إيران والأكراد.. عنف وصراع دموي

جزء ثالث من «قطف الورود سيرًا» لنوشيروان مصطفى

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

إيران والأكراد.. عنف وصراع دموي

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

صدرت مؤخرًا الطبعة الأولى من الجزء الثالث لكتاب (قطف الورود سيرًا) للسياسي والكاتب الكردي نوشيروان مصطفى، ويضم الكتاب ثلاثة فصول تتناول جوانب هامة من تاريخ العلاقة بين الشعبين الكردي والإيراني في المنطقة، ويتألف من خمسمائة وتسعين صفحة من القطع المتوسط.
في الفصل الأول من الكتاب، الذي نشرته «الدار العربية للعلوم» في بيروت، مجموعة كبيرة من الوثائق التاريخية النادرة التي حصل عليها المؤلف شخصيًا من المكتبات الإيرانية والمتعلقة بالأحداث والوقائع الحاصلة في مراحل مختلفة من تاريخ العلاقات بين الشعبين، والتي اتسمت بالعنف والصراع الدموي، ومنها: - ميراث الأسرة البابانية بين راحتي مطحنة الروم والعجم.
ويستعرض فيه المؤلف بإسهاب، بدايات نشوء إمارة بابان الكردية في الجزء الجنوبي من كردستان، وكذلك نشوء إمارة أردلان في الجزء الشرقي منها، كما يسلط الأضواء على أبرز الحوادث التي تعرضت لها هاتان الإمارتان، والأسباب التي أفضت إلى زوالهما وما تعرض له الشعب الكردي من كوارث وويلات جراء انهيار تلكما الإمارتين، إضافة إلى الإشارة للمساعي التي بذلها الزعماء الكرد في تلك المرحلة من التاريخ لنيل الاستقلال، وكذلك العوائق التي اعترضت سبيلهم والأسباب التي حالت دون تحقيقهم لهذا الحلم الأزلي.
وفي جانب آخر من هذا الفصل يستعرض المؤلف أوضاع الكرد إبان مراحل الحرب بين الأفغان والأتراك، في القرن السابع عشر الميلادي، وينوه بالمآسي التي عانى منها الشعب الكردي جراء تلك المعارك التي دارت رحاها في الغالب على أراضيه دون أن يكون هو طرفًا في ذلك الصراع، أو أن تكون له أي مصلحة فيها.
كما يسلط المؤلف الأضواء على الصراعات الكردية – الكردية التي دارت رحاها في تلك المرحلة من تاريخ الشعب الكردي، التي تسببت في إلحاق أضرار وخسائر جسيمة وفادحة بالكرد وحركاتهم وكياناتهم السياسية والإدارية القائمة وقتذاك، وذلك بالاستناد إلى وثائق تاريخية كتبت في تلك المرحلة توضح بجلاء الأسباب التي أدت إلى زوال إمارة بابان أكبر الإمارات الكردية آنذاك.
ولم ينس المؤلف أن يتناول جانبا من دور الشاعر الكردي الشهير «عبد الرحمن بيك» الملقب بـ«سالم» (1805 - 1869م) والذي نظم قصائد جسد من خلالها مشاهد ومراحل جد هامة في تاريخ الإمارة ودور زعمائها.
وفي جانب آخر من الفصل الأول أيضا يستعرض المؤلف أهم المعاهدات والاتفاقات التي أبرمت في تلك الحقبة من تاريخ المنطقة في مقدمتها، اتفاقية الروس والعثمانيين الموقعة في (11- يونيو/ حزيران 1724) التي حددت بموجبها الحدود الروسية والإمبراطورية العثمانية، والدولة الإيرانية، ويورد أبرز البنود الواردة فيها، إلى جانب اتفاقات أخرى مثل معاهدة (زهاو) ومعاهدة (كردان) المبرمة بين نادر شاه والسلطان محمود خان الأول في عام (1746م)، واتفاقية (أرض روم) بين الإمبراطوريتين العثمانية والفارسية.
