فصل من رواية «بيروت على ضفاف السين» بالعربية

تصدر عن «دار الجديد» وفي المكتبات بعد أيام

فصل من رواية «بيروت على ضفاف السين» بالعربية
TT

فصل من رواية «بيروت على ضفاف السين» بالعربية

فصل من رواية «بيروت على ضفاف السين» بالعربية

نهاية الشهر، تظهر في المكتبات الترجمة العربية لرواية الأديب اللبناني الفرنسي سبيل غصوب «بيروت على ضفاف السين»، التي نالت «جائزة غونكور الطلاب»، وهي التي ينالها صاحبها بعد أن تخضع روايات عدة مرشحة للجائزة لتصويت الطلاب. وقد وقع اختيارهم على هذه الرواية التي تحكي قصة عائلة هاجرت إلى فرنسا بسبب الحرب الأهلية في لبنان، لتعيش حياة فرنسية بمذاق لبناني.

الطريف أن النسخة العربية التي صدرت في بيروت عن «دار الجديد» ترجمها عن الفرنسية والد المؤلف قيصر غصوب الذي هو أحد أبطالها. وهو شاعر، ومسرحي، وصحافي وأستاذ لغة عربية، لكنه وجد نفسه أمام مهمة مختلفة تماماً هذه المرة. إنه اختبار نقل نص ابنه الذي يروي قصة حياته شخصياً كمهاجر.

تفتتح الرواية على النحو التالي: سألني أبي: «هل تريد أن أرويَ لكَ قصَّةَ حياتي بالعربيّة أم بالفرنسيّة؟». ثمّ أضاف: «هل تفهمُ العربيّة؟». وقد كان هو معلِّمي مُدَّة ثلاثِ سنواتٍ طوالٍ، وكنتُ أعيشُ في كلِّ أمثولةٍ من أمثولاته جلجلةً لا نهاية لها.

وعلى إثرِ هذا الكلام علَّقتُ زِرَّ التّسجيلِ على قميص بيجامَتِهِ الّتي يرتديها منذ أن كنتُ في الخامسةِ من عمري. بيجامةٌ مرتَّقَةٌ مرّاتٍ عِدَّةً بأناملِ خيّاطين أكرادٍ وعراقيين وكوريِّين؛ بعضهم وضع أيضاً خِرقاً من جلدٍ لسدِّ الثّقوب.

ويعرف القارئ أن للوالد أكثر من دزينة بيجامات، من النسخة نفسها، لكن يأبى أن يلبس غير هذه التي حملها معه من لبنان.

الرواية مليئة بهذه الإشارات الإنسانية التي تتحرى نفسية أم وأب مهاجرين اضطرتهما الظروف مع اندلاع الحرب الأهلية للعيش مؤقتاً في باريس، لكنهما لن يعودا أبداً، وسيبقيان معلقين على خيط الأمل الواهي.

يختلط الخيال بالواقع، فعائلة الكاتب حاضرة بأسمائها الحقيقة، لكن هذا لا يمنع أنه ملأ فراغات الذاكرة، وفجوات الروايات التي قصها عليه الوالدان، بتفاصيل روائية. كما أن الراوي (الابن) تمكن بعد جمع حكايات والديه من الصور والرسائل ومقابلاته معهم، من المزج بين الخاص والعام، حيث تحضر تعقيدات الوضع اللبناني وانقساماته حتى داخل العائلة الواحدة، من خلال قريبين أحدهما يقاتل مع الكتائب اللبنانية ويمقت الفلسطينيين، وآخر يقاتل من أجل تحرير فلسطين.

وهنا مقطع من النص العربي الذي سيظهر في المكتبات بعد أيام.

أبي وأمّي في باريس | 1975

يتصيّد أبي الجرائد من المزابل العامّة بواسطة عصا صنعها من قطعة خشبيَّةٍ وخيطٍ وإبرة خياطة معقوفة. يسرق الكتب من مكتبة «جيلبير جون» «أكثر من 100 كتاب» هذا ما أكّده لي. يحكي لي دائماً الطّرفة نفسها، وهي أنّه تناول مرّة شقعة من الكتب من الرّفوف وخرج دون أن يدفع، فاقترب منه رجل أمن، وربَّتَ كتفه اليمنى: «إلى أين أنت ذاهب؟ اتبعني!».

