جيل جديد من المسلحين في الضفة الغربية ينذر بانفجار قريب

«الشرق الأوسط» تدخل معاقل كتائب نابلس وجنين... وتلتقي المطلوب الأول لإسرائيل

«الشرق الأوسط» داخل معاقل جيل جديد من المسلحين في الضفة الغربية
0 seconds of 9 minutes, 3 secondsVolume 90%
Press shift question mark to access a list of keyboard shortcuts
00:00
09:03
09:03
 
TT
20

جيل جديد من المسلحين في الضفة الغربية ينذر بانفجار قريب

مسلحون في مخيم بلاطة بنابلس مطلع الشهر (أ.ب)
مسلحون في مخيم بلاطة بنابلس مطلع الشهر (أ.ب)

بات دخول مخيم جنين في الضفة الغربية اليوم أشبه بالولوج إلى ثكنة عسكرية. على مداخله، تنتشر عوارض معدنية بدائية الصنع لإعاقة المركبات العسكرية الإسرائيلية، تحيط بها أسلاك موصولة بعبوات ناسفة محلية الصنع تشغل جانبي الطريق المؤدي إلى حارات المخيم الذي يؤوي أكثر من عشرين ألف نسمة.

تنتصب بعض المتاريس الرملية على مداخل الأزقة والشوارع الضيقة للمخيم المحصور في مساحة تقل عن نصف كيلو متر مربع أضحت ميداناً للقتال بين القوات الإسرائيلية الخاصة ومسلحين فلسطينيين بين الحين والآخر، بينما تطوف طائرات الاستطلاع الإسرائيلية المعروفة محلياً باسم «الزنانة» سماء المخيم، تطارد التحركات في أزقته ليل نهار فيضفي صوتها مزيداً من القلق على حالة التوتر المقيمة هناك.

وتعكس هذه الأجواء في مخيم جنين التوتر العسكري المتزايد في الأراضي الفلسطينية، بعد سنوات من الهدوء النسبي، خصوصاً مع دخول جيل جديد من المسلحين إلى المعادلة، بات أحد قادته المطلوب الأول لإسرائيل اليوم.

غير أن ميزان القوة بين الطرفين الذي تلخصه صورة التحصينات البدائية على مداخل المخيم في مواجهة القدرات العسكرية المتطورة للجيش الإسرائيلي، ينبئ بأن موجة العنف المرتقبة ستكون صعبة وممتدة.

متاريس على مدخل مخيم جنين (الشرق الأوسط)
متاريس على مدخل مخيم جنين (الشرق الأوسط)

في هذا التحقيق، جالت «الشرق الأوسط» في شوارع مدن الضفة الغربية، ودخلت معاقل الجيل الجديد من المسلحين، وتحدثت إلى الأطراف النشطة على الأرض، في مسعى لرصد الواقع القائم، وفهم دوافعه وقراءة تفاعلاته واحتمالاته.

جنين... وموعد مع الماضي

قبل عقدين، شهد مخيم جنين واحدة من أكثر المعارك شراسة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ففي ربيع 2002، اجتاحته القوات الإسرائيلية ضمن عملياتها التي أطلقت عليها اسم «السور الواقي» بهدف القضاء عسكرياً على الانتفاضة الثانية.

دفعت إسرائيل بدباباتها ومدرعاتها وجرافاتها وطائراتها الحربية للمعركة التي أشرف عليها أرفع مستوى سياسي وعسكري وأمني في إسرائيل، وعلى رأسه آنذاك رئيس الوزراء الأسبق آرييل شارون، بمواجهة عشرات المقاتلين الفلسطينيين الذين تحصنوا بالمخيم مسلحين ببنادق آلية وبعض العبوات الناسفة محلية الصنع. دمّرت إسرائيل أحياءً كاملة في المخيم؛ ما دفع بمنسق الأمم المتحدة في الشرق الأوسط تيري رود لارسن إلى وصف ما حلّ بالمخيم «بالزلزال». أسفرت المعركة عن مقتل 58 فلسطينياً، وفقاً للأمم المتحدة، فيما اعترفت إسرائيل بمقتل 23 من جنودها بينهم 14 قُتلوا في يوم واحد.

بعد عشرين عاماً من هذه المواجهة، يعود جيل جديد من أبناء المخيم لحمل السلاح مجدداً بوجه إسرائيل. تنشط في المخيم «كتيبة جنين» التي استقطبت عشرات الشبان إلى صفوفها، ونفذت عمليات ضد أهداف إسرائيلية. يلاحق الجيش الإسرائيلي عناصر الكتيبة، ونفذ عمليات اقتحام للمخيم دارت خلالها اشتباكات عنيفة بين الجانبين، آخرها الأسبوع الماضي.

مسلحون من «كتيبة جنين» خلال مهرجان تأبين (الشرق الأوسط)
مسلحون من «كتيبة جنين» خلال مهرجان تأبين (الشرق الأوسط)

تمكنت «الشرق الأوسط» من الوصول إلى قائد الكتيبة والحديث معه، وهو الذي تضعه إسرائيل على رأس قائمة المطلوبين لديها. حاولت أجهزة الأمن الإسرائيلية اغتياله أكثر من مرة وقُتل شقيقاه وعدد من رفاقه خلال الاقتحامات التي تنفذها إسرائيل في جنين.

المطلوب الأول لـ«الشرق الأوسط»: كنت أحلم أن أصبح طبيباً!

في الحديث الذي جرى بظروف أمنية دقيقة، روى المطلوب الأول لـ«الشرق الأوسط» كيف انخرط بالعمل المسلح. يقول ويده على بندقيته في أحد أزقة المخيم محاطاً بعدد من عناصر كتيبته المقنعين بينما لفّت عتمة الليل المكان: «أنا في الثلاثينات من عمري، وانخرطت بالكفاح المسلح بسبب تبدد الآمال أمامنا جميعاً، واستمرار عدوان الاحتلال ضدنا». وأضاف: «سنحمل سلاحنا، ونمضي لنموت بكرامتنا، فما دام الاحتلال قائماً فلن يكون أمامنا أي مستقبل».

الشاب المطارد اغتالت القوات الإسرائيلية شقيقيه ورفاقه، لكنه رغم ذلك يواصل نشاطه المسلح والاستعداد لتصاعد المواجهة خلال الفترة المقبلة. ويقول: «نحن نُعد لهم، وسنبقى مستمرين في عملنا».

المطلوب الأول لدى إسرائيل خلال حديثه إلى «الشرق الأوسط» في جنين
المطلوب الأول لدى إسرائيل خلال حديثه إلى «الشرق الأوسط» في جنين

وعما إذا تمكنت إسرائيل من اغتياله، يقول الشاب إن «جيلا آخر سيحمل السلاح مجدداً، فحينها سيخرج ابني أو جاري أو أي أحد من أبناء شعبنا لمواصلة الطريق حتى تحرير فلسطين».

يسرد الشاب الذي يقود كتيبة مسلحة ينضوي تحتها العشرات من الشبان المجهزين بالبنادق الآلية والسترات ويخوضون قتالاً مستمراً مع القوات الإسرائيلية، جانباً من أحلامه التي بددها واقع الحياة الثقيل تحت الاحتلال، قائلاً: «كنت أحلم أن أكوّن عائلة وأبني بيتاً. كان لدي طموح بأن أصبح طبياً أو مهندساً أو عاملاً أو موظفاً حكومياً، بيد أن هذه الطموحات بددها الاحتلال برصاصاته التي تطال الجميع».

مرحلة جديدة في المواجهة

وبعد 18 عاماً على نهاية الانتفاضة الثانية المسلحة التي مثّلت واحداً من أكثر فصول الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي دموية، باتفاق بقمة شرم الشيخ عام 2005 بين الرئيس الفلسطيني المنتخب حديثاً محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي حينها آرييل شارون، تعود المظاهر المسلحة من جديد إلى شوارع الضفة لتفتح الباب لمرحلة جديدة لم تتضح معالمها بعد.

