«إنه أطول رسالة انتحار في التاريخ». بهذه الكلمات البسيطة وصف السياسي البريطاني العمالي اللامع جيرالد كوفمان البرنامج الانتخابي الذي خاض حزب العمال انتخابات 1983 على أساسه، ومُني بسبب راديكاليته اليسارية بهزيمة مريرة أمام المحافظين بزعامة رئيسة الوزراء – يومذاك – مارغريت ثاتشر. في تلك الفترة، كان اليسار قد فاز بفارق بسيط بزعامة حزب العمال، ممثلاً بشخص السياسي والمثقف مايكل فوت، مستفيدًا من نفوذ النقابات والحركيين، بمن فيهم الجماعات الماركسية والتروتسكية. وأدت هيمنة اليسار على الحزب إلى انسحاب عدد من قادة اليمين العمالي عام 1981 من صفوفه، ثم فقدانه حيّز الوسط في الساحة السياسية، ما أفضى إلى خسارته واكتساح ثاتشر الانتخابات بفارق ضخم.
يفترض أن تحسم يوم السبت المقبل معركة زعامة حزب العمال البريطاني المعارض، وإذا صدقت استطلاعات الرأي فإن النائب جيريمي كوربن، المرشح اليساري المتشدّد، سيحصل على أكبر عدد من الأصوات التفضيلية الأولى، بل ولا يستبعد كثيرون أن يفوز كوربن بزعامة الحزب، وهو أمر سيطرح علامات استفهام كبرى على قدرته على البقاء قوة سياسية برلمانية فاعلة، مع أن قلة تبدى قلقها من أن يتسبب بالضرورة بانشقاق مدمر كالذي حدث للحزب عام 1981.
كوربن، يعد الوريث الطبيعي والشرعي لقادة اليسار الآيديولوجي عبر مسيرة الحزب، الذين يقفون مع المستضعف والفقير، ويؤمنون بهيمنة القطاع العام على الدولة، ويرفضون الخصخصة والمبادرات الفردية ويدعمون الضرائب التصاعدية، كما يعد كوربن مثل قادة اليسار إبان حقبة الحرب الباردة من كبار منتقدي سياسات الولايات المتحدة، وحسم الصراعات السياسية بالحروب. وفي ما يخص الشرق الأوسط يعرف عن كوربن – وتياره اليساري – أنه من أبرز مناوئي غزو العراق ومؤيدي القضية الفلسطينية، وهو اليوم ضد استخدام الحسم العسكري مع نظام الأسد في سوريا، كما أنه من دعاة التفاهم والتقارب مع إيران.
* النشأة.. ومشوار السياسة
ولد جيريمي برنارد كوربن يوم 26 مايو (أيار) 1949، في مدينة تشيبينام الصغيرة في جنوب غربي إنجلترا، لعائلة يسارية، إذ كان أبوه وأمه من أنصار السلم، وقد التقيا إبان الحرب الإسبانية. وتلقى كوربن تعليمه في مدرسة ببلدة نيوبورت بمحافظة شروبشاير بغرب إنجلترا، وترك المدرسة في سن الـ18 من دون أن يكمل تعليمه الجامعي، مع أنه عاد لاحقًا فالتحق لبعض الوقت في بوليتكتيك شمال لندن. وبعدما أمضى سنتين في العمل التطوّعي في جامايكا، عاد إلى بريطانيا وانخرط في العمل النقابي، فصار منظمًا متفرغًا في نقابة موظفي القطاع العام.
كوربن نشط في ما بعد في مواقع نقابية أخرى، كما في الحكم المحلي بعد انتخابه عضوا في المجلس البلدي لحي هارينغاي بشمال لندن. وصار خلال السبعينات من أبرز معاوني الوزير والقيادي العمالي اليساري السابق آنطوني «توني» ويدجوود بن، وانتخب أمينًا لتنظيم حزب العمالي في منطقة إيزلينتغتون (بشمال لندن).
وعام 1983 دخل كوربن مجلس العموم لأول مرة نائبًا عن دائرة إيزلينتغتون الشمالية في لندن، واحتفظ بمقعده حتى اليوم بعد إعادة انتخابه عدة مرات بلا انقطاع.
