اعتقال كتاب

إجراء يذكّر بعهد سلطة البعث

اعتقال كتاب
TT

اعتقال كتاب

اعتقال كتاب

يطبع العالم المتحضّر المؤلّفات في فروع المعرفة والفنّ؛ لأنّ الجميع يسعون وراء كشف الحقيقة، ومن أجل بلوغها فإن كلّ فرد له الحقّ في صنع رأي وفِكر ووجهة نظر. كما أن النّقاش في كافة أمور الحياة ينمو بالاختلاف في الرؤية، أكثر منه بالتّوافق، ولا يمكن بأيّ حال رفض أو تسفيه وجهة نظر أحد، فهي تحمل قناعة قويّة لدى صاحبها كأنّ جبالاً عديدة وراءها، وتبقى المُحاجَجةُ السّبيلَ الوحيدَ للتّوفيق بين الفريقين.

يقول على الوردي، أستاذ الاجتماع العراقي: «الأفكار كالأسلحة تتبدّل بتبدّل الأيّام، ومن يريد أن يبقى على رأيه، كمن يريد أن يحارب سلاحاً نارياً بسلاح عنترة بن شداد».

والمعروف عن الفرنسي بول فاليري أنه شاعر، وكتب قصة قصيرة واحدة طوال حياته، عنوانها (أنا أفكّر):

«كان هرقل يمعن في الأمازونيات قتلاً ونهباً واغتصاباً، وجميع النساء كنّ يهربن من طريقه. إحداهنّ بدتْ غير خائفة، وبدا هو أمام نظرتها الصّافية الشّاردة مغفّلاً أكثر منه وحشاً. كانت تكتب وهي متّكئة على ذراعها.

سألها هرقل: ماذا تفعلين؟

أنا؟ قالت المرأة ودوّنت فكرة، ثم قالت: أنا أفكّر.

أجابها هرقل: أنت تفكرين؟ إذن أنا أنصرف...».

انتهت قصّة هرقل، لكنّ الروايات عن الظُّلم والقهر والاضطهاد في الكون لا تنتهي. لم أقرأ كتاب الباحث فالح مهدي الأخير (استقراء ونقد الفكر الشّيعي)، وسمعتُ وقرأت في صحافة المجتمع خبر مصادرة الكتاب من قبل المسؤولين الأمنيّين في معرض بغداد الدّولي للكتاب، ولستُ هنا للدّفاع عن آراء الكاتب، فهذا ليس من اختصاصي ولا يدخل الموضوع في دائرة الكتب التي أهتمّ بها وأبحث عنها وأقرَؤُها بشغف، لكنّ الخبر أثار فيّ ذِكرى سنوات عهد سلطة البعث الذي حكم العراق بين عامي 1963 و2003، وهي الفترة التي خضع فيها الأدب والفكر والفنّ إلى الرقابة والمنع والنفي، وتتلخّص براعة الأديب من ذلك الزّمان في أن يصمّ عقله عن التّفكير في التّحرّر من العبوديّة التي كان صدّام حسين يُرهق بها النّاس، وذهب رجال سلطات ذلك العهد في العماء أنّهم كانوا يكتّمون على الأدب الذي يُظهر الحقيقة، ويتربّصون، والرّياح المدوّخة تدفعهم، بأصحاب الأقلام المؤيّدين للنظام الحاكم على أن يكونوا مثل النّساء الأمازونيّات أمام هرقل، وأن يستسلموا إليه في الأخير في العقل والوجدان والبدن.

ليس هناك بالطبع وجه للمقارنة بين هذا العصر وعهد الظّلمات السّابق، لكنّ حَجْبَ كتابٍ سوف يؤدّي إلى أن يُفتحَ البابُ واسعاً أمام ثقافة ما كان يُدعى (بالكتاب المستنسخ) في العقود الماضية، والذي كان يُباع بطريقة سرّيّة تُعطيه هالة انتشار أوسع ممّا لو كان مطروحاً على رفوف المكتبات، ويتطلّع إليه المارّة في الشّارع. وإذا حسبنا الفرق بين قبضة رجال الأمن والشّرطة بين الماضي والحاضر، فرجال الحكم الآن مختلفون في كثير من الوجوه عن أولئك، كما أنّ رياح الدّيمقراطيّة التي هبّت أثّرت على الاثنين، الحاكم والمحكوم في البلاد، بطريقة متساوية تقريباً، وإذا أخذنا بالحسبان التّطوّر الذي حصل في هذه السنين في تقنيّات الآلة التي تطبع الكتاب بواسطة التصوير، اكتشفنا سريعاً حقيقةً مفادها أن كتاب الباحث فالح مهدي سوف يُطبع من جديد مرّات تفوق كثيراً لو أنه لا أحد من شرطة الأمن الوطني قام بمصادرته.

