أفواج المهاجرين ومشاكل اللجوء تعيد الروح لـ«قصة الحي الغربي»

عودة أميركية وأوروبية إلى المسرحية بعد خمسين سنة من عرضها الأول

مشهد من المسرحية
مشهد من المسرحية
TT

أفواج المهاجرين ومشاكل اللجوء تعيد الروح لـ«قصة الحي الغربي»

مشهد من المسرحية
مشهد من المسرحية

يبدو أن هذا الموسم هو الموسم الملائم لإعادة عرض «قصة الحي الغربي»، بعد خمسين سنة من عرضها الأول المدوي، ربما بسبب الهجرة غير القانونية لملايين المكسيكيين إلى الولايات المتحدة، أو ربما بسبب هجرة مئات الآلاف من السوريين والعراقيين والأفارقة وغيرهم إلى أوروبا. ومن المقرر أن تعرض قريبا هذه المسرحية بأوقات متقاربة في أميركا، وأيضا في كندا، وفي لندن.
ومن المعروف، أن «قصة الحي الغربي» هي رواية لآرثر لورنتز، ثم حولت إلى مسرحية غنائية أخرجها ليونارد بيرنشتاين في مسرح برودواي بنيويورك، وبعد ذلك إلى فيلم شهير أخرجه روبرت وايز. وستقدم هذه العام جائزة تقدير إلى ريتا مورينو (81 عاما)، واحدة من عدد قليل جدا لا يزال حيا من الممثلين والممثلات الأصليين. (في عام 1981. ماتت الممثلة ناتالي وود، التي مثلت دور «ماريا»).
قصة الحي الغربي
ويمكن تلخيص فكرة الرواية - المسرحية كما يلي:
في ميدان لنكون في «ويست سايد» (الجزء الغربي من نيويورك)، وبالقرب من «سنترال بارك» (الحديقة المركزية)، وحيث تمثال كرستوفر كولمبس (مكتشف أميركا)، كانت مجموعات من المراهقين والمراهقات تلتقي في عطلة نهاية الأسبوع. يرقصون، ويغنون، ويضحكون، ويبكون، ويتآمرون، مثل ما يحدث حتى اليوم (بعد سبعين عاما من كتابة رواية «قصة الحي الغربي»).
كان بعضهم ينتمي إلى عصابات المطاوي (ما قبل المسدسات)، وكان يقود عصابة «جيتز» (الطائرات) الصبي الأبيض «توني»، بينما قاد عصابة «شاركز» (سمك القرش) الصبي اللاتيينى الأسمر «بيرناردو» (المهاجر من جزيرة بورتوريكو، في البحر الكاريبي، اللاتينية، الناطقة باللغة الإسبانية، والتابعة للولايات المتحدة).
وهكذا، منذ البداية، ظهرت المشاكل. وتوتر الوضع مرة أثناء حفل راقص في نفس المنطقة، عندما حاولت كل من العصابتين اختراق الحفل.
في الحفل الراقص، كانت هناك «ماريا»، أخت «بيرناردو»، التي وقعت سريعا، وهي اللاتينية السمراء المخطوبة لشاب لاتيني (شينو)، في غرام «توني»، الأنغلوساكسوني الأبيض.
اعترض أخوها. وفي كلمات إسبانية غاضبة، طلب منها الابتعاد عن الـ«غرنغو» (الأبيض في اللغة الإسبانية).
