سيف المرّي: الشعراء يتكلمون مع بشر لم يولدوا بعد

الشاعر والكاتب ورئيس تحرير دار «الصدى للصحافة والنشر» : العربية لغة اكتملت منذ زمن

سيف المري
سيف المري
TT
20

سيف المرّي: الشعراء يتكلمون مع بشر لم يولدوا بعد

سيف المري
سيف المري

بين مجموعته «الأغاريد» و«العناقيد» في طبعتها الرابعة 2010، ومجموعتيه القصصيتين «رماد مشتعل» 2006، و«بيت العنكبوت» قصص قصيرة جدًا 2010، وكتاب مقالات «أجراس الحروف» 2013، يسعى الشاعر والكاتب الإماراتي سيف بن محمد المرّي إلى تكوين عالمه الأدبي الخاص في الاختزال والتكثيف والتأمل. فهو مُقِلّ، لكن ما نشره يُفسّر الاهتمام الدقيق بما يكتب.
يقول في تصدير مجموعته القصصية «بيت العنكبوت»: «آثرت أن أتخذ في كتابة مادتها أسلوبًا أحسبه جديدًا، مع حرصي على انتقاء المفردات بعنايةٍ، بحيث لا تشوبُ نسبَها العربي شائبةٌ، ولا تُداخلها عُجمة، ثم جعلتها، أي القصص، غاية في القِصَر، لأننا نعيش زمنًا لا يحب أهله السرد والإطالة، بل هم مولعون بالإيجاز».
سيف بن محمد المرّي يرأس تحرير «دار الصدى للصحافة والنشر»، التي تُصدرُ عددا من المجلات المتخصصة، ومنها «الصدى» الاجتماعية الأسبوعية الموجهة للأسرة العربية، أما الإصدارات الشهرية فهي مجلة «دبي الثقافية»، ومجلة «جواهر» المعنية بالشعر والأدب الشعبي، ومجلة «بنت الخليج، وكذلك مجلتا «شباب عشرين» و«شهرزاد».
هنا حوار عن تجربة المرّي الأدبية والصحافية، وتنقلاته بين كتابة القصة والشعر والمقالة:
* من خلال مسيرتك الأدبية، تجمع بين كتابة الشعر والقصة القصيرة والمقالة، كيف يمكن التوفيق بين كل هذه الأجناس الأدبية؟
- لو رجعنا إلى أصل الكون لوجدناه قد بدأ بكلمة من حرفين، ولو دخلنا إلى عوالم الروحانيات، فالله خلق الكون بكلمة «كن» ذات الحرفين، والتي نشأ منها الوجود؛ إذن الوجود ناشئ عن كلمة.. والكلمة شيء عظيم. كلمة «كن» أصل الوجود مكوّن لكل شيء بعده. ومن يستخف بالكلمة إنما يستخف بالوجود. في أعرافنا العربية وتقاليدنا الرجل تربطه كلمة، لأن الذي لا تربطه الكلمة لا تربطه المواثيق، ويستطيع أن يتحايل على الورق وما بين السطور. الكلمة أصل كل الأشياء. الأدب أو الشعر أو القصة عبارة عن نسيج من الكلمات، وهذا النسيج مرتبط بمستوى ومهارة النسّاج، ومن هنا يأتي الإبداع. إذا كانت لغة النسّاج ثرية فإن هذا النسيج يكون من الحرير، أغلى ما في النسيج، وإذا نزل في مستواه أصبح صوفًا.
* الكتابة إذن صنعة لا بد من إتقانها، وأداتها اللغة.. هل اللغة هي التي تباين بين الأدباء؟
- بالتأكيد، كلما تمكن الكاتب من هذه الصناعة أثرى الإبداع واللغة، والثراء يأتي من هنا. وفي هذه النقطة تذوب الفواصل بين الشعر والقصة والمقالة والرواية، تعقيبًا على سؤالك، لأن الإبداع في حقيقته يكمن في الكلمات، ولكن تبقى الفكرة في كيفية النسج على المنوال. مهما كان الموقف من الجناس الأدبية، تبقى الفكرة هي كل شيء، ولغة الشاعر أو الكاتب هي الأساسية. وفي أدبنا العربي القصص الشعري موجود منذ زمن قديم. في ظني أن كتابة الشعر هي الأصعب، لأنه يعتمد على التكثيف والاختزال والرمز.