ليس هناك كلام يدخل في خانة الأدب أو الفكر والفنّ، يؤدّي رواجه إلى أن تهتزّ السّلطة الحاكمة بطريقة يستحقّ بسببها المؤلّف السّجن والتّعذيب، وحالة الرعب الدائمة التي يعيشها الحاكم الغاشم هي التي ترسم في خياله الأوهام عمّا يدور حوله، فيتصوّر أن خربشة شاعر سادر في رؤاه، سوف تقلب عليه الدنيا من أعلى إلى أسفل.

إن وفرة من حياة جديدة يأتينا بها النهار والليل في كلّ يوم، ويستطيع الأديب، بواسطة مكر الفنّ، إيصال الحقيقة العميقة إلى القارئ، وإن تعدّدت الحراب المسلّطة عليه. الرأي السليم يشبه الماء، إن حاولت قوّة في الأرض أو السّماء إخفاءه أو تغيير طبيعته، فهو يعلن حتماً عن نفسه بصور مختلفة، طيرٌ يشجو يدلّ عليه، وشجرة بغصن يميل، أو عشبة صغيرة تلوّن الأرض رغم الأنواء والصّعاب بالأخضر، تشرق عليه الشّمس فيشعّ عندها ويلتمع. كلّ هذا وغيره يدلّ على الماء، وإن فقدناه لكنّنا نعثر حتماً على أثره.

هناك قول شهير لبيكاسو: «الفن ينبغي ألا يُشجّع، بل أن يُقمع». ويتفّق مع الرسّام ورائد الحداثة في العصر الحديث الكثير من علماء الاجتماع والطبّ النفسي، وهو أن القمع للفكر البشري يؤدي إلى تغذية جذوره بقوّة جديدة، وبالتالي إلى نمائه بطاقة مضافة سببها القهر الذي سلّطه الحاكم على الناس، وعلى المفكّر والفنّان على وجه الخصوص.

لفالح مهدي؛ مؤلّف الكتاب الذي تمّت مصادرته في هذه الأيّام من قبل قوى الأمن الوطني في معرض بغداد، عدا المؤلّفات باللّغة الفرنسيّة، آثار عديدة في الفكر والفلسفة والأدب. لكنّه عُرف بين الجمهور أكثر بواسطة كتابه الذي صدر في بداية الثّمانينات (البحث عن منقذ)، وهو دراسة مقارنة بين الأديان حاول المؤلّف الجمْع بينها عن طريق تشوّف أهل الدّيانات إلى مخلّص ينظرون إليه، يُنقذهم من القهر والظّلم الذي يكابدونه في حياتهم الدنيا. وظهر للمؤلِّف عام 2015 كتاب آخر عن «دار الياسمين» هو (نقد العقل الدّائري: الخضوع السني والإحباط الشّيعي)، وأعيد طبع كتابه (جذور الإله الواحد) الذي نُشر عام 2017 مرّتين، كما أن له بحثاً مهمّاً وطويلاً في (تاريخ الخوف) صدر في كتاب عام 2019، بالإضافة إلى مؤلفات أخرى في القصّة والرّواية، انتشرت بين القرّاء باللّغتين العربيّة والفرنسيّة.



رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري... الراسخ في «مقدمة ابن خلدون»

يُعد الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين والخليج عموماً (الشرق الأوسط)
يُعد الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين والخليج عموماً (الشرق الأوسط)
TT

رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري... الراسخ في «مقدمة ابن خلدون»

يُعد الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين والخليج عموماً (الشرق الأوسط)
يُعد الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين والخليج عموماً (الشرق الأوسط)

فقدت البحرين ودول الخليج العربية، اليوم الخميس، المفكر البحريني الكبير الدكتور محمد جابر الأنصاري، مستشارَ ملك البحرين للشؤون الثقافية والعلمية، أستاذ دراسات الحضارة الإسلامية والفكر المعاصر، عميد كلية الدراسات العليا الأسبق بجامعة الخليج العربي، الذي وافته المنية بعد مسيرة حافلة بالعطاء الفكري والعلمي.

يُعدُّ الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين، والخليج عموماً، وباحثاً مرموقاً في دراسات ونقد الفكر العربي، وقدَّم إسهامات نوعية في مجالات الفكر، والأدب، والثقافة. وتميزت أعماله «باتساق الرؤية الفكرية في إطار مشروع نقدي للفكر العربي السائد تطلعاً إلى تجديد المشروع النهضوي، كما تميزت رؤيته الفكرية بالتشخيص العيني للواقع العربي في أبعاده السياسية والاجتماعية والحضارية في حقلَي التراث العربي الإسلامي وفكر عصر النهضة».

