بعد نحو عقدين من المناقشات، بما في ذلك 4 سنوات من المفاوضات الرسمية، اعتمدت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أخيراً، «أول معاهدة دولية» في العالم لحماية أعالي البحار.
واتفقت الدول الأعضاء على نص المعاهدة في مارس (آذار) الماضي، بعد جولة من المحادثات الماراثونية، ثم خضع النص منذ ذلك الحين للمراجعة والفحص من قبل محامي الأمم المتحدة والمترجمين للتأكد من مطابقته باللغات الرسمية الست للمنظمة، وتم اعتماده (الاثنين) ليشكل أول إطار قانوني لتوسيع نطاق الحماية البيئية لتشمل المياه الدولية.
وتشكل تلك المياه أكثر من 60 في المائة من محيطات العالم، وتقع خارج المناطق الاقتصادية الخالصة للبلدان، وبالتالي لا توجد عليها ولاية قضائية لأي دولة بمفردها، وبالتالي فإن توفير الحماية لهذه المياه، التي تسمى بـ«أعالي البحار» يتطلب تعاوناً دولياً.
غوتيريش: المعاهدة «إنجاز تاريخي»
وأشاد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بالمعاهدة. ووصفها بأنها «إنجاز تاريخي». وقال إن «المحيط هو شريان الحياة لكوكبنا، وتضخ تلك المعاهدة حياة جديدة، وتمنح المحيط فرصة للقتال من أجل الكوكب».
وأصبح العلماء يدركون بشكل متزايد أهمية المحيطات التي تنتج معظم الأكسجين الذي نتنفسه، وتحد من تغير المناخ عن طريق امتصاص ثاني أكسيد الكربون، وتستضيف مناطق غنية من التنوع البيولوجي، غالباً على المستوى المجهري، لذلك فإن هذه الاتفاقية التي تنتظر التصديق المحلي من الدول لتدخل حيز التنفيذ بحلول مؤتمر الأمم المتحدة المقبل حول المحيط في نيس بفرنسا في يونيو (حزيران) 2025، تحقق العديد من المزايا، كما يقول تقرير نشره (الاثنين) الموقع الرسمي للأمم المتحدة.
خفض الحرارة
أول هذه المزايا التي يشير إليها التقرير، أن المعاهدة قد تساعد على خفض درجات الحرارة وتحد من تغير المناخ، حيث إن «الاحتباس الحراري يدفع درجات حرارة المحيطات إلى آفاق جديدة، مما يؤدي إلى زيادة تواتر وشدة العواصف، وارتفاع منسوب مياه البحر، وتملح الأراضي الساحلية وخزانات المياه الجوفية، وتقدم المعاهدة إرشادات تساعد على معالجة هذه المشاكل الملحة».
ومن بين ما تتضمنه المعاهدة في هذا الصدد، هو «إقرار نهج متكامل لإدارة المحيطات، لمعالجة الآثار الضارة لتغير المناخ وتحمض المحيطات، والحفاظ على سلامة النظام البيئي، بما في ذلك خدمات تدوير الكربون، كما تعترف أحكام المعاهدة بالحقوق والمعارف التقليدية للشعوب الأصلية والمجتمعات المحلية، وحرية البحث العلمي، والحاجة إلى التقاسم العادل والمنصف للمنافع».
وتشير الميزة الثانية التي يكشفها التقرير إلى أن المعاهدة توفر «حماية جديدة خارج الحدود»، ففي حين أن البلدان مسؤولة عن الحفظ والاستخدام المستدام للممرات المائية الخاضعة لولايتها الوطنية، أضافت المعاهدة حماية لمنطقة أعالي البحار من الاتجاهات المدمرة مثل التلوث وأنشطة الصيد غير المستدامة.
وتحتوي الاتفاقية على 75 مادة تهدف إلى حماية البيئة البحرية والعناية بها وضمان الاستخدام المسؤول لها، والحفاظ على سلامة النظم البيئية للمحيطات، والحفاظ على القيمة المتأصلة للتنوع البيولوجي البحري.
محيطات أنظف
أما الميزة الثالثة فهي أن الاتفاقية تسعى نحو الوصول إلى «محيطات أنظف»، حيث تتدفق المواد الكيميائية السامة وملايين الأطنان من النفايات البلاستيكية إلى النظم البيئية الساحلية، مما يؤدي إلى قتل أو إصابة الأسماك والسلاحف البحرية والطيور البحرية والثدييات البحرية، وتشق طريقها إلى السلسلة الغذائية ويستهلكها البشر في نهاية المطاف.
ودخل أكثر من 17 مليون طن متري من البلاستيك إلى محيط العالم في عام 2021، مما يشكل 85 في المائة من القمامة البحرية، ومن المتوقع أن تتضاعف التوقعات 3 مرات كل عام بحلول عام 2040، وفقاً لأحدث تقرير لأهداف التنمية المستدامة.