* هل يمكن القول إن اللغة العربية متميزة بطاقاتها الشعرية وقدرتها على احتواء الإبداع بكل أشكاله؟
- العربية لغة اكتملت منذ فترة طويلة، وما طرأ عليها من استحداثات جعلها لغة كاملة. ولو رجعنا إلى العهد الإسلامي نجد أن اللغة العربية اكتملت فيه، ولو لم تكتمل اللغة لما نزل القرآن. لماذا؟ لأنه كتاب سماوي. لا يمكن أن يكون الكتاب المنزل ناقصًا، فهي بالتالي اكتملت منذ فترة طويلة، وازدادت مع مرور الزمن، مع زيادة الاصطلاحات العصرية، وأثبتت أنها قادرة على التكيّف مع العصر. وميزة اللغة العربية أن الاستعانة بالقاموس قليلا يمكن أن تفهم نصًا كُتبَ منذ ثلاثة آلاف سنة، فالقارئ الإنجليزي لا يستطيع أن يتعرّف إلى نص شكسبيري كُتِبَ باللغة الإنجليزية القديمة. وهذا يفسّر أن اللغة العربية قادرة على الحياة أكثر من اللغات الأخرى. أما سؤالك عن ميلي إلى التراث واللغة التراثية، فذلك لأنني استمررت أنهل من المنجم القديم، من فضته وذهبه لأنك كما تعلم تتعرض اللغة العربية إلى هجمة شرسة.
* ثمة ميل إلى الاختزال أو ما يمكن أن نطلق عليه اللغة البرقية خاصة في قصصك القصيرة جدا.. هل من أسباب؟
- أعتقد أن الجملة الجامعة والمانعة والقصيرة قادرة على التعبير وتوصيل المعنى، خاصة ونحن نعيش زمن الملخصات والإيجازات. الصحافي، على سبيل المثال، لا يستطيع أن يكتب القصة الخبرية كما كنت تكتبها قبل عشر سنوات؛ لأن القارئ الحالي ليس كالقارئ أيام زمان.
* هل تؤمن بما يقول عن مفهوم النص المفتوح الذي تتلاشى فيه حدود الأجناس الأدبية؟
- هذا ما حصل في الأدب العالمي، ولكن عندنا لا تزال الحدود موجودة بين الأجناس الأدبية المختلفة من شعر وقصة ورواية ومقالة. القصة على سبيل المثال تتحمّل اللغة الحوارية الشعرية. وسقوط تفاحة أمام نيوتن مثلا تفصيل صغير، حيث تسقط آلاف التفاحات يوميًا. لكن العين التي التقطت هذا التفصيل وبنت عليها نظرية كاملة في قوانين الفيزياء هي الأهم. وكما يُقال فإن الشيطان يكمن في التفاصيل. إنه شيطان الفكرة، ومن دون هذه التفاصيل لا يمكن أن نكتب أدبًا. والمعروف أن شرارة القصة أكبر من شرارة الشعر. القاص كالرسام. الأفكار موجودة لكن الإبداع هو كيف تصنع منها قصة فنية، وهي تنطلق من الواقع الموضوعي حتى لو كانت لها جذور افتراضية.
* في مجموعتك «رماد مشتعل» تستوحي من الواقع الافتراضي.. هل يمكن توضيح ذلك.. هل تقصد الواقع الافتراضي حقًا؟
- نحن نعيش في زمن الواقع الافتراضي شئنا أم أبينا. وفي الحقيقة، كل قصة تعبّر عن الواقع الافتراضي، لكنها من الممكن أن تقع أو تحدث. لقد عاشها البشر، والتاريخ يُعيد الأحداث الإنسانية ذاتها. هذه هي صيرورة الكتابة. والجميل في الإبداع أن القارئ وإن علم أن القصة من نسج الخيال فإنه يتفاعل معها، وهو يعبّر عن مواقفه إزاء هذه الأحداث الافتراضية، والخيال هو الجزء الأكبر من حياتنا.
* هل تعتقد أن الكاتب العربي تفاعل بما فيه الكفاية مع مشكلات مجتمعه؟
- لا أعتقد ذلك. إن ما يحدث في العالم العربي لا نجد تداعياته في الأعمال الإبداعية، ربما لأن تفاعل الكاتب مع محيطه ضعيف أو أن الكاتب ينتظر حتى تختمر الفكرة وبعد ذلك يصوغها أدبيًا. المثقف في واد والأحداث في واد؛ لأن الغوغائيين هم الذين يتصدرون الأحداث. الثورات التي ادعّت أنها ثورات دمرّت كل شيء، بينما الإنسان العربي ثار من أجل واقع أفضل. لا توجد ثورة تدمّر البلدان. الثورات التي حصلت في العالم مثل الثورة الفرنسية صاحبها قمع وقتل واضطهاد، إلا أن السلام الاجتماعي أعقب ذلك ولا يزال قائمًا حتى الآن.
* هل استطاعت القصة الإماراتية أن تقطع أشواطًا كبيرة في نظرك؟
- لست ناقدًا لتقييم ذلك، لكنها بلا شك وصلت إلى مراحل متقدمة. ويرتبط ذلك بتطور التعليم وتقدمه في الإمارات، وهو منجز كبير في هذا الميدان. وقد سبقنا إلى ذلك في كل من مصر والعراق والشام بقرون، لأن هذه المناطق كانت في الأصل مهدًا للحضارة العربية، بينما كنا نحن نعيش في اقتصاد بدائي قائم على الصيد البحري. وكان واقعنا الاقتصادي مزريًا، لكن مع الاتحاد تغيّر كل شيء، خاصة التعليم الذي أشرت إليه قبل قليل. ولو نعود إلى بدايات نهضتنا في أواخر الستينات وأوائل السبعينات فهو يُعد بالدقائق في حياة الشعوب. وما أنجز من مستوى حضاري يعتبر طفرة نقلت المجتمع الإماراتي إلى مرحلة متقدمة، ولو أن الطفرات ترافقها بعض الجوانب السلبية؛ ومن الطبيعي أن يرافق الإبداع الأدبي الإماراتي هذه التحولات.
* هل جرّبت كتابة الرواية؟
- أعتقد أن كتابة الرواية مثل وقوع حادث كبير، لم يهيأ الإنسان نفسه له. وحتى الآن لم يقع لي هذا الحدث. يبدو لي أن القصة القصيرة استهوتني أكثر، والمجموعة القصصية في تجانسها عبارة عن رواية. والقصة هي حادث وقع لغيرك، بينما الرواية عمل جبّار يحتاج إلى لغة وأحداث وأبطال. إنها تشبه كتابة الملحمة الشعرية، وكاتبها شاعر عملاق. أعتقد أن كتابة الرواية تأتي طوع الخاطر دون تخطيط، ويمكن للقاص أن يتحوّل إلى كتابة الرواية، عندما تفرض عليه تفاصيل لا تستوعبُها القصة القصيرة.
* أنت تكتب الشعر العمودي وشعر التفعيلة، هل هذا خيار مسبق أم أنه اعتياد السير على النهج السائد؟
- إذا كتبت البيت الأول للقصيدة على البحر العروضي فلا يمكنك أن تتخلى عنه إلى نهاية القصيدة، أما إذا دخلت إلى قصيدة التفعيلة من أول الكتابة فلا تستطيع أن تعود منها. الشعر هو جرس موسيقي متى ما عمل في أعماقك تستسلم له. وربما قصيدة التفعيلة تمنحك فكرة التحرر من هيمنة البحر الشعري إلى فضاء أوسع. لا يقرر الشاعر كيف يكتب نصه، هناك شيء غامض في الإبداع يفرض نفسه عليك. والشيء الأهم أن يقترب الشاعر من ذائقة الجمهور، لأن الشعر يمكن أن يعيش لآلاف السنين، والشعراء في قصائدهم يتكلمون مع بشر لم يولدوا بعد.
* هناك من يقول إن زمن الشعر ولّى وجاء وقت الرواية في الأدب العربي؟
- الشعر أكثر قدرة على استمرارية الحياة، ويمكن إعادة قراءة الشعر على مّر الزمن بينما الرواية تُقرأ لمرة واحدة ولا يعود لها القارئ في العادة. كل نوع بحاجة إلى موهبة ومقدرة.
* ألا تعتقد أن الشعر أكثر ذاتية من الرواية؟