كان الرّجل طويلًا، أكثر من مترين. مشى أبي خلفه إلى الطّابق الأرضي دون كلمة حيث وجد نفسه في مخفر.

- ماذا كنت تنوي أن تفعل بهذه الكتب؟

- بهذه الكتب؟

- نعم يا سيّد.

- كنت أنوي أن أُرِيَها لزوجتي الواقفة في الجهة الأخرى من الشّارع. هل تعرف أنّ «اختفائي» قد يصيبها بالجنون والحزن، وأنّها ستتصل على الأرجح بالشّرطة وأنتم هنا غبّ الطلب!

- هل تضحك عليّ؟

- لا أبدًا. لنصعد الآن معاً من فضلك.

أمّا أمّي الّتي أضاعت زوجها فطلبت من أحد البائعين أن يناديَ اسمه على المكبّر كأنّه ولد عمره أربع سنوات. كنّا نسمع في المكتبة ما يلي: «السّيّد قيصر غصوب مطلوب على الاستقبال، السّيّد قيصر غصوب!». وحين شاهدتْ أبي بدأت تولول: «أين كنت يا قيصر؟ أين كنت؟ أبحث عنك منذ ساعة!». عندها تمنّى رجل الأمن لو أنّ الأرض تنشقّ وتبلعه. حاول أبي أن يهدّئ من رَوْع أمّي: «اهدئي، أردت أن أُرِيَكِ هذه الكتب في الشّارع فظنّوا أنّني سأسرِقُها». بدأ صراخ أمّي يتعالى أكثر فأكثر إلى درجة أنّ الكتب صارت تتساقط عن الرّفوف: «لا، لا، هل أنتَ مخبول؟! زوجي يسرق؟! ألأنّه يحمل بين كتفيه رأساً عربياً، أو رأساً تركياً حسبما تفكّرون؟! يا عيب الشّوم عليكم! يا عيب الشّوم!». أخذت الكتب من يديْ أبي ورمتها على الأرض: «خذوا كتبكم، لا نريدها! على كلِّ حال نحن نختنِقُ داخل مكتبَتِكم، نختنق! لا يدخلها شعاع نورٍ. لا أفهم كيف يتحمل زوجي أن يبقى فيها ساعات عدّة».

إلى جانب الدّراسات الّتي يتابعها في السّوربون يعمل أبي كثيرًا؛ فهو صحافيٌّ ثقافي في بعض المجلّات العربيّة، كما أنّ جامعة القديس يوسف في بيروت عيّنته في إدارة مركز الأبحاث والدّراسات العربيّة «لو كريا» لتدريس العربيّة للرّاشدين.

ينتقل من شقة إلى شقة، يعلّم الأبجدية لرؤساء الشّركات الفرنسيّة الكبيرة. ألف، باء، تاء، ثاء... وتلاميذه يتعثّرون دائماً بالأحرف ذاتها، ولا يستطيعون أن يلفظوا حرف «الرّاء» دون لدغته الفرنسيّة، ولا أن يتنحنحوا بحرف «الحاء» الّذي يصدر من الحلق.

«بسرعة وجد أبوك عالَمَه، يتحرّك كثيراً، ويلتقي أُناساً كثيرين. أمّا أنا فكنت أشعر بأنّني وحيدة»... سُجّلت والدتي في السّوربون لدراسة الجغرافيا. ولكنّها ووالدي كانا بحاجة لمدخول لدفع إيجار الشّقة مثلاً، ورغم أنّ الأهل يرسلون لهما مبالغ بيد أنّها لا تكفي، لذا أخذت تبحث بحثَ المستميت عن عملٍ.

