مدن وذاكرات ومسارات شخصية

كتابات تنطوي على مساحات مواجهة مع الخوف المتأصل فينا من النسيان والمحو

جانب من مركز باريس
جانب من مركز باريس
TT

مدن وذاكرات ومسارات شخصية

جانب من مركز باريس
جانب من مركز باريس

تُذكرُ المدنُ بالناس قبل تخطيطات العمارة، لها ساكنوها الأثيلون، وزائروها المولعون، ومن حملوها في خيالاتهم، ونهلوا من رواء معابرها عبر الصور والمفردات. هكذا نابت المدن عن الأجساد والذوات العميقة في تمثل المصائر وتحولات والوعي، كانت بسجاياها ولعناتها، تختصر تفاصيل اللقاء مع القدر، الذي يجعل الانتماء لمداراتها الحسية، لعمائرها وساحاتها وحدائقها وفجواتها المائية، انتساباً لوجدان دامغ، له بركاته ولعناته المؤبدة، لذا لا تفتأ الكتب والأفلام والمعارض تكشف باسترسال عن هذا التماهي، الذي يجعل التخييل الذاتي جزءاً من تاريخ المدن.

قبل أسابيع معدودة صدرت، في السياق العربي، يوميات أحمد المديني عن باريس، بعد نصين سرديين لم يستنفدا روح المكان، حملت عنوان «باريس أبداً: يوميات الضفة اليسرى (2019-2020)»، بالتزامن مع نصوص رحلية ومذكرات وأفلام تسجيلية ومعارض عن المدينة ذاتها، وروايات من أصقاع شتى كانت فيها عواصم الشرق والغرب، قاعدة التخييل التي تلملم مآرب التاريخ الشخصي ومراجعات الكتب والتأويل السياسي وتحولات الأمكنة والمناخ... نصوص ولوحات وأفلام تنهمك أساساً في تقليب بلورة الصلة بين المبدعين وذواتهم ومع المحيط ثم مع قلق الإنجاز، بحيث تتحول المدن تدريجياً إلى ذريعة للاسترسال في التخييل وامتحان الولع والانتماء، وإخراج كل تجليات القدر الشقي أو السعيد الذي يسائله الكاتب والرسام يومياً بصدد وجودهما في مدينة دون غيرها.

والشيء الأكيد أنه بعد مسيرة طويلة من الإبداع الروائي السينمائي والتشكيلي، وتراكم معتبر في الصور، يحصل لدينا اليوم، ما يمكنه وسمه بـ«تخاييل المدن»، وهو مزيج من الرواية واللوحة والمشهد الفيلمي والسيرة الذاتية، قد يغلب في بعض خطاباته البعد السردي، مثلما نجد في روايات دوس باسوس وأفلام وودي آلان عن نيويورك، وأرنست همنغواي عن باريس، ومارون بغدادي وحليم بركات عن بيروت، وإبراهيم عبد المجيد ويوسف شاهين عن الإسكندرية... وعشرات غيرهم عن مدنهم الأثيرة والمشتهاة. بينما تتحول المدن في خطابات لفظية وبصرية أخرى إلى تعلة للتأريخ للفقد والرحيل، مثلما نجد في الكاتالوغ الفوتوغرافي «ما بعد السماء الأخيرة» لإدوارد سعيد، وسيرة «المدن والمقاهي والرحيل» لأمجد ناصر، وغيرها. لكن لم هذا الولع اليوم بالتأريخ للعواصم الأثيرة وللمدن التي تحولت إلى رموز في ثقافتنا العربية المعاصرة؟ لم كل هذه النصوص التي كتبت، والأفلام واللوحات، عن بيروت والقاهرة ودمشق وبغداد وعمان والرباط وباريس ولندن ونيويورك وغيرها؟ وبم نفسر هذا التواتر المذهل لسير الأدباء والسياسيين ونجوم الفن الذين آثروا أن يؤرخوا لذواتهم بالموازاة مع مدنهم الأليفة أو الموحشة، أوطانهم أو منافيهم، وأن يكتبوا سير الداخل العميق في طبقات تلك الأمكنة؟

