البابا فرنسيس من مرسيليا: اللاجئون إلى أوروبا ليسوا غزاة

رئيس الكنيسة الكاثوليكية حثّ الدول الأوروبية على انتهاج سياسات إنسانية

الرئيس ماكرون وعقيلته في استقبال البابا فرنسيس السبت على مدخل قصر فارو في مرسيليا
الرئيس ماكرون وعقيلته في استقبال البابا فرنسيس السبت على مدخل قصر فارو في مرسيليا
TT

البابا فرنسيس من مرسيليا: اللاجئون إلى أوروبا ليسوا غزاة

الرئيس ماكرون وعقيلته في استقبال البابا فرنسيس السبت على مدخل قصر فارو في مرسيليا
الرئيس ماكرون وعقيلته في استقبال البابا فرنسيس السبت على مدخل قصر فارو في مرسيليا

لم ينتظر البابا فرنسيس طويلاً قبل أن يكشف عن مضمون الرسالة، التي جاء إلى مرسيليا، المدينة الفرنسية المتوسطية الكبرى، المعروفة بانفتاحها التاريخي وتعدد الجنسيات والشعوب التي تسكنها، ليُبلّغها للعالم. ومضمونها الدفاع عن اللاجئين الواصلين إلى أوروبا، والدعوة لمدّ يد المساعدة لهم، وفتح الحدود والأبواب أمامهم. واستفاد البابا الذي حطت طائرته عصر الجمعة، وكانت رئيسة الحكومة الفرنسية إليزابيث بورن، ووزير الداخلية جيرالد دارمانان، في استقباله عند سلم الطائرة، من أول مناسبة لإيصال رسالته، ومختصرها أن مساعدة اللاجئين والمهاجرين «واجب حضاري».

صورة جامعة للبابا فرنسيس يلقي كلمته بقصر فارو في مرسيليا، السبت (رويترز)

وقال البابا فرنسيس، البالغ من العمر 86 عاماً، في أول كلمة ألقاها خلال مراسم مشتركة، شارك فيها أتباع الديانات المختلفة، وتضمنت صلوات أمام نصب تذكاري تكريماً لضحايا المتوسط من بحارة ولاجئين، إن «البحر مصدر حياة، ولكنه أيضاً سبب لمآسي الغرق». وأضاف رئيس الكنسية الكاثوليكية، الذي جعل من الدفاع عن اللاجئين والمهاجرين قضيته الرئيسية، ودأب على التنديد بالسياسات الأوروبية المتشددة بحق اللاجئين: «لنبتعد عن اعتبار الغرقى أحداثاً عابرة وأرقاماً. إنها حيوات تكسرت، وأحلام قضي عليها، وفي ذهني (صور) إخوة وأخوات غرقوا وغرقت معهم الآمال التي كانوا يحملونها في قلوبهم. وأمام مآسٍ من هذا النوع لا فائدة من الكلام، بل نحن بحاجة إلى أعمال. ولكن قبل ذلك كله، نحتاج (لتذكر) إنسانيتنا، نحتاج إلى الصمت والدموع، نحتاج للرأفة والصلاة». وأضاف البابا: «كثير من الأشخاص يهربون من النزاعات والفقر والمصائب البيئية، لكن أمواج المتوسط قضت على سعيهم للعثور على مستقبل أفضل، وهذا البحر المهيب تحوّل إلى مقبرة كبرى حيث تدفن الكرامة (الإنسانية)». ولأنه كان يعي قوة الرسالة التي يحملها، فقد نقل عنه قوله في الطائرة التي نقلته إلى مرسيليا: «آمل أن تتوفر لي الشجاعة لأقول ما أريد قوله».

تحذير من التعصب

جاءت الصرخة التي أطلقها البابا مدوية: «لا يمكننا أن نقبل أن تُعامل كائنات إنسانية كسلعة للتبادل، أن تسجن وتعذب بشكل فظيع، كما لا يُمكننا أن نقف متفرجين على مآسي الغرق التي يتسبب بها مهربو البشر أو معتنقو التعصب واللامبالاة». وبرأيه، فإن «عدم الاكتراث يتحول إلى تعصب، ويتعين علينا إنقاذ الأشخاص المعرضين للغرق، لأن هذا يعد واجباً إنسانياً وحضارياً». ولأصحاب النظريات التي تعدّ الهجرات القادمة من آسيا وأفريقيا «غزواً» لأوروبا ومحاولة لمسح حضارتها، شدد في كلمة له اختتم بها منتدى «لقاءات المتوسط» على أن الذين «يخاطرون بحياتهم في البحر ليسوا غزاة، بل هم يبحثون عن الترحيب بهم». مضيفاً أن الهجرات لا تستهدف أوروبا وحدها، بل هي «واقع في هذا الزمن، وهي عملية تشمل 3 قارات حول البحر المتوسط، وتجب إدارتها ببصيرة حكيمة تتضمن استجابة أوروبية».

