رحيل إبراهيم غلوم... الناقد والأكاديمي «النزيه»

الناقد والأكاديمي البحريني الراحل الدكتور إبراهيم غلوم
الناقد والأكاديمي البحريني الراحل الدكتور إبراهيم غلوم
TT

رحيل إبراهيم غلوم... الناقد والأكاديمي «النزيه»

الناقد والأكاديمي البحريني الراحل الدكتور إبراهيم غلوم
الناقد والأكاديمي البحريني الراحل الدكتور إبراهيم غلوم

فقدت الساحة الثقافية في البحرين، والخليج عموماً، الناقد والكاتب والأديب والأكاديمي البحريني الدكتور إبراهيم غلوم، الذي رحل بعد معاناة طويلة مع المرض، عن عمرٍ يناهز 71 سنة.

اشتغل إبراهيم غلوم بالكتابة منذ مرحلة مبكرة من حياته، ونشر منذ سبعينات القرن الماضي عدداً من الدراسات في نقد القصة القصيرة والمسرح والرواية والتراث والدراسات الثقافية والفكرية. وهو حاصل على دكتوراه دولية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة التونسية سنة 1983، وكان عميداً لكلية الآداب بجامعة البحرين سابقاً، ورئيس ومؤسس قسم اللغة العربية بالجامعة، وعمل أستاذ النقد الحديث في جامعة البحرين، وأستاذاً زائراً لأدب الخليج والجزيرة العربية، بجامعة الكويت، 1986، وهو عضو أسرة الأدباء والكُتاب، ورأَس مجلس إدارتها لعدة دورات، وعضو «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب»، بالبحرين، وعضو مجلس أمناء مجلس «جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري».

وأسّس الفقيد عدداً من المسارح وجمعيات ثقافية واتحادات محلية وعربية، ورأس تحرير عدد من المجلات الفكرية والثقافية، وحصل على وسام الكفاءة من الدرجة الأولى 2012 من ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة، وعلى قلادة تكريم المبدعين في دول «مجلس التعاون» في العام نفسه، كما حصل على «جائزة البحرين للكتاب» في النقد الحديث.

ونعت «هيئة البحرين للثقافة والآثار»، في البحرين، الفقيد الدكتور إبراهيم غلوم، حيث أكدت أن الحراك الأدبي في البحرين «فقَد برحيل الدكتور غلوم قامة أدبية»، مؤكدة أن الدكتور إبراهيم غلوم «ترك إسهامات ونتاجات أغْنت المكتبة العربية بكثير من الدراسات والقصص والكتابات التي ستبقى مرجعاً لكل الباحثين والكُتّاب والأدباء».

وقد نعاه الوسط الثقافي الخليجي، فكتب الدكتور طالب الرفاعي، عبر منصة «إكس»: «عظّم الله أجر البحرين بوفاة ولدها البارّ الدكتور إبراهيم غلوم... (وهو) مفكر خليجي اتخذ من الأدب طريقاً لحياته، وكان من أوائل من كتب عن فن القصة القصيرة والقصاصين في منطقة الخليج».

كذلك نعاه الدكتور عبد الله الغذامي، عبر «إكس»، قائلاً: «تغمّد الله الصديق الدكتور إبراهيم غلوم، والتعازي لزوجته العزيزة وعائلته الكريمة وللثقافة والمثقفين في البحرين، وللثقافة العربية والمؤسسة الأكاديمية، ولأجيال من تلاميذه والناهلين من علمه، عانى من المرض وصبر وصابر، جعله (الله) في كنف رضاه ورضوانه».

كما وصفه الشاعر العماني سيف الرحبي قائلاً: «الدكتور إبراهيم غلوم كان من الأصدقاء الطليعيين الأكثر نزاهةً وبُعداً عن الطائفية والشللية، كما كان يتّسم بعمقه الثقافي والفكري الشاسع والبعيد النظر».

وكتب الروائي والأكاديمي القطري، الدكتور أحمد عبد الملك: «فقدَت الساحةُ الثقافيةُ والفنيةُ العربيةُ والخليجية قامةً سامقةً برحيل الأستاذ الدكتور إبراهيم عبد الله غلوم... رائد من رواد الثقافة والمسرح والتعليم الجامعي بالبحرين».