تترجم تخاييل المدن «فتنة أصيلة بالذات»؛ حيث يمكن للوقائع والصور التي يشخصها الأديب أو المفكر أو السياسي عن مدينته، أن تنطوي على جدل عميق مع هوية ملتبسة، تستبق قدر الفناء. وهي العلاقة النابعة من وعينا ونحن نحكي ما جرى، بأن تحولاتنا الحياتية هي تحولات في فضاءات شديدة الخصوصية، وأن تأثيرنا في التاريخ والمحيط الجماعي، هو تحكم في تفاصيل الدروب والأزقة والمقاهي والحدائق والبيوت الآهلة والساحات الموحشة لمدن ألفناها وأودعناها أسرار ولعنا بالحياة. لأجل ذلك فإن هذا النوع من السير بحق هو فن تحويل المجال إلى خيال، هو تشكيل نوعي لفتنة الذات الداخلية بمحيطها كما يدركها صاحبها، وكما يتمثلها زمنياً. ولن يستطيع السارد أن يترجم تفاصيل تكون الهوية الذاتية وتناميها المتشابك دونما إعادة تركيب وتوليف وتصرف في ملامح المدن التي استوعبت نزقها وتقلباتها، وبغير ما قيمة مضافة تجسر المسافة بين الذات ومنبتها.

في مقطع من نص «باريس أبداً» لأحمد المديني نقرأ ما يلي: «هاجمني الصاحب بالبوح، أنت تتحدث عما ترى كحبيبات، كل شيء يينع من جديد في وصفك، وكأنك تراها للمرة الأولى، إذ تسمّي الوردة والشجرة والتمثال، والتاريخُ ينطق من فمك. بدت لي دهشته مرآة لحالة أراها داخلي وقلّ من يُبصرها. هي صورة أخرى لي تُنجز وحدها مع الأيام تساعدني على أن لا أشيخ في مدينة بعمر الدهر وأجمل ما في العالم. قلت له هنا تعلمت المدينة، ومعنى الزمن، وأواصل مسلسل تعلم التمدن لأني لم أولد فيه» (ص 25).

ما الذي تريد أن تقوله تخاييل المدن؟

قد تقول ما كان، أو ما راود أحلام ساكنيها وصانعي فتنتها، وقد تُكتب مواساة للذات عن ضياع مدن الطفولة واليفاعة، أو تطهراً من أحاسيس مرزئة تجاه أحداث التبست بمدن معينة، وقد تكتب من حيث هي مجرد مسعى لتمثّل الماضي، وإعادة رسم الأبواب والشرفات والمباني والوجوه بالأبيض والأسود. بيد أن تلك الكتابات أيضاً تنطوي في العمق، جميعها، على مساحات مواجهة مع الخوف المتأصل فينا من النسيان والمحو. وتشبث صامت بما تبقى من مرافئ العبور.

هكذا كتب أورهان باموك سيرة مدينته إسطنبول، وكتب حليم بركات: «المدينة الملونة» ليعيد رسم لوحة بيروت، مثلما كتب جمال حيدر سيرة «بغداد» ليشكل من جديد ملامح مدينة في ذاكرة الستينات، وصور شاهين الإسكندرية، ورسم مروان قصاب باشي دمشقه في تضاريس الوجوه المجهولة الهوية، وصَوَّر غيرهم مئات الأقدار التي تؤرخ لتفاصيل المدن المتنائية عبر الزمن والجغرافيا والسياسة والكنه الثقافي.

لكن إلى أي حد تكون حياة مدننا، كما يعيها الروائيون والتشكيليون والسينمائيون ويريدون لنا أن ندركها، لعبة للإضمار ورسم الأقنعة، لا محفل اعتراف وإفضاء بما أثقل الخاطر؟ كيف يمكن أن تتحول تفاصيل المدن الأليفة لدينا إلى أسرار محجوبة يُستعاض عنها بالأحاسيس والرؤى الملونة بالعاطفة في المعاطف السردية والصور البصرية؟ لم يختار الكاتب والسينمائي والفنان التشكيلي عن طواعية أن يطل على مدينته الأثيرة بخبرة الجراح، ومهارة الحاوي، ليسوغ لذاته قبل الآخرين أن ثمة منطقاً للصعود أو الانكسار؟ وأخيراً لم لا تفتننا تواريخ المدن، وتسحرنا مجازاتها وما تستثيره من صور ملتبسة؟

حينما رسم بيكاسو، مالقة، بولع ومثابرة، وكأنما كان يبحث عن سر مضمر، خلدها كما لم يخلد أي فضاء في العالم، رسمها جدراناً وأصداء، وجوهاً وأهواء، وبأحاسيس وتخاييل ورؤى متبدلة، ولأن مالقة، المدينة الجنة، كما يحلو لأهلها أن يسموها، هبةٌ لفني الفلامينكو ومصارعة الثيران، فقد خلف الرسام الأبرز في القرن العشرين ما لا يحصى من صور المغنين والراقصات، الثيران والمصارعين بملامح واقعية ومتخيلة، أحادية اللون وبطبقات صاعقة، وجوه فظة وأجساد عارية، وأخرى بلا تقاسيم، وبرموز وتعبيرات متقاطعة، كان يرسم التباس مدينته الآسر في شطح المصارعة والرقص.

لذا فأمر طبيعي، أن يحس أغلب زوار مدينة مالقة، وكأنهم في ضيافة بيكاسو، وفي مكان لم يبرحه يوماً، وتجلله ظلاله؛ «المتحف الكبير» الذي يضم لوحاته بجوار القصبة، وساحة لاميرسيد مرتع طفولته، حيث تمثاله البرونزي، وبيته الذي تحول إلى متحف، والمؤسسة الثقافية الكبرى التي تحمل اسمه، وترعى تراثه الفني عبر العالم، وعشرات المنحوتات المستلهمة من صوره هنا وهناك، في الدروب والساحات، وفي الربوة وعلى شاطئ البحر... ينفذ إليك شعور طاغ أن كل الأشياء في المدينة مجرد تفاصيل على موضوع رئيس اسمه بيكاسو.

في المحصلة يبدو أن للمدن فصولاً مكتومة، وأخرى تتداولها ألسنة المقيمين والعابرين، لا تشبه جدرانها وساحاتها وأزقتها، يمكن أن تكون أثراً خالداً في الذاكرة، أو مجرد سوء فهم مطرد، لهذا تكتسب العواصم الشهيرة مع مرور الزمن سجايا الكائنات، من البدائية الموغلة في الفطرة إلى التوحش، في متخيل الباحثين عن أسرار، واللاهثين وراء رغائب عصية، وفتن ممتنعة، ودهشة إغواء؛ لم تكن باريس وروما ولشبونة ومدريد وبرلين والقاهرة وبغداد وبيروت والدار البيضاء، إلا سلسلة غنائم وخسارات، توغلت في خلايا الدم.

في مقطع من كتاب «الستارة»، يقول الروائي التشيكي ميلان كونديرا: «خلال إحدى زياراتي الأولى لبراغ بعد انهيار الحكم الشيوعي عام 1989، قال لي صديق عاش فيها طوال الوقت إن بلزاك هو من سنحتاجه... فما يجعل هذه التجربة جديرة بالتصوير، هو أنها تحتفظ بالقيمة طازجة في ذاكرتها، وأن التجربتين تتداخلان، وأن التاريخ كما في عصر بلزاك، يخرج مسرحية معقدة لا تصدق».

لم كل هذه النصوص التي كتبت، والأفلام واللوحات، عن بيروت والقاهرة ودمشق وبغداد وعمان والرباط وباريس ولندن ونيويورك... وغيرها؟


مقالات ذات صلة

بعد نجاحاتها العالمية... الرياض تحتفي بـ«روائع الأوركسترا السعودية»

يوميات الشرق تشارك الأوركسترا والكورال الوطني بأعمال تعكس جمال التراث الثقافي السعودي (هيئة الموسيقى)

بعد نجاحاتها العالمية... الرياض تحتفي بـ«روائع الأوركسترا السعودية»

يتجدد الإبداع الموسيقي مع حفل «روائع الأوركسترا السعودية» الذي يستضيفه مسرح مركز الملك فهد الثقافي في الرياض خلال الفترة بين 16 و18 يناير الحالي.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق رسومات لطلبة المدرسة السعودية في إسلام آباد تبرز عمق علاقات البلدين (الشرق الأوسط)

«جداريات إبداعية» توطّد العلاقات السعودية - الباكستانية

دشّن نواف المالكي، السفير السعودي لدى باكستان، الخميس، مبادرة «جداريات إبداعية» التي تعكس حرص البلدين على توطيد علاقاتهما في مختلف المجالات.

«الشرق الأوسط» (إسلام آباد)
يوميات الشرق يأتي العام لحفظ وتوثيق الحِرف اليدوية السعودية التقليدية وترسيخ حضورها دولياً (وزارة الثقافة)

السعودية تبدأ «عام الحرف اليدوية» احتفاءً بقيمتها التاريخية وتراثها الثقافي

قررت السعودية تسمية 2025 «عام الحرف اليدوية»، والاحتفاء بقيمتها التاريخية وتراثها الثقافي، وما تجسّده من أصالة ملموسة موروثة من الآباء والأجداد.

عمر البدوي (الرياض)
يوميات الشرق يعد «شارع المتنبي» أحد الرموز الثقافية البارزة للعاصمة العراقية بغداد (الشرق الأوسط)

«متنبي العراق» في الرياض... رحلة بين أهم معالم بغداد التراثية

«شعرت بأنني في بغداد وليس في الرياض… دقة المحاكاة مهولة»؛ هكذا عبّر مواطن عراقي عن دهشته، عندما تجول في «شارع المتنبي»، ولكن هذه المرة في العاصمة السعودية.

ناصر العمار (الرياض)
يوميات الشرق وزارة الثقافة احتفت بالشركاء المساهمين في دعم أهداف مبادرة عام الإبل 2024 (واس)

«الثقافة» السعودية تحتفي بختام «عام الإبل 2024»

احتفت وزارة الثقافة السعودية، مساء السبت، بختام مبادرة «عام الإبل 2024» خلال حفل أقيم في الرياض، شهد تكريم الشركاء المساهمين في دعم أهدافها.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
TT

محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي

حين كتبت في الصيف الفائت عن البيوت التي لم تعد ملاذاً لساكنيها، والتي تبحث عبثاً عمن يعصمها من هول الحروب وحممها المتساقطة، لم تكن المواجهة مع العدو في لبنان قد تحولت إلى منازلة مفتوحة ومنعدمة الضوابط والمعايير. وإذا كان المنزل الذي وُلدتُ فيه مع الأشقاء والشقيقات لم يصب حتى ذلك الحين بأذى مباشر، فقد بدت الكتابة عن المنازل المهدمة أشبه بالتعويذة التي يلجأ إليها اليائسون للتزود بحبال نجاة واهية، كما بدت من بعض وجوهها تضليلاً للكوابيس المستولدة من هواجس الفقدان، شبيهة بالمناديل الحمراء التي يستخدمها المصارعون في الحلبات، لصرف الثيران عن هدفها الحقيقي.

على أن خوفي المتعاظم من فقدان المنزل العائلي الذي ولدت تحت سقفه القديم بُعيد منتصف القرن الفائت، لم يكن ضرباً من القلق المرَضي أو الفوبيا المجردة؛ بل كانت تسنده باستمرار مجريات المواجهة الدائمة مع العدو، وهو الذي نال في كل حرب سلفتْ حصته من التصدع ونصيبه من الدمار. صحيح أن قريتي زبقين التي أنتمي إليها بالولادة والنشأة، لا تقع على الخط المتاخم للحدود الفلسطينية الشمالية، ولكن الصحيح أيضاً هو أن المسافة الفاصلة بين القرية الواقعة إلى الجنوب الشرقي من مدينة صور، والمطلة من الأعلى على المتوسط، لا تتجاوز الكيلومترات العشرة، بما يجعلها في المرمى الأشد هولاً للنيران الإسرائيلية المتجددة مع كل حرب.

وإذا كانت للجمال تكلفته الباهظة، ولكل نعمة نقمتها المقابلة، فقد كان على زبقين أن تدفع الضريبتين معاً، ضريبة جمالها الأخاذ، وهي المترعة بالأودية والأشجار والتفتح المشمس للأيام، والمحاطة بأرخبيل الينابيع المتحدرة من أعالي الجليل الفلسطيني، والضريبة الموازية لجغرافيا الأعالي التي تجعلها مثاراً لاهتمام العدو، ودريئة نموذجية لتسديد غضبه وأحقاده. ولأن منزل العائلة هو الأعلى بين بيوت القرية، فقد كان عليه مع كل حرب تقع، أن يتلقى النصيب الأوفر من القذائف، بحيث أخذت المواجهة غير المتكافئة بين مواقع العدو وطائراته المغيرة، وبين جدران المنزل العزلاء، طابع المواجهة الثنائية والصراع «الشخصي».

والآن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات، أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي، وأشعر أن في ذلك البيت الذي نشأت بين جنباته، نوعاً من حبل السرة الغامض الذي يربطني على الدوام بنواتي الأولى، ويحوِّل كتابتي برمتها إلى تحلُّق دائم حول أطيافه وأصدائه وظلاله التي لا تغرب. أقول ذلك وأنا أحاول أن أنتشل من بين الأنقاض، أطياف النسخة الأولى من المنزل الذي ولدتُ وترعرعت لسنوات سبع تحت سقفه الطيني، قبل أن يستبدل به أبي نسخة إسمنتية أخرى تتواءم مع تطلبات ذريته الآخذة في التكاثر في أواخر خمسينات القرن المنصرم. ولعل أكثر ما أتذكره من ملامح العالم القديم، هو الحضور الضدي لأشيائه وكائناته. ففي حين كانت الشموس تسلط على أديم النهارات كل ما أوتيتْه من سطوع، فتضيء بشكل مبهر ملاعب الماضي وفراشات الحقول، وأزهار البابونج المنتشرة على سطح الحياة الطيني، تكفلت الليالي الأشد حلكة بتوفير مؤونتي من الأشباح؛ حيث الموجودات لم تكن تكف في ضوء السراج الخافت، عن مضاعفة أحجامها الأصلية وظلالها المتراقصة على الجدران. وفي حين أن شجرة الدراق المزروعة في فناء المنزل الخارجي، هي أكثر ما أتذكره من حواضر النباتات، فإن الأصوات المختلفة لحشرات الليل وعواء حيواناته الأليفة والبرية، كانا يختلطان بأزيز الرصاص الذي يخترق بشكل غامض ستائر الظلمات، والذي عرفت فيما بعد أنه رصاص المواجهات المتقطعة التي كانت تشهدها جرود الجنوب، بين رجال الدرك وبين الطفار المطلوبين للعدالة والخارجين على القانون.

وإذا كانت النسخة الأولى من البيت قد تعرضت للإزالة لأسباب تتعلق بضيق مساحته وهشاشة سقفه الطيني وتزايد أفراد العائلة، فإن النسخة الثانية التي تعرضت للقصف الإسرائيلي الشرس على القرية عام 2006، هي التي ترك تعرُّضها للإزالة والهدم، أبلغ ندوب النفس وأكثرها مضاضة وعمقاً، فذلك المنزل الإسمنتي على تواضعه وقلة حجراته، هو الذي احتضن على امتداد أربعة عقود، كل فصول الطفولة والصبا وبدايات الكهولة. صحيح أنني نأيت عن البيت، تلميذاً في مدارس صور، وطالباً جامعياً في بيروت، ومن ثم مقيماً بين ظهرانيها في فترة لاحقة، ولكنني لم أكف عن العودة إليه في مواسم الصيف وأيام العطل المتعاقبة، بما جعله خزاناً للذكريات، تتراوح دائرته بين تفتح الشرايين وقصص الحب الأولى وأعراض الكتابة المبكرة، والطقوس الدورية المتعاقبة لمواسم التبغ.