عادت «ماريا» غاضبة إلى منزلها. وشرحت المشكلة لصديقتها «انيتا» التي هاجرت معها من بورتوريكو. واتفقا على أن الأخ «بيرناردو» غيور أكثر مما يجب على أخته، وأنه ما يزال يتصرف مثل «رجال العالم الثالث» رغم السنوات الكثيرة التي قضاها في أميركا.
طبعا، لم تسمع «ماريا» تحذيرات أخيها. وصارت تقابل «توني» سرا. مرة، تقابلا في منتصف الليل، في الظلام، على سلم خلفي، في العمارة السكنية القديمة، في الحي اللاتيني الفقير في نيويورك، بينما الأخ الغيور «بيرناردو» في نوم عميق.
في عطلة نهاية الأسبوع التالية، وفي الظلام، وتحت جسر قديم في الحي القديم، واجهت العصابتان بعضهما البعض. قاد «توني» عصابة البيض، وقاد «بيرناردو» عصابة اللاتينيين. وأثناء الاشتباكات والفوضى والصراخ، طعن «توني» «بيرناردو»، وقتله. ثم هرب، إلى خلف منزل «بيرناردو» حيث كانت صديقته «ماريا» تنتظره، وهي لا تعلم أنه قتل أخاها.
هنا، ظهر «شينو»، خطيب «ماريا» اللاتيني. وصار قائدا للعصابة اللاتينية بعد أن قتل «توني» زعيمها «بيرناردو». وطارد «توني»، حتى عثر عليه وقتله، انتقاما.
أغنية «أميركا»:
في هذه المسرحية الغنائية عشر أغانٍ تقريبا، أشهرها هي أغنية «أميركا»، عن محاسن ومساوئ الدنيا الجديدة. وبينما غنت «ماريا» حبها لأميركا، حذرها أخوها «بيرناردو» من أميركا. وغنيا مع الكورس:
ماريا: أميركا، أميركا. حرية من دون حدود في أميركا.
بيرناردو: للحرية ثمن في أميركا.
ماريا: اشترى فرنا كهربائيا، واشترى مكنسة كهربائية، واشترى غسالة ملابس كهربائية، في أميركا.
بيرناردو: لا ملابس عندك في أميركا.
ماريا: ناطحات سحاب، وسيارات كاديلاك، ومصانع، ومنازل فاخرة، في أميركا.
بيرناردو: عشرة منا في غرفة واحدة في أميركا.
ماريا: سأشتري شقة جميلة في أميركا.
بيرناردو: ولكنتك الأجنبية غير الجميلة في أميركا.
ماريا: الحياة جميلة في أميركا.
بيرناردو: إذا كنت بيضاء في أميركا.
ماريا أنا حرة في أميركا.
بيرناردو: مع اللاتينيين في أميركا.
بنت: الحياة آمنة في أميركا.
بيرناردو: إذا تحملين مسدسا في أميركا.
ماريا: أقدر على أن أكون أي شيء في أميركا.
بيرناردو: تنظفين المطاعم، وتمسحين الأحذية في أميركا.
ماريا: أنا في أميركا.
بيرناردو: الجريمة في أميركا.
ماريا: كل جزيرة بورتوريكو تريد أميركا.
بيرناردو: أريد أن أعود إلى جزيرة بورتوريكو.
ماريا: وداعا، سافر إلى جزيرة بورتوريكو.
بيرناردو: سيستقبلونني بالأحضان في جزيرة بورتوريكو.
ماريا: لن تجد أحدا في جزيرة بورتريكو. جاءوا كلهم إلى أميركا.

