فريال «الدمشقية» وأمين نخلة: الاحتماء من الموت بالجسد الأصغر سناً

أغرم بها من النظرة الأولى وكان يكبرها بـ40 عاماً

أمين نخلة
أمين نخلة
TT

فريال «الدمشقية» وأمين نخلة: الاحتماء من الموت بالجسد الأصغر سناً

أمين نخلة
أمين نخلة

إذا كان للقارئ المتأمل أن يختزل الشاعر والأديب اللبناني أمين نخلة، في كلمات موجزة، فيمكن له أن يسميه ربيب الجمال وخدينة وأحد المنكبّين على صناعته. وإذا كان قد ظهر بين الدارسين من تحدث عن المدرسة اللبنانية في الأدب، وعنى بها لمسة اللبنانيين الخاصة وحساسيتهم المختلفة إزاء اللغة الأم، فإن نخلة المعروف بأناقته الأسلوبية وتطريزه الجمالي، يحتل من هذه المدرسة موقع القلب ويقف إلى جانب الكبار من رموزها، أمثال صلاح لبكي وسعيد عقل وفؤاد سليمان ويوسف غصوب وآخرين.

على أن أمين نخلة لم يكن ليتبوأ مكانته الخاصة في دنيا الأدب لو لم تتضافر موهبته الفطرية العالية، ونشأته في كنف القامة الباسقة لرشيد نخلة، مع الطبيعة الساحرة لبلدته مجدل المعوش المحاطة بالينابيع والمظللة بغصون أرز الباروك، والتي ألهمته كتابه النثري الفريد «المفكرة الريفية». فضلاً عن عدم ركونه إلى الموهبة المجردة، وانكبابه الدؤوب على توسيع دائرة ثقافته لتطول الأدب والفكر والفن، متعمقاً في قراءة التراث العربي، ومطلاً في الوقت ذاته على المشهد الثقافي المعاصر.

وفي حمى الصراع بين المدرستين الرومانسية والرمزية، انحاز نخلة للثانية معرّضاً بإلياس أبو شبكة الذي رد في مقدمة «أفاعي الفردوس» على مقولة بول فاليري حول اعتبار الإبداع نوعاً من الكدح الدؤوب والمهارة المكتسبة، ليعلي دور الإلهام والموهبة الفطرية في العملية الإبداعية. أما نخلة فيقول بنبرة ساخرة: «إنني أستميح العفو من هذا المسكين الذي كنت أول من لفت القراء إليه في مقالاتي المعروفة، وكأني ألقيت به في ساحة الإعدام، والذي أُلبس غير ثيابه وصُبغ وجهه بألوان من غير لونه، حتى أصبح فاليري في بيروت غيره في باريس».

والملاحظ في نثر نخلة وشعره اقترابهما من الأسلوب البرناسي الذي يحتفي بالشكل، ويعتمد اللغة المنمنمة ذات التوشية الجمالية الأبولونية. ولعل الدليل الأبلغ على إعلاء نخلة للأسلوب الحروفي هو ما أورده ميشال جحا في كتابه التوثيقي «أمين نخلة، مقالات له وعنه ومقابلات معه»، من أن الأخير أجّل إصدار ديوانه «دفتر الغزل» لسنتين اثنتين ليستبدل مفردة لم يكن مقتنعاً بها بمفردة أخرى.

أما افتتان الشاعر بالمرأة فقد بدا امتداداً رمزياً لشغفه بالطبيعة وسحرها الأخاذ، إلا أن هذا الافتتان كان يتم تصويبه على الأغلب خارج المنزل الزوجي، فهو لم يخص زوجته إيفون طرزي بأي قصيدة، ولم يكن يصطحبها إلى احتفال، بل إنه مقتدياً بأبيه ألزمها بارتداء الحجاب، بعد أن خيّرها بينه وبين الطلاق. والأدل على افتتانه بالجمال غير المتاح، هو قصة الحب الدراماتيكية التي عاشها في دمشق مع الفتاة العشرينية فريال، التي رواها ياسين رفاعية في كتابه «رفاق رحلوا»، ولم يرغب في ذكر عائلتها لأسباب اجتماعية معروفة، خصوصاً وأنها تزوجت لاحقاً من رجل لبناني. فقد اعتاد الشاعر أن يزور القصر الجمهوري زمن الوحدة المصرية السورية، حيث كان رفاعية يعمل هناك إلى جانب نشأت التغلبي واسكندر لوقا وغادة السمان. ولم ينتبه العاملون في المكتب الصحافي إلى أن الشاعر الضيف الذي دأب على زيارتهم بشكل يومي لمدة شهرين كاملين، لم يكن يفعل ذلك شوقاً إليهم، بل لأنه وقع منذ اللحظة الأولى تحت سطوة الجمال الآسر لفريال، فتاة الآلة الكاتبة التي لم يكن عمرها آنذاك ليتجاوز العشرين.

ويروي رفاعية أن نخلة كان يرتعش ويتعرق، كلما صافح الفتاة ذات الشعر الأسود والعينين الواسعتين. وإذ جلس الجميع في إحدى الأماسي إلى طاولة العشاء، لاحظ الشاعر غياب فتاته الملهمة، فهمس في أذن رفاعية وقد طفرت دمعتان من عينيه «أيها الحبيب، أين هي فريال الآن؟». حتى إذا أجابه رفاعية: «لعلها تكون نائمة في منزلها في هذا الوقت»، قال بنبرة رجاء مؤثرة: «أريد أن أراها، أريد أن أراها». وإذ بدا للجميع أن عليهم إعطاء إجازة طويلة لفريال حفاظاً على كرامة الأمين، كانت تظهر على الشاعر أمارات الأسى، كلما زار مكان عملها ولم يجدها.

على أن الحظ ما لبث أن منح الشاعر فرصة نادرة للفرح حين أقيمت في جامعة دمشق أمسية قصصية كان نخلة ضيف الشرف فيها. ومع أن اسمه لم يكن مدرجاً في قائمة المتحدثين، فإنه وقد لمح فريالاً وهي تجلس بكامل سحرها بين الحضور، لم يتردد في طلب الكلام من عريف الاحتفال، ثم بدأ ينشد:

أنا لا أصدّقُ أن هذا الأحمر المشقوقَ فمْ

بل وردةٌ مبتلةٌ حمراءُ من لحمٍ ودمْ

وإذ التهبت القاعة بالتصفيق، وفريال تقود واقفة أوركسترا الحضور، شرع نخلة في قراءة «القصيدة السوداء» التي سبق أن نظمها في حسناء سودانية أعجب بها، وفيها يقول:

لا تُعجّلْ فالليل أندى وأبردْ

يا بياض الصباح، والحسْنُ أسودْ

ليلتي ليلتان في الحلَك الرطْب

فجنحٌ مضى، وجنْحٌ كأنْ قدْ

ستِّ: نحن العبيدُ في مجدكِ الأسودِ

أهل البياض نشقى ونسعدْ

كان أوْلى لو كنتُ آخذ بالخصر

ولكنْ يكاد بالكفّ يعقدْ

ثم تابع الأمين وقد أخذته النشوة قصيدة «الكحل»، ذات القافية الطائية الصعبة التي تُظهر اهتمامه البالغ بالترصيع والهندسة اللفظيين، والتي صرح فيما بعد أنه كتبها لفريال قبل أن يراها، ومن أبياتها:

كحلُكِ هذا أم سواد الدجى

تحت التماع الغيث والنّقْطِ

لما سألنا الكحل هل تبتغي

منصرَفاً ؟ قال لنا قَطّ

يا كحلُ غلغلْ في الموشّى وفي

منمنمٍ من أحرف القبْطِ

إياكَ في الغمز وفي خطْفهِ

ورِفّهِ، إياكَ أن تُبطي

وفي حفل العشاء الذي أقيم لاحقاً على شرف الكتاب المشاركين، لم يشأ نخلة أن يفوت الفرصة الثمينة، فرتب الأمور بحيث تجلس فريال على المقعد المجاور لمقعده. وحيث تم له ذلك شعر ليلتذاك أن فرحه بإمارة الشعر، التي كان شوقي وفق روايته قد أسندها إليه من بعده، لا يقاس على الإطلاق بفرحه الغامر وهو يجلس مزهواً إلى جانب فتاة الياسمين الدمشقي.

لم يقدّر لأمين نخلة فيما بعد أن يقابل حبيبته الأثيرة، إلا أن أطيافها الوردية المشوبة بالحسرات كانت ترافقه أينما ذهب. ولم يخفف عنه أن يكون مكرماً في غير بلاط ملكي وأميري أو منصة رسمية، فكتب إلى رفاعية متحدثاً عن فريال بصيغة المذكر، على عادة العشاق العرب، ليتابع قائلاً: «من تراه يعاتب هذا الفاعل التارك؟ من ذا الذي يكلفه الولوع بالشَّعر الأبيض، ويسأله الجمع بين الروض والهشيم؟ أنا نفسي أسأله أن لا يلتفت إلى حب لا غاية له. فليكتب الله له السعادة برفيق عمر يكون خير رفيق، أما أنا فإنني أحمل وحدي هذا الحب وأقاسي عذه اللوعة. لكأن الحب ربيع وإن جاء في أعقاب الشتاء، أو كأن الصبا يُعدي، ويغدو المحب مرآة الحبيب». ومع أن الشاعر طلب من صديقه تمزيق الرسالة بعد الاطلاع عليها، خشية وقوعها في قبضة زوجته، إلا أن الأخير لم ينفذ الوصية، ليتيح لنا الوقوف على الجانب التراجيدي من ولع الشاعر بالحياة، حيث الروح ثابتة على العشرين، فيما الجسد يركض مسرعاً نحو سبعينه، وفق تعبير أحمد الصافي النجفي. ولعل قصة نخلة وفريال تذكّرنا برائعة نابوكوف الروائية «لوليتا»، التي ما تلبث بطلتها المراهقة أن تترك زوج أمها الكهل إلى عزلته البائسة بعد أن استسلمت لإغوائه أول الأمر. كما تذكّرنا برائعة ياسوناري كاواباتا «الجميلات النائمات»، حيث النزل الذي يستقبل العجائز السبعينيين، لا يعطيهم الحق في لمس أجساد الفتيات المدفوعات إلى نوم عميق، بل يتيح لهم عبر تأمل الجمال المستلقي قبالتهم بكامل عريه، الدخول في حالة من النوستالجيا الصرف لاستعادة أزمنة الصبا المترعة بالرغبات التي ذهبت إلى غير رجعة.

ومع أن الأقدار لم تهيئ لأمين نخلة لقاءً آخر بفريال، التي تزوجت لاحقاً من رجل لبناني، إلا أنها ظلت ماثلة في قلبه وعقله حتى لحظات حياته الأخيرة. فحين أصيب بنزيف حاد في الدماغ وفقد الجزء الأكبر من ذاكرته، ولم يعد يؤثر اللقاء بأحد ممن عرفهم كي لا تصاب كبرياؤه في صميمها، هلل رغم ذلك لقدوم رفاعية حين زاره في منزله البيروتي، ليس فقط لمنزلة ياسين الخاصة في نفسه، بل لأنه ذكّره بحبه العصي على النسيان. ولم يكد صاحب «العصافير» يستقر في جلسته، حتى سأله نخلة بصوت راعش «كيف حال فريال؟». وإذ أبلغه الأخير أنها بخير، محاذراً أن يصدمه بالقول إنها اختفت في زحام الحياة، لمعت صورتها الساحرة في رأس الشاعر المحتضر، فتذكّر أبياتاً له كانت تحبها وتحفظها عن ظهر قلب، وبدأ يردد متمتماً:

أحمامةٌ تبكي على الصيف المودّع، لا علينا

إبكي علينا يا حمامةُ واحملي دمعاً إلينا

نحن الذين خوى بهم فلكٌ وأُسقطَ في يدينا

إنا بَنيْنا للشبابِ ولم يدم ما قد بَنَيْنا



موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».