ظل الهدوء الهش سمة ثابتة في الأراضي الفلسطينية خلال السنوات الماضية وإن عكرت صفوه فصول متلاحقة من المواجهة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. سعت السلطة الفلسطينية وأجهزتها إلى الحفاظ على مستويات من الهدوء في مدن الضفة، وحالت دون بروز أي ظواهر مسلحة، لا سيما تلك التي تدعمها حركة «حماس»، والحفاظ على حالة من الاستقرار. وفي مقابل التزام السلطة بالاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل وبتعهداتها للأطراف الدولية والراعية لعملية السلام أملاً بإقامة دولة فلسطينية، واصلت فيه إسرائيل ملاحقاتها للناشطين الفلسطينيين وتوسعت بالاستيطان.

واليوم ومع وصول عملية التسوية السياسية إلى طريق مسدود وتلاشي الآمال بإقامة دولة فلسطينية وفقاً لحل الدولتين، يبرز إلى الواجهة جيل جديد من الشباب الفلسطيني تحركه عوامل الغضب والإحباط من الواقع القائم وتدفعه الرغبة بالتغيير.

يقول أبناء هذا الجيل إنهم لم يحصدوا طيلة العقود الثلاثة الماضية سوى «ثمار الخيبة» بدءاً بعميلة أوسلو التي فشلت بالوصول لإقامة دولة فلسطينية مروراً بتجربة الانتفاضة الثانية وصولاً لحالة الانسداد القائمة على الصعيدين الداخلي بين الفلسطينيين حيث الانقسام الذي لا بوادر لإنهائه، وعلى صعيد التسوية مع إسرائيل ناهيك عن تفاقم الأوضاع الاقتصادية. لكنهم لا يحملون تصوراً واضحاً لكسر دائرة الخيبات، سوى خوض جولة قتال جديدة.

من هم المقاتلون الجدد؟

تنتمي أغلبية المقاتلين الجدد المنضوين في صفوف الكتائب المشكلة حديثاً إلى جيل واحد، فغالبيتهم من جيل الألفية الثالثة. صيف العام 2021 بدأت أولى بوادر المظاهر المسلحة تطفو على السطح. كان العمل العسكري حتى ذلك الحين فردياً ومحصوراً ضمن نطاق ضيق ليتخذ بعدها شكلاً جديداً. أول التشكيلات العسكرية ظهر في مدينة جنين في مايو (أيار) من ذلك العام حمل اسم «كتيبة جنين» بقيادة جميل العموري المنتمي إلى «سرايا القدس»، الجناح العسكري لحركة «الجهاد الإسلامي»، قبل أن تغتاله قوة إسرائيلية خاصة بعدها بأسابيع إلى جانب اثنين من عناصر الأمن الفلسطيني. انتمى عناصر الكتيبة سابقاً إلى عدد من الفصائل الفلسطينية، وتبنّت المجموعة عدداً من العمليات التي طالت أهدافاً للجيش الإسرائيلي والمستوطنين في محيط جنين.

مسلحون من «كتيبة جنين» خلال مهرجان تأبين (الشرق الأوسط)
مسلحون من «كتيبة جنين» خلال مهرجان تأبين (الشرق الأوسط)

بعدها بأشهر، وتحديداً في ديسمبر (كانون الأول) 2021، برز تشكيل مسلح آخر في مدينة نابلس تحت اسم «عرين الأسود»، واتخذ من أزقة بلدتها القديمة معقلاً له إلى جانب عناصر «كتيبة نابلس». ونشطت عناصر «العرين» في نطاق ضيق وسري، ونفذت عمليات مسلحة ضد الجيش الإسرائيلي والمستوطنين، بينما أفلحت المجموعة باستقطاب عشرات الشبان لصفوفها.

نال هذا التشكيل اهتماماً واسعاً في الشارع الفلسطيني الذي تابع البيانات والمقاطع المصورة التي نشرها «العرين» عبر صفحته على منصة «تلغرام» التي يتابعها عشرات الآلاف. بعث هذا التشكيل بإشارات حمراء إلى الأجهزة الأمنية الإسرائيلية التي شرعت بعمليات أمنية لملاحقة عناصره واغتيالهم.

كذلك نشطت مجموعات مسلحة في مدن وبلدات أخرى بشمال الضفة الغربية من بينها «كتيبة طولكرم» و«كتيبة جبع» و«كتيبة طوباس»... وغيرها.

ورغم انتماء عدد من عناصر هذه المجموعات سابقاً إلى الفصائل الفلسطينية، لا سيما حركة «فتح» و«الجهاد الإسلامي» و«حماس» على الترتيب، فإن هذه التشكيلات الجديدة بدت مستقلة تنظيمياً وعملياً عن الفصائل التقليدية ولا تتبع لها، ما يمثل شكلاً مغايراً لما كانت عليه حال المجموعات المسلحة الفلسطينية على مدى عقود تصدرتها الفصائل، قبل تراجع شعبيتها وحضورها ونشاطها على الأرض.

في معقل «كتيبة بلاطة»

دخلت «الشرق الأوسط» أزقة وحارات مخيم بلاطة في مدينة نابلس، أكبر مخيمات الضفة الغربية، بعدما بات معقلاً لـ«كتيبة بلاطة» التي خرج عناصرها من رحم «كتائب شهداء الأقصى» التابعة لحركة «فتح»، والتقت مسلحي الكتيبة هناك.

لعب المخيم أدواراً فاعلة خلال الانتفاضة الثانية، وخرج عدد من قادة الفصائل الفلسطينية المسلحة منه، واليوم تنشط الكتيبة المسلحة في حاراته. تتهم إسرائيل الكتيبة بتنفيذ عدد من الهجمات طالت الجيش والمستوطنين، كما نفذت القوات الإسرائيلية عدداً من الاقتحامات والاغتيالات استهدفت عناصر الكتيبة في المخيم.

مسلح من «كتيبة بلاطة» خلال جولة في المخيم (الشرق الأوسط)
مسلح من «كتيبة بلاطة» خلال جولة في المخيم (الشرق الأوسط)

يقول أحد عناصر الكتيبة لــ«الشرق الأوسط» إنه هو ورفاقه عادوا إلى العمل المسلح بسبب استمرار هجمات الجيش والمستوطنين. ويضيف الشاب الثلاثيني الملثم وهو يتحدث في أحد أزقة المخيم الضيقة حاملاً سلاحه: «غابت المظاهر المسلحة عن مخيم بلاطة منذ نهاية الانتفاضة الثانية، وراهن الجيش الإسرائيلي على أن الكبار يموتون والصغار ينسون، لكننا اليوم نبرهن لهم أننا لن ننسى، ولن نهادن، ولن نساوم على حقوقنا».

يتحدث الشاب المسلح ببندقية آلية عن سقوط رهان الفلسطينيين على عملية التسوية. ويقول: «دعمنا قادتنا السياسيين حين ذهبوا لعملية السلام، لكنّ استمرار الاحتلال في سياساته وعدوانه وغطرسته ضد أبناء شعبنا وأراضينا دفعنا إلى حمل بنادقنا والوقوف بوجه الاحتلال».

ولا يخفى الفارق في موازين القوى بين أسلحة الكتيبة البسيطة وقدرات الجيش الإسرائيلي المتطورة على أحد، بمن في ذلك المسلحون أنفسهم. يقول الشاب إن مواجهة الشبان بإمكاناتهم البسيطة مع آليات الجيش وقواته الخاصة المدججة بأحدث القدرات العسكرية «لا تعكس إلا حجم العناد لدى شبابنا الذي يدرك أنه يواجه جيشاً يمتلك آليات وطائرات ودبابات، بينما نتسلح نحن ببنادقنا وإيماننا بالله وقضيتنا».

العام 2022 الأكثر دموية

مثّل عام 2022 العام الأكثر عنفاً منذ سنوات؛ إذ شهد سقوط أكبر عدد من القتلى الفلسطينيين والإسرائيليين منذ نهاية الانتفاضة الثانية عام 2005. وسجلت الأرقام سقوط أكثر من 230 فلسطينياً بينهم 171 في الضفة و53 في غزة و6 من فلسطينيي الداخل، فيما قُتل 26 إسرائيلياً خلال الفترة نفسها. وتصاعد العنف أكثر خلال عام 2023، فمنذ بداية العام قُتل 153 فلسطينياً في الضفة والقطاع، بينهم 26 طفلاً.