جمهور غفير ينتظر البابا في ملعب مرسيليا الكبير «فيلدروم» قبل القداس السبت (أ.ف.ب)

وحذّر البابا الحكومات الأوروبية التي لا تجرؤ على انتهاج سياسة منفتحة على استقبال المهاجرين من «شلل الخوف»، وحثّ المؤمنين على أن يكونوا «مثالاً في الاستقبال المتبادل والأخوي»، بحيث لا يبقى البحر المتوسط «مقبرة كبرى تدفن فيها الكرامة الإنسانية». كذلك، شجّعها على تحمل «مسؤوليتها الجماعية» من أجل مواجهة «الصعوبات الموضوعية». وفيما يشكو كثير من المنظمات الإنسانية، العاملة على إنقاذ اللاجئين من الغرق في مياه المتوسط، من العوائق التي تضعها الحكومات بوجهها، حرص البابا على تقديم الشكر لها وعلى تشجيعها على المثابرة في عملها.

وفي كلمته، دعا البابا إلى السماح «بعدد كبير من عمليات الدخول القانونية والنظامية» للمهاجرين، مع التركيز على قبول الفارين من الحروب والجوع والفقر بدلاً من الحفاظ على رفاهية الفرد».

الرئيس ماكرون وعقيلته يحضران اختتام «ملتقيات المتوسط» في مدينة مرسيليا، السبت (رويترز)

هذه الرسالة كررها البابا كثيراً من المرات خلال زيارته القصيرة لمرسيليا، وهي الأولى التي يقوم بها بابا الفاتيكان منذ 500 عام. ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن فرنسوا توماس، رئيس منظمة «إس أو إس ميديتيرانيه»، إعجابه الشديد برسائل البابا القوية، بقوله: «كنا نعوّل على كلمات قوية، لكن هذا الأمر تخطى ما كنا نأمله».

أزمة متفاقمة

بيد أن كلام البابا في وادٍ، والسياسات المتبعة في الدول الأوروبية في وادٍ آخر. وتفيد أرقام المنظمة الدولية للهجرات أن أعداد الغرقى في مياه المتوسط في السنوات العشر الأخيرة وصلت إلى 33700 شخص، وأن الوفيات الناجمة عن الغرق قد ضربت أرقاماً قياسية في الأشهر الثمانية الأولى من هذا العام، خصوصاً في الطريق البحرية الرئيسية بين الشواطئ الأفريقية والشواطئ الأوروبية (مالطا، واليونان، وإيطاليا خصوصاً)، التي تشهد ارتفاعاً غير مسبوق لأعداد الساعين للوصول إلى أوروبا، ومعها ارتفاع أعداد الضحايا. وبحسب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، التابعة للأمم المتحدة، وصل نحو 178500 مهاجر إلى أوروبا عبر البحر المتوسط هذا العام، بينما توفي أو فقد حوالي 2500 شخص.

حقائق

33700

عدد المهاجرين الذي غرقوا في مياه المتوسط في السنوات العشر الأخيرة

وتأتي زيارة البابا بعد الصور الصادمة الآتية من جزيرة لامبدوسا الإيطالية الصغيرة، وهي الأقرب إلى الشاطئين التونسي والليبي، حيث وصل أكثر من 4 آلاف لاجئ، ما بين الثلاثاء والأربعاء في الأسبوع الماضي. وحتى يوم السبت، لم تتأكد معلومات حول ما إذا كان البابا سيقوم بزيارة إلى الجزيرة الإيطالية، مثلما فعل في عام 2021 حيث زار جزيرة ليسبوس اليونانية، التي كانت تشهد موجة لجوء غير مسبوقة إليها. واعترف البابا خلال الرحلة الجوية من روما إلى مرسيليا بأن القيام برحلات خارجية أصبح بالنسبة إليه أمراً معقداً. ومنذ انتخابه في عام 2013، قام بـ44 زيارة دولة إلى القارات جميعاً. لكن أكثرها كان خارج أوروبا. وبدا أن البابا يعاني من صعوبة في التنقل. وعندما لا يكون في كرسيه المتحرك، فإنه يستعين بعصا ويتكئ على ذراع أحد معاونيه.    

