 كتب في 5 أشهر أو حتى 4. أم هل لأنه قال كل ما يمكن أن يقوله ووصل إلى ذروة الإبداع العبقري ولم يبق له إلا أن ينبطح أرضاً؟ أم هل لأنه كان مصاباً بمرض السفلس (الزهري) الذي اعتراه منذ شبابه الأول في مواخير مدينة كولونيا عام 1966. أم أن تلك الغاوية الحسناء سالومي جننته؟ أم؟ أم؟ أم؟ والله أعلم. البعض يقولون إنه دفع ثمن هجومه الصاعق على المسيحية غالياً. ينبغي ألا ننسى أنها كانت دين آبائه وأجداده، وأن والده كان قساً بروتستانتياً وجده كذلك، وجد جده أيضاً.. إلخ. ومعلوم أن أمه فرانزيسكا جن جنونها عندما سمعت بأنه أصبح ملحداً بعد أن كان مؤمناً متديناً بل وتقي ورع طيلة طفولته وشبابه الأول. فكيف انقلب على كل ذلك؟ كيف انقلب على ذاته وأعماق أعماقه؟ ألم يدفع ثمن هذا الانقلاب باهظاً؟ يحق له بالطبع أن يفكك الأصولية الطائفية والمذهبية الموروثة عن القرون الوسطى. يحق له أن يستأصلها من جذورها كما فعل أستاذه فولتير الذي أهداه أحد كتبه قائلاً: إلى فولتير أحد كبار محرري الروح البشرية. ولكن لا يحق له أن يستأصل العاطفة الدينية ذاتها. لا يحق له أن يستأصل أعظم ما أعطاه الدين المسيحي من قيم أخلاقية تحث على الإحسان والشفقة والرحمة وحب الآخرين (بين قوسين: وهي قيم موجودة في الإسلام أيضاً إذا ما فهمناه بشكل صحيح وليس على طريقة الإخوان المسلمين الذين لا شفقة لديهم ولا رحمة، وإنما فقط طائفيات ومذهبيات وتكفيرات وتفجيرات). لحسن الحظ فإن أمه لم تطلع على كتابه الأخير عن الدين وإلا كانت قد أُصيبت بالسكتة القلبية على الفور.

ما هي العلائم الأولى التي أرهصت بانهياره العقلي؟

تقول لنا الأخبار الموثقة ما فحواه: لقد ظل يكتب بشكل عقلاني متماسك حتى آخر لحظة تقريباً من عام 1888. ولكن بعد ذلك ابتدأت عبارات الجنون تظهر وتختلط بالعبارات العقلية المتماسكة أو التي ما زالت منطقية متماسكة. ابتدأت هذياناته غير المعروفة تظهر رويداً رويداً. ابتدأ يشعر بالبانورايا الجنونية. بموازاة ذلك تضخمت شخصيته وتحولت إلى هذيان كوني. هل هو جنون العظمة؟

بعدئذ في 6 يناير (كانون الثاني) من عام 1889، أي بداية العام الجديد الذي شهد انهياره تلقى البروفيسور الكبير جاكوب بوركهاردت أستاذ نيتشه والجيل كله رسالة هذيانية يقول فيها:

«الشيء الذي يخدش تواضعي وحيائي هو أنني أجسد في شخصي كل الأشخاص العظام الذين ظهروا في التاريخ. لقد شهدت خلال الفترة الأخيرة جنازتي ودفني مرتين في المقبرة»... ما هذا الكلام؟ ما هذا الهذيان؟ ما هذا الجنون؟ من يشهد جنازته ودفنه في المقبرة؟

عندما وصلت هذه الرسالة إلى بروفيسور سويسرا الكبير اتصل فوراً بأقرب صديق عزيز على قلب نيتشه: الدكتور فرانز أوفربيك وسلمه الرسالة قائلاً: لقد حصل شيء ما لنيتشه. حاول أن تفهم. حاول أن تفعل شيئاً. عجل، عجل. وعندئذ هرع الرجل وركب القطار فوراً من سويسرا إلى إيطاليا لكي ينقذ الوضع إذا أمكن. ولكن بعد فوات الأوان.

يقول ما فحواه: عندما دخلت عليه الغرفة وجدته مستلقياً نصف استلقاءة على الأريكة وبيده ورقة مكتوبة. فتقدمت نحوه لكي أسلم عليه ولكن ما إن رآني حتى انتصب فجأة على قدميه وهرع هو نحوي ورمى بنفسه بين أحضاني. لم يقل كلمة واحدة، لم يلفظ عبارة واحدة، فقط كان ينتحب بصوت عال والدموع تنهمر من عينيه مدراراً. وكل أعضاء جسمه كانت تختلج وترتجف وهو يردد كلمة واحدة هي: اسمي فقط. لكأنه يستغيث بي. لم تكن الحساسية البشرية قد انتهت فيه كلياً آنذاك. لم يكن عقله الجبار قد انطفأ كلياً. فيما بعد لم يعد يتذكر إلا أمه وأخته اللتين أشرفتا عليه حتى مات عام 1900. (بين قوسين: انظر صورته مع أمه أكثر من مؤثرة). وفجأة شعرت أخته إليزابيت بأنها تمتلك كنز الكنوز: مؤلفاته العبقرية! فقد راحت تكتسح ألمانيا كلها من أولها إلى آخرها في حين أنه لم يبع منها في حياته أكثر من عشر نسخ. بل وكان ينشرها على حسابه الشخصي على الرغم من فقره وتعتيره. ولكن بعد جنونه بفترة قصيرة ذاع صيته وانطلقت شهرته. ثم راح صوته يخترق كالرعد القاصف السماء المكفهرة للبشرية الأوروبية. وأصبحت كتبه تباع بالملايين. بل وتحول كتابه «هكذا تكلم زرادشت» إلى إنجيل خامس كما يقال. وأقبلت عليه الشبيبة الألمانية تتشرب أفكاره تشرباً. وقد تنبأ هو بذلك عندما قال: «هناك أناس يولدون بعد موتهم. سوف تجيء لحظتي ولكني لن أكون هنا».

رسائل الجنون

سوف أتوقف فقط عند تلك البطاقة التي أرسلها إلى «كوزيما» زوجة صديقه ومعلمه السابق الموسيقار الشهير ريتشارد فاغنر. كل المخاوف والإحراجات التي كانت تمنعه من البوح لها بعواطفه ومشاعره حرره منها الجنون. يبدو أنه كان مولهاً بها منذ زمن طويل عندما كان يزورهم في البيت الريفي ويمضي عدة أيام في ضيافتهم. وحتماً كان يغازلها بشكل خفيف. ولكنه كان حباً عذرياً خالصاً لا تشوبه شائبة.

يقول لها في تلك الرسالة الجنونية:

«حبيبتي الغالية جداً أميرة الأميرات. من الخطأ اعتباري شخصاً عادياً كبقية الناس. لقد عشت طويلاً بين البشر وأعرف كل ما يستطيعون فعله من أسفل شيء إلى أعلى شيء. بين الهنود كنت بوذا بشخصه. وعند الإغريق كنت ديونيسوس. والإسكندر المقدوني وقيصر روما هما من تجلياتي أيضاً. وحتى الشاعر شكسبير واللورد فرانسيس بيكون تجسدا في شخصي. وكنت فولتير ونابليون وربما ريتشارد فاغنر ذاته. لقد تقمصتهم جميعاً.

ولكن هذه المرة أجيء كديونيسوس الظافر الذي سيجعل الأرض كلها كرة من نور وحفلة عيد. السماوات ذاتها أصبحت ترقص وتغني وتطلق الزغاريد ما إن وصلت.. وكنت أيضاً معلقاً على الصليب».