المفكر البحريني الكبير الدكتور محمد جابر الأنصاري (الشرق الأوسط)

الأنصاري وابن خلدون

كتبُه تكشف عن مشروع فكري عربي، فقد كتب عن «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي 1930-1970»، و«العالم والعرب سنة 2000»، و«لمحات من الخليج العربي»، و«الحساسية المغربية والثقافة المشرقية»، و«التفاعل الثقافي بين المغرب والمشرق»، و«تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»، و«رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية وشواغل الفكر بين الإسلام والعصر».

كما أصدر كتاباً بعنوان «انتحار المثقفين العرب وقضايا راهنة في الثقافة العربية»، و«الفكر العربي وصراع الأضداد»، و«التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام، لماذا يخشى الإسلاميون علم الاجتماع»، وكذلك «التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام، مكونات الحالة المزمنة»، وكتاب «تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية: مدخل إلى إعادة فهم الواقع العربي»، وكتابه المهمّ «العرب والسياسة: أين الخلل؟ جذر العطل العميق»، وكتاب «مساءلة الهزيمة، جديد العقل العربي بين صدمة 1967 ومنعطف الألفية»، وكتابه «الناصرية بمنظور نقدي، أي دروس للمستقبل؟»، وكتاب «لقاء التاريخ بالعصر، دعوة لبذر الخلدونية بأبعادها المعاصرة في وعي الشعب تأسيساً لثقافة العقل».

وعند المرور بابن خلدون، تجدر الإشارة إلى أن الدكتور الأنصاري كان أحد أهم الدارسين لتراث ابن خلدون ومتأثراً به إلى حد لا يخلو من مبالغة، وهو القائل في كتابه «لقاء التاريخ بالعصر»: «كل عربي لن يتجاوز مرحلة الأمية الحضارية المتعلقة بجوهر فهمه لحقيقة أمته... إلا بعد أن يقرأ مراراً مقدمة ابن خلدون! (ص 63)».

في هذا الكتاب، كما في كتاب «تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»، يستعيد الأنصاري فكر ابن خلدون داعياً لتحويله إلى منهج للمثقفين العرب، مركّزاً بنحو خاص على تميّز ابن خلدون في الدعوة لثقافة نثر تتجاوز لغة الشعر، داعياً لإيجاد نثر عقلاني يتجاوز مفهوم الخطابة.

ويقول في كتابه «تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»: «مطلوب - إذن - علم اجتماع عربي إسلامي مستمد من واقع تاريخنا؛ لفهم التاريخ ومحاولة إعادته للخط السليم... ومطلوب قبل ذلك شجاعة الكشف عن حقيقة الذات الجماعية العربية في واقعها التاريخي الاجتماعي بلا رتوش... بلا مكياج... بلا أقنعة... وبلا أوهام تعظيمية للذات».

كتابه «لقاء التاريخ بالعصر، دعوة لبذر الخلدونية بأبعادها المعاصرة في وعي الشعب تأسيساً لثقافة العقل» طبعة (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، رغم حجمه الصغير (120 صفحة) وكونه عبارة عن مجموعة مقالات جمعها المؤلف، لكنه يقدم صورة نقدية تدعو لتحرر الرؤية من الماضي وتأسيس ثقافة عربية تعتمد منهج ابن خلدون في مقاربته للتاريخ، وخاصة تجاوزه «الفهم الرومانسي العجائبي، الذي ما زال يطبع العقلية العربية»، هذه المقاربة توضح أن «إطار العقلية الخلدونية يعني اكتساب قدرة أفضل على فهم العالم الجديد، الذي لم يتكيف العرب معه بعد، فما زالوا يتعاملون، كارثياً، مع واقع العالم شعراً»، وهي «دعوة إلى إعادة التوازن في ثقافتنا بين الوجدان والعقل، حيث لم تعدم العربية نثراً فكرياً راقياً تعد (مقدمة ابن خلدون) من أبرز نماذجه، إلى جانب كتابات الجاحظ والتوحيدي والفارابي وابن طفيل وابن حزم».

سيرة

وُلد الأنصاري، في البحرين عام 1939؛ درس في الجامعة الأمريكية ببيروت وحصل فيها على درجة البكالوريوس في الأدب العربي عام 1963، ودبلوم في التربية عام 1963، وماجستير في الأدب الأندلسي عام 1966، ودكتوراه في الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر سنة 1979. كما حضر دورة الدراسات العليا في جامعة كامبريدج عام 1971، وحصل على شهادة في الثقافة واللغة الفرنسية من جامعة السوربون الفرنسية سنة 1982.

في عام 2019، داهمه المرض العضال الذي منعه من مواصلة إنتاجه الفكري، ليرحل، اليوم، بعد مسيرة عامرة بالعطاء، وزاخرة بالدراسات المهمة التي أثرى بها المكتبة العربية.