جزيرة كوس.. حاضنة اللاجئين باختلافاتهم السياسية

12 ألف لاجئ وصلوا إليها خلال أغسطس

جزيرة كوس.. حاضنة اللاجئين باختلافاتهم السياسية
TT

جزيرة كوس.. حاضنة اللاجئين باختلافاتهم السياسية

جزيرة كوس.. حاضنة اللاجئين باختلافاتهم السياسية

وسط زحام أمام قسم الشرطة في جزيرة كوس، كانت هناك إحدى اللاجئات اسمها رولا (23 سنة) من حلب، كانت أنيقة إلا أن الحزن والكآبة تظهران على محياها بسبب ما آلت إليه الحرب والدمار والشتات، وكانت تجلس بجانبها لاجئة أخرى اسمها عهد (25 سنة) وفي حضنها طفلان صغيران، قالت رولا: «أنا متزوجة منذ عامين وليس لدي أطفال، أنا وزوجي ننام في الشارع منذ ثلاثة أيام، ما عدنا نتحمل هذا الوضع، وفي حلب منزلي تعرض للضرب ومنزل جاري أصبح بمساواة الأرض، تعرفت على مسلحي (داعش) وهم ليسوا سوريين، فبينهم كثير من الأجانب بينهم فرنسيون وألمان، وصعب جدا التعامل معهم فهم ديكتاتوريون في قراراتهم، أسعى للوصول إلى السويد وتكملة دراستي الجامعية هناك وأعيش سعيدة مع زوجي بعيدا عن الصراعات والحروب».
أما عهد والتي كانت تحمل على ذراعها الأيسر رضيعًا صغيرًا ربما عمرة 7 أشهر وتلف ذراعها الأيمن على ابنتها الأخرى وعمرها عامان، قالت: «أنا جئت إلى هنا بمفردي مع ابني الرضيع وابنتي، لأن زوجي لم يحسن الخروج من سوريا، هربت من حلب إلى تركيا، وقدمت إلى هنا في كوس بعد رحلة عذاب استمرت 8 ساعات في البحر وكدنا نغرق لولا رعاية الله، فالقارب سعته 40 شخصا وكنا على متنه 47 شخصا و18 طفلا، مقابل ألفي دولار عن الشخص، في البداية واجهنا تحرشنا من البحرية التركية التي اصطنعت أمواجا شديدة لتجبرنا على العودة، ولكن بعدما شاهدوا الأطفال تركونا، لتتعطل بنا بطارية القارب بعد ذلك في وسط البحر، وأطلقنا مرارا إشارات الاستغاثة وعلى الرغم من مشاهدتهم لنا إلا أنه لم يهتم بنا أحد، وبعد عدة ساعات وعناء شديد وصراخ، جاءت القوات اليونانية لتنقذنا وتنقلنا إلى هنا لنبقى في الشارع، لأنه ليس معنا الأموال الكافية لنقيم في الفنادق، وهذه الجزيرة سياحية ونحن في فصل الصيف والأسعار مرتفعة جدا، أنا درست هندسة معمارية وكنت في السنة الأخيرة ولم أحصل على الشهادة بسبب الحرب الدائرة».
قد تحول المركز الرئيسي في جزيرة كوس إلى مقر للاجئين الذين افترشوا الشوارع والميادين العامة وكل الأماكن المحيطة بمركز الشرطة ومبنى البلدية، ويظهر عليهم المعاناة والبؤس، ويزداد الوضع سوءا عندما تشاهد الأطفال والنساء ليل نهار في الشوارع وليس لديهم ما يكفيهم من الأموال للإقامة في فنادق على الأقل لقضاء حاجتهم أو للاستحمام، كما أن البلدية لا توفر لهم مراحيض، بل أطباء بلا حدود التي خصصت مراحيض صحية كيميائية على مسافة بعيدة جدا.
وما زالت جزيرة كوس التي تقع جنوب شرقي اليونان بالقرب من الحدود مع تركيا، تستقبل قرابة ألفي لاجئ يوميا عن طريق البحر، حيث تعتبر هذه الجزيرة مقصدا سهلا لدخول اليونان ومن ثم بقية دول أوروبا، ووفقا للمصادر فإنه بمرور الوقت واستمرار الصراع في سوريا والعراق وسيطرة «داعش» على المدن هناك سوف تستمر موجات اللجوء في تزايد مستمر.