بدأت فصول التوتر في الضفة الغربية خلال تولي الحكومة الإسرائيلية السابقة برئاسة يائير لابيد السلطة في إسرائيل، إلا أنه تصاعد مع وصول سلفه بنيامين نتنياهو مجدداً إلى السلطة وتشكيله حكومة بين الأكثر تشدداً في إسرائيل، تعهد وزراؤها الذين ينتمون إلى أحزاب دينية متطرفة بتصعيد المواجهة مع الفلسطينيين.

مسلح من «كتيبة بلاطة» في أحد أزقة المخيم (الشرق الأوسط)
مسلح من «كتيبة بلاطة» في أحد أزقة المخيم (الشرق الأوسط)

أطلقت إسرائيل عملية أمنية لمواجهة التصعيد في الضفة الغربية أطلقت عليها اسم «كاسر الأمواج» شملت الدفع بمزيد من الوحدات العسكرية، وزيادة وتيرة الملاحقات والاغتيالات، إلى جانب إعادة نشر الحواجز وتنفيذ عقوبات جماعية بعد سلسلة من العمليات التي نفذها فلسطينيون في الضفة وفي المدن الإسرائيلية.

استطلاعات الرأي: الانفجار وشيك

يشير آخر استطلاعات الرأي إلى اعتقاد الفلسطينيين والإسرائيليين على السواء بإمكانية تدحرج الموجة الحالية من العنف في الضفة الغربية نحو اندلاع انتفاضة جديدة. يرى 61 في المائة من الفلسطينيين أن ما تشهده الضفة الغربية هو بداية لمواجهة أوسع، فيما يوافق 65 في المائة من الإسرائيليين على الأمر نفسه، وفقاً لـ«المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية».

وتشير الأرقام إلى أن التأييد لخيار الكفاح المسلح ارتفع بشكل طفيف بين الفلسطينيين مقارنة بالأعوام السابقة، إذ حاز نسبة تأييد بلغت 40 في المائة مقارنة بـ37 في المائة 2020.

أما الإسرائيليون، ففضل 26 في المائة منهم خيار «حرب حاسمة ضد الفلسطينيين»، ما يمثل ارتفاعاً بالتأييد لهذا الخيار بنسبة 7 نقاط مقارنة باستطلاعات الرأي عام 2020، وفقاً للمركز نفسه.

وتشير الاستطلاعات إلى تراجع التأييد لدى الفلسطينيين والإسرائيليين معاً لخيار التوصل إلى اتفاق سلام بين الجانبين، إذ أيد 31 في المائة من الفلسطينيين و30 في المائة من الإسرائيليين خيار السلام، مقابل تفضيل 34 في المائة من الفلسطينيين و41 في المائة من الإسرائيليين لهذا الخيار قبل عامين.

حركة «فتح»: المواجهة مستمرة بجيل جديد

عطا أبو رميلة، أمين سر حركة «فتح» في جنين الذي التقته «الشرق الأوسط» داخل حارات المخيم حيث كانت «ذروة المعركة العنيفة» بين المقاتلين الفلسطينيين والقوات الإسرائيلية عام 2002، يقول إن «أبناء وأحفاد المقاتلين والشهداء هم الذين يقاتلون الاحتلال اليوم»، مضيفاً أنهم «أشد قوة وشراسة من آبائهم».

أمين سر حركة «فتح» في جنين عطا أبو رميلة (الشرق الأوسط)
أمين سر حركة «فتح» في جنين عطا أبو رميلة (الشرق الأوسط)

يرى أبو رميلة الذي تلاحقه القوات الإسرائيلية وهاجمت سيارته الخاصة قبيل إجراء المقابلة معه وحاولت اعتقاله، إن نذر انفجار الأوضاع في الضفة الغربية تبدو كبيرة. ويقول: «بصراحة وبعيداً عن الشعارات والخطابات؛ الانفجار بات وشيكاً، والاحتلال يتحضّر لذلك ونحن مستعدون أيضاً، وإن كان بإمكاناتنا البسيطة وتصنيعنا المحلي، فليس هناك من يدعمنا بالسلاح».

وبينما يقول أبو رميلة إن «من حق الفلسطينيين مقاومة الاحتلال بالسلاح وغيره»، يرى أن «شرارة الانفجار» قد تخرج من «قلب المخيم» لتنتقل إلى بقية المناطق الفلسطينية.

وعن العوامل المحركة والدافعة لحالة التصعيد في الضفة الغربية، يقول أبو رميلة إن إسرائيل «تسعى إلى كسر إرادة الشعب الفلسطيني»، في ظل انعدام أي أفق سياسي، مشيراً إلى أن القيادات الفلسطينية المتعاقبة خاضت مفاوضات مع الجانب الاسرائيلي إلا أنه «بات واضحاً أنه لا يوجد شريك إسرائيلي للمفاوضات ولما يسمى عملية السلام، فهم يرفضون السلام، ويسعون للقتل والإجرام».

«الجهاد الإسلامي»: القهر ولّد حالة مسلحة جديدة

أما ماهر الأخرس، القيادي في حركة «الجهاد الإسلامي» بالضفة الغربية، فيقول لـ«الشرق الأوسط» إن «ما تشهده المدن الفلسطينية اليوم هو رد فعل من المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني بعدما لم يجد طريقاً للسلام، ولم يجد طريقاً لتطبيق الاتفاقيات بين السلطة الفلسطينية والاحتلال». وأضاف أن «ما تلا هذه الاتفاقيات من فصول جاء عكسياً وحمل مزيداً من سياسات التوسع والاستيطان والقتل في الأراضي الفلسطينية». وفي ظل هذا الواقع، يقول الأخرس: «سلك بعض الشباب الفلسطيني طريق الخلاص، وقرر أن الحرية لا بد أن تكون بالتضحية وبمواجهة الاحتلال».

وفي قراءته الأسباب التي أدت إلى ارتفاع منسوب التوتر في الضفة الغربية، يقول الأخرس إن الفلسطينيين يعيشون «قهراً دائماً» جراء سياسات إسرائيل، مضيفاً أن معاناة الفلسطينيين المستمرة خلقت حالة مسلحة جديدة في الضفة.

السلطة الفلسطينية... تحديات عديدة

تمثل حالة التوتر المتصاعدة وبروز الفصائل المسلحة من جديد في شوارع الضفة الغربية تحدياً ثقيلاً للسلطة الفلسطينية وأجهزتها؛ فهي تزيد من أعبائها، وتسهم بإضعاف صورتها وسلطتها، وتفتح الباب أمام احتكاكات مع هذه الكتائب وحواضنها الشعبية، ناهيك عن تصاعد الضغوط الإسرائيلية والغربية عليها لإيجاد حلول لهذه الظواهر المسلحة الجديدة.

سعت السلطة الفلسطينية إلى احتواء الحالة المسلحة في بداياتها عبر الانفتاح على العناصر المسلحة، ومحاولة حثّها على إلقاء سلاحها والالتحاق بالأجهزة الأمنية على غرار تجارب الانتفاضة الثانية في التعاطي مع الكتائب المسلحة في الضفة الغربية، لكن من دون نجاح هذه المرة.

يقول اللواء أكرم الرجوب، محافظ جنين والشخصية الأمنية البارزة في مناطق شمال الضفة، إن الحكومة الإسرائيلية تسعى إلى جانب أهدافها الأخرى من التصعيد في الضفة الغربية إلى إضعاف السلطة أيضاً. ويوضح أن «أحد أهم الأهداف التي ترمي إليها حكومة الاحتلال هو إضعاف السلطة وتقديمها أمام شعبها على أنها سلطة ضعيفة وغير قادرة على الإيفاء بالتزاماتها تجاه الشعب الفلسطيني»، مضيفاً أن إسرائيل تستخدم الظواهر المسلحة في الضفة «مبرراً لاستمرار الهجمات والعنف، وسفك المزيد من دماء الشعب الفلسطيني».

محافظ جنين اللواء أكرم الرجوب خلال حديثه إلى «الشرق الأوسط»
محافظ جنين اللواء أكرم الرجوب خلال حديثه إلى «الشرق الأوسط»

ويلفت الرجوب إلى أن التقديرات لدى الدوائر الأمنية والسياسية الفلسطينية تشير إلى أن الأوضاع تمضي نحو المزيد من التصعيد، «فلدينا تقديرات بأن اعتداءات الاحتلال ستستمر، والهجمة الدموية الشرسة مستمرة أيضاً، وقد يقدم الاحتلال على عمل مبرمج ممنهج واسع فيه المزيد من الاقتحامات، وزج المزيد من المستوطنين المتطرفين لخلق أجواء لزيادة الصراع في شمال الضفة الغربية».

خطة أميركية لخفض التصعيد

خلال الأشهر الماضية ومع محاولة الولايات المتحدة الدخول على خط الجهود لخفض التصعيد في الضفة ودعمها مسار محادثات بين الفلسطينيين والاسرائيليين في العقبة وشرم الشيخ، أشارت تقارير إلى تقديم الجانب الأميركي خطة أمنية إلى السلطة الفلسطينية صاغها المنسق الأمني الأميركي الجنرال مايكل فنزل. تهدف الخطة إلى إعادة السيطرة الأمنية للسلطة على مدينتي نابلس وجنين، وتشكيل قوة أمنية فلسطينية خاصة للتعاطي مع الكتائب المسلحة. أشارت التقارير إلى إبداء السلطة تحفظات عديدة على الخطة الأميركية، أبرزها غياب الضمانات بوقف الاقتحامات الإسرائيلية للمدن الفلسطينية.

يقول الرجوب إن هذه المقترحات «سمعت بها عبر وسائل الإعلام»، مشيراً إلى أن «القيادة لم تصدر تعميماً رسمياً بهذا الشأن، وبالتالي أنا أتعامل معه كحديث إعلامي لا قيمة له على الأرض».

وبشأن المقترحات التي قُدّمت للعناصر المسلحة لوضع سلاحهاً وتسليم أنفسها لأجهزة الأمن الفلسطينية، ينفي الرجوب طرح الأمر في «أي لقاء أو جلسة مع قيادة السلطة»، مضيفاً أنه لا يعلم «مدى جدية المقترحات ولا آفاقها»، وإن صحّت هذه التقارير لا سيما مع ورود أنباء عن تسليم بعض المسلحين أنفسهم.

تقليل من احتمالات الانفجار

وفي وقت تتصاعد فيه أكثر نذر اتساع نطاق المواجهة، يرى آخرون أن حالة التصعيد القائمة ستظل مستمرة، لكن بالوتيرة نفسها لغياب عوامل سياسية وتنظيمية عدة عنها. ويقول أستاذ العلاقات الدولية في جامعة بيرزيت غسان الخطيب إنه «لا يوجد احتمال كبير لتطور هذه الأنشطة والفعاليات الثورية ومظاهر المقاومة الحالية لتصبح حالة واسعة الانتشار ومستمرة وممتدة»، مشيراً إلى أن «تحويل أي فعل ثوري إلى حالة واسعة ومستمرة وشاملة وعميقة يتطلب تنظيماً للحالة السياسية».

وأضاف أن «الحالة السياسية الفلسطينية تفتقر إلى التنظيم، وتظل هذه الأنشطة متفرقة لا تنبع من واقع أو إطار تنظيمي واسع وعميق ومتين»، لذلك يرى أن من الصعب استمرارها، خصوصاً في ضوء الفجوة الكبيرة في موازين القوى بين «الطبيعة البسيطة والبدائية» في بعض الأحيان لهذه الأنشطة، مقارنة «بالآلة العسكرية المتطورة والمتقدمة كثيراً» من جانب إسرائيل.


مقالات ذات صلة

مقتل طفل فلسطيني برصاص الجيش الإسرائيلي في الضفة

المشرق العربي جندي إسرائيلي يوجه سلاحه أثناء تركيب بوابة حديدية على مدخل مخيم جنين بالضفة الغربية (رويترز)

مقتل طفل فلسطيني برصاص الجيش الإسرائيلي في الضفة

كشفت وزارة الصحة الفلسطينية اليوم الأربعاء أن طفلاً فلسطينياً قتل برصاص الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة.

«الشرق الأوسط» (الضفة الغربية)
شؤون إقليمية دورية راجلة لجنود من الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية (أرشيفية - رويترز)

الجيش الإسرائيلي: «تحييد» شخص أطلق النار على جنود في الضفة

قال الجيش الإسرائيلي إنه «حيد» شخصاً أطلق النار على جنوده في مستوطنة حومش بالضفة الغربية اليوم الأحد.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
شؤون إقليمية بطريرك القدس بييرباتيستا بيتسابالا يقود قداس عيد الفصح في كنيسة القيامة بالبلدة القديمة الأحد (رويترز)

«فصح الفلسطينيين»... آلام لا تنتهي وآمال بالانتصار

بلا احتفالات، أحيا المسيحيون في الأراضي الفلسطينية عيد الفصح، يوم الأحد، وسط آمال بانتهاء الحرب والانتصار.

كفاح زبون (رام الله)
شؤون إقليمية فلسطينيون يبتهلون خلال صلاة الجمعة يوم 11 أبريل 2025 خلال احتجاج على الاستيطان قرب الخليل بالضفة الغربية (رويترز)

هكذا تفرض إسرائيل ضم الضفة الغربية أمراً واقعاً

تباهى رئيس مديرية الاستيطان بوزارة الدفاع الإسرائيلية بأن ضم الضفة الغربية لم يعد هدفاً تسعى إسرائيل لتحقيقه، بل أضحى «واقعاً» يفرض نفسه ولا يجد ما يعرقله.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
المشرق العربي القوات الإسرائيلية تحاصر مقلعاً قرب قرية قباطية بالضفة الغربية (أ.ب)

الجيش الإسرائيلي يقتل شابين فلسطينيين في الضفة

كشف مسؤولون فلسطينيون، اليوم (الجمعة)، عن أن جنوداً إسرائيليين أطلقوا النار على 3 فلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة.

«الشرق الأوسط» (الضفة الغربية)

«الحرب نائمة فلا توقظوها»... نصفُ قرنٍ على «نيسان» لبنان

«الحرب نائمة فلا توقظوها»... نصف قرن على نيسان لبنان
0 seconds of 11 minutes, 10 secondsVolume 90%
Press shift question mark to access a list of keyboard shortcuts
00:00
11:10
11:10
 
TT
20

«الحرب نائمة فلا توقظوها»... نصفُ قرنٍ على «نيسان» لبنان

«بوسطة عين الرمّانة» التي كانت بمثابة الشرارة الأولى لاندلاع الحرب اللبنانية (أ.ف.ب)
«بوسطة عين الرمّانة» التي كانت بمثابة الشرارة الأولى لاندلاع الحرب اللبنانية (أ.ف.ب)

انقضى نصف قرنٍ على ما قيل إنها الشرارة الأولى للحرب الأهلية في لبنان، حادثة «بوسطة عين الرمّانة». يحلو للبعض الظن أن القلوب ما عادت ملآنة، فيما يخشى البعض الآخر من أن تكون «الحرب نائمة تحت الوسائد». لكن المؤكّد أن البوسطة التي أُطلق عليها الرصاص في 13 أبريل (نيسان) 1975 استحالت صدأً.

«بوسطة عين الرمّانة» التي كانت بمثابة الشرارة الأولى لاندلاع الحرب اللبنانية (أ.ف.ب)
«بوسطة عين الرمّانة» التي كانت بمثابة الشرارة الأولى لاندلاع الحرب اللبنانية (أ.ف.ب)

ظهيرة ذلك الأحد المشمس، تعرّضت حافلة تقلّ مجموعة من منظّمة التحرير الفلسطينية لإطلاق نار من عناصر حزب الكتائب في منطقة عين الرمّانة ذات الغالبية المسيحية. سقط 27 شخصاً من أصل 30 كانوا يستقلّون الحافلة. وكان قد سبق ذلك وفي اليوم والمكان نفسَيهما، إطلاق نار استهدف مرافقي مؤسس حزب الكتائب بيار الجميّل، مما أدّى إلى مقتل عددٍ منهم. وحُكي أنّ الهدف الأساسيّ كان اغتيال الجميّل نفسه.

حتى اليوم، ما زالت الآراء والمعلومات متضاربة بين الطرفين بشأن خلفيات الحادثة ونتائجها. غير أنّ التاريخ الحديث يعتبرها النقطة المفصليّة التي أطلقت صفّارة الحرب في لبنان، وكل ما تلاها من دويّ وحطام ودماء.