خطة أوروبية طارئة

جاء الردّ الأوروبي على لامبدوسا بإطلاق رئيسة المفوضية، أورسولا فون دير لاين، خطة من 10 نقاط، تركز بالدرجة الأولى على أمرين؛ تشديد الرقابة على الحدود الخارجية لأوروبا من خلال تعزيز الوكالة الأوروبية المسماة «فرونتيكس» والتعاون مع بلدان الممر، وهي بشكل خاص ليبيا وتونس، وتوقيع اتفاقيات إضافية مع مصر والمغرب تقوم على تقديم مساعدات مادية مقابل التشدد في منع انطلاق الهجرات من شواطئهما. 

وكان ملف الهجرات والحاجة إلى تحسين استقبال اللاجئين، وفق المصادر الفرنسية، رئيسياً في الاجتماع الذي عقد صباح السبت بين البابا والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في «قصر فارو» المطل على ميناء مرسيليا القديم، وهو الرابع بينهما؛ 3 اجتماعات منها في الحاضرة الفاتيكانية. وسبق للإليزيه أن أفاد بأن الاجتماع سيتطرق إلى النزاعات القائمة في العالم، وعلى رأسها أوكرانيا وملف الهجرات، والملف اللبناني أيضاً.

صعود اليمين المتشدد

ومع صعود أسهم اليمين المتشدد والمتطرف ووصوله إلى الحكم في بلدان أوروبية كثيرة (إيطاليا، النمسا، الدنمارك، فنلندا)، وتراجع التساهل في التعاطي مع اللاجئين في دول مثل السويد وألمانيا، فإن خطاب البابا لم يعد يلقى آذاناً صاغية. وفي فرنسا خصوصاً حيث تحضّر الحكومة مشروع قانون جديد للتعامل مع اللجوء والهجرات، أكد وزير الداخلية جيرالد دارمانان أن باريس «لن تقبل أي لاجئ نزل إلى شاطئ لامبدوسا»، ضارباً بذلك عرض الحائط بالاتفاق المبرم على المستوى الأوروبي، الذي ينص على تقاسم أعباء اللاجئين الواصلين إلى ثغور ما يسمى «حدود الاتحاد الأوروبي الخارجية». وانتقد اليمين الفرنسي وممثلوه من الكاثوليك والمحافظين، ما يعدّنه «تدخّلات البابا السياسية» في ملف حساس كملف اللاجئين، واتهموه بالقيام بالكثير لصالح المهاجرين. ولا يمكن فصل هذا التيار عن ذيوع الآيديولوجيا المتطرفة التي تروج لها أحزاب مثل «التجمع الوطني» الذي تقوده المرشحة الرئاسية السابقة مارين لوبن، أو اليمين التقليدي، حيث تجد الحكومة نفسها في وضع يدفعها بدورها إلى إظهار التشدد. والدليل على ذلك ما صدر عن وزير الداخلية. ولم يتردد البابا، بحضور مجموعة من المسؤولين، بينهم دارمانان، في انتقاد التشدد الفرنسي في موضوع الهجرات، والنموذج الفرنسي الداعي إلى «صهر» الوافدين، بدل تسهيل انخراطهم في المجتمع. 

قام البابا بجولة في مارسيليا قبل إلقائه عظة أمام الآلاف، السبت (رويترز)

ووسط إجراءات أمنية استثنائية، وتعبئة 6000 رجل أمن رسمي، ومسيرات، وحوالي 1000 من الأمن الخاص، حيّى البابا من سيارته الخاصة الحشود التي اصطفت على «كورنيش باردو» للترحيب به. وتوقعت المصادر الأمنية ما لا يقل عن 100 ألف شخص لهذا الغرض. ومن هناك، توجه البابا إلى ملعب مرسيليا الكبير المسمى «فيلودروم» لإحياء قداس، بحضور الرئيس ماكرون وعقيلته. ويستوعب المكان 67 ألف شخص. ونصبت في محيطه الشاشات الكبيرة لتمكين السكان الذين لم يتمكنوا من الدخول، من متابعة القداس من الخارج.    


مقالات ذات صلة

مهاجرون باكستانيون عالقون على الحدود بين مالي وموريتانيا

شمال افريقيا قوات بحرية إسبانية تعترض قارب مهاجرين غير نظاميين انطلق من سواحل موريتانيا (أ.ف.ب)

مهاجرون باكستانيون عالقون على الحدود بين مالي وموريتانيا

«رغم المسافة الكبيرة التي تفصل موريتانيا عن باكستان، والتي تقدر بنحو 7700 كيلومتر، فإنها أصبحت وجهة للمهاجرين الآسيويين».