كوربن، ابن السادسة الستين، ما يجعله الأكبر سنًا من المرشحين الأربعة على زعامة حزب العمال، تزوج ثلاث مرات، وهو أب لثلاثة أبناء. يعرف أنه متقشف جدًا في حياته، فهو لا يملك سيارته، بل يستخدم دراجة هوائية في تنقلاته، كما أنه نباتي ولا يشرب الخمر، ويعرف عنه أنه من مشجعي نادي الآرسنال لكرة القدم، الذي يقع في منطقته.
* صراع اليسار واليمين
جمع حزب العمال منذ تأسيسه عام 1900 توليفة من اتجاهات متعددة على يسار الساحة السياسية في بريطانيا، تتراوح بين الديمقراطيين الاجتماعيين المعتدلين واليسار الماركسي والتروتسكي. وعبر تاريخه ارتبط، كما يدل اسمه بالحركة العمالية والنقابية في البلاد. وكان في الأصل التعبير التنظيمي عن الحركة النقابية والاتجاهات والقوى الاشتراكية.
وهكذا، في مطلع القرن العشرين فرض الحزب وجوده طرفًا رئيسًا في الصراع السياسي الذي كان يحتكره لعقود كثيرة الحزبان التاريخيان الكبيران القديمان حزب المحافظين وحزب الأحرار، وهما الحزبان المتحدّران من حزبي «التوريز» (Tories) و«الهويغز» (Whigs). وفي أوائل عقد العشرينات من القرن الماضي نجح الحزب بتجاوز حزب الأحرار في الانتخابات العامة من حيث عدد المقاعد ليغدو المنافس المباشر للمحافظين. وعام 1924 شكل زعيمه رامزي ماكدونالد الحكومة لأول مرة حكومة أقلية مرتين عام 1924 ثم بين 1929 - 1931، فبات أول رئيس وزراء عمالي في تاريخ بريطانيا.
بعد ذلك شارك العمال في «حكومة الحرب» الائتلافية بين 1940 و1945، قبل أن يحقق انتصارًا انتخابيًا مهمًا بعد الحرب بقيادة كليمنت آتلي، ويشكل حكومة حزبية قوية ومتماسكة أجرت إصلاحات كبرى، في مقدمها غرس دعائم دولة الضمانات والنفع العام، و«خدمة الصحة الوطنية». غير أن الحزب ابتعد بعد ذلك عن الحكم عندما تعاقبت على السلطة حكومات محافظة ترأسها وينستون تشرتشل وأنطوني إيدن وهارولد ماكميلان وإليك دوغلاس هيوم، إلى أن استعاد الحكم عام 1964 بفضل زعيمه هارولد ويلسون الذي حكم مرتين (1964 – 1970، و1974 - 1976) وأكمل فترته الثانية (بين 1976 و1979) جيمس كالاهان.
منذ البداية احتد الصراع الآيديولوجي بين الجناحين اليساري واليميني في الحزب، فقاد رامزي ماكدونالد ما اعتبر الجناح اليميني بينما كان كير هاردي زعيم اليسار. وبعد، آتلي، اعتبر خلفه هيو غايتسكيل وسطيًا أقرب إلى اليمين، ولقد توفي قبل أن تتاح له فرصة تولي الحكم. وعندما فتحت معركة خلافته وقف اليسار مع هارولد ويلسون بينما دعم اليمين منافسه جورج براون ففاز ويلسون.
وعندما قرّر ويلسون التقاعد عام 1976 أيد اليسار وزير الداخلية يومذاك جيمس كالاهان، بينما دعم اليمين وزير المالي روي جينكينز، ومجددًا ربح اليسار وصار كالاهان رئيسًا للحكومة.
سنة بعد سنة بنى اليسار قواعده داخل الحزب وعزز قواه، أمام خلفية «الحرب الباردة» و«حرب فيتنام»، وازدادت مرارة اليمين ونقمته. ومع اشتداد قوة اليسار تضاعفت ثقة النقابات بقوة وسطوتها، ما أدى إلى حدوث إرباك اقتصادي ونقدي كبير وصل مرحلة خطرة في ما عرف بـ«شتاء السخط» 1978 - 1979.