في الذكرى الخمسين لـ«13 نيسان»، تعود «الشرق الأوسط» إلى ذلك اليوم الدامي، فتستضيف مجموعةً ممّن شهدوا عليه. بعضهم وقف على جبهة القتال، ومنهم من حاول إخماد النار، ومنهم مَن وثَّق بعينَيه وذاكرته وندوبِه.

أين كنت في ذلك اليوم، وما كان تمَوضعك السياسيّ؟ وهل تعلَّم اللبنانيون درس الحرب الأهلية؟ سؤالان طرحناهما على ضيوفنا الشهود والآتين من عوالم السياسة، والثقافة، والتعليم، والحقوق، والإعلام.

ياسمين (نانو) جمهوري – مقاتلة سابقة ومسؤولة حالية في حزب الكتائب

تتذكّر ياسمين جمهوري ذلك اليوم بوضوح. «كنّا متّجهين إلى المطار لإيصال والدي الذي كان مسافراً، وفي الطريق لاحظنا انتشاراً عسكرياً فلسطينياً». كانت رئيسة قسم بعبدا الكتائبيّ، والمعروفة بـ«نانو»، في الـ13 آنذاك. رغم سنّها الصغير، كانت قد انتسبت للحزب المسيحيّ، «بما أنّ الانتماء الكتائبي في بيتنا يسري في العروق أباً عن جدّ، وأماً عن جدّة».

ياسمين «نانو» جمهوري بالزيّ العسكري في مطلع الثمانينيات (أرشيف جمهوري)
ياسمين «نانو» جمهوري بالزيّ العسكري في مطلع الثمانينيات (أرشيف جمهوري)

عادت العائلة من المطار إلى البيت حيث سمعت خبر استهداف «البوسطة» عبر الراديو. تروي جمهوري: «لم أتفاجأ كثيراً لأننا كنا نلاحظ تحركات مريبة في المنطقة. لكن لم أفهم شيئاً كفتاة في الـ13 من عمري». كل ما تعرفه أنها وخلال أيام، حملت البندقية هي وفتيات أخريات ووقفن لحراسة مراكز الحزب، «فيما الشباب يقاتلون على الجبهات».

خضعت «نانو» لتدريبات عسكرية وشاركت في معركة كفرشيما، ثم تمركزت على المدفعيّة في الـ19 من عمرها خلال معركة زحلة. حدث ذلك بالتزامن مع تخصصها في إدارة الأعمال المعلوماتيّة في الجامعة اليسوعية. «كنّا الجبهة المساندة للشباب في منطقة عيون السيمان، نحضّر ملابسهم وطعامهم ونقوم بالحراسة ليلاً». وتضيف جمهوري: «كل ما قمت به كان انطلاقاً من إيماني بلبنان وتجذّري بأرضه. لم أندم يوماً، وإذا اقتضى الأمر فسأحمل السلاح من جديد». لكنها في المقابل تؤكّد أنها من الجيل الذي تعلّم دروس الحرب، «أما بعض القادة السياسيين فلم يفعل».

«ما زلت أبكي كلما ذكرت اسم رفيقي منير الذي استُشهد عندما كنا في الـ14 من العمر» - ياسمين جمهوري
«ما زلت أبكي كلما ذكرت اسم رفيقي منير الذي استُشهد عندما كنا في الـ14 من العمر» - ياسمين جمهوري

أسعد الشفتري - مسؤول أمني سابق في حزبَي الكتائب والقوات ونائب رئيس جمعية «محاربون من أجل السلام»

في 13 أبريل 1975، كان أسعد الشفتري طالب هندسة في الـ20 من عمره يجلس إلى مائدة الغداء مع أهله في بيتهم في بيروت. «رنّ جرس الهاتف وجاء صوت الرفيق في حزب الكتائب سليم صادر لينبئني بما حصل». توجّه الشفتري فوراً إلى مركز الحزب، وبدأت رحلة تجهيز شبكة التواصل والتنصّت الخاصة بالحزب. يروي مستذكراً: «بعد الحادثة، انطلقت إلى منطقة فرن الشباك المحاذية لعين الرمانة، حيث ركّبت أول جهاز لا سلكي على سطح أحد المباني.»

أسعد الشفتري بالزيّ الحربي وفي لقطة مع الرئيس اللبناني الراحل بشير الجميّل (أرشيف الشفتري)
أسعد الشفتري بالزيّ الحربي وفي لقطة مع الرئيس اللبناني الراحل بشير الجميّل (أرشيف الشفتري)

كانت تلك من بين أولى المهمات، التي تلاها ما هو أصعب وأكثر تعقيداً، إذ أصبح الشفتري أحد الرؤوس الأمنية في حزب الكتائب، ولاحقاً في القوات اللبنانية. أسأله عن أفظع ما رأى خلال تلك المرحلة فيجيب: «كانت مجموعة من مقاتلي حزب الكتائب متّجهة إلى إحدى مناطق التماس في بيروت. جهّزتهم بالأدوات اللاسلكية للتواصل معنا، ثم لمحت الموت في عيون اثنين منهم. هذان الشابان لم يعودا أبداً من المهمة. شعرت بذنبٍ ما زال يرافقني حتى اللحظة».

يحاول الشفتري محو هذا الذنب «بتأسيس حياة أفضل للأجيال اللاحقة كي لا يخوضوا هذه الحروب»، وفق تعبيره. يبوح بأنه «نادم على ارتكابات كثيرة»، لكنه راضٍ عن واقعه الجديد: «أنا الآن متسامح، ولديّ قناعة بأنّ العنف لا يؤدّي إلى حلول». برأيه، فإنّ «اللبنانيين لم يتعلموا الدرس لأن السلطة لم تؤسس لعدالة انتقالية تأخذنا من الحرب إلى السلام».

يكرّس أسعد الشفتري وقته منذ ربع قرن لإعادة بناء السلام من خلال ورش تدريبية ومحاضرات
يكرّس أسعد الشفتري وقته منذ ربع قرن لإعادة بناء السلام من خلال ورش تدريبية ومحاضرات

زياد صعب - مقاتل سابق في الحزب الشيوعي ورئيس جمعية «محاربون من أجل السلام»

لم يُسمع أزيز رصاص عين الرمانة في منطقة برج حمّود، حيث كان يمضي زياد صعب ظهيرة الأحد على سطح منزله. كان على العنصر الشاب في الحزب الشيوعي أن ينتظر زيارة رفيقٍ له حتى يخبره بما حدث. يروي لـ«الشرق الأوسط»: «كنت في الـ16 ومتعطشاً للقتال. وفور سماعي الخبر سألت متى ننطلق». يتابع صعب: «جمعت الشباب وذهبنا إلى أحد المنازل القريبة، وجهّزنا السلاح المخبأً هناك».

كانت لديه ثقة قائد ميدانيّ، بينما مَن في سنّه جالسون إلى مقاعد الدراسة. «لم تكن هناك مدرسة ثانوية في منطقتنا. ظننّا أن العلم ممنوع علينا، ولم نجد سوى العنف بديلاً عن العلم كوسيلة للتغيير. وعندما فُتحت لنا مدرسة وصرت مسؤولاً عن شؤون الطلاب، كانت الحرب قد اندلعت فانتقل التلاميذ من الصفوف إلى الجبهات».

زياد صعب على الجبهة في منطقة الرميلة (أرشيفه الخاص)
زياد صعب على الجبهة في منطقة الرميلة (أرشيفه الخاص)

ما زال مشهد «الجثة الأولى» عالقاً في ذاكرته: «حدث ذلك في يونيو (حزيران) 1975. كان صديقاً من عمري... اختفى قبل أيام، وذهبت للبحث عنه في منطقة سن الفيل فوجدته جثة ملقاة أرضاً، بعد أن تعرّضت للتعذيب والتشويه».

يندم على 15 سنة أمضاها محارباً، ويتأسف على لبنانيين تعلموا الدرس لكنهم لا يقومون بأي فعلٍ من أجل التغيير. أما هو فيحاول التعويض من خلال جمعية «محاربون من أجل السلام». أسسها إلى جانب محاربين قدامى من الأحزاب التي كانت متناحرة خلال الحرب. جمع زياد صعب أعداء الجبهات فباتوا رفاق السِلم.

