تنطلق في باريس، صباح الخميس، ولمدة يومين، أعمال القمة الدولية التي تلتئم تحت شعار «من أجل ميثاق مالي دولي جديد»، بحضور 50 رئيس دولة وحكومة وعشرات الوزراء وكبار مسؤولي المنظمات الدولية والمؤسسات المالية العالمية ومنظمات المجتمع المدني، ما يعد أحد أكبر المنتديات الملتئمة (بعد الأمم المتحدة).
وتأتي القمة الدولية ببادرة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أطلقها العام الماضي، وتعد تطويراً لبادرة مماثلة طرحتها ميا موتلي، رئيسة وزراء جزيرة باربادوس الواقعة في بحر الكاريبي، وسميت «مبادرة بريدجتاون» وكان غرضها تسهيل وصول الدول الأكثر تعرضاً للتغيرات المناخية لمصادر التمويل الدولية لتمكينها من مواجهة التحديات البيئية التي تتعرض لها الدول والجزر بالدرجة الأولى.
وعمد ماكرون، على هامش أعمال قمة العشرين، إلى الإعلان عن تنظيم القمة الراهنة التي غرضها «استكشاف جميع السبل والوسائل لتعزيز التضامن الدولي بين دول الشمال والجنوب». بيد أن الهدف الأساسي توسع لاحقاً ليشمل مواجهة تبعات التغير المناخي والأزمات العالمية ومناقشة القضايا الرئيسية المتعلقة بإصلاح بنوك التنمية متعددة الأطراف، وأزمة الديون، والفقر والصحة والتمويل المبتكر، والضرائب الدولية، وحقوق السحب الخاصة. وتلخص المصادر الرئاسية أهداف القمة بجملة واحدة وهي: «بناء عقد جديد بين الشمال والجنوب».
وتحل هذه القمة بينما الهوة تتسع بين الشمال والجنوب. والهدف المفترض لها توفير الوسائل للاستجابة للحاجات المتكاثرة لغالبية بلدان الجنوب لمحاربة الفقر والتعاطي مع التغيرات المناخية وما تفضي إليه من تصحر وهجرات وحروب وكوارث بيئية. والهدف الأبعد الذي لا يتوقع أحد أنه سيتحقق في هذه القمة يتمثل في التوصل إلى إعادة تركيب نظام مالي دولي أكثر عدلاً بدل نظام أقامه الغربيون عقب الحرب العالمية الثانية، ولا يبدو أنهم مستعدون للتخلي عنه اليوم طالما أنه يخدم مصالحهم.
وبحسب الرئاسة الفرنسية، فإن القمة ستنظر في «إعادة تنظيم» المؤسسات المالية التي ولدت في «بريتون وودز» في الولايات المتحدة والمقصود بها تحديداً صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
ويشارك الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي، في القمة التي يحضرها كذلك من الجانب العربي، رؤساء مصر وتونس وموريتانيا، عبد الفتاح السيسي وقيس سعيد ومحمد ولد الشيخ غزواني، بينما الدول العربية الأخرى ممثلة على المستوى الوزاري أو ببعثاتها الدبلوماسية في العاصمة الفرنسية.
ومن أبرز الحاضرين، أمين عام الأمم المتحدة ورؤساء سويسرا وكوريا الجنوبية وجنوب أفريقيا والبرازيل والعديد من الدول الأفريقية ورئيس وزراء الصين والمستشار الألماني ورئيسة الوزراء الإيطالية ورئيس الاتحاد الأوروبي ورئيسة المفوضية الأوروبية... وقصرت الولايات المتحدة تمثيلها على مستوى وزيرة الخزانة جانيت يلين. واللافت غياب روسيا التي لم تُدعَ للقمة.
ومن جانب آخر، تحظى المؤسسات الدولية والصناديق والبنوك المعنية بالدرجة الأولى بالقمة بتمثيل رفيع، إذ يحضر قادة الصناديق الرئيسية؛ صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وبنك الاستثمار الأوروبي، وبنك التنمية الجديد، والبنك الأوروبي للتنمية... كذلك، فإن عشرات المنظمات غير الحكومية وممثلي المجتمع المدني والهيئات المعنية بالتغيرات المناخية والهجرات والتصحر والتنمية ستكون حاضرة بقوة.