* عصر ثاتشر.. ثم بلير
في هذه الأثناء انتخب المحافظون الوزيرة السابقة مارغريت ثاتشر زعيمة لهم، ووضعوها على الطريق لتصبح أول امرأة تحكم بريطانيا. ثاتشر، اليمينية المتشددة، استفادت كثيرا من تشدّد اليسار والنقابات وتبرّم المواطن العادي غير المسيّس بسطوة النقابات وشلها البلاد ساعة تشاء بالإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات.
وفي انتخابات ربيع 1979 فاز المحافظون بقيادة ثاتشر، وبدأت «السيدة الحديدة» معركة تصفية نفوذ النقابات. ردّ العمال على هذا التحوّل جاء بالذهاب أبعد باتجاه اليسار تحت رايات مايكل فوت و «توني» بن، ولا سيما بعدما انشق اليمين العمالي وعلى رأسها روي جينكينز ورفاقه في ما عرف بـ«عصابة الأربعة» (شيرلي ويليامز وديفيد أوين وويليام رودجرز). وبالفعل، كسب فوت معركة زعامة الحزب على حساب وزير المالية والدفاع السابق المعتدل العاقل دينيس هيلي، ومن ثم خاض العمال انتخابات 1983 ببرنامج غاية في الراديكالية الاقتصادية السياسية وحتى العسكرية (نزع بريطانيا سلاحها النووي من جانب واحد). وكانت النتيجة إحراز ثاتشر فوزها الثاني ولكن بأغلبية كاسحة هذه المرة أهلتها للقضاء تمامًا على سطوة النقابات. وبفضل قوة ثاتشر وتمزق العمال وتشتتهم حكم المحافظون البلاد حتى 1997.
خلال سنوات التمزق والتعلم من الأخطاء مهد زعيمان عماليان هما نيل كينوك وجون سميث الطريق لعودة العمال إلى سكة السلطة، مع أن أيًا منهما لم ينجح ببلوغ الحكم. كينوك، اليساري السابق خسر انتخابات عام 1992 ولكن ليس قبل تقليمه أظافر اليسار المتطرف. أما سميث الوسطي المعتدل فأكمل مهمة كينوك وكاد يقود الحزب للفوز لولا أزمة قلبية قضت عليه في سن الخامسة والخمسين، فخلفه اليميني طوني بلير. وتحت زعامة بلير وشعاره «حزب العمال الجديد» (New Labour) استعاد العمال الحكم في مطلع مايو 1997.
* المعركة الحالية
هذه الرحلة ضرورية لفهم ما يمثله جيريمي كورين، والمخاطر التي يرى خصومه السياسيون أنه يشكلها على فرص حزب العمال باستعادة الحكم.
اليوم يخشى كثيرون داخل حزب العمال أن يؤدي انتصار كوربن – إذا حصل – إلى عودة الحزب إلى سنوات التيه والضياع بين 1979 و1997، على اعتبار أن كوربن ابن القناعات السياسية المجردة وغير المساومة التي رفضها البريطانيون تكرارًا. غير أن جاذبية كوربن تأتي من أن شخص بلير وإرثه، على الرغم من انتصاراته الانتخابية، أفقدا الحزب «روحه» وحماسة محازبيه الحقيقيين.
وفي اسكوتلندا، بالذات، اتجه اليساريون الممتعضون من «انتهازية» بلير إلى التصويت للحزب القومي الاسكوتلندي، وهو ما أفقد العمال قوتهم التقليدية في اسكوتلندا التي كانت أضمن معاقلهم ومنها خرج ماكدونالد أول رئيس وزراء عمالي.
أخيرًا، ينافس كوربن على زعامة العمال ثلاثة مرشحين، اثنان منهم وزيران سابقان هما آندي بيرنام وإيفيت كوبر، وهما محسوبان على وسط الحزب، بل تعد كوبر من أقرب المرشحين لرئيس الوزراء السابق غوردن براون.
أما المرشح الثالث فهي ليز كندال، عضو «حكومة الظل» وتمثل التيار اليميني المؤيد لبلير. وثمة من يعتقد أن فرصة كندال شبه معدومة، بينما يرى البعض أن فرصة بيرنام وكوبر تكمن في الأصوات التفضيلية الثانية.