أسس زياد صعب مع عدد من المحاربين القدامى جمعية «محاربون من أجل السلام»
أسس زياد صعب مع عدد من المحاربين القدامى جمعية «محاربون من أجل السلام»

فؤاد السنيورة - الرئيس السابق للحكومة اللبنانية

في 13 أبريل 1975 كان فؤاد السنيورة في بيته في صيدا، ولم يعلم بالحادثة التي وقعت ظهراً سوى في المساء. «كان حدثاً جللاً خصوصاً أنه كان قتلاً متعمداً»، يقول الرئيس السابق للحكومة اللبنانية لـ«الشرق الأوسط»: «لكننا لم نتصور أن تنجرف الأمور بعده إلى ما هو أدهى بكثير».

لطالما كان هوى السنيورة عروبياً، لكنه في تلك الآونة لم يكن منضوياً تحت لواء أي حزب: «كنت قد انسحبت من حركة القوميين العرب في منتصف الستينيات». تفرّغ للأنشطة الثقافية والتدريس. وفي أحد أيام خريف 1975، وفيما كان يقود سيارته برفقة زميله الأستاذ الجامعيّ د. حسن صعب من شارع بلِس إلى منطقة القنطاري، حصل ما لن ينساه مدى العمر.

الرئيس فؤاد السنيورة يتلو الفاتحة على ضريح الرئيس رفيق الحريري (موقعه الرسمي)
الرئيس فؤاد السنيورة يتلو الفاتحة على ضريح الرئيس رفيق الحريري (موقعه الرسمي)

يروي السنيورة: «كانت نافذة السيارة مفتوحة فسمعت صوتاً ينادي: وقّف... وقّف. تبيّن أن هناك حاجزاً لمسلّحين من حزب الكتائب. خرج من خلف «الدشمة» شخص ملثّم ومسلّح وقال: «يا دكتور حسن كنت رح قوّسكن لو ما عرفتك... أنت استاذي بالجامعة. الله معكن». تركت تلك الحادثة أثراً كبيراً في نفسه، خصوصاً أنها «كانت مؤشّراً إلى انضمام جيل كامل من الشباب للحرب الأهلية».

اليوم، وبعد 50 عاماً على تلك اللحظة، يرى السنيورة أن «ثمة لبنانيين استخلصوا العِبَر من الحرب ومنهم مَن لم يفعل». لكن المؤكّد في نظره، هو أنّ «المجتمع اللبناني ما عاد راغباً في خوض حروبٍ أهلية بعد الآن، والدليل احتضانه بعضاً لبعض خلال العدوان الإسرائيلي الأخير».

السنيورة في مظاهرة 14 مارس 2005 (موقعه الرسمي)
السنيورة في مظاهرة 14 مارس 2005 (موقعه الرسمي)

أكرم شهيّب - قياديّ في الحزب التقدّمي الاشتراكي، نائب حالي ووزير سابق

لم يكن أكرم شهيّب قد انتسب بعد إلى الحزب التقدّمي الاشتراكي، يوم وردَ إلى دارة أهله في عاليه نبأ بوسطة عين الرمانة. كان الشاب منخرطاً في مجال التعليم بعد أن استكمل دراسته في جامعة القاهرة، غير أنّ الهوى السياسيّ في البيت كان اشتراكياً، و«كمال جنبلاط القامة الوطنية والمرجع».

يخبر شهيّب أن الخبر لم يفاجئه كثيراً حينها، «لأنّي كنتُ في جوّ الاستنفار النفسي الحاصل في معظم المناطق اللبنانية». يتابع: «صحيح أن بوسطة عين الرمانة كانت الشرارة الأولى، لكن لو لم تندلع في عين الرمانة لاندلعت في مكان آخر. الأوضاع الإقليمية والمحلية كانت ستفرض الحرب عاجلاً أم آجلاً».

النائب والوزير السابق أكرم شهيّب (أرشيفه الخاص)
النائب والوزير السابق أكرم شهيّب (أرشيفه الخاص)

من السنوات الدامية تلك، أكثر ما يؤلم أكرم شهيّب «رفاقٌ أصيبوا في الحرب وما زالوا على الكرسي المتحرك حتى اليوم. الظلم الذي تعرضوا له يحزّ في نفسي. هذا مشهد من الحاضر يذكّرنا يومياً بمأساة الماضي».

لا يندم الرجل، الذي خاض الحرب والسِلم إلى جانب الحزب التقدمي الاشتراكي ورئيسه وليد جنبلاط، على شيء قام به. «كنت أسعى في مراحل للدفاع عن النفس، هذا كان دوري وكنت مثل الجميع أعتبر أنني كنت على حق والآخر على خطأ».

يعتبر شهيّب أنّ «مصالحة الجبل» عام 2000، والتي بادر إليها وليد جنبلاط والبطريرك صفير «وضعت اللبنة الأساسية لتضميد الجراح». يبدو مطمئناً إلى أن اللبنانيين تعلّموا الدرس، لكنّ «غليان المنطقة» يقلقه لأنه «ينذر بما هو أصعب».

شهيّب برفقة وليد جنبلاط في مطلع الثمانينيات (أرشيفه الخاص)
شهيّب برفقة وليد جنبلاط في مطلع الثمانينيات (أرشيفه الخاص)

إلياس عطا الله - قيادي سابق في الحزب الشيوعي، أمين سر حركة اليسار الديمقراطي ونائب سابق

عقب حادثة بوسطة عين الرمانة، لم يكن الياس عطا الله يتوقّع أنّ «تتدهور الأمور إلى هذا الحدّ وأن تكون تلك مقدّمة لحرب أهلية». يخبر «الشرق الأوسط» أنه كان حينها في الـ28 من عمره ورئيس فرع كلية التربية في الجامعة اللبنانية في اتحاد الشباب الديمقراطي.

«في أحد الأيام، وفيما كنت متّجهاً سيراً على الأقدام إلى الجامعة سمعت قصفاً للطيران، وكنت في نقطة قريبة من المدينة الرياضية. بالنسبة لي، كان هذا المشهد بداية الحرب في لبنان»، يروي إلياس عطا الله.

إلياس عطا الله متوسطاً إحدى المظاهرات في بيروت في السبعينيات (أرشيفه الخاص)
إلياس عطا الله متوسطاً إحدى المظاهرات في بيروت في السبعينيات (أرشيفه الخاص)

أمّا الصورة التي لا تُمحى من مخيّلته فسُجّلت في نهاية 1975: «كنت في مهمة حزبية في منطقة حيّ السلّم عندما رأيت كتبَ مكتبة جامعتي مرميّةً في الوحل أرضاً... سُرقت من الجامعة ورُميت مع كراسٍ وصحون محطّمة». يتابع عطا الله: «لا شيء آلمَني بقدر ما فعل هذا المشهد، خصوصاً أنني شاركت في تجهيز جزء من تلك المكتبة».

مع أنه لم يحارب ولم يطلق النار وفق ما يؤكّد، بل كان منسّق عمليات جبهة المقاومة الوطنية، غير أنّ إلياس عطا الله «نادم على التكيّف مع الحرب، وعلى مساري فيها». يضيف متأسفاً: «ذاك لم يكن أنا، بل شخص آخر». وبعد، هو يستبعد أن تكون الحرب قد انتهت في أذهان اللبنانيين، «لا سيّما أن الوعي الجماعي معتاد على الفساد والكسل».

إلياس عطا الله والكاتب إلياس خوري يوم اغتيال الصحافي سمير قصير (أ.ف.ب)
إلياس عطا الله والكاتب إلياس خوري يوم اغتيال الصحافي سمير قصير (أ.ف.ب)

رشيد درباس - وزير سابق ونقيب المحامين في طرابلس سابقاً

في الحقبة التي شهدت اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، كان ابنُ طرابلس الوزير السابق رشيد درباس يجاهر بهواه الفلسطيني وبانتمائه للحركة الوطنية اللبنانية.

كان في بغداد يوم 13 أبريل 1975 مشاركاً في مؤتمر اتحاد المحامين العرب. ولدى عودته بعد أيام سالكاً الطريق البحري بالتاكسي من مرفأ بيروت إلى عاصمة الشمال، لم يلحظ ما يقلقه أو ينبئه بتدهور الأوضاع.

تولّى رشيد درباس وزارة الشؤون الاجتماعية ما بين 2014 و2016 (موقع رئاسة الحكومة اللبنانية)
تولّى رشيد درباس وزارة الشؤون الاجتماعية ما بين 2014 و2016 (موقع رئاسة الحكومة اللبنانية)

لكن ما لم يكن في الحسبان حصل، وامتدّ النزيف إلى طرابلس حيث اختبر درباس الحرب على طريقته. هو الفلسطينيّ العروبيّ الهوى سرعان ما أصابه الخذلان. يبوح لـ«الشرق الأوسط»: «أندم لأنني انغمست إلى أذنيّ، ليس قتالاً، إنما التصاقاً بالحركة الوطنية والقيادات الفلسطينية. أصابتني اليقظة يوم حوصر مرفأ طرابلس من الزوارق السورية، فتبيّن لي أن المقاومة الوطنية ليست خطاً واحداً كما كنت أظنّ، وأنّ الجيش السوري بات رديفاً للقوى اليمينية التي كنا نحارب»، يتابع: «لديّ الشجاعة اليوم لأقول إنني لم أكن متبصّراً».

رشيد درباس مصافحاً وليد جنبلاط (أرشيفه الخاص)
رشيد درباس مصافحاً وليد جنبلاط (أرشيفه الخاص)

اختبر درباس محاولات القتل والخطف، مما اضطرّه إلى السفر إلى قبرص عام 1977 والابتعاد عن عائلته؛ «لم أشارك في جنازة أبي الذي توفّي في غيابي وما زال هذا الجرح في قلبي. طعنتني كذلك خسارة عدد كبير من الأصدقاء شهداءَ في تلك الحرب».

وفق درباس، فإنّ «اللبنانيين تعلموا الدرس لكن القوى السياسية لم تتخلص من ارتباطاتها الخارجية».

مي كحّالة - صحافية وأول مستشارة إعلامية لرئاسة الجمهورية اللبنانية

كانت مي كحّالة تمضي ذاك الأحد المشمس مع عائلتها في بيتهم الجبليّ. «سمعنا بأنّ أمراً ما حدث في عين الرمانة، فعدنا أدراجنا إلى منزلنا في سن الفيل شرقي بيروت. شاهدنا على طريق العودة وعلى مقربة من المنزل حواجز فلسطينية. لكن ليس سوى مساءً حتى عرفنا التفاصيل عبر إذاعة مونتي كارلو، ولم ننم في تلك الليلة من أزيز الرصاص».

تخبر الإعلامية والمستشارة الإعلامية السابقة لرئاسة الجمهورية: «ربيت في بيت لا انتماء سياسياً لديه، لذا لم أستوعب ما يجري، إلى أن بدأت القوى الفلسطينية المحيطة بالبيت تتحرّك. أقفلت طرقات كثيرة وصار التنقّل صعباً. عشت قلقاً كبيراً لكني كنت أعتقد دائماً أنها مرحلة وستمرّ».

مي كحالة أول مستشارة إعلامية لرئاسة الجمهورية برفقة الرئيس الراحل إلياس الهراوي (أرشيفها الخاص)
مي كحالة أول مستشارة إعلامية لرئاسة الجمهورية برفقة الرئيس الراحل إلياس الهراوي (أرشيفها الخاص)

من البيت المسالم مباشرةً إلى الميدان، انتقلت كحّالة مراسلةً حربيّة لصحيفة «النهار»؛ «كان الاتّكال على الصحافيات الإناث أكثر في تلك المهمات حينذاك، بما أنّ الذكور كانوا عرضةً للخطف والقتل على الهوية. خاطرتُ كثيراً، وأكبر مخاطرة كانت محاولة العبور إلى الجنوب لتغطية الاجتياح الإسرائيلي. هناك، علقنا بين نار القنص الإسرائيلي والجهات التي كانت تردّ عليه».

أما أفظع مشهد فهكذا سجّلته ذاكرتها: «كنت أعبر من منطقة المتحف باتجاه المحكمة العسكرية حيث تنتظرني سيارة من الجريدة. رأيتُ جندياً مختبئاً خلف دبّابته ويومئ لي من البعيد بأن أركض. ركضت فوجدت جثة أرضاً وتجمّدت بدل أن أهرب من القنص. ما زلت أذكر وجه الرجل المقتول حتى الآن...».

تأسف كحّالة لأن اللبنانيين لم يتعلموا الدرس، «فهم ما زالوا يتقاتلون ثم يعودون للعيش معاً».

«لم يتعلّم اللبنانيون درس الحرب لأنهم ما زالوا يتقاتلون ثم يعودون للعيش معاً» - مي كحّالة
«لم يتعلّم اللبنانيون درس الحرب لأنهم ما زالوا يتقاتلون ثم يعودون للعيش معاً» - مي كحّالة

عبد الحليم كركلّا - المؤسّس والمدير الفني لمسرح كركلّا

تركت «الشرارة الأولى» للحرب الأهلية ندوباً عميقة في جسد فرقة «كركلّا» للرقص. يروي مؤسّس المسرح العريق، عبد الحليم كركلّا، لـ«الشرق الأوسط» كيف انهمر الرصاص على سيارات الراقصين أثناء عودتهم من افتتاح مسرحية «غرائب العجائب وعجائب الغرائب» في 13 أبريل 1975.

«13 نيسان» 1975 افتتاح مسرحية «غرائب العجائب وعجائب الغرائب» في قصر الأونيسكو في بيروت (أرشيف مسرح كركلّا)
«13 نيسان» 1975 افتتاح مسرحية «غرائب العجائب وعجائب الغرائب» في قصر الأونيسكو في بيروت (أرشيف مسرح كركلّا)

بغصّةٍ ما زالت ترافقه حتى اليوم، يقول كركلّا: «طال الرصاص عدداً من الراقصين مما أدّى إلى إصابة نجمة الفرقة أميرة ماجد بالشلل، كما اخترقت رصاصة جسد ملكة جمال لبنان مارسيل حرّو التي كانت معنا».

لكن التحدّي الأكبر بالنسبة إلى كركلّا كان «الحفاظ على تركيبة الفرقة كي لا تتفرّق كما تفرّق لبنان، خصوصاً أنّها تعكس صورة الوطن المتنوّع». يتابع: «صرنا نهرب من الأماكن الخطرة إلى الأماكن الآمنة. من بيروت إلى جونية». لم يتوقف المسرح خلال الحرب اللبنانية لا في الداخل ولا في الخارج. «وعندما بدأت القذائف تطال مركزنا في جونية، انتقلنا إلى طرابلس. ومن طرابلس إلى بعلبك حيث تابعت الفرقة تدريباتها. ثم من بعلبك إلى الشوف بدعوة من رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط».

عبد الحليم كركلّا ووليد جنبلاط في قصر المختارة (أرشيف مسرح كركلّا)
عبد الحليم كركلّا ووليد جنبلاط في قصر المختارة (أرشيف مسرح كركلّا)

أما أفظع مشهد عالق في ذاكرة كركلّا، فهو انهمار القنابل والقذائف حول سيارات الفرقة، خلال انتقالها «من المكان الذي كنا نظنه آمناً إلى مكان أكثر أماناً»، وفق تعبيره. هو الذي استطاع الحفاظ على الفرقة وعروضها حتى في أعتى أيام الحرب، يرجو أن «يكون اللبنانيون قد تعلموا الدرس لأنهم يحبون الازدهار والثقافة والحرية».

«أفظع مشاهد الحرب كان انهمار القنابل والقذائف حول الفرقة خلال تنقّلاتها» عبد الحليم كركلّا
«أفظع مشاهد الحرب كان انهمار القنابل والقذائف حول الفرقة خلال تنقّلاتها» عبد الحليم كركلّا

عصام خليفة - مؤرّخ وباحث أكاديمي وأستاذ جامعي وناشط نقابي

«بوسطة» من نوعٍ آخر استقلّها عصام خليفة في 13 أبريل 1975، فأستاذ التاريخ في ثانوية البترون كان يرافق طلّابه في رحلة إلى البقاع والليطاني. «في طريق العودة، عبرنا صيدا وبيروت من دون أن ندري بما حدث. وصلنا مساءً لنجد الأهالي متجمهرين ينتظرون أولادهم بقلق، وهناك اكتشفنا ما حدث. كان الجو محتقناً فلم أتفاجأ كثيراً بالخبر».