لم تكن لتفهم خرائط المترو: الخطوط والتّحويلات وقاطع التّذاكر؛ في لبنان تنقّلت دائماً بالسّيارة. أبوها يعيرها سيّارته. كان من أوائل اللّبنانيّين الّذين اشتروا سيارة. رقم لوحتها يثبت ذلك هو «3101». وقد وُضِعت هذه اللّوحة على سيارتي الأولى في لبنان. أذكر أنّني في محطة وقود قرب ضيعة أمّي، اقترب منّي رجل عجوز عند رؤيته رقم اللّوحة «3101» وقال لي: «أنتَ حفيد توفيق؟». ثمّ ضمّني إلى صدره قبل أن أجيبه. كانت موسيقى الستّينات المصرية تصدح من مذياع محطة الوقود. يكفي أن أغمضَ عينيَّ كي أتخيَّل أنّني أسير في مشهد فيلم من أفلام المخرج الألماني ـ التّركي فاتح أكين، حيث تكتنفُ عودة شابٍّ من أبطاله إلى قريته صُدَفٌ سحريّة.

الكلوشار أو صعاليك باريس هو ما شاهدته أمّي للمرّة الأولى في حياتها، ففي لبنان لم يكن جائزاً أن نترك أقرباءنا يتسوّلون. هناك دائماً ابن عمّ أو عمّ أو قريب ليتلقّفَ هذا المسكين ويساعده أو يلجِئَه أو يجدَ له عملاً. حين تخبرني أمّي بهذا اللّبنان، أتحقق كم أنّ البلد الّذي عرفَتْهُ قد تغيّر.

نصادف الآن شحاذين شباباً أو عجائز لبنانيّين أو سوريّين نساءً أو رجالًا في كلِّ ناصية من شوارع بيروت.

أمّي تشتاق إلى أمّها بشكل قاسٍ، اعتادتا الألفة وهذا البعادُ جُلجُلة. فقدَتْ أمّي نجيّتَها، صديقتَها الحميمة، شقيقةَ روحها. تكتب لها رسائل تستهلّها بـ«ماما حبيبتي»، وتستكملُها بعبارات حبٍّ وكلماتٍ بليغةٍ ومؤثّرة. تبكي أمّي يومياً؛ لأنّها تعيشُ بعيدةً عن أهلها وعن بلدها. آخر همّها حياتها الباريسيّة.

صديقاتها في لبنان يكتبن لها: «حظّك كبير لأنّك تعيشين في باريس». كانت تودّ أن تجيبهنّ: «اخرسن، إنكنّ لا تفهمن شيئاً». كلّ ما كانت تتمنّاه هو العودة إلى أحضان أبيها، وإلى دردشاتٍ وقهوةٍ مع أمّها، وأن تستعيد أرضَها وشمسَها وبحرَها. في خيالها، باريس رائعةٌ وجميلةٌ كالأفلام الفرنسيّة القديمة الّتي كانت تشاهدها في بيروت مع أبيها. تشبه باريس فيلماً عنوانه: «يحدث فقط للآخرين» للمخرجة نادين ترنتينيان الّذي شاهدته مرات عدّة في سينما «ألدورادو». كانت تتوقّع أن ترى نساءً ورجالًا أنيقين مثل مارسيللو ماستروياني وكاترين دونوف، وسيارات برّاقة وشوارع نظيفة، لكن الحقيقة كانت عكس ذلك.

«باريس وسخة يا سبيل والدّليل المترو، منه تفوح رائحة كريهة» أردفت أمّي: «رائحة نتنة إضافة إلى عرق النّاس وهواء المجارير المقيت. هل تعرف ماذا فعلت كي لا تخنقني هذه الرّوائح؟ عطّرت شالي بالياسمين، وثبَّتُّه على أنفي طوال الرّحلة». فكّرتْ أمّي حينئذ بأزهار حقول قريتها بشجيرات الحامض والبرتقال والأفندي في بيتهم قرب بيروت.

تساءلت: من يتحمّل العيش في باريس؟ «هذه ليست بحياة»، سمعتها تردّد.

كانت تعبر المدينة من أقصاها إلى أقصاها لشراء السّمّاق وحبّ الهال والزّعتر. كل هذه التّوابل الّتي كانت تجدها في كلِّ مكان في لبنان، وجدَتها فقط في بقالة «إسرائيل» الواقعة في منطقة لو ماريه بباريس.

ساعة تسديد الفاتورة كانت تشتمهم بالعربيّة: «صهاينة» لا يفهمون ما تتفوّه به.