في تفسير الظاهرة الأدبية

ادوارد الخراط
ادوارد الخراط
TT

في تفسير الظاهرة الأدبية

ادوارد الخراط
ادوارد الخراط

هل تتحقق الظواهر الأدبية والشعرية لمحض اتفاق بين جلساء وجليسات دعتهم صحبة ما للتداول هزلاً وجداً في الشأن الثقافي؟ ربما يستعين المرء بما تحقق لجماعة الديوان سنة 1917. وفعلياً سنة إصدار مجلة بهذا الاسم سنة 1922. لكننا ننسى أن الجماعة لم تأتلف على أمر غير الانعتاق من هيمنة أحمد شوقي على المشهد الشعري والتمرد جزئياً على ظاهرة الركود الشكلي للقصيدة إزاء ما يقرأون من الشعر الرومانسي الغربي، لا سيما جماعة الرومانتيكية الإنجليزية: روبرت ووردزورث، وصاموئيل تايلر كوليرج، وهنري بيرسي شيلي، وجون كيتس ولورد بايرون، وكذلك دي كونزي وغيرهم.

نازك الملائكة

وقرأوا أشعار (هاينه) في سياق الولع بالظاهرة الرومانسية الجرمانية: ويقابل هذا الولع، تطلع مجموعات أخرى إلى تنويريي القرن الثامن عشر في فرنسا بشكل خاص، كما يتبين في كتابات المبدعة والمثقفة في عدة لغات، والأديبة (مي زيادة) صاحبة الصالون، والتي انهمك في حبها أحد أعضاء مدرسة الديوان المبجلين: أي عباس محمود العقاد. ننسى أيضاً أن ثلاثي الديوان (عبد الرحمن شكري، وإبراهيم عبد القادر المازني، والعقاد) سرعان ما تفرق شملهم بعدما فُجع عبد الرحمن شكري بما أعده في حينه «سرقات إبراهيم عبد القادر المازني» من الرومانسيين الإنجليز ومن «هاينه». كان عبد الرحمن شكري خريج فرع اللغة الإنجليزية، وتعلم جزئياً في إنجلترا، ومكنته درايته المعرفية من التقاط أصداء الكلمات والصور، ونبض الأحاسيس. لم يكن معنياً بما سيجيء به اللاحقون في تأويل تشكّل النص الأدبي أو الشعري على أنه في النتيجة مجموعة من الاقتباسات الظاهرة والمخفية، كما يرى (رولان بارت) ووافقه عليه آخرون بعد أن عرضت جوليا كريستفا لسيمائية النصوص، وتمعنت في التركيبة الموزائيكية الأفقية والعمودية المتشكلة في النص. ولم ينشق ناقد ماركسي من أمثال (ماشيري) عن الاعتراف بأن النص لا يأتي وحيداً، لأنه تقاطع مع نصوص أخرى وقراءات هي في النتيجة ما يتشكل منه الجديد.

قالت العرب على لسان كاتب القرن التاسع ابن أبي الطاهر طيفور «كلام العرب ملتبس بعضه ببعض». سيعيد أبو الطيب المتنبي ذلك لأن «كلام العرب يمسك بعضه برقاب بعض»، وقال أيضاً بوقوع «الحافر على الحافر» في توارد الكلمات والصور والمعاني. وكما عُرف عند دارسي إليوت، ومنهم الأجانب الكثر، والعرب طيلة عقود منذ منتصف الخمسينات، أن «الأرض الخراب» هي تلفيقات منحها ذهنه في ظرف معين تكاملاً شكلياً ومعنوياً تجاوب مع أصداء حياته المضطربة ومخاض عالم ينهار في حروب ومقاتل. لا ننسى بهذا الخصوص أن «التلفيق» عند العرب هو اصطياد صور ومعانٍ من عدة أشعار ومبانٍ بما يتيح لهذا الصيد الائتلاف والثراء. وكما يقول ابن رشيق القيرواني: بَرع أبو الطيب المتنبي في ذلك وأجاد. وهذا سر ذيوع شعره.

وللقارئ الحق أن يقول إن جماعة «أبولو» اللاحقة للديوان التي جمعها أحمد زكي أبو شادي كانت بينة المعالم، واضحة المقاصد، آخذة من دون وجل من الرومانسية الفرنسية والإنجليزية والألمانية كما يفعل خليل مطران معنية بما تعده جسور الوصل والتواصل مع الثقافات الأوروبية. كما يعرض لذلك إلياس أبو شبكة في كتابه عن «الروابط» بين العرب والإفرنجة.

كانت الثلاثينات مهاد حراك أدبي وفكري وسياسي. وتكرر فيها ظهور الجماعات والأحزاب والكتل: فهي مخاضات ما بين حربين في عالم يتغير وتتبلور ملامحه آيديولوجياً في تعسكر بينٍ. وكان السياب والبياتي وجواد سليم وبلند الحيدري ونازك الملائكة والتكرلي وعبد الملك نوري وعيسى مهدي الصقر يولدون في ذلك العقد.

وعندما تمرد جيل من الشباب على هرم الكتابة الروائية نجيب محفوظ مثلاً وجاء إدوار خراط بـ«جاليري» في خاتمة الستينات: كان يستجيب وصحبه لضغط اللحظة، وهو ضغط لم يتحدد بمحفوظ وهيمنة كتابته الروائية. لأنّ محفوظ نفسه كتب «ميرامار» و«ثرثرة فوق النيل» ليلتقط هذا النبض الذي عجز عن تلمسه جيداً، ولكنه أثاره كمشكلة قائمة.

استجاب إدوار الخراط وعبد الحكيم قاسم وجمال الغيطاني وفؤاد التكرلي وإبراهيم أصلان والعشرات من الكتاب والكاتبات لضغط اللحظة الستينية: لحظة الرفض والتطلع والفجيعة وحرب فيتنام وفشل البنى التقليدية ومنظوماتها في متابعة هذا النبض الذي جعلت منه حرب فيتنام الوحشية ومجازر المستعمر الفرنسي في الجزائر وغيرها، يتعالى في القصيدة والقصة والرواية والموسيقى والسلوك، في الشارع والمؤسسة الأكاديمية، وفي المنزل التقليدي: كان العالم يهتز وتتحقق أطروحة غرامشي عن «الكتلة التاريخية» الجديدة: الطلبة والعمال وغيرهم. لهذا ظهرت حركات شعرية وروائية مختلفة تصدرتها منذ الخمسينات وقبلها بقليل جماعة النبض «Beat» (ألن غنسبيرغ) ولورنس فرلنغتي، ولم تَعُدْ الحياة الأكاديمية كما كانت. وكان على وقار «الأكاديمية» التقليدي أن يرضخ للحرية التي تطرق بابه بعنف. لهذا جاءت «جاليري» موفقة لفترة بينما باءت مجموعة البيان الشعري 69 بالانفراط: إذ ليس ثمة جامع بين فاضل العزاوي وخالد علي مصطفى وسامي مهدي وفوزي كريم عدا الرغبة في المشاكسة: وجاء البيان واعداً، ولكن من دون رصيد. كان يسعى للتعكز على حركات وتيارات وظواهر شعرية عالمية يقرأ عنها الشباب من غير تلمس مخاضات التكوين الستيني: الرفض العميق المنبعث من محنة أكبر.

الظاهرة الأدبية ليست رغبة فرد؛ بل هي هاجس جيل يتناغم مع غيره وتحدوه آمال وتطلعات. وحتى إذا ما كان ينطلق من رفض أعم، إلَّا أن الرفض لوحده لا يحقق ظاهرة إن لم يتشكل في مهادات تتناجى مع غيرها على صعد المجتمعات، والحركات، والأمم، والثقافات. ويخطئ من يتصور أن اجتماع ثلاثة أو أربعة على أمر يعني إمكانية التصدر الثقافي: إذ تعجز الإرادة لوحدها عن تكوين الظاهرة التي ينبغي أن تنبعث من حقيقة أمر ما: فالمحدثون أيام بني العباس لم يألفوا هذه التسمية التي أطلقت لاحقاً على مسلم بن الوليد وبشار بن برد وأبي نواس وسلم الخاسر، ثم أبي تمام. كما أن الظاهرة لا تتشكل إلّا مشاكسة لنقيض، كالقدامة، التي التزمت عمود الشعر ولغة القدماء أيام توسع الحواضر التي لم تعد تألف لغة البداوة! وكما هو الأمر من قبل فإن القرن العشرين وما تلاه مجموعة مخاضات وظواهر تحتمها وقائع وحالات، ومن ثم ظواهر أدبية.

* جامعة كولومبيا - نيويورك