حكاية ملفقة لكنها لم تمت

مازن الغيث يكشف الحقيقة في كتابه

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

حكاية ملفقة لكنها لم تمت

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

«حادثة اغتيال في مؤتمر إسلامي» عنوانُ كتاب لمازن الغيث صدر حديثاً. العنوان، وهو كما يبدو مثير للفضول بلا شك، أثار اهتمامي من أول نظرة، وحفّزني على اقتنائه وقراءته. لو كان العنوان «اغتيال في مؤتمر» لهان الأمر قليلاً، حتى إن اتصف بشيء من غرابة. لكن «حادثة اغتيال في مؤتمر إسلامي» تحديداً، ومكتوبة باللون الأحمر وببنط كبير، يجعل المرء يحاول تذكر كل عناوين قصص وروايات الجريمة التي قرأها، في مرحلة مبكرة من عمره، بحثاً عن شبيه.

غلافُ الكتاب يتسق وغرابة العنوان. فقد حمل صورة باللونين الأبيض والأسود، لمؤتمرين يجلسون في قاعة كبيرة. التقطت من زاوية بعيدة. الصورة تبدو للناظر وكأنها مأخوذة من تليسكوب بندقية قنّاص، تتأهب بتركيز وتحفّز لإطلاق النار على هدف داخل نقطة حمراء في دائرة، وسط المؤتمرين. كل ذلك في كتاب صغير الحجم، لا يتجاوز عدد صفحاته المكتوبة 83 صفحة من القطع الصغير، ويحتوي صوراً كثيرة في آخره. ومن الممكن جداً قراءته في جلسة واحدة. أضف إلى ذلك أن المؤلف مازن الغيث غير معروف لي، ولا توجد بين ضفّتي الكتاب، ولو سطور قليلة تعرّف بشخصه، وبمؤلفاته إن وجدت، وبموطنه، وهو أمر غير مألوف، اضطرني إلى طلب المساعدة من محرك البحث «غوغل»، بحثاً عن أي معلومات عنه. لكن «غوغل» خذلني، ولم يقابلني سوى مقال يتيم، وتبين أنه كاتب سعودي.

موضوع الكتاب باختصار يدور حول حادثة وفاة المؤرخ التونسي عثمان الكعاك، الذي وافاه الأجل في مدينة عنّابة الجزائرية، لدى حضوره أعمال الملتقى العاشر للفكر الإسلامي في عام 1976. المؤتمر تبنّته الجزائر، وكان يعقد دورياً كل عام. الكعاك توفي في الليلة السابقة، عن الموعد المحدد في المؤتمر لإلقاء ورقته. قبل وفاته تردد أنه ذكر، خلال النقاشات في الأيام السابقة، أن الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت سرق فكرة كتابه «في المنهج» من الفيلسوف الإسلامي أبي حامد الغزالي، وتحديداً من كتابه المشهور المعنون «المنقذ من الضلال». دليل الكعاك أنه عثر على نسخة من كتاب الغزالي، في مكتبة ديكارت الخاصة بباريس، مترجمة إلى اللغة اللاتينية، وأن الفيلسوف ديكارت قد كتب بخط يده ملاحظة عند جملة وردت عند الغزالي تقول: «الشكُّ أول مراتب اليقين». وكتب مهمّشاً تحتها بخط أحمر: «يضافُ ذلك إلى منهجنا». تلك الملاحظة جعلت الكعاك وغيره يجزمون أن الفيلسوف الفرنسي ديكارت قد سرق فكرة أبي حامد الغزالي. وصادف أن كان بالمؤتمر صحافي مصري شاب «فهمي هويدي» جاء مبعوثاً عن صحيفة «الأهرام» لتغطية المؤتمر، ونشر مقالة في الصحيفة لدى عودته إلى القاهرة، ذكر فيها واقعة وفاة المؤرخ التونسي، كما أشار إلى ما كان يردده حول عملية السرقة الفكرية أعلاه. من هناك، بدأت تنسج خيوط مؤامرة.