لماذا جُنَّ نيتشه؟

نيتشه مع أمه
نيتشه مع أمه
TT

لماذا جُنَّ نيتشه؟

نيتشه مع أمه
نيتشه مع أمه

أنْ تصل إلى قمة الشعر كالمتنبي وفيكتور هيغو فهذا شيء مفهوم ومقبول وإن على مضض. أنْ تصل إلى قمة الفكر كديكارت وكانط وهيغل، فهذا شيء مفهوم ومعقول، وإن على مضض أيضاً. أما أنْ تصل إلى قمة الشعر والفكر في آن معاً فهذا شيء ممنوع منعاً باتاً. هذا شيء لا يحتمل ولا يطاق. هل لهذا السبب جُنَّ نيتشه؟ من يعلم؟ أم أنه اقترب من السر الأعظم أكثر مما يجب فعميت عيناه؟

في شهر مايو (أيار) من عام 1879 استقال نيتشه من جامعة بال بسويسرا بسبب أمراضه العديدة المتفاقمة على الرغم من أنه لم يكن قد تجاوز الخامسة والثلاثين عاماً: أي في عز الشباب. وقد اقتنعت الجامعة بظروفه وحيثياته وقبلت بأن تصرف له تقاعداً شهرياً متواضعاً يكفيه لدفع أجرة الغرفة والأكل والشرب وشراء بعض الكتب والمراجع. أما الثياب فلم يكن بحاجة إلا إلى أقل القليل: غيار واحد فقط، طقمان وقميصان. وكفى الله المؤمنين شر القتال. بدءاً من تلك اللحظة أصبح نيتشه شخصاً تائهاً مشرداً على الطرقات والدروب. بدءاً من تلك اللحظة أصبح فيلسوفاً حقيقياً وكاتباً ضخماً لا يُشقُّ له غبار. لقد بقيت له عشر سنوات فقط لكي يعيش حياة الصحو. بعدئذ سوف يقلب في الجهة الأخرى من سفح الجنون. ولكن هذه السنوات العشر كانت كافية لكي يضع مؤلفاته الكبرى التي دوخت العالم منذ مائة وخمسين سنة حتى اليوم. بدءاً من تلك اللحظة أصبح العالم كله بوديانه السحيقة وغاباته العميقة مثل كتاب مفتوح على مصراعيه لكي يتفلسف عليه. هل يمكن أن يمضي نيتشه حياته كلها في إعطاء الدروس الجامعية بأوقات محددة وإكراهات وظيفية مزعجة وتصحيح أوراق الطلاب؟ محال. هذه حياة لا تليق بفيلسوف بركاني زلزالي يكاد يتفجر تفجراً... نقول ذلك، بخاصة أنه كان يكره الفلسفة الجامعية وأستاذ الجامعة ويعدّه «كالحمار» الذي يحمل أثقالاً وأفكاراً جاهزة يكررها على مدار السنوات حتى سن التقاعد. هل هذه حياة؟ هل هذه فلسفة؟ على هذا النحو انطلقت عبقريته وانفتحت طاقاته الإبداعية على مصراعيها. عشر سنوات كانت كافية لكي يزلزل تاريخ الفلسفة من أولها الى آخرها.

كل كتاباتي ليست إلا انتصارات على ذاتي!

هذا ما كان يردده باستمرار. وهي بالفعل انتصارات على المرض والمخاطر والصعوبات. إنها انتصارات على تربيته الأولى بشكل خاص. والأهم من ذلك كله أنها كانت انتصارات على التراث الموروث المتراكم والراسخ في العقليات رسوخ الجبال. هنا تكمن الزلازل النيتشوية. أين أمضى الشهور الأخيرة قبل أن ينفجر عقله كلياً؟ لقد أمضاها في مدينة تورين الإيطالية الجبلية الساحرة وهناك شعر بالارتياح وباسترجاع الصحة والعافية إلى حد ما. لقد استقر فيها خريف عام 1888 وأظهر شهية هائلة للكتابة وتفجرت طاقاته الإبداعية في كل الاتجاهات. وما كان أحد يتوقع أنه سينهار بعد أربعة أشهر فقط، ولا هو كان يتوقع ذلك بطبيعة الحال. ولكن الأشياء كانت تتراكم والانفجار الصاعق قد اقترب. نقول ذلك بخاصة أنه استطاع تأليف 5 كتب متلاحقة في ظرف 5 أشهر فقط. من يستطيع أن يؤلف كتاباً كل شهر؟

