التلصص... عتبة روائية

إنجي همام في روايتها «في الليل على فراشي»

التلصص... عتبة روائية
TT

التلصص... عتبة روائية

التلصص... عتبة روائية

يلعب التلصص دوراً مهماً في تنويع مسارات السرد في رواية «في الليل على فراشي» للكاتبة إنجي همام، الصادرة أخيراً عن دار «بدائل» بالقاهرة، حتى يكاد يكون أحد أبطالها، فالذات الساردة تتكئ عليه كعتبة للنص، وتتخذه معولاً للكشف والتأمل في مفارقات عالمها البسيط المغوي، واللعب مع المكان والنبش في ذاكرته وتضاريسه.

يبدأ فعل التلصص في الرواية من شقة «آديل» الأرملة الفرنسية صديقة البطلة، التي تقطن إحدى البنايات العريقة بشارع شريف بوسط القاهرة، وهو الشارع نفسه الذي تهديه الكاتبة الرواية قائلة: «إلى شارع شريف (المدابغ سابقاً)، إلى دراويشه ومريديه، الصعاليك والفقراء والحالمين، إلى زحامه النهاري وهدأته الليلية، إلى نوره الذي لا ينطفئ وعتمتهِ المسكونة بالأسرار، إلى السحر الساكن فيه».

يشكل هذه الإهداء البسيط مفتاحاً للنص، ويشي بأن مغامرة التلصص ستبدأ من هنا، من رحم الحركة والسكون. حيث تتحول حافة نافذة بشقة «آديل» وبالمصادفة إلى «برج للمراقبة». تستند البطلة على حافة النافذة لاستنشاق نسمات الهواء، في ليلة عيد ميلاد صديقتها وتضطر للمبيت عندها. لكنها تفاجأ بمشهد لزمرة من الرجال يتراوح عددهم ما بين 8 أو 10، يقودهم رجل طويل القامة يبدو كأنه زعيمهم. بعد منتصف الليل وبإشارة منه يصطفون في هدوء كجنود حراسة على رصيف مبنى عتيق مهمل مغلق منذ سنوات، كان مقراً لبنك الإسكندرية، يقع في مواجهة نافذة المراقبة، ثم يتسللون إلى داخل المبنى، بعد أن يفك زعيمهم أقفال بابه السميكة، ومع غبشة الفجر يخرجون، ويتفرقون في شوارع وسط البلد، ويلحق بهم زعيمهم بعد أن يغلق الأقفال.

في البداية، يمر المشهد في عين البطلة كحلم، لكن مع تكراره بالطقس نفسه يصبح واقعاً وسرّاً من أسرار المكان، تنشغل به وتعدّه اكتشافاً خاصاً، بل قضية وجودية معلقة ما بين قوسي الشك واليقين، وهو ما تعبر عنه في (ص 13): «أبقى قرب النافذة، في انتظار هبوط العالم الآخر لشارع شريف، ليلات ثلاث، في انتظار تجلي زمرة البنك مرة أخرى. في الصباح أحدق في البناية العتيقة، أسألها بكل عنف صموت، هل أتاكِ بشرٌ بعد منتصف ليلة صيفية طويلة، هل دخل البعض هنا، وأغلقوا خلفهم باباً عتيقاً ثقيلاً على أسرار يدفعني الجنون إلى اكتشافها؟».

يساعد على ذلك ولع البطلة بشوارع وسط القاهرة على نحو خاص والحنو عليها، والتجوال فيها وممارسة التلصص، بخاصة على البنايات القديمة ذات الطرز المعمارية الجميلة المبهجة، حتى إنها أحياناً تضطر إلى اصطناع التلصص لإشباع رغبتها المسالمة، وكأنها لعبة هاربة من مرآة الطفولة، تنتحل من أجلها الأسباب للولوج إلى بناية ما، بحجة البحث عن شقة خالية للإيجار، مدفوعة بحكمة استقتها من هذا الولع بالمكان، حيث «كل ما لا يرى بالعين لا يشرح بالكلام»، كما تقول (ص 28).

وهكذا، بغواية التلصص مشّرَباً بكذبة بيضاء، تفك البطلة شفرة سرِّها، بعد أن توهم صديقتها بالسفر مبكراً في رحلة ترفيهية قصيرة من رحلات اليوم الواحد، تخرج مع غبشة الفجر، تتبع الرجال العشرة وهم يخرجون من المبنى العتيق، ثم يتفرقون في الشوارع، مركزة على زعيمهم، فتطارده كظله، وما أن يدخل إلى أحد معامل التحاليل الطبية، تلاحقه، وتتصنَّع حاجتها لإجراء تحليل طبي شائع، فتكتشف أنه الطبيب الذي أجراه لها. حينئذ تتحول دفة التلصص إلى حالة لاهثة من الاكتشاف لهذا الرجل طويل القامة الصموت، زعيم «زمرة الرجال العشرة» في رحلتهم الليلية. يشفق الطبيب عليها بعد أن أصابها دوار جراء التحليل المفاجئ، ويعرض عليها أن يوصلها بسيارته إلى البيت. طيلة الطريق لم ينطق سوى ببعض الإيماءات والهمهمات المبهمة، ومع ذلك أحست بأن شيئاً ما بداخلها يشدها إليه، وأنها سوف تقع في غرامه، وتتمنى أن تتسع دائرة التلصص وتعرفه أكثر.