وعادة ما تستغرق الرحلة بين بيدروم التركية وكوس اليونانية ما بين 45 دقيقة وساعتين تقريبا حسب الأمواج وشدة الرياح وأيضا نوع القارب أو اليخت، ولكن عادة في فصل الصيف تصبح هذه الرحلات آمنة بعض الشيء مقارنة بفصل الشتاء، وتنطلق رحلات التهريب بعد غروب الشمس وإن كانت النسبة الكبيرة تنطلق نحو الثانية عشرة مساء أو الواحدة بعد منتصف الليل.
ووفقا لما صرح به لـ«الشرق الأوسط» بنايوتيس بابارغاكيس، مسؤول في شرطة كوس، أن منذ شهر أبريل (نيسان) الماضي وهناك زيادة كبيرة جدا في أعداد القادمين إلى كوس، حيث وصل عددهم خلال هذه الفترة 12 ألف لاجئ، الغالبية من سوريا ربما بنسبة 80 في المائة والباقي من أفغانستان، وبنغلاديش، وإيران، والعراق وباكستان وقليل من الأفارقة لا يتجاوز عددهم مائة شخص.
وأضاف المسؤول اليوناني أنه بالنسبة لمتوسط عدد اللاجئين الذين يصلون إلى كوس يوميا يتراوح ما بين 500 إلى ألف لاجئ، ويتم وضع أشخاص سريين بين اللاجئين لمعرفة البلد الحقيقي للاجئ الذي يقول إنه فقد جواز سفره أو ليس معه هوية شخصية، وأن الشرطة تقوم بكل ما في استطاعتها لإصدار وثائق لهؤلاء المهاجرين للسفر إلى أثينا ومن ثم اختيار تحركاتهم المقبلة والتي يسعون إليها، وأن اللاجئ لا ينتظر أكثر من يومين أو ثلاثة للحصول على وثيقته وتحاول الشرطة مع الجهات المعنية توفير سبل النقل الملاحية لنقل هؤلاء الأشخاص إلى أثينا أو ثيسالونيك ثاني أكبر المدن اليونانية، وقال: «بالأمس (أي الاثنين) غادر 640 شخصا واليوم (الأربعاء) ألف شخص، فيما غادر خلال الأسبوع الماضي دفعتان، واحدة 1400 والثانية 1700 لاجئ».
وكان على الجانب الآخر، شاب صعد على شجرة ويجلس على أحد فروعها، مستظلا بها هربا من حرارة الشمس في انتظار سماع اسمه للحصول على وثيقة، وبالاقتراب منه والحديث معه قال: «أنا علي (22 سنة) من مدينة الباب في حلب والتي كانت تحت سيطرة داعش، انتهيت من المرحلة الثانوية وبدأت في التعليم الجامعي، درست ثلاث سنوات في كلية الهندسة، ولكن اضطررت إلى الهرب من سوريا بحثا عن مستقبل أفضل وحياة آمنة».
وبعد أن سرد «علي» معاناته مع المهربين ورحلته الشاقة من تركيا إلى اليونان، وأنه تعرض للغرق بسبب مضايقة الكوماندوز التركي ليخت التهريب، وبعد ذلك اصطدامهم بالصخور حتى جاء خفر السواحل اليوناني ليسحبهم إلى الشاطئ ومعه 136 شخصا آخر، قال علي: «أنا خالطت (داعش)، الوضع مزرٍ لدرجة كبيرة جدا هناك، فهؤلاء الأشخاص لا يمكن أن يتناقشوا، بينهم عناصر من دول أجنبية، أنا صادفت واحدًا منهم في (الكوفي نت)، هو فرنسي ويحمل معه كومبيوترَ محمولا (لابتوب) ماركة أبل، وأيضا محمول آيفون ويبدو عليه الثراء، وعندما سألته قال: (جئت للجهاد في سبيل الله) كما جعلني أشاهد منزله وأولاده في فرنسا، فهو يعيش في قصر ولدية أفخم السيارات».. وقال علي بسخرية: «جاءوا ليستحلوا أرضنا وعرضنا، ويقطعوا رؤوسنا بسهولة ويقولون إنهم يجاهدون!»
إبراهيم باشا (23 سنة) أحد المهاجرين أضاف بقوله: «أنا من حماه في سوريا، جئت إلى هنا عن طريق البحر من تركيا، دفعت 1300 دولار على مركب بلاستيك طوله متران وكنا 7 أشخاص، وأنقذنا خفر السواحل اليونانية بعد أن قطعنا ثلاث ساعات في البحر والمياه دخلت علينا القارب، ولي في جزيرة كوس يومان وأنتظر السفر إلى العاصمة أثينا ومن هناك سوف أتوجه إلى النرويج حيث لي صديق هناك».
أما خليل ويبلغ من العمر 28 سنة، قال: «أنا من منطقة عفرين غرب حلب في سوريا، وتسببت الرحلة التي بدأتها من عام تقريبا منذ الخروج من حلب وحتى الآن، تسببت لي في مرض صحي مستديم ويزداد بمرور الوقت، حيث أصبحت أرتجف لا إراديا وأشعر بألم شديد في قدمي الاثنين، وبعد كل هذا العناء قررت إن لم أتمكن من البقاء للعلاج هنا، فأنا لا أستطيع تكملة السفر، وأفضل العودة مرة أخرى إلى سوريا لأموت وأدفن هناك».
وكان رامي (24 سنة) من الحسكة، ينقل قصته حيث قال: «خرجت من سوريا منذ شهر تقريبا بالتهريب إلى تركيا، بسب (داعش) وبسبب أني مطلوب لحزب العمال الكردستاني حيث إني مطلوب للتجنيد، فأنا أواجه النظام وحزب العمال و(داعش)، وتوجهت إلى أزمير في تركيا ومنها إلى بيدروم، وتعرضت لعملية نصب أنا والمجموعة التي كانت ترافقنا وكان معنا أطفال، حيث خرج علينا من الغابة بين أزمير وبيدروم مسلحون أفغان وعراقيون سلبوا بعض أموالنا بالإكراه».
وذكر رامي أنه وصل إلى كوس اليونانية عن طريق يخت على متنه نحو 200 شخص، وكل شخص دفع للمهرب 2500 يورو، موضحا أنه وأفراد أسرته دفعوا 11 ألف يورو، وفضل التهريب باليخت لأنه آمن، مقارنة بالقوارب المطاطية لأن معه بالإضافة إلى زوجته وزوجة أخيه (المفقود بسبب الحرب) وابنتيه، مشيرًا إلى أنه بعد تسلم الوثائق اليونانية سوف يحاول التوجه إلى أي بلد أوروبي يشعر فيه بالأمان ويستكمل دراسته ويساعد أهلة في سوريا.
وأصبحت اليونان حاليا بصفة عامة وبعض الجزر بصفة خاصة منها جزر كوس وميتيليني وسامو وكاليمنوس، أصبحت وجهة رئيسية للمهاجرين واللاجئين الفارين من أعمال العنف في دول العالم المختلفة وخصوصا سوريا، حيث تواجه السلطات اليونانية خلال الأيام الأخيرة موجات كثيرة وبصفة يومية أفواجًا من اللاجئين السوريين يصلون إلى الجزر اليونانية المتفرقة عبر البحر من تركيا، حيث ينظر اللاجئون إلى اليونان أنها محطة للوصول إلى بقية دول الاتحاد الأوروبي الغنية والتي توافق على طلبات اللجوء وتقدم لهم مساعدات.
وينتهز تجار البشر بحث المهاجرين واللاجئين عن الحياة الآمنة فيقومون مقابل مبالغ مالية كبيرة بحشر الرجال والنساء والأطفال في مراكب مطاطية وبلاستيكية بهدف إيصالهم إلى اليونان كمحطة أولى يعبرون منها إلى دول أوروبا الغنية، ولكن الوضع بات أكثر سوءا بعد تعنت السلطات المقدونية أخيرا وعرقلتها لمرور اللاجئين من اليونان إلى بقية دول أوروبا.
كما أنه بين الحين والآخر تندلع اشتباكات هنا في جزيرة كوس اليونانية بين لاجئين فارين من الصراعات في سوريا وأفغانستان والعراق، حيث فوجئوا بظروف قاسية، وأول اندلاع جاء بعد أن تم وضع نحو ألفي لاجئ ومهاجر داخل ملعب لكرة القدم لساعات طويلة من دون توفير لوازم الحياة الأساسية، وبعد هذا الاشتباك تركت السلطات اللاجئين وحالهم في الشوارع والميادين، وتندلع حاليا اشتباكات بين اللاجئين وبعضهم البعض وخصوصا بين الأفغان والباكستانيين.
هؤلاء اللاجئون وضعوا نصب أعينهم كل الاحتمالات من أجل الوصول إلى الدول الأوروبية الغنية، وذلك لما لاقوه من معاناة وآلام في بلدانهم، فمنهم من يهاجر بسبب الحرب الدائرة في بلاده، ومنهم من يريد الخلاص من الضغوطات التي تمارس عليهم من قبل سلطات بلادهم، ومنهم من يسعى إلى تحسين حالته المعيشية.
وفي محاولة من السلطات اليونانية التي تعاني من أزمة مالية، للسيطرة على الموقف استأجرت سفينة كبيرة لإيواء اللاجئين وتوفير مركز لفرز أوراقهم في محاولة لتخفيف الأوضاع على الشواطئ التي تسودها الفوضى أحيانا، فيما باتت معظم أحياء العاصمة أثينا تشهد أفواجا من السوريين الفارين من مختلف الأعمار وهم يحاولون معرفة سبل التوجه إلى الدول الأوروبية الأخرى.
من جانبها، كشفت المنظمة الدولية للهجرة عن غرق 3573 حالة من المهاجرين وطالبي اللجوء إلى أوروبا أثناء محاولتهم عبور البحر الأبيض المتوسط وذلك خلال عام واحد، وقال المتحدث الإعلامي باسم المنظمة جويل ميلمان: «إن وتيرة وفاة المهاجرين غرقا ترتفع من شهر إلى آخر ولكن متوسط عدد الغرقى اليومي خلال الفترة من أغسطس (آب) الماضي إلى الحالي كان في حدود عشرة أفراد في اليوم حاولوا الوصول إلى سواحل جنوب أوروبا مثل اليونان أو إيطاليا أو إسبانيا».
وأعرب المسؤول الأممي عن قلق المنظمة من احتمال ارتفاع عدد الغرقى خلال الأشهر المتبقية من العام الحالي، الذي قد يشهد غرق قرابة 200 إنسان إذا ما استمر تدفق المهاجرين بالوتيرة نفسها، مشيرًا إلى أن السلطات الإيطالية تمكنت من إنقاذ نحو 4400 مهاجر في قناة صقلية خلال يومي السبت والأحد الماضيين في واحدة من أكبر عمليات الإنقاذ خلال العام الحالي.
على صعيد آخر، أعربت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عن قلقها البالغ إزاء الظروف التي تدفع بالآلاف إلى الهجرة واللجوء عبر طرق غير آمنة في منطقة البلقان، وذكرت المتحدثة باسم مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين ميليسا فليمنغ أن اللاجئين كانوا يعبرون الحدود اليونانية المقدونية في مجموعات تصل إلى ما بين 300 و400 شخص ثم يستقلون القطارات أو الحافلات قاصدين صربيا، مرجحة استمرار تدفق اللاجئين خلال الفترة المقبلة بالوتيرة ذاتها.
وأوضحت مفوضية الأمم المتحدة أن هؤلاء المهاجرين ينحدرون من بلدان متضررة من العنف والصراع مثل سوريا وأفغانستان، وغالبا ما يكونون منهكين جسديا ونفسيا وفي حاجة إلى مساعدات إنسانية وطبية، لا سيما الفئات الأكثر ضعفا مثل المرضى والنساء الحوامل وكبار السن، وشددت على ضرورة حصول هؤلاء جميعا على معاملة إنسانية مع توفير وسائل المساعدة الضرورية، بما في ذلك أيضا الاستجابة للاحتياجات الأساسية وأيضا مع الاحترام الكامل لكرامة الإنسان وحقوق اللاجئين وطالبي اللجوء والمهاجرين.
والواضح أنّ الحكومة المقدونية أُرغمت على فتح أبوابها أمام سيل اللاجئين بعد أن تناقلت وسائل الإعلام العالمية مأساة اللاجئين العالقين على حدودها، وعقب سماح السلطات المقدونية لهؤلاء اللاجئين بدخول أراضيها، تدفق النازحون إلى محطات القطار للعبور إلى صربيا ومن هناك إلى المجر، وفي حال تمكّن اللاجئون من دخول المجر، سيكون الطريق ممهّدًا أمامهم للعبور إلى ألمانيا وفرنسا والسويد، بالإشارة إلى أن السلطات المجرية بدأت بإنشاء جدار عازل على حدودها مع صربيا لمنع تدفق اللاجئين إلى أراضيها.
من جانبها، طلبت الحكومة اليونانية مزيدا من الدعم من الاتحاد الأوروبي من أجل إدارة أفضل لزيادة تدفقات الهجرة غير الشرعية واللاجئين إليها، حيث تعتبر اليونان محطة لاستقبال المهاجرين غير الشرعيين عبر حدودها البحرية الواسعة في الجزر المتناثرة في البحر المتوسط وبحر إيجة.