* حول العالم
منذ خمسين عاما، بالإضافة إلى فيلم «قصة الحي الغربي» (واحد من أشهر الأفلام الأميركية العريقة)، ظلت مسرحية «قصة الحي الغربي» تعرض في كثير من دول العالم.
في عام 1977. عرضت باللغة الإسبانية في جولة في دول أميركا اللاتينية (وفي جزيرة بورتوريكو). وفي عام 1997، تجولت في بريطانيا. وفي عام 2000. عرضت في هونغ كونغ باللغة الصينية. وفي عام 2003. عرضت باللغة الألمانية في ألمانيا والنمسا. وفي عام 2008، باللغة الفلبينية في الفلبين. وما بين عامي 2005 و2010، عرضتها فرقة زارت عشر دول في أوروبا وآسيا. وفي عام 2010 عرضت في إندونيسيا باللغة الإندونيسية. وفي العام الماضي، في أوكرانيا، باللغة الأوكرانية.
لكن هناك من ينتقد المسرحية، فقد كتبت صحيفة «نيويورك تايمز» قائلة: «لولا الأغاني الجميلة، لكانت مسرحية جريمة».
وقالت مجلة «تايم»: «قصة الحب لا بأس بها. والأغاني رائعة، ولكن الجريمة فظيعة». وبالفعل، لقد اشتهرت أغانٍ من المسرحية، خاصة أغاني الحب. وغنت سلينا أغنية «آي فيل بريتي» (أحس بأني جميلة). وغنى ليتل ريتشارد أغنية «أعيش قصة حب». لكن، أكثر الأغاني انتشارا هي أغنية «أميركا». خاصة بواسطة الجيل الجديد من المغنين الأميركيين اللاتينيين (بعضهم يغني بالإنجليزية وبالإسبانية).
روميو وجوليت
كان آرثر لورنتز، كاتب الرواية، قد ذكر مرة أنه اقتبس فكرة «قصة الحي الغربي» من مسرحية «روميو وجوليت» لويليام شكسبير. وبالطبع، لا توجد في «روميو وجوليت» منافسات عرقية، أو صراعات وطنية، أو هويات اثنية. توجد منافسة بين عائلتين أرستقراطيتين، كل واحدة تحتقر الثانية. عرقل هذا حب روميو وجوليت. لكن، مثل «قصة الحي الغربي»، في مسرحية شكسبير قتل بسبب الحب. في هذا، يتساوى الأرستقراطيون في فيرونا الإيطالية، والمهاجرون الفقراء من بورتريكو. (لكن، من المفارقات أن قتال الفقراء كان «جريمة». لكن، كان قتال الأرستقراطيين كان «مبارزة» وسط النبلاء).
«حصاد الإمبراطورية»:
في كتاب «هارفست أوف امبايار» (حصاد الإمبراطورية)، الذي كتبه الأميركي اللاتيني هوزي غونزاليز، الصورة الحقيقية لرواية «قصة الحي الغربي».
هذه هي «مستعمرات» الولايات المتحدة في كوبا، وبورتريكو، وبنما، وغيرها من دول أميركا اللاتينية. لم تكن مستعمرات حكومية، لكنها كانت مستعمرات شركات رأسمالية: شركات الموز، والسكر، والتبغ، والقطن.
حسب الكتاب، استغلت الشركات الأميركية العمالة الرخيصة في بورتوريكو، وغيرها. ولم تساهم في رفع مستوى شعوب تلك الدول. لهذا، بدأ الفقراء في تلك الدول يهاجرون إلى الولايات المتحدة، ابتداء من عام 1917.
اليوم، بعد مائة عام من «الغزو المضاد»، تفوق اللاتينيون على السود كأكبر مجموعة سكانية غير بيضاء. ويواصلون «الغزو» (القانوني، وغير القانوني). ويتوقع خبراء الهجرات والسكان، أن اللاتينيين، بعد مائة عام أخرى، سيكونون أغلبية وسط الأميركيين.
في رواية «قصة الحي الغربي»، يوم الحفل الراقص، ترتدي «ماريا» ملابس جميلة، وتقول: «أريد أن أكون أميركية». ويرد عليها أخوها «بيرناردو»: «بورتوريكو أميركية».
في الحقيقة، عندما ظهرت الرواية، قبل ستين عاما، كان اللاتينيون أقلية في نيويورك. كانت الأغلبية أبناء وأحفاد مهاجرين من أوروبا. اليوم، حسب إحصاء عام 2010، يشكل البيض أقل من نصف السكان. (مع ربع أسود، وربع لاتيني، وعشر آسيوي. وأكثر من الثلث من المهاجرين من دول في العالم الثالث).
وتلاحظ دراسة كتبت حول «العنصرية في رواية قصة الحي الغربي» أنه عندما اشتبكت عصابة البيض ضد عصابة اللاتينيين، جاءت الشرطة، وكانت أكثر قسوة على اللاتينيين. ويقول البيض في المسرحية إن «هؤلاء المهاجرين يملأون شوارعنا قذارة، ويعلقون ملابسهم في بلكونات شققهم، ويمارسون السحر». وفي المقابل ترى انيتا، المهاجرة من بورتريكو أن «بورتريكو ليست جزيرة الأحلام. إنها جزيرة الأمراض».
وبالنسبة للنقطة الأخيرة، تلاحظ الدراسة أن إساءة بعض المهاجرين للدول التي جاءوا منها هي أكثر من إساءة الأميركيين لها. وأن «عقدة النقص» هي السبب، لأن المهاجر يرى قمة الحضارة في أميركا، ويحتقر البلد الذي جاء منه.
وتختتم الدراسة بالقول: «حتى اليوم، يحتاج المهاجر إلى إيمان قوي، ليقدر على أن يثق في نفسه».



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.