الشيخ محمد (نواكشوط)
شمال افريقيا مشاركون في ندوة جامعة أسيوط عن «الهجرة غير المشروعة» تحدثوا عن «البدائل الآمنة» (المحافظة)

مصر لمكافحة «الهجرة غير المشروعة» عبر جولات في المحافظات

تشير الحكومة المصرية بشكل متكرر إلى «استمرار جهود مواجهة الهجرة غير المشروعة، وذلك بهدف توفير حياة آمنة للمواطنين».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
الولايات المتحدة​ تعيينات دونالد ترمب في إدارته الجديدة تثير قلق تركيا (رويترز)

ترمب يؤكد عزمه على استخدام الجيش لتطبيق خطة ترحيل جماعي للمهاجرين

أكد الرئيس المنتخب دونالد ترمب أنه يعتزم إعلان حالة طوارئ وطنية بشأن أمن الحدود واستخدام الجيش الأميركي لتنفيذ عمليات ترحيل جماعية للمهاجرين غير الشرعيين.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
شمال افريقيا مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه أوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

السلطات التونسية توقف ناشطاً بارزاً في دعم المهاجرين

إحالة القضية إلى قطب مكافحة الإرهاب «مؤشر خطير لأنها المرة الأولى التي تعْرض فيها السلطات على هذا القطب القضائي جمعيات متخصصة في قضية الهجرة».

«الشرق الأوسط» (تونس)
شمال افريقيا من عملية ضبط مهاجرين في صبراتة قبل تهريبهم إلى أوروبا (مديرية أمن صبراتة)

السلطات الليبية تعتقل 90 مهاجراً قبل تهريبهم إلى أوروبا

عثرت السلطات الأمنية في مدينة صبراتة الليبية على «وكر» يضم 90 مهاجراً غير نظامي، تديره إحدى عصابات الاتجار بالبشر.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

ألمانيا: محاكمة رجل بتهمة احتجاز وإساءة معاملة امرأة في الغردقة

شرطيون ألمان (أرشيفية - رويترز)
شرطيون ألمان (أرشيفية - رويترز)
TT

ألمانيا: محاكمة رجل بتهمة احتجاز وإساءة معاملة امرأة في الغردقة

شرطيون ألمان (أرشيفية - رويترز)
شرطيون ألمان (أرشيفية - رويترز)

بدأت وقائع محاكمة ألماني أمام المحكمة الإقليمية الأولى في ميونيخ بتهمة احتجاز ألمانية في شقة على مدار شهرين في منتجع الغردقة المصري.

ويقول الادعاء العام إنه يعتقد أن الرجل (37 عاماً) قام في أوائل عام 2017 باحتجاز المرأة التي يبلغ عمرها حالياً 33 عاماً، وإساءة معاملتها بطريقة وحشية، واغتصابها بشكل متكرر.

ويواجه الرجل اتهامات بارتكاب جريمة خطيرة تتعلق بسلب المرأة حريتها وإلحاق أذى بدني خطير ومتعمد وتهديدها واغتصابها. وأقر الرجل بالتهم الموجهة إليه في أول يوم للمحاكمة.

وحسب الادعاء، تعرف الاثنان على بعضهما عبر الإنترنت، وفي ليلة رأس السنة 2016، سافرت المرأة إلى مصر لبناء حياة مشتركة هناك. ويعتقد أن الاعتداءات بدأت تقريباً في الأسبوع الثاني من يناير (كانون الثاني) 2017؛ إذ أخذ الرجل هاتفها المحمول وجواز سفرها، وكان يحتجزها داخل الشقة عند خروجه.

ووفقاً لما قاله الرجل في المحكمة، فإنه كان يتناول بانتظام مسكناً للألم في ذلك الوقت، وغالباً ما كان يتعاطى مع المسكن الحشيش أو مادة «كريستال ميث»، وأضاف: «عندئذ كان يبدأ التأثير الحقيقي»، فكان يبقى مستيقظاً بعدها لمدة يومين أو ثلاثة.

وتابعت صحيفة الدعوى أن معاناة المرأة انتهت في 17 مارس (آذار) 2017، عندما أنقذتها الشرطة المصرية بمساعدة المكتب الاتحادي الألماني للتحقيقات الجنائية. ولا تتوافر معلومات بعد حول كيفية علم السلطات بوضع المرأة.

وحددت المحكمة الإقليمية في ميونيخ خمس جلسات للمحاكمة.

وتختص المحكمة بالنظر في القضية لأن آخر مكان إقامة للمتهم في ألمانيا كان في مدينة ميونيخ. ومن المتوقع أن يصدر الحكم في 17 ديسمبر (كانون الأول) المقبل.