ووفقاً لتقديرات الأمم المتحدة بحلول عام 2050 «قد يكون هناك المزيد من البلاستيك في البحر أكثر من الأسماك ما لم يتم اتخاذ إجراء». وتهدف المعاهدة إلى «تعزيز القدرة على مواجهة هذه المشكلة، وبموجب أحكامها، يجب على الأطراف تقييم الآثار البيئية المحتملة لأي أنشطة مخطط لها خارج نطاق سلطة الدولة».
وتحقق المعاهدة ميزة رابعة تتعلق بـ«الإدارة المستدامة للأرصدة السمكية»، فوفقاً للتقرير، فإن «أكثر من ثلث المخزون السمكي العالمي يتعرض للاستغلال المفرط، وتتعامل النصوص مع تلك المشكلة بالتأكيد على أهمية بناء القدرات ونقل التكنولوجيا البحرية، بما في ذلك تطوير وتعزيز القدرات المؤسسية والأطر أو الآليات التنظيمية الوطنية، ويشمل ذلك زيادة التعاون بين المنظمات الإقليمية لإدارة مصايد الأسماك».
والميزة الخامسة التي يشير إليها التقرير، تتعلق باعتبار تلك المعاهدة أداة حيوية لتحقيق أهداف خطة التنمية المستدامة 2030. وقد عبر غوتيريش عن ذلك بقوله بعد إقرارها إن «الاتفاقية الجديدة ضرورية لمواجهة التهديدات التي تواجه المحيطات، ولنجاح الأهداف والغايات المتعلقة بالمحيطات بما في ذلك خطة 2030».
وتحقق بنود الاتفاقية بعض الغايات الخاصة بالهدف الرابع عشر من أهداف خطة التنمية المستدامة، والذي يتعلق بمنع التلوث البحري بجميع أنواعه، والحد منه بشكل كبير، وإنهاء الصيد الجائر من خلال خطط الإدارة القائمة على العلم لاستعادة المخزونات السمكية في أقصر وقت ممكن. وستتيح الاتفاقية الجديدة إنشاء أدوات إدارة قائمة على المنطقة، بما في ذلك المناطق البحرية المحمية، للحفاظ على الموائل والأنواع الحيوية وإدارتها على نحو مستدام في أعالي البحار ومنطقة قاع البحار الدولية، كما تأخذ المعاهدة في الاعتبار الظروف الخاصة التي تواجه الدول النامية الجزرية الصغيرة وغير الساحلية.
من جانبه، يبدي محمد عثمان، أستاذ علوم البحار بجامعة الإسكندرية (شمال القاهرة) حماساً لهذه المعاهدة والمزايا الخمسة التي يشير إليها التقرير، قائلاً لـ«الشرق الأوسط» إنه «بعد سنوات من الكلام والنقاش أصبح لدينا واقع حقيقي على الأرض». ويضيف أن العديد من المعارك البيئية تسلط الضوء على المناطق الساحلية، ومع هذه الاتفاقية سيصبح للمياه الدولية أدوات لحمايتها. وأوضح عثمان أن «الأداة الرئيسية في الاتفاقية هي القدرة على إنشاء مناطق بحرية محمية في المياه الدولية، وهذا من شأنه أن يحقق العديد من المزايا البيئية».
تقاسم الفوائد
وكانت المناقشات بشأن الاتفاقية قد استطاعت تجاوز العديد من العراقيل، ومنها ما يتعلق بـ«الموارد الجينية البحرية» (MGR)، وتم الاتفاق على مبادئ لتقاسم فوائد تلك الموارد، التي يتم جمعها من خلال البحث العلمي في المياه الدولية، وتستخدم من قبل شركات الأدوية ومستحضرات التجميل.
وناضلت البلدان النامية التي لا تملك في كثير من الأحيان المال لتمويل مثل هذه البحوث، من أجل حقوق تقاسم المنافع، على أمل ألا تتخلف عن الركب، فيما يرى الكثيرون أنه سوق مستقبلي ضخم في تسويق الموارد الجينية البحرية، وخاصة من قبل شركات الأدوية ومستحضرات التجميل.
ومن المقرر أن تفتح المعاهدة للتصديق في 20 سبتمبر (أيلول) المقبل، عندما يكون العشرات من رؤساء الدول في نيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. وتعتقد المنظمات غير الحكومية أن الحد الأدنى من 60 تصديقاً المطلوب لدخولها حيز التنفيذ سيكون من المتاح تحقيقه، نظراً لأن الائتلاف الذي دفع من أجل المعاهدة، يضم 50 دولة عضواً، بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي، وكذلك شيلي والمكسيك والهند واليابان».