يستعد أميركيون للاحتفال في ديسمبر (كانون الأول)، في مدينة دمرستون الصغيرة (ولاية فيرمونت) بعيد الميلاد الخمسين بعد المائة للشاعر البريطاني رديارد كبلينغ، المشهور بأنه «شاعر الإمبراطورية البريطانية».
سيكون مركز الاحتفالات المنزل رقم 707 في شارع كبلينغ. هذا هو المنزل الذي بناه كبلينغ، وسكن فيه مع عائلته لأربع سنوات، مع نهاية القرن التاسع عشر. وقبل سنوات قليلة من حصوله على جائزة نوبل في الأدب.
يظل للمنزل اسم، سماه به كبلينغ نفسه: «نولاخا». هذا اسم هندي معناه «الجوهرة» (أو شيء قيمته مائة ألف روبية هندية، كرمز لشيء غال جدًا). وهكذا ربط كبلينغ بين سنواته في أميركا، وسنواته في الهند (حيث ولد، وعاش جزءًا كبيرًا من حياته).
حتى اليوم، يستمر هذا الرباط، بل يزيد. وذلك لأن عددًا من الأميركيين الهنود والباكستانيين من مواليد لاهور سيحضرون احتفالات ميلاد كبلينغ، لأنه عاش هناك خلال سنوات مجد الإمبراطورية البريطانية (قبل تقسيم الهند وباكستان بسبعين عامًا).
وسيكون هناك بريطانيون، خصوصًا من مؤسسة «لاندمارك» الخيرية التي تملك المنزل، التي تأسست قبل نصف قرن تقريبًا، مع غروب شمس الإمبراطورية، بتبرعات بريطانيين يريدون الحفاظ على أجزاء من تراث الإمبراطورية. وهم يجوبون العالم، ويشترون منازل، أو مدارس، أو معالم، بناها أجدادهم في مختلف دول العالم (منها منزل كبلينغ)، ويحولونها إلى متاحف، أو رموز تاريخية.
* أحراش الهند
في منزل «نولاخا»، كتب كبلينغ بعض رواياته. ربما أشهرها هو «كتاب الأحراش»، وقصد أحراش الهند (لا أحراش أفريقيا)، أحراش النمور والأفيال. وقد كتب هذا الكتاب من أجل ابنته، وعندما ماتت البنت في سن مبكرة، واصل كتابة القصص، وأهداها إلى روحها.
وقد كتب مقدمة لهذا الكتاب نفى فيها عدم وجود قوانين في الأحراش والغابات (ربما غير قانون البقاء للأقوى). وأكثر من ذلك، وضع كبلينغ قوانينه هو، ومنها: أولاً، أمن الإنسان، وأمن الحيوان، وضرورة أن يبتعد كل إنسان، وكل حيوان، عما سيؤذيه. وثانيًا، أمن العائلة، وفيه تأملات عميقة عن كيف تتناسل الحيوانات (المتوحشة)، وكيف تلد، وتربى، وتعلم (مثل أن تعلم قانون أمن الفرد). وثالثًا، أمن المجتمع، الذي ينطلق من أمن الفرد، وأمن العائلة. وفيه تركيز على نظرية أن الإنسان «حيوان اجتماعي».
وفي عهد كبلينغ، استلهمت من الكتاب عدة مسرحيات، وفي فترة لاحقة، عدة مسلسلات، وأفلام، يظل أشهرها هو فيلم والت ديزني (عام 1967. ثم عام 2008). وخلال الخمسين عامًا الأخيرة، ظهرت أيضًا أفلام ومسلسلات تلفزيونية في كثير من دول العالم، ومنها روسيا، واليابان، والبرازيل. وطبعًا في بريطانيا (قبل سنوات، قدمت إذاعة «بي بي سي» مسلسلاً بطلتها البريطانية الهندية نيشا نأيار).
* كبلينغ الأخلاقي؟
في ديسمبر، ستدور واحدة من حلقات النقاش في دمرستون (ولاية فيرمونت) عن «أخلاقيات كبلينغ». ويبدو العنوان محايدا. ومن المعروف، أن هناك جدلاً عمره أكثر من مائة عام عن توجهات كبلينغ الشخصية، ودوره السياسي والأخلاقي. فهناك من يدافع عنه، وهناك من يدينه أشد الإدانة.
من الذين دافعوا عنه، زميله الشاعر البريطاني (والأميركي) تي إس إليوت، الذي كان يصغره بعشرين عامًا تقريبًا. ونال، مثله، جائزة نوبل في الأدب (بعده بأربعين عامًا)، وكتب عنه كتابًا. ومما كتب: «لم أعثر على دليل أن كبلينغ كان يؤمن بتعالي عرق على عرق آخر».
وأضاف إليوت: «تمتع كبلينغ بالقدرة على استعمال كل كلمة استعمالاً يحترم الكلمة، وتمتع بالقدرة على الفضول، بحثًا عن الغريب والجديد. وتمتع بالإمكانية على التأمل، بربط الأشياء ببعضها البعض، والبحث عما يجمعها. لقد شاهد وراء كل حيوان الصورة الكبيرة: الغابة. وشاهد وراء كل إنسان الصورة الكبيرة: الإنسانية».
من جانب آخر، يقول منتقدو كبلينغ إنه ليس إلا رمزًا لتعالي، وظلم، وعنجهية الإمبراطورية البريطانية.
من بين هؤلاء الروائي الشهير جورج أورويل، مؤلف روايتي «مزرعة الحيوانات»، و«1984». وكان أورويل أصغر من كبلينغ بأربعين عامًا تقريبًا. وأصغر من إليوت بعشرين عامًا.
قال أورويل عن كبلينغ: من كتب «كتاب الأحراش»، هو «إمبريالي الأحراش. كان كبلينغ عديم الإحساس (نحو شعوب الإمبراطورية)، وكان يدعو للتقزز (على الأقل، في نظر هذه الشعوب)».
واستغرب أورويل: «لماذا يكرهه كل شخص متحضر؟ لكن، تسعين في المائة من هؤلاء غابوا عن الأضواء. ويظل كبلينغ مركز الأضواء». وعزا أورويل هذا إلى «حب خفي، في قلوبنا، نحن الغربيين، لسنوات تسلطنا على شعوب القارات الأخرى. وكأننا نريد أن نعيد التسلط».
ومن المثير، جواهر لال نهرو، أول رئيس لوزراء الهند، كان يفضل روايات كبلينغ على روايات غيره. أما الروائي الهندي جي في ديساي، فكتب مرة عن كبلينغ يقول: «نصب رجل أبيض نفسه حاملاً لذنوب البيض». وكذلك هاجمه المؤرخ الهندي بعنف قائلاً عنه إنه «فهم تفكير الحيوانات أكثر من تفكير الناس».
* من أقواله
عن «بومباي»: «أم المدن بالنسبة لي. لأني ولدت عند بوابتها. بين شجر النخيل والمحيط. حيث تنتظر سفن تسير بالبخار».
عن «كوبري أكبر»: «جلال الدين محمد أكبر، حارس البشرية. انتقل من دلهي إلى جونبور، في أسفل الهند. حيث سيبني مسجدًا ليس له مثيلاً. وحيث منعم خان، الحاكم، سيعطيه خطة البناء».
عن «أميركي»: «دم الآيرلنديين في قلبه ويديه. دم الفرنسيين في مخه وأعصابه. ها هو يحرس مستعمرات أصحاب البشرة الحمراء (الهنود الحمر). ويخطط لها تخطيطًا حديثًا».
عن «المحارب السوداني»: «هذه لتحيتك (فازي وازي)؛ صاحب الشعر المنفوش، في بلدك السودان. يا وثني الليل، لكنك محارب ممتاز. أيها الشحاذ الأسود، لقد دمرت جزءًا من بريطانيا (مشيرًا إلى ثورة المهدي)».
لكن، تظل قصيدة «هوايت مان بيردين» (عبء الرجل الأبيض) هي الأشهر. يقول فيها: «لنتحمل عبء الرجل الأبيض. لنرسل (إلى المستعمرات) أحسن أولادنا. لنرسلهم إلى المنافي لخدمة رهائننا. لينتظروا في صفوف المشقة. ليخدموا شعوبنا الجديدة. نصفهم شياطين، ونصفهم أطفال».