ومع وصول المدة الزمنية الفاصلة بين هدم البيت وإعادة بنائه إلى حدود السنتين، فإن أبي المثخن بآلام النزوح والفقد، لم يعد قادراً آنذاك على احتمال بقائه في مدينة صور أكثر من شهور قليلة، ليقرر بعدها العودة مع أمي إلى القرية، والإقامة في أحد المنازل القريبة، بانتظار اكتمال بيته الجديد. وقد ألح الوالد المتعب على أخي الأصغر بالإقامة في الطابق العلوي للمنزل، لكي يخفف عنه وطأة المرض وأوزار الشيخوخة، قبل أن يقضي سنواته الأخيرة محاطاً بأبنائه وأحفاده وعلب أدويته وأضغاث ماضيه.

الآن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات... أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي

كان على أمي بعد ذلك أن تتولى وحيدة زمام الأمور، وهي التي تصغر أبي بعقد من الزمن، ولذلك لم يكن يشغلها في السنوات التي أعقبت غيابه أكثر من تمثيل دوره بالذات، كما لو أنها كانت تحاول من خلال التماهي مع زوجها الراحل، إقناع نفسها بأنها وجهه الآخر وامتداده الرمزي في المكان والمكانة والدور، وأنها قادرة على تعويضنا كل ما خسرناه من مشاعر الرعاية والأمان وصفاء الدهر. وهو ما بدت تعبيراته جلية تماماً من خلال تحويل شرفة المنزل الذي ضاعفت مقتنياته وتفننت في تجميله وزينت جدرانه باللوحات، إلى مسرح دائم للقائها بمن تحب من أفراد عائلتها وجيرانها الأقربين.

غير أن أي كتابة عن المنزل المهدم، لا يمكن أن تستقيم دون الإشارة إلى ازدحام محيطه وزواياه بأصناف كثيرة من النباتات والورود التي كانت تتعهدها أمي بالعناية والحدب، بحيث كان مرور يديها على تراب الأحواض، كافياً بحد ذاته لأن تنهض من تلقائها شتلات الحبق وسيقان المردكوش وأقلام الزهور. ومع أن الأمراض المتفاقمة لم تكف عن مداهمتها بشكل مطرد إثر رحيل الأب، فإن تعلقها بالنباتات لم يتراجع منسوبه بأي وجه؛ بل إنها على العكس من ذلك، راحت توسع دائرة مملكتها النباتية لتطول منزلاً قديماً مجاوراً لبيت العائلة، كانت قد أقنعت أبي بشرائه، قبل أن تُحوِّل واجهته الأمامية بشكل تدريجي إلى جدارية من الورود، بات يقصدها الكثيرون في وقت لاحق، بهدف التقاط الصور أو المتعة البصرية المجردة. في أواخر سبتمبر (أيلول) من عام 2023، وقبيل اندلاع «طوفان الأقصى» بأيام قليلة، رحلت أمي عن هذا العالم، إثر مغالبة قاسية مع مرض سرطان الدم. وبعدها بعام كامل كان البيت ذو الطوابق الثلاثة، ومعه حائط الورود المجاور، يتعرضان للانهيار تحت القصف الذي لا يرحم لطيران العدو. ومع أنها لم تكن على يقين كامل بأن المملكة الصغيرة التي رعتها بالأهداب وحبة القلب، ستؤول بعد غيابها إلى ركام محقق، فقد بدا رحيلها عن تسعة وثمانين عاماً، بمثابة استباق داخلي غامض للكارثة القادمة، ونوعاً من عقدٍ رضائي بينها وبين الموت. أما البيت المخلع الذي بقرت الصواريخ جدرانه وأحشاءه، فما زال ينكمش على نفسه، متحصناً بما تبقى له من مدَّخرات المقاومة، قبل أن يوقِّع بأكثر أنواع الدموع صلابة وكبرياء على وثيقة استسلامه.