تساؤلات ومخاوف أوروبية حول ما يخبِّئه ترمب للقارة القديمة

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يصافح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب لدى وصوله إلى اجتماع في قصر الإليزيه بباريس خلال احتفالات إعادة افتتاح كاتدرائية نوتردام 7 ديسمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يصافح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب لدى وصوله إلى اجتماع في قصر الإليزيه بباريس خلال احتفالات إعادة افتتاح كاتدرائية نوتردام 7 ديسمبر 2024 (رويترز)
TT

تساؤلات ومخاوف أوروبية حول ما يخبِّئه ترمب للقارة القديمة

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يصافح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب لدى وصوله إلى اجتماع في قصر الإليزيه بباريس خلال احتفالات إعادة افتتاح كاتدرائية نوتردام 7 ديسمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يصافح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب لدى وصوله إلى اجتماع في قصر الإليزيه بباريس خلال احتفالات إعادة افتتاح كاتدرائية نوتردام 7 ديسمبر 2024 (رويترز)

لم تنفع محاولات التقارب التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إزاء الرئيس الأميركي الـ47 بدعوته للمشاركة، الشهر الماضي، في احتفال ترميم كاتدرائية نوتردام بحيث تحول دونالد ترمب إلى «نجم» المناسبة التي تابعها مئات الملايين من مشاهدي التلفزيون عبر العالم. كذلك لم تكن كافية الكلمات التي قالها ماكرون بمناسبة مؤتمر سفراء فرنسا عبر العالم، حيث شدد على «ضرورة التعاون» مع ترمب، مضيفاً أن الأخير «يعي أن له في فرنسا حليفاً قوياً».

والحال أن ماكرون لم يُدعَ إلى حفل تنصيب الرئيس العائد إلى البيت الأبيض، بل دُعي خصومه من اليمين الفرنسي المتطرف، والشيء نفسه تكرر مع المستشار الألماني أولاف شولتس الذي بقي في برلين بينما قادة اليمين المتطرف ذهبوا إلى واشنطن. كذلك، فإن ترمب خصَّ رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني اليمينية المتشددة التي زارته في عرينه في ولاية فلوريدا، بمعاملة خاصة، مما يوفر صورة لكيفية تعامل ترمب مع القادة الأوروبيين بتفضيل من ينتمي منهم إلى اليمين واليمين المتطرف، وهو ليس حال ماكرون ولا شولتس ولا الكثيرين غيرهما. وتكفّل فيكتور أوربان، رئيس الوزراء المجري بالتعبير صراحةً عن تبعات رئاسة ترمب الثانية التي ستتسبب في تعزيز موجة اليمين الأوروبي. ونقل عن أوربان قوله يوم الاثنين، إنها «ساعات قليلة فقط وستشرق الشمس بشكل مختلف في بروكسل» مع تنصيب ترمب، مضيفاً: «لذا يمكن أن يبدأ الهجوم الكبير ومعه تنطلق المرحلة الثانية من الهجوم الذي يهدف إلى احتلال بروكسل».