كان خليفة قد أسس «حركة الوعي» التي نشأت من قلب الجامعة اللبنانية. يشرح: «كنا مع عدالة القضية الفلسطينية لكن رفضنا التدخل الفلسطيني بالشأن اللبناني، خصوصاً التمدد العسكري على حساب السيادة. كنا متمايزين عن اليسار واليمين اللبنانيَين».

أفظع ما شاهد وما زال محفوراً في ذاكرته حصل فيما كان يدرّس في بيروت: «كنت عائداً إلى شقّتي بعد الدوام، حاولت فتح الباب فلم أفلح. فتحت الباب امرأة تحمل بندقية وسألتني: (من أنت). أنا الذي لم أحمل السلاح يوماً، أجبتها بأني صاحب الشقة فقالت: (إذا عدت إلى هنا ستموت)».

يتابع خليفة: «في تلك الآونة، حاولنا من خلال مجموعات وحركات ثقافية تغييرية أن نجمع الناس من كل الأطراف لتتحاور ضد الحرب والعنف. نظمنا تظاهرات نقابية وثقافية وحاولنا إزالة السواتر الفاصلة بين «شرقية» و«غربية». ناضلت من أجل السلام لذلك لا أندم على شيء. لكن لو تعلّم اللبنانيون الدرس من الحرب لما راهنوا على الخارج حتى الآن».

المؤرّخ والباحث الأكاديمي د. عصام خليفة (إكس)
المؤرّخ والباحث الأكاديمي د. عصام خليفة (إكس)

علويّة صبح - كاتبة وصحافية لبنانية

تخبر الروائية والصحافية اللبنانية علويّة صبح أنها في 13 أبريل 1975، كانت في منزل ذويها في منطقة السبتيّة شرقي بيروت. كانت حينها طالبةً جامعيّة يساريّة الهوى، تتخصص في الأدبَين العربي والإنجليزي. «كنت أؤمن بالعلمنة وبنظام مدني، وافترضت أن الحزب الشيوعي والحركة الوطنية هدفهما ذلك. لكن لاحقاً تملّكتني خيبة وانزويت وابتعدت».

لم تكن تعرف حينها أنّ خيبات الحرب ليست عقائديّة فحسب، بل قد تتحوّل في أي لحظة إلى صدماتٍ ترافق المرء مدى العمر. تقول إنها لا تزال تكتب عن الحرب كي تمحوها من ذاكرتها الشخصية.

بطاقة الانتساب إلى الجامعة اللبنانية الخاصة بعلويّة صبح (أرشيفها الخاص)
بطاقة الانتساب إلى الجامعة اللبنانية الخاصة بعلويّة صبح (أرشيفها الخاص)

ما لم تستطع محوه حتى اللحظة هو هذا المشهد: «سمعتُ نداءاتٍ في منطقة برج حمّود، حيث كنّا قد انتقلنا، تطلب المساعدة في نقل جثث ضحايا مدنيّين إلى المسجد». تبرّعت علويّة صبح لأداء المهمة، فملأت المقاعد الخلفيّة وسطح سيارتها بالجثث ونقلتهم. «كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها جثة. توهّمت الشجاعة وعندما وصلت إلى البيت أخبرت الحكاية لأهلي بفخر وكأنني بطلة، لكن الكوابيس التي أصابتني تلك الليلة دفعتني إلى الصراخ وأنا نائمة. وما زال هذا المشهد القاسي يلازمني منذ ذلك الحين».

أما أكثر ما يؤلمها اليوم فهو أن أبناء بلدها لم يتعلّموا الدرس، بل احترفوا صناعة الطائفية. تتساءل: كيف يُشفى المجتمع من ندوبه إن لم يقُم أي زعيم بنقدٍ ذاتيّ وظلّ متمسكاً بأنه على صواب وسواه على خطأ؟

«نقلت جثث مدنيين في سيارتي وما زال المشهد يرافقني إلى اليوم» - علويّة صبح
«نقلت جثث مدنيين في سيارتي وما زال المشهد يرافقني إلى اليوم» - علويّة صبح

ندى عبد الصمد - إعلامية لبنانية

يوم تعرّضت «البوسطة» لإطلاق الرصاص، كانت ندى عبد الصمد في الـ10 من العمر. تروي لـ«الشرق الأوسط»: «شعرت بأن أمراً كبيراً حدث لأنّ معارف أهلي بدأوا بالتوافد إلى منزلنا في بيروت. كان والدي منتسباً إلى الحزب الشيوعي، أما والدتي فمنخرطة في لجنة حقوق المرأة في الحزب».

يكرّ شريط الذكريات في رأس الإعلامية اللبنانية: «طريق الذهاب والعودة من وإلى المدرسة تحت القصف. نشوء التنظيمات المسلحة الصغيرة بعد حرب الفنادق، وتَمركُز بعضها تحت بيتنا. أذكر كيف كانوا يشتبكون... مثل «الصاعقة»، و«أبو كوسا» وغيرهما ممّن كان تمويلهم فلسطينياً».

أما أبشع المشاهد فسُجّل يوم السبت الأسود في 6 ديسمبر (كانون الأول) 1975: «رافقت والدي إلى مركز عمله في شركة الكهرباء. وفي الطريق إلى هناك من جهة المرفأ رأينا جثتين، بالتزامن مع بداية المجازر على الهوية...».

الإعلامية اللبنانية ندى عبد الصمد
الإعلامية اللبنانية ندى عبد الصمد

في اعتقاد ندى عبد الصمد، مهّدت حرب الـ75 الدرب لفرزٍ مذهبيّ، «فاتخذت الأحزاب طابعاً طائفياً بعد أن كانت مختلطة ومتنوعة». انطلاقاً من ذلك، فهي ليست مطمئنّة إلى أنّ اللبنانيين تعلّموا درس الحرب، بل تذهب إلى حدّ القول: «أعتقد أنهم قد يكررونها لكن بأشكال ثانية، لا سيّما أنّ لبنان بتركيبته الطائفية يؤسس لحروب مذهبية بسبب المحاصصة القائمة». وتتابع ندى عبد الصمد: «المشكلة هي في أننا ما زلنا ننتج الأشخاص أنفسهم والأنظمة ذاتها».

باترك باز - مصوّر صحفي

«كنت في الـ11 من عمري. أذكر أننا في الأيام التالية للحادثة، وأنا عائد إلى البيت في باص المدرسة، رأيت انتشاراً مسلّحاً في منطقة فرن الشباك المحاذية لعين الرمانة. ما زلت أرى أمام عينيّ أقنعة المسلّحين وهي تغطّي وجوههم». هكذا يتذكّر باتريك باز الأيام التي تلت حادثة عين الرمّانة.

مع الوقت، أراد أن يصبح مثل هؤلاء المسلّحين. يوضح: «كانوا المرجع القوي الوحيد، وكأطفال رغبنا في تقليدهم». لاحقاً، عندما اتّسع وجود مسلّحي الكتائب وصار تحت بيت باز في منطقة التباريس، بات المقاتلون يلعبون كرة القدم مع أطفال الحيّ. «مشهد لا أنساه من تلك الفترة ولعلّه أفظع ما شهدت: أحد هؤلاء الشبان شاركَنا اللعب ثم اتجه صوب الجبهة ليعود من جديد، إنما محمّلاً على كتفَي رفيقه».

المصوّر باتريك باز في سن الـ18 (أرشيفه الخاص)
المصوّر باتريك باز في سن الـ18 (أرشيفه الخاص)

من طفلٍ يلاعب الكرة إلى فتىً يحمل السلاح، تحوّل باتريك باز في غضون أشهر. «حملت السلاح لأول مرة في الـ14 من عمري وكنت أذهب إلى المدرسة والمسدّس على خاصرتي تحت القميص. ومع الشبان المقاتلين كنا نتدرب عليه بإطلاق النار على أهداف وهمية».

«سرت الحرب في دمي فقررت أن أعيشها من دون إطلاق النار على أحد» - باتريك باز
«سرت الحرب في دمي فقررت أن أعيشها من دون إطلاق النار على أحد» - باتريك باز

إلّا أنّ الوعي الذي اكتسبه بعد خروجه من لبنان لسنتَين خلال الحرب، ساهم في تغيير سلوكه. «من جبهة القتال انتقلت إلى جبهة التصوير واستبدلت بالرشّاش الكاميرا في سن الـ18. عبر العدسة أردت أن أعيش الحرب من دون أن أطلق النار على أحد»، يقول باز.