وفي الفصل الثاني من الكتاب وتحت عنوان «على هامش تاريخ إمارة أردلان» يتناول المؤلف جانبا من الشرفنامة التي دونها «شرف خان البتليسي»، التي خصص جزءا منها لميراث إمارة «أردلان» الكردية (1169 - 1867)، وكذلك يورد جوانب هامة مما كتبه أبرز الكتاب والمؤرخين الكرد في ذلك الوقت بهذا الصدد، من بينهم الكاتبة الكردية مستورة مؤلفة كتاب (تأريخ أردلان) 1220 – 1264.
ويشير المؤلف في هذا الفصل، لمراحل حكم (البيكات) في مناطق مختلفة من كردستان ويورد أسماء عدد منهم مع نبذات عن أدوارهم ومناطق نفوذهم وأنسابهم، والـ(بيك) هو لقب ومنصب إداري مهم كان سائدًا إبان حكم الإمبراطورية العثمانية.
وكذلك يبحث في مراحل حكم (الخانات) الكرد، ويستعرض نبذات عن أدوار ومآثر ومواقف هؤلاء، في الجزء الشرقي من كردستان (كردستان إيران) الحالية، والـ(خان) كان لقبًا ومنصبًا رفيعًا في نظام الإمبراطورية الفارسية حصرًا.
وفي الفصل الثالث والأخير من الكتاب، والمعنون «حكومة كردستان - الكرد في الصراع السوفياتي» يورد المؤلف نماذج قديمة وسحيقة لخرائط المنطقة، وتحولاتها طبقًا للأحداث التي شهدتها المنطقة، إلى جانب مواضيع هامة منها:
- إيران، في ظل حكم نظام البهلوي، ويستعرض فيه المؤلف أوضاع الدولة الإيرانية في ظل حكم أسرة البهلوي وعلاقات تلك الدولة مع جيرانها ومع القوى العظمى في العالم وقتذاك، مسلطًا الأضواء على معاهدة (سعد آباد) المبرمة عام 1314 في جنيف بين ممثلي كل من إيران وتركيا والعراق، بهدف إنهاء الخلافات بين هذه الدول.
- ثم يتناول أسباب اندلاع الحرب العالمية الثانية، وتأثيراتها على المنطقة، ودوافع إعلان عدم مشاركة إيران في الحرب، وكيفية احتلال إيران من قبل السوفيات والبريطانيين، والغايات التي كانت وراء عملية الاحتلال المشترك لإيران.
كما يستعرض الكاتب أوضاع الشعب الكردي وما عاناه وقتذاك جراء فصول الحرب ومعاركها التي دارت في الغالب على أراضي كردستان، ويسلط الأضواء على معاناة الشعب الكردي وطبيعة معيشته في ظل حكم نظام البهلوي في إيران.
وفي جانب آخر من هذا الفصل يشير الكاتب إلى التنظيمات والأحزاب الكردية التي انبثقت في كردستان الإيرانية وقتذاك.
ومنها: عصبة أحياء كردستان (ز، ك) والأهداف التي ناضلت من أجلها ويذكر أسماء أبرز زعمائها، كما يذكر أشهر الصحف والمجلات الكردية التي صدرت في ذلك العهد، ثم ينوه إلى انبثاق الحزب الديمقراطي الكردستاني أواسط الأربعينات، ويشير إلى دور مؤسسيه ودور هذا الحزب في تأريخ الشعب الكردي المعاصر.
ويدرس المؤلف أيضا بإسهاب التطور الثقافي في كردستان وأسباب ازدهار الثقافة واللغة الكرديتين، ويورد نماذج للإذاعات ووسائل الإعلام المختلفة المنبثقة في كردستان في تلك الحقبة، ويذكر أولى المكتبات والسينمات الكردية التي رأت النور حينها.
وخصص المؤلف الصفحات الأخيرة من الكتاب، لتاريخ المقاتلين الكرد (البيشمركة) وكيفية انبثاق قوات البيشمركة ومعنى هذه التسمية التاريخية، وكذلك يشير إلى أهم الملاحم التي خاضتها البيشمركة عبر حقب التأريخ دفاعًا عن قضايا الشعب الكردي المصيرية، مختتما الكتاب بموضوع مطول بعنوان «الشعب الكردي بين الأصدقاء والأعداء» يذكر نماذج مفصلة عن الشعوب التي حاربت الكرد طوال التأريخ، وتلك التي وقفت ضد طموحاته، وغيرها التي وقفت إلى جانبه في مراحل مختلفة من التأريخ.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.