أوروبا تقرع ناقوس الخطر

منذ إعادة انتخاب ترمب، عجَّل الأوروبيون بالتعبير عن مخاوفهم وبإبراز مكامن الصعوبات المترتبة على سياسة ترمب - 2. ومع حلول موعد عودته إلى البيت الأبيض تحوَّل التوجس إلى استشعار الخطر الداهم. وبكلام يبتعد كثيراً عن التعبير الدبلوماسي التقليدي، وضع فرنسوا بايرو، رئيس الحكومة الفرنسية، النقاط على الحروف (الاثنين) في كلمة له في معقله الانتخابي، في مدينة بو، الواقعة جنوب غربي فرنسا، بقوله إن الولايات المتحدة «قررت اتِّباع سياسة مهيمنة على نحو لا يصدَّق من خلال الدولار، ومن خلال السياسة الصناعية، ومن خلال الاستحواذ على كل الأبحاث والاستثمارات». وأضاف: «إذا لم نفعل شيئاً، فسوف نخضع للهيمنة ونتعرض للسحق والتهميش... والأمر منوط بنا نحن الفرنسيين والأوروبيين لاستعادة زمام الأمور». وبعبارة واحدة، لخَّص الشعور الأوروبي العام بقوله: «إن تنصيب دونالد ترمب يجعلنا نواجه مسؤولياتنا». وبذلك يكون بايرو قد استعاد تحذيراً سابقاً لماكرون، بمناسبة مؤتمر السفراء جاء فيه: «إذا قررنا أن نكون ضعفاء وانهزاميين، فستكون لنا فرصة ضئيلة بأن نحظى باحترام الولايات المتحدة».

ماكرون وترمب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عند اجتماعهم في قصر الإليزيه 7 ديسمبر 2024 (رويترز)

في هذا السياق، نقلت صحيفة «لو فيغارو» الفرنسية عن ألكسندرا هوب فيشر، رئيسة مركز أبحاث صندوق مارشال الألماني لشؤون الولايات المتحدة، تأكيدها أن «حلفاء واشنطن هم الأكثر سهولة لتركيعهم، وأنهم كأوروبا والحلف الأطلسي يعانون من التبعية تجاهها».

حقيقة الأمر أن الأوروبيين بدأوا يستشعرون «عقدة النقص» لجهة التعامل مع الشريك الأميركي. وعبرت عن ذاك افتتاحية يوم الاثنين للصحيفة المذكورة، جاء فيها أن إحدى صعوباتهم تكمن في «غياب اليقين» حول ما يمكن لترمب أن يقرره أو لا يقرره بحيث يمارس بذلك ضغوطاً كبيرة على شركائه كما على خصوم بلاده من أجل التوصل إلى «صفقة». والصعوبة الثانية أنه ليس من السهل تصنيفه سيادياً، انعزالياً أو حمائياً، والأمر الوحيد الثابت أنه يؤمن بـ«استثنائية الولايات المتحدة التي لها أن تختار بشكل منهجي طريقها الخاص بغض النظر عن حالة النظام العالمي إذا كان يناهض مصالحها». وخلاصة الصحيفة أنه مع ترمب - 2، انتهى زمن «المصالح المشتركة» مع واشنطن، كما دُفن «النادي الغربي» وبدأ عصر جديد.

مخاوف الأوروبيين

يبيّن استطلاع للرأي أُجري لصالح مجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية والتقرير الصادر عن جامعة أوكسفورد بخصوص مستقبل أوروبا، أن مواطني القارة القديمة هم «الأكثر تشاؤماً» إزاء ولاية ترمب الثانية التي ستكون مسيئة بالنسبة إلى الأوروبيين كما للعثور على حلول للنزاعات عبر العالم، وذلك عكس ما يروِّج له ترمب وأنصاره ومَن عيَّنهم في مناصب في إدارته الجديدة. ويرى المؤرخ والباحث البريطاني تيوزمتي غارتون آش، أن ثمة تحديين كبيرين بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي وأيضاً لبريطانيا: الأول، عنوانه النهج المرتقب لترمب إزاء الحلف الأطلسي، والآخر كيفية تعامله مع الملف الأوكراني. والقاسم المشترك بينهما التساؤل حول مدى استعداد أميركا ترمب - 2 لدعم حلفائها في حال انخراطها في نزاع قد يكون مع روسيا. وقال المؤرخ البريطاني ما حرفيته: «أخشى أن تأثير ترمب لن يقسم الغرب فحسب، بل سيقسم أوروبا أيضاً. وهذا هو التحدي الكبير بالنسبة لنا نحن الأوروبيين». وسبق للرئيس الجديد أن هدَّد بترك الحلف في حال امتناع الأوروبيين عن التجاوب مع مطالبه.