المؤلف مازن الغيث، مثل أي محقق في جرائم القتل المعروفين، أخذ على عاتقه مهمة كشف اللثام حول تلك الواقعة، برغبة معرفة الحقيقة. واستطاع أن يشد انتباه القارئ بذكاء، بانتقاله من نقطة إلى أخرى. مفككاً الروايات المنقولة، ومنقّباً عن الحقائق في المصادر، داحضاً الأكاذيب، وعاقداً المقارنات بين ما كُتب، وما قيل وتردد من روايات شفوية. وخلال تلك العملية البحثية المضنية عن الحقيقة، يكتشف القارئ أنه لا وجود لقضية سرقة، ولا لقضية اغتيال. وأن عثمان الكعاك توفاه الله بسكتة قلبية وهو نائم في فراشه. وتبيّن كذلك أنه لا وجود لنسخة مترجمة إلى اللغة اللاتينية من كتاب الغزالي، بل لا وجود لمكتبة اسمها مكتبة ديكارت في باريس. ومن الأخير؛ الحكاية ملفقة. والأسوأ من ذلك أنها لم تمت، بل ما زالت حيّة تسعى، تكرر كحقيقة، حتى وقت قريب، في وسائل التواصل الاجتماعي. وكأن على عقول أقفالها.

اللافت للاهتمام أن المؤلف كشف حقيقة مهمة، وهي أن الأكاديميين العرب لا يحرصون على التثبت من الحقائق، وأنهم ينقلون بعضهم عن بعض من دون الرجوع إلى المصادر، أو إلى التأكد من حقيقة ما ينقلون من معلومات. أحدهم كتب حول الواقعة 3 مقالات، ذكر فيها أن تاريخ انعقاد المؤتمر ووفاة المؤرخ الكعاك عام 1971، ثم يوثق في نفس المقال مباشرة تاريخ ولادة ووفاة الكعاك (1903 - 1976).

الأكاديميون العرب لا يحرصون على التثبت من الحقائق، وينقلون بعضهم عن بعض من دون الرجوع إلى المصادر

وضع المؤلف علامة استفهام كبيرة على رؤوس الأكاديميين والباحثين العرب، أو بالأحرى على مؤلفاتهم التي تملأ أرفف المكتبات، وتدرّس في الجامعات. وأوضح كيف تم اللجوء إلى مزج قضية موت المؤرخ التونسي، بقضية المعلومة التي ذكرها عن ديكارت، وكأنها واقعة حقيقية. كما أبان أن المرحوم الكعاك معروف بين زملائه من الباحثين بالمبالغة. وكون المعلومة مغلوطة بالدليل والبرهان، كما أوضح المؤلف، يشير إلى تنامي وانتشار عقلية المؤامرة ضد الإسلام، وهي عقلية غريبة ومريبة تجعل من الإسلام ومن المفكرين الإسلاميين محور وركيزة العقل البشري، ناكرة بشكل صريح كل ما أنتجه العقل البشري قبل ظهور الإسلام، وبعد ظهوره وانتشاره من أفكار وفلسفات.

كتابٌ صغير الحجم، يتمحور موضوعه حول جريمة اغتيال تمّت في مؤتمر إسلامي. لكنّه في الحقيقة يكشف عن جريمة من نوع آخر، لا علاقة لها بموت مؤرخ تونسي، ولا بمؤتمر إسلامي، بل بالمستوى الذي وصل إليه واقعنا العربي وما بلغه من انحدار، وخاصة بين النخبة الدينية الأكاديمية. ما يجعله كتاباً جديراً بالقراءة.


مقالات ذات صلة

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

كتب إيمانويل كانط

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟

لطفية الدليمي
كتب «الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري

رشا أحمد (القاهرة)
شمال افريقيا الكاتب الجزائري بوعلام صنصال يتحدث في مؤتمر صحافي خلال الدورة الثانية والستين لمهرجان برلين السينمائي الدولي 9 فبراير 2012 (أ.ب)

الجزائر تواجه دعوات متزايدة للإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال

دعا سياسيون وكتاب وناشطون إلى الإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.