فلماذا الإعصار إذن؟ لماذا الانهيار بعد كل هذه الانتصارات التي حققها على ذاته وعلى أمراضه وأوجاعه؟ هل لأنه أنهك نفسه أكثر مما يجب فانفجر عقله في نهاية المطاف من كثرة التعميق والتركيز؟ هل الفلسفة تجنن إذا ما ذهبنا بها إلى نهاياتها، إلى أعماق أعماقها؟ هل يمكن أن ينكشف السر الأعظم لمخلوق على وجه الأرض؟ لا أحد يؤلف 5 كتب في 5 أشهر أو حتى 4. أم هل لأنه قال كل ما يمكن أن يقوله ووصل إلى ذروة الإبداع العبقري ولم يبق له إلا أن ينبطح أرضاً؟ أم هل لأنه كان مصاباً بمرض السفلس (الزهري) الذي اعتراه منذ شبابه الأول في مواخير مدينة كولونيا عام 1966. أم أن تلك الغاوية الحسناء سالومي جننته؟ أم؟ أم؟ أم؟ والله أعلم. البعض يقولون إنه دفع ثمن هجومه الصاعق على المسيحية غالياً. ينبغي ألا ننسى أنها كانت دين آبائه وأجداده، وأن والده كان قساً بروتستانتياً وجده كذلك، وجد جده أيضاً.. إلخ. ومعلوم أن أمه فرانزيسكا جن جنونها عندما سمعت بأنه أصبح ملحداً بعد أن كان مؤمناً متديناً بل وتقي ورع طيلة طفولته وشبابه الأول. فكيف انقلب على كل ذلك؟ كيف انقلب على ذاته وأعماق أعماقه؟ ألم يدفع ثمن هذا الانقلاب باهظاً؟ يحق له بالطبع أن يفكك الأصولية الطائفية والمذهبية الموروثة عن القرون الوسطى. يحق له أن يستأصلها من جذورها كما فعل أستاذه فولتير الذي أهداه أحد كتبه قائلاً: إلى فولتير أحد كبار محرري الروح البشرية. ولكن لا يحق له أن يستأصل العاطفة الدينية ذاتها. لا يحق له أن يستأصل أعظم ما أعطاه الدين المسيحي من قيم أخلاقية تحث على الإحسان والشفقة والرحمة وحب الآخرين (بين قوسين: وهي قيم موجودة في الإسلام أيضاً إذا ما فهمناه بشكل صحيح وليس على طريقة الإخوان المسلمين الذين لا شفقة لديهم ولا رحمة، وإنما فقط طائفيات ومذهبيات وتكفيرات وتفجيرات). لحسن الحظ فإن أمه لم تطلع على كتابه الأخير عن الدين وإلا كانت قد أُصيبت بالسكتة القلبية على الفور.

ما هي العلائم الأولى التي أرهصت بانهياره العقلي؟

تقول لنا الأخبار الموثقة ما فحواه: لقد ظل يكتب بشكل عقلاني متماسك حتى آخر لحظة تقريباً من عام 1888. ولكن بعد ذلك ابتدأت عبارات الجنون تظهر وتختلط بالعبارات العقلية المتماسكة أو التي ما زالت منطقية متماسكة. ابتدأت هذياناته غير المعروفة تظهر رويداً رويداً. ابتدأ يشعر بالبانورايا الجنونية. بموازاة ذلك تضخمت شخصيته وتحولت إلى هذيان كوني. هل هو جنون العظمة؟

بعدئذ في 6 يناير (كانون الثاني) من عام 1889، أي بداية العام الجديد الذي شهد انهياره تلقى البروفيسور الكبير جاكوب بوركهاردت أستاذ نيتشه والجيل كله رسالة هذيانية يقول فيها:

«الشيء الذي يخدش تواضعي وحيائي هو أنني أجسد في شخصي كل الأشخاص العظام الذين ظهروا في التاريخ. لقد شهدت خلال الفترة الأخيرة جنازتي ودفني مرتين في المقبرة»... ما هذا الكلام؟ ما هذا الهذيان؟ ما هذا الجنون؟ من يشهد جنازته ودفنه في المقبرة؟

عندما وصلت هذه الرسالة إلى بروفيسور سويسرا الكبير اتصل فوراً بأقرب صديق عزيز على قلب نيتشه: الدكتور فرانز أوفربيك وسلمه الرسالة قائلاً: لقد حصل شيء ما لنيتشه. حاول أن تفهم. حاول أن تفعل شيئاً. عجل، عجل. وعندئذ هرع الرجل وركب القطار فوراً من سويسرا إلى إيطاليا لكي ينقذ الوضع إذا أمكن. ولكن بعد فوات الأوان.