رئيس الوزراء الفرنسي فرنسوا بايرو يجيب عن أسئلة الصحافيين في باريس 17 يناير 2025 (أ.ف.ب)

وليس سراً أن الأوروبيين ليسوا مجمعين، حتى قبل بدء ولاية ترمب -2 على كيفية التعاlg معه، مما يُضعف بوضوح موقفهم. كذلك هم منقسمون حول الدعوات الخاصة بتعزيز الوسائل الدفاعية الأوروبية المشتركة تحسباً لما قد يصدر عنه. وسبق أن طالب الأخير شركاء بلاده في الحلف الأطلسي بأن يرفعوا مخصصاتهم الدفاعية إلى 5 في المائة من الناتج الداخلي الخام، وهي نسبة لا يبلغها سوى عدد قليل جداً من الأطلسيين مثل بولندا ودول بحر البلطيق... أما بالنسبة لأوكرانيا، فإن تخوف الأوروبيين أن يعمد ترمب إلى التخلي عن مواصلة دعم كييف، وأن يبرم صفقة مع نظيره الروسي على حساب أوكرانيا والأوروبيين. من هنا، فإن الاتحاد الأوروبي يطالب بأن يكون له دور في أي مفاوضات تقوم بين روسيا وأوكرانيا، وأن تكون الكلمة الفصل للأوكرانيين أنفسهم. كذلك يتأهب الأوروبيون لمواصلة دعم كييف حتى لو تراجع الإسناد الأميركي.

وسارع بوتين، الاثنين، إلى تهنئة ترمب والإعلان عن الانفتاح على الحوار معه بشأن أوكرانيا والأسلحة النووية، مضيفاً، خلال كلمة له في اجتماع لمجلس الأمن الروسي، إنه يسعى إلى ضمان سلام دائم لا إلى وقف قصير لإطلاق النار.

رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني تتسلم من إيلون ماسك جائزة خلال حفل عشاء جوائز المواطن العالمي في نيويورك 23 سبتمبر 2024 (أ.ب)

ضرائب ورسوم وخلافات تجارية

قبل أوكرانيا، يهتم الأوروبيون، قبل كل شيء، بطبيعة علاقات بلادهم الاقتصادية والتجارية مع الشريك الأميركي، وخوفهم الأكبر أن ينفّذ ترمب تهديداته بفرض رسوم إضافية على صادراتهم، علماً بأن الولايات المتحدة تشكل السوق الأولى للصادرات الأوروبية والعكس بالعكس. وخلال حملته الانتخابية، لم يتوانَ ترمب عن التنديد بالأوروبيين شاهراً سلاح رفع الرسوم الجمركية إلى نسبة تتراوح ما بين 10 و20 في المائة مما من شأنه الإضرار بالدول المصدِّرة. ويبحث الأوروبيون عن حلول أو عن ردود لثني ترمب عن اختيار هذا السبيل. وقال رولف موتسنيش، رئيس المجموعة البرلمانية للحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني (حزب شولتس) إن رفع الرسوم والضرائب «سيؤدي إلى ضياع وظائف كثيرة في ألمانيا، كما أنه، بوجه عام، سيُفضي إلى تراجع الاقتصاد العالمي». وبيَّنت دراسة لمعهد «بروجنوس» للبحوث الاقتصادية أن هناك 2.1 مليون وظيفة في ألمانيا تعتمد على الصادرات إلى الولايات المتحدة، وأن رسوم ترمب الجمركية قد تُعرِّض 300 ألف وظيفة منها للخطر. وقد بدأ الأوروبيون، منذ أسابيع، في دراسة الإجراءات المتوافرة لهم للرد على ما يقرره ترمب. وإزاء هذه المخاوف، سعى شولتس إلى إبراز أهمية العلاقات مع واشنطن، مشيراً إلى أن الحلف الأطلسي «هو الضامن لأمننا، ولذلك نحتاج إلى علاقات مستقرة» مع واشنطن. وأكد شولتس أيضاً أهمية أن تكون أوروبا واثقة من نفسها، وقال: «بصفتنا الاتحاد الأوروبي، يمكننا أيضاً الاعتماد على قوتنا... وبوصفنا مجتمعاً يضم أكثر من 400 مليون أوروبي، فإننا نتمتع بثقل اقتصادي... نستطيع أن نتصرف بثقة كدول في الاتحاد الأوروبي»

يبقى أن الأوروبيين يتخوفون من تدخل ترمب في شؤونهم الداخلية إمّا مباشرةً وإما عبر حليفه إيلون ماسك الذي يُبدي ميلاً واضحاً لدعم اليمين المتطرف أكان في ألمانيا أم في بريطانيا أم في دول أوروبية أخرى.