رغم الترحيب شبه الإجماعي بالقمة وبالمبادرة الفرنسية المدعومة دولياً، فإن الكثير من الأسئلة وعلامات الاستفهام طرحت بقوة قبل انطلاق الاجتماعات عالية المستوى. ويدور التساؤل الرئيسي حول مدى الالتزام بالقرارات والتوصيات التي ستصدر عن القمة قياساً على الالتزامات السابقة التي بقيت حبراً على ورق، وأهمها الالتزام الغربي بتوفير مائة مليار دولار سنوياً لمساعدة البلدان الفقيرة على مواجهة التغيرات المناخية. ورغم مرور سنوات عدة على الالتزام المذكور، فإن شيئاً من هذا لم يحصل، وبالتالي يُطرح السؤال التالي: هل ستسفر القمة عن لجنة متابعة لتنفيذ المقررات والتوصيات؟ وما إمكانات لجنة كهذه؟ يضاف إلى ذلك أن مؤتمرات الأمم المتحدة للتغير المناخي واجهت دوماً صراعاً بين دول الشمال الصناعي ودول الجنوب، وكانت الأولى تناور كلما طرح ملف التمويل باعتبار أن دول الجنوب التي امتلك بعضها قدرات صناعية، لا تعتبر نفسها مسؤولة عن التغيرات المناخية بقدر الدول الصناعية الغربية، وبالتالي ترى أنه يتعين عليها أن تتحمل مسؤولياتها. ويعد حضور رئيس الوزراء الصيني ذا معنى بالنظر إلى التغلغل الصيني في الدول الأفريقية وما يراه الغربيون جهوداً صينية لتكبيل الاقتصادات الأفريقية بالديون وتبعات ذلك.
واختارت الرئاسة الفرنسية «قصر برونيارت» الواقع في قلب باريس، الذي كان سابقاً مقر البورصة الفرنسية، لالتئام قمة اليومين التي ستؤثر على حركة السير في العاصمة بسبب تنقلات الوفد الرسمية والحاجة لإغلاق بعض الطرقات. بيد أن اجتماعات موازية سيستضيفها قصر اليونيسكو ومقر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لاجتماعات اللجان التي تتفرع عن القمة. وتم الاتفاق على تشكيل 6 طاولات مستديرة، تناقش الأولى «تطوير نموذج بنوك التنمية متعددة الأطراف لمواجهة تحديات القرن الـ21»، في حين تناقش الثانية «نموذجاً جديداً لشراكات النمو الأخضر»، وتبحث الثالثة «توجيه الديون وحقوق السحب الخاصة»، وتستعرض الرابعة «الابتكار بالأدوات والتمويل لمعالجة نقاط الضعف الجديدة». وتتناول الطاولة المستديرة الخامسة «ضمان معلومات وبيانات أكثر موثوقية وقابلة للمقارنة»، بينما تركز الطاولة المستديرة السادسة على «تعبئة القطاع الخاص لأهداف التنمية المستدامة: البنية التحتية المستدامة وتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة». ولا تتوقف الأنشطة عند هذا الحد، إذ خططت باريس لإقامة نحو 30 حدثاً في أشكال مختلطة، مع التركيز على مناقشة أهداف التنمية المستدامة. ويستضيف الرئيس ماكرون في قصر الإليزيه القادة والرؤساء وكبار المسؤولين الحاضرين في باريس في عشاء رسمي ليل الخميس ــ الجمعة. وسوف يخصص اليوم التالي للقمة لعرض الخلاصات التي توصلت إليها اللجان والتوصيات.
وثمة 4 أهداف رئيسية تسعى القمة لتحقيقها، بحسب العرض الذي قدمته الرئاسة الفرنسية الأسبوع الماضي. وينتظر تخصيص مجموعة عمل لكل هدف من الأهداف الأربعة التي تشمل استعادة الحيز المالي للبلدان التي تواجه صعوبات قصيرة الأجل، ولا سيما الأكثر مديونية، وتعزيز تنمية القطاع الخاص في البلدان منخفضة الدخل، وتشجيع الاستثمار في البنية التحتية «الخضراء» لانتقال الطاقة في البلدان الناشئة والنامية، وأخيراً، تعبئة التمويل المبتكر للبلدان المعرضة للتغيرات المناخية. وبما أن الاهتمام الأول يدور حول مصادر الأموال الجديدة، فإن المرجح أن يصدر اقتراح ينص على فرض ضريبة دولية على انبعاثات الكربون من صناعة الشحن البحري «التي هي اليوم معفاة تماماً من الضرائب سواء لجهة إيراداتها أو انبعاثاتها» كما ذكر الجانب الفرنسي.
وذكرت المصادر الرئاسية الفرنسية أن شركات الشحن البحري على اختلاف أنواعها وجنسياتها حققت في العامين الماضيين أرباحاً هائلة مستفيدة من ارتفاع الأسعار ومن استعادة أنشطة النقل بزخم كبير. واعتبرت المصادر الرئاسية أن «الحاجات الراهنة هائلة للغاية» ما يعني «الحاجة لموارد جديدة». وتأمل باريس أن توفر القمة «زخماً سياسياً حقيقياً» للسير بالضريبة الجديدة.