- ربما. الشاعر يعبّر عن طبقته، لا يمكن أن نتوقع أن يشعر شاعر غني بواقع الفقير. على سبيل المثال، الشاعر بشار بن برد يستمع إلى المعتز بالله وهو يصف الهلال بقوله: «أنظر إليه كزورق من فضة.. قد أثقلته حوملة من عنبر».. وكأنه يصّف صحن داره لأن أمير المؤمنين كان جالسًا ومحاطًا بالذهب والفضة وحوملة من العنبر. لا يمكن أن ننتظر من الشاعر المرّفه أن يحسّ بآلام المسحوقين والمقهورين. وعندما ثارت الجماهير على الملكة ماري أنطوانيت، مطالبين بالخبز، قالت لهم: «إذا لم يكن لديكم خبز فكلوا الكيك»، لأن قصر لويس السادس عشر كان مليئًا بموائد الكيك. لا يمكن أن يحسّ رجل يده في الماء مثل رجل يده في النار. الشاعر معذور إذا لم يكتوِ بالنار.
* هل تؤمن بقصيدة النثر التي يكتبها الشباب؟
- رأيي الشخصي وهو ليس رأيًا أكاديميًا، أن الشعر من دون الجرس الموسيقى ليس شعرًا وقصيدة النثر ليست شعرًا، قد تكون ما نطلق عليها قصيدة منثورة لأن الموسيقى روح الشعر، والقصيدة من دون الموسيقى مثل نص ميت بلا روح. الشعر شعر والنثر نثر. ولا يجب الخلط بينهما. وعندما أطلقوا عليها قصيدة نثر يعني أنها من النثر، ولا يضيرها إذا كانت هكذا، فهي تعبّر عما يختلق في أعماق كاتبها.
* هل يستطيع الكاتب أن يوّفق بين عمله الوظيفي وإبداعه في نظرك؟
- إذا تحوّل الإبداع إلى وظيفة أصابه الموت لأن الشاعر حُر والموظف مُقيّد. بل هي تقضي على المبدع، وتستهلك وقته، وهو كنز الكاتب. وبالتالي لو تفرّغ الكاتب، وهذا مستحيل في عالمنا العربي، لأبدع أكثر. لذا أسعى إلى الكتابة الإبداعية في شهور الصيف، وبالتالي أتيح فرصةً أكبر للعمل الوظيفي.
* لكن شاعرًا كبيرًا مثل ت. س. إليوت كان يعمل في بنك؟
- (ضاحكًا) إنه يبدع بلا شك، لأنه يتصور أن كل أموال البنك ضمن ملكيته، لذلك العمل في البنك يجعل الإنسان مبدعًا.
* هناك ظاهرة بين الأدباء الإماراتيين هي أنهم لا يستمرون في طريق الإبداع؛ منهم من يكتب مجموعة قصصية أو رواية أو ديوانًا ويتوقف.. ما هي الأسباب في نظرك؟
- لا أستطيع أن أجيب بدلا عن هؤلاء الكتّاب والشعراء، وما أعرفه أن الكتابة حدث استثنائي في حياة الإنسان. هناك تبريرات ربما منها عدم الإيمان بالإبداع أو عدم تجاوب جمهور القراء مع إنتاج المبدع أو عدم التحمّس لهذه البيئة الطاردة.. الكتابة. يُضاف إلى ذلك أن الكاتب الإماراتي «حيّاوي» أي يبتعد عن التبجيل والتكريم. لدينا خصوصية متميزة في هذا المجال.
* ظهرت مؤخرًا دور نشر خاصة وهذا من شأنه أن يدفع الكاتب أو الشاعر الإماراتي إلى صدارة النشر، أليس كذلك؟
- هذا صحيح، ظهرت دور نشر خاصة في السنوات العشر الأخيرة. وهناك إقدام كبير من الشباب الإماراتي على الكتابة والنشر. إنني متفائل بهذا الجيل. ومن ناحية أخرى، اقتحم الشباب الإماراتي العالم الافتراضي وشبكات التواصل الاجتماعي، أي أنه يتمّشى مع روح العصر وروح التقنية الحديثة. وأهم ما في الموضوع هو التعامل بإبداع مع هذه التقنيات وعدم التحوّل إلى عبيد لها.
* ما هي مشروعاتكَ الإبداعية المقبلة؟
- بدأت أجمع ديوانًا جديدًا سيرى النور قريبًا بعد سنوات أعقبت ديواني «الأغاريد والعناقيد» الذي صدر في 2010.



التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية
TT
20

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

قلَّ أن تمكنت ظاهرة من ظواهر الحب في الغرب من أن تصبح جزءاً لا يتجزأ من الوجدان الشعبي الأوروبي، وأن تصبح في الوقت ذاته محل اهتمام الباحثين والمؤرخين وعلماء الاجتماع، كما هو حال ظاهرة الشعراء الجوالين في القرن الثاني عشر الميلادي. فهذه الظاهرة التي ولدت في الجنوب الفرنسي، والتي قامت على التعفف الفروسي والإعلاء المفرط المرأة، ما لبثت أن اتسعت دائرتها لتشمل مناطق أوروبية واسعة، وأن تمسك بناصية الشعر والحب على حد سواء.

وإذا كان في ما قاله المؤرخ سينيوبوس من أن الحب في الغرب هو من مخترعات القرن الثاني عشر، قدر من المبالغة والغلو، فإن نقاداً كثيرين يجمعون على أن فكرة الحب المرتبط بالعفة والهوى والعاطفة المشبوبة لم تأخذ طريقها إلى التبلور ولم تتحول إلى واقع ملموس إلا مع تلك الكوكبة من الشعراء، من أمثال غيوم دي بواتييه وفينتادور وبيار فيدال وديدييه ودورانج وآرنو دانييل وغيرهم. أما تسميتهم بالتروبادور فيردها البعض إلى أصل عربي مشتق من كلمتي «تروبا» وتعني الطرب، و«دور» التي هي مصطلح موسيقي، فيما ذهب آخرون إلى كونها مشتقة من الفعل «تروبار» بالإسبانية، ويعني نظم العبارات الجميلة أو الشعر المبتكر.

ومع ذلك، وأياً كان مصدر التسمية، فقد أجمع الدارسون على أن القرن الحادي عشر للميلاد هو التاريخ الفعلي لنشوء ظاهرة الشعراء الجوالين، الذين راحوا يجوبون أنحاء الجنوب الفرنسي متنقلين من قصر إلى قصر لينشدوا أمام الأمراء والأعيان، والنساء الجميلات والمتأنقات، قصائد وأغنيات ناضحة بالحب والشجن القلبي وآلام الفراق. والأرجح أن تبني إلينور، حفيدة الشاعر الجوال وليم التاسع، وزوجة الملك الفرنسي وليم السابع، وملهمة الشاعر برنارد دي فانتادور، لهذه الحركة، قد أسهم في تكريسها ودعمها وتحويلها إلى تقليد ملكي رسمي. وقد واصلت ماري فرانس، ابنة إلينور، تشجيعها لذلك النوع من الشعر الرومانسي الحالم، وهي التي حضت الشاعر الفرنسي كراتين دي ترويز على تأليف قصة لانسوليت، التي تعكس بوضوح مفاهيم الشعر البروفنسي.

وإذ وقف أدباء الغرب ومفكروه حائرين إزاء المنشأ الحقيقي لهذا التقليد الشعري والعاطفي، أعاده بعضهم إلى الفلاسفة الإغريق من أمثال أفلاطون وأفلوطين، ونسبه بعضهم الآخر إلى الشاعر الروماني أوفيد وتعاليمه المثبتة في كتابه الشهير «فن الهوى»، ورأى فيه البعض الثالث تأثراً بمفهوم العفة والتبتل المسيحيين، وأكد بعضهم الرابع على تأثير الشعر العربي العذري في نشوء تلك الظاهرة، خاصة بعد أن تجاوز العرب حدود الأندلس لتصل جيوشهم إلى قلب الأراضي الفرنسية نفسها.

ولا بد من التذكير بأن تسمية الفرسان بالشعراء الجوالين كانت ناجمة عن الدور القتالي الذي أنيط بهؤلاء الشبان من قبل الأمراء والنافذين، حيث كان عليهم حماية المقاطعات والمناطق والقصور المولجين بخدمتها، من كل خطر داخلي أو خارجي، إضافة إلى مشاركة بعضهم الفاعلة في الحروب الصليبية. إلا أن القواعد والأعراف الاجتماعية التي تم إرساؤها في تلك الحقبة، وصولاً إلى قوننتها في نُظم وأحكام، أخرجت الفروسية من نطاقها القتالي الصرف وحولتها إلى تقاليد متصلة بالشهامة والتسامح والنبل، وما استتبع العشق والوله العاطفي من قواعد ومواثيق.

وقد اعتبر أرنولد هاوزر في كتابه «الفن والمجتمع عبر التاريخ» أن الجديد في شعر الفروسية هو عبادة الحب والحرص عليه، واعتباره المصدر الأهم للخير والجمال والسعادة الحقة، حيث يتم التعويض عن حرقة الفراق بفرح الروح ونشوة الانتظار، مضيفاً أن التروبادور كانوا في الأصل من المغنين الذين يستقدمهم الأمراء إلى قصورهم وبلاطاتهم بهدف الاستئناس بأغانيهم والتخفف من أثقال الحروب والصراعات المختلفة. حتى إذا ما استُحدث تقليد كتابة الشعر في وقت لاحق، طُلب إليهم التغزل بنساء الأمراء وامتداح جمالهن ومقامهن السامي، على أن لا تتجاوز العلاقة بين الطرفين علاقة التابع بالمتبوع والخادم بسيدته، وكان الفرسان ومنشدو البلاط يقدمون فروض الولاء لهذه السيدة المثقفة، الموسرة والجذابة.

أما دينيس دي ريجمون صاحب كتاب «الحب والغرب»، فيستبعد أي دور للعامل الاجتماعي في نشوء ظاهرة التروبادور، لأن وضع المرأة في الجنوب الأوروبي لم يكن أقل ضعة وتبعية من وضعها في شمال القارة. إلا أنه يقيم نسباً واضحاً بين التروبادور والشعراء الكاتاريين، الذين بدا عشقهم للمرأة نوعاً من الديانة الخاصة، معتبراً أن كلاً من الطرفين قد استلهم في تجربته الحركات الصوفية والغنوصية، إضافة إلى الديانات الفارسية القديمة. وفي إطار بحثه عن منشأ تلك الظاهرة، لم يركن المؤلف إلى مصدر واحد، بل قادته الحيرة إلى العديد من الفرضيات، التي تأتي في طليعتها الديانة المانوية القائمة على التعارض الضدي بين الخير والشر، وبين قوى النور وقوى الظلام، والمحكومة على الدوام بالروح الغنائية والقلق الدائم، بعيداً عن أي تصور للعالم، عقلي وموضوعي.

ولأن هذا المعتقد يرى في الجسد عين الشقاء، وفي الموت الفداء الحقيقي لخطيئة الولادة، فقد أكد الباحث الفرنسي بأن التروبادور كالمانويين، قد أنكروا كل حب شهواني محسوس، ورأوا أن العشق المتعفف والزهد بالملذات، هما الطريقة المثلى لخلاص الإنسان. إلا أن دي رجمون الذي لم ير في تجربتهم سوى نبتٍ هجين تتصل جذوره بالديانات الوثنية القديمة، كما بتيارات الزندقة والحركات الغنوصية والصوفية المتطرفة، ما يلبث أن يغادر مربع الحياد البحثي، ليتبنى موقفاً أخلاقياً مفضياً إلى إدانة التجربة العشقية للتروبادور، الأقرب في رأيه إلى الزنا والهوس المرضي بالمرأة، وليقف بشكل حاسم إلى جانب الزواج الديني الشرعي.

ومع أن في قول دي رجمون بأن الهوى الجامح هو المعادل الرمزي للمشاعر القومية والدينية التي غذت الحروب، جانباً من الحقيقة أكدته مشاركة بعض العشاق الفرسان في الحروب الصليبية، فإن الجانب الآخر يؤكد أن هؤلاء الشعراء قد أحلوا الحب محل الحرب، والتزموا في عشقهم بشعائر وطقوس شبيهة بالطقوس والشعائر الدينية. فالمرأة في معادلة العشق التروبادور هي «السيدة» المتعالية التي لا يُفترض بالعاشق أن يغزو حصونها المنيعة بالسلاح، بل بالمديح الشعري والموسيقي النابضة بالرجاء. وكما يقسم الناس لملوكهم بالولاء والطاعة، فإن الشاعر الفارس يقسم راكعاً على ركبتيه، بالإخلاص الأبدي لسيدته، فيما تقوم من جهتها بإعطائه خاتماً من ذهب، طالبة إليه النهوض ومكافئة إياه بقبلة على جبينه.

وبصرف النظر عن اجتهادات الباحثين المتباينة حول الأسباب والعوامل التي أسهمت في نشوء هذه الظاهرة وانتشارها وتألقها، فالثابت أنها استطاعت أن تتحول إلى علامة فارقة في الثقافة الغربية لما يقارب القرون الثلاثة من الزمن، قبل أن يغرب نجم الإقطاع وتتقهقر تقاليد الحب الفروسي. وإذ اعتبرت الكاتبة الأميركية لاورا كندريك في كتابها «لعبة الحب» أن التروبادور قد استخدموا لغة الشعر بطريقة جديدة، ولعبوا بالكلمات كما لو كانت أدوات وأشياء مادية من صنع أيديهم، فإن سلوكياتهم وطرائق عيشهم قوبلت باعتراض صارم من قبل الكنيسة، التي نظرت إلى تلك السلوكيات بوصفها إهانة لتعاليمها وأهدافها الحاثة على الزواج الشرعي. ولأن الكنيسة كانت ترى في كل علاقة تحدث خارج السرير الزوجي، حتى لو ظلت بعيدة عن الترجمة الجسدية، حالة من أحوال الزنا «النظري»، أو إسهاماً في قطع دابر التكاثر، فقد شنت ضد هؤلاء الشعراء العشاق حرباً لا هوادة فيها، إلى أن تمكنت من القضاء على الظاهرة بكاملها في أواخر القرن الثالث عشر. إلا أن زوال العصر الذهبي للتروبادور، لم يفض بأي حال إلى إزالة شعرهم من الخريطة الثقافية الغربية، بدليل أن هذا الشعر قد ترك، باعتراف كبار النقاد، بصماته الواضحة في الشعرية الأوروبية اللاحقة، بدءاً من دانتي وبترارك وتشوسر، وليس انتهاءً بعزرا باوند وت. س. إليوت وكثرٍ آخرين.