يقول ما فحواه: عندما دخلت عليه الغرفة وجدته مستلقياً نصف استلقاءة على الأريكة وبيده ورقة مكتوبة. فتقدمت نحوه لكي أسلم عليه ولكن ما إن رآني حتى انتصب فجأة على قدميه وهرع هو نحوي ورمى بنفسه بين أحضاني. لم يقل كلمة واحدة، لم يلفظ عبارة واحدة، فقط كان ينتحب بصوت عال والدموع تنهمر من عينيه مدراراً. وكل أعضاء جسمه كانت تختلج وترتجف وهو يردد كلمة واحدة هي: اسمي فقط. لكأنه يستغيث بي. لم تكن الحساسية البشرية قد انتهت فيه كلياً آنذاك. لم يكن عقله الجبار قد انطفأ كلياً. فيما بعد لم يعد يتذكر إلا أمه وأخته اللتين أشرفتا عليه حتى مات عام 1900. (بين قوسين: انظر صورته مع أمه أكثر من مؤثرة). وفجأة شعرت أخته إليزابيت بأنها تمتلك كنز الكنوز: مؤلفاته العبقرية! فقد راحت تكتسح ألمانيا كلها من أولها إلى آخرها في حين أنه لم يبع منها في حياته أكثر من عشر نسخ. بل وكان ينشرها على حسابه الشخصي على الرغم من فقره وتعتيره. ولكن بعد جنونه بفترة قصيرة ذاع صيته وانطلقت شهرته. ثم راح صوته يخترق كالرعد القاصف السماء المكفهرة للبشرية الأوروبية. وأصبحت كتبه تباع بالملايين. بل وتحول كتابه «هكذا تكلم زرادشت» إلى إنجيل خامس كما يقال. وأقبلت عليه الشبيبة الألمانية تتشرب أفكاره تشرباً. وقد تنبأ هو بذلك عندما قال: «هناك أناس يولدون بعد موتهم. سوف تجيء لحظتي ولكني لن أكون هنا».

رسائل الجنون

سوف أتوقف فقط عند تلك البطاقة التي أرسلها إلى «كوزيما» زوجة صديقه ومعلمه السابق الموسيقار الشهير ريتشارد فاغنر. كل المخاوف والإحراجات التي كانت تمنعه من البوح لها بعواطفه ومشاعره حرره منها الجنون. يبدو أنه كان مولهاً بها منذ زمن طويل عندما كان يزورهم في البيت الريفي ويمضي عدة أيام في ضيافتهم. وحتماً كان يغازلها بشكل خفيف. ولكنه كان حباً عذرياً خالصاً لا تشوبه شائبة.

يقول لها في تلك الرسالة الجنونية:

«حبيبتي الغالية جداً أميرة الأميرات. من الخطأ اعتباري شخصاً عادياً كبقية الناس. لقد عشت طويلاً بين البشر وأعرف كل ما يستطيعون فعله من أسفل شيء إلى أعلى شيء. بين الهنود كنت بوذا بشخصه. وعند الإغريق كنت ديونيسوس. والإسكندر المقدوني وقيصر روما هما من تجلياتي أيضاً. وحتى الشاعر شكسبير واللورد فرانسيس بيكون تجسدا في شخصي. وكنت فولتير ونابليون وربما ريتشارد فاغنر ذاته. لقد تقمصتهم جميعاً.

ولكن هذه المرة أجيء كديونيسوس الظافر الذي سيجعل الأرض كلها كرة من نور وحفلة عيد. السماوات ذاتها أصبحت ترقص وتغني وتطلق الزغاريد ما إن وصلت.. وكنت أيضاً معلقاً على الصليب».