تقول الكاتبة على لسان بطلتها الساردة مجسدة هذه الربكة المفاجئة (ص 4): «الصمت كاد يخنقني أكثر من قلة الهواء، لم يكن خوفاً ذلك الشعور القائم الذي خايل روحي طيلة الطريق، كان ضجراً أفضى إلى صدمة أو ما يشابهها، أوخز الصمت الطويل بكلمات شكر متناثرة من حين لحين، فيرد بإيماءات صغيرة، لم تكن الحلقةَ الكبرى في المغامرة العجيبة، ولكنها الأشد سخفاً حتى اللحظة، لماذا وافقت على مرافقته لي، لماذا عرض هو، لم يكن وضعي خطيراً، ولم يبدو مطلقاً أنه من تلك النوعية من الرجال، النوعية التي سمعت عنها أكثر من غيرها، أكان مغناطيس الكشف هو من ألصقني به، ليعود هو بي لبيتي بدلاً من أن أتبعه، أم هو جذب من نوع آخر، ترى ماذا قال هو عني؟».

يكشف هذا المشهد المتشكك الحائر عن طبيعة التلصص وحِيله على مدار فصول الرواية الثلاثين، وصفحاتها التي تتجاوز المائة والخمسين صفحة، ففي البداية يراوغ التلصص ما بين الثقل والخفّة، كما يتحول إلى لعبة مشرّبة بمسحة درامية، وأحياناً يشكل طوق نجاة وملاذاً للذات، ومن ثم، يبدو صمتُ «رشيد» وكأنه تلصص داخلي، يصفو من خلاله إلى نفسه، هارباً من ضجر العالم وكوابيسه التي تغلف فضاء الواقع في النص.

من هذه الزاوية تحديداً تتكشف شخصية «رشيد» زعيم زمرة البنك، بطبقاتها المركبة وأطيافها المربكة، بخاصة بعد أن تتوطد علاقته ببطلة الرواية الساردة الأساسية، التي تترك الكاتبة اسمها مفتوحاً على تأويلات شتى. فلا يخاطبها رشيد به، حتى بعد أن تأنس إليه وتعجب باسمه وعالمه الغريب وواقعيته الإنسانية الفريدة وعطائه الوافر بلا حدود. مع ذلك يبدو هذا العالم جوانياً، فهو لا يكترث كثيراً بما يدور حوله، وإنما بما يصنعه هو، تعلَّم من خبرته الطويلة بالبشر والحياة فن الحذف والإضافة، بل الإزاحة لكل ما يعوق خطوته حتى لو كان عاطفياً يمس زوجته. كل همه العطاء في صمت لمن يستحق، ويجد ضالته في دراويش ومشردي الشوارع، يكوِّن منهم ثلة، ويأخذهم في نزهات ليلية، يأكلون ويشربون ويمرحون في ونسة استثنائية مسروقة من جعبة الزمن، يضخون من خلالها البهجة في الأماكن العتيقة المهجورة.

يعزز ذلك بنية المصائر المتشابهة في الرواية، التي تصل أحياناً إلى حد التطابق، ما يجعل عالمها أشبه بتاريخ مشترك متناثر بين أبطالها، يتقلب ما بين المرئي المحسوس، والمتحفي المضمر في طبقات السرد، وما وراء العناصر والأشياء. أيضاً استخدام الكاتبة بمهارة وخفة لضمير المتكلم على مدار أغلب فصول الرواية، وباستثناءات خاطفة تكاد لا ترى، ما يجعل الراوي حاضراً دائماً داخل عالمه، يطل عليه من نافذته هو، وليس من نافذة الآخر. المخاطب أو الغائب.

تمس النوستاليجا أغلب أبطال الرواية، وتضعنا أمام ما يمكن تسميته أيضا «ضفيرة المصائر المتشابهة»، بداية من البطلة التي تعيش في كنف خالها، منذ أن كانت طفلة صغيرة لم تتجاوز السنوات الثلاث، ولا تعرف عن والديها شيئاً، سوى أنهما تزوجا كرهاً وانفصلا في ظروف أشد قسوة ومأساوية، وذهب كل منهما إلى طريق آخر. كذلك الأمر بالنسبة للخال «أديب» و«آديل» وزوجها المتوفي أكرم، و«رشيد» وابنته «ليل». كلهم يعانون من فقد ما لشخص مهم، تحول فقده إلى فجوة حياة يصعب ردمها، فقط التعايش معها بقليل من قطرات الأسى والمحبة.

تنعكس ظلال هذه الضفيرة على قصص مشردي الشوارع ومآلاتهم المصيرية، فهم ضحايا أقدار عجيبة، ترقى إلى أجواء الخرافة والأسطورة، ما يجعل الرواية تقترب من مناخات «ألف ليلة وليلة» العجائبية.

يبقى من الأشياء الجميلة في هذه الرواية بساطة اللغة وسلاسة الحكي، وبناء عالم روائي شيق يتحول فيه الحلم إلى واقع بقوة التلصص وحيوية الولع بالمكان، ما يجعل لعبة السرد لصيقة بالمعرفة الإنسانية، في نشدانها الأعمق للجمال والحرية.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم