«غربلة» خراب البصرة في رواية «غرابيل»

علي نكيل يكتب عن أكثر فترات العراق حلكة

«غربلة» خراب البصرة في رواية «غرابيل»
TT

«غربلة» خراب البصرة في رواية «غرابيل»

«غربلة» خراب البصرة في رواية «غرابيل»

تبدو رواية «غرابيل» للأديب البصري علي نكيل «أبو عراق»، في بنائها الدرامي مثل مسرحية كلاسيكية تتفاعل فيها الأحداث، وتتصارع فيها الشخصيات، بشكل لولبيّ متصاعد، وصولاً إلى ذروة العمل.

إذ تبدأ رحلة أبو عراق الروائية باستدعائه إلى دائرة الأمن المُرعبة في البصرة، بسبب تحول مكتبته الصغيرة في العشار إلى ملتقى للمثقفين «المارقين» على طغيان النظام، ثم تتسارع الأحداث بعد ذلك على وقْع قرع طبول احتلال الكويت، ومن ثَمّ تحريرها من الاحتلال العراقي، وانتفاضة الجوع والغضب الشعبية التي أعقبت هزيمة الجيش الأعزل والمنهار نفسياً أمام عاصفة الصحراء.

ليس غريباً أن يسمِّي البصريون مبنى دائرة الأمن الكبيرة، المطلية بالأبيض، بـ«الليث الأبيض»؛ لأن دخول هذا العرين المُخيف لا يجري بالسهولة التي يُتصور بها دخوله. يخرج أبو عراق من عرين الليث سليماً، بعد أن يتضح أن الاستدعاء كان مجرد تحذير من تحول مكتبته الصغيرة إلى وكر للشيوعيين التائبين، والمثقفين الناقمين. وهذا في زمنٍ تجري فيه أحداث القصة، في الفترة القصيرة الفاصلة بين نهاية الحرب العراقية الإيرانية، ونهاية غزوة الكويت المجنونة، وحينما تحولت البصرة بأكملها إلى عرين ليث أبيض.

يتضح لنا في الحال أن «أبو عراق» ليس بطل هذه الرواية المأساوية التي تُغَربل أكثر فترات العراق حلكة، وشهدت الخراب الجديد الذي يحلّ بالبصرة، مثل متوالية هندسية تتكرر فيها الزوايا. ليس الراوية في «غرابيل»، وأقصد علي نكيل، غير شاهد على ما حلَّ من دمار في أبنية المدينة، وأرواح أبنائها الحالمة بالخلاص من الدكتاتورية والحروب. يؤدي علي هنا دور الراوية في مسرحية دراماتيكية، لا ينسب لنفسه فيها أية بطولة، ولا يتدخل في أحداثها على الطريقة البريختية، لكنه يصورها لنا بكل واقعية.

أبطال هذه الرواية، سواء أكانوا سلبيين أم إيجابيين، هم أبناء البصرة؛ من مثقفين يحافظون على أفكارهم، مقابل مثقفين نزعوا جلودهم وانقلبوا «غرابيل» (بمعنى نمّامين ووُشاة هنا)، وعامة الناس بين من ثار ضد الظلم والجوع منهم، وبين من تحوّلوا إلى نهّابين تعاملوا مع الانتفاضة كـ«فرهود» جديد.

يقال «إن من غربل الناس نخلوه»، وهذا ما جرى للبعثيين وعملاء الأمن و«الشمامين»، الذين لاحقهم الثائرون وقتلوهم بلا رحمة. اختفى البعثيون في بيوتهم، أو في بيوت «المحسنين» إليهم، وتحوّلوا في لحظة من قامعين إلى مقموعين مستعدّين للهتاف مع الجموع الغاضبة بالشعارات الطائفية الساذجة.

تبلغ الدراما ذروتها بمقتل الشخصية البصرية الشعبية «مرجان» على أيدي الحرس الجمهوري، بعد تعذيبه والتنكيل به بتهمة زائفة لا يبدو أن سفلة النظام بحاجة إليها كي يطلقوا على عظمه الغربالي (عظم في قاع الجمجمة بين الأنف والدماغ) رصاصة الرحمة. ينهار مرجان (الأسود) في القبر الذي حفره بنفسه هو، يشدد على أنه رجل بسيط لا يجيد غير أساليب الدعاية الشعبية للأفلام، عازفاً الموسيقى بالناي من أنفه، وهو يهز مؤخرته المكوَّرة أمام أنظار الفتيات الخجِلات الرائحات والغاديات على جسر الهنود (جسر المغايز).

جمع المؤلف في هذه الشخصية الشعبية كامل مواصفات أبطاله، الذين يمثلون الشخصية البصرية البسيطة، هذه الشخصية البصرية التي تتحدر ربما من ثورة الزنج التي قادها علي بن محمد، شخصية محبوبة لا تختلف في هويتها عن الهوية المتعددة لهذه المدينة - الميناء التي تحمل أحياؤها أسماء «سوق الهنود»، و«جبل البلوش»، و«جسر العبيد»؛ تعبيراً عن تنوعها وتعايشها الثقافي.

لم يكن أبو عراق حراً في اختيار المكان في رواية «غرابيل»؛ لأن الحديث عن تفاصيل الانتفاضة، التي أعقبت تحرير الكويت، انطلقت من ساحة سعد في البصرة. لحظة جنون وانفجار واجهها الجيش «العقائدي» بعنف لا يقارَن أبداً بالخنوع والذل، الذي واجه به هذا الجيش جيش «الغزاة» الأميركان. غربل الأميركان الجنود العراقيين بأسلحتهم الفتاكة (غربل هنا بمعنى قتل أو سحق)، وترك البقية للحرس الجمهوري؛ كي يغربل الصغير والكبير بمنخل ناعم، فالمكان الذي تجري فيها وقائع الرواية هو أحياء المدينة الفقيرة وحي العشار - البجاري؛ حيث تقع مكتبة علي نكيل حتى الآن، هذه المدينة التي كرهها صدام بحسين بسبب تمرد أهلها وسماها «المدينة السوداء».

يكشف لنا قاموس المعاني أن غربلة الناس تعني كشف أحوالهم ومصائرهم، وهذا ما يفعله مؤلف «غرابيل»، الذي يبدو أنه اختار هذه العنوان بعناية بالغة. سمعنا الكثير عن الفظائع التي خلّفتها هذه الحرب، والفظائع الكبرى التي خلفها الحصار والجوع، لكن علي نكيل يغربل كل هذه الأحداث ليسرد لنا أفظعها، عن الرجل الذي ربط عيون أطفاله الثلاثة وألقى بهم من الجسر إلى النهر، لعجزه عن إطعامهم، وعن المعيدية الجميلة التي صارت تتاجر بجثث وهمية خلّفتها الحرب العراقية الإيرانية. بدأت سكينة المعيدية بيع الأجهزة الكهربائية المعطوبة في إيران هناك، بعد تهريبها عبر مسالك الأهوار الممتدة بين العراق وإيران، تطور عملها بعدها، وزاد طمعها في المال الحرام ليجرّدها من كل إنسانية لديها، إذ صارت تنبش الجثث من مقبرة «المندائيين» في البصرة، وتبيعها إلى الإيرانيين الذين فقدوا أبناءهم في الحرب، بعد أن تضع أسماء الجنود الإيرانيين على هذه الجثث. تسرد سكينة للآخرين، بلا تأنيب ضمير، كيف تنتزع الجثث «الطرية» من لحدها، كي تبيعها في إيران.

لا يعادل الحقد ضد النظام في البصرة آنذاك غير الإحباط الكبير من تملص الأميركان من مسؤولياتهم بصفتهم قوة غازية، وتغاضيهم عن طائرات الهليكوبتر العسكرية العراقية، التي كانت تسحق الناس من منتفضين وغير منتفضين، من بريئين وغير بريئين، بنيرانها الفوسفورية.

يقول صديقه علي الساعدي، الذي كان من المترددين على مكتبته الصغيرة، وهو ينظر إلى الجموع التي تطلق الأهازيج المطالبة بحكم شيعي: «هي فورة ستخمد، البصرة لا تغير هويتها. منذ زمن بعيد تنازعتها أهواء مختلفة، لكنها تقاوم كل هذه الدعاوى، لحيويتها الاجتماعية وموقعها الجغرافي، مرّت بمئات الخرابات، ونهضت من جديد، مدينة لا تشيخ، ولا تستسلم للأهواء العابرة وللطغاة والدمار».

يقتحم قتَلة النظام البيوت في البصرة، ويجمعون الرجال والنساء والأطفال، الملتصقين بعباءات أمهاتهم، قرب النهر، ويقولون لهم إن ساعة إعدامهم الجماعية ستحلُّ قريباً. المفارقة هي أنهم يطلبون من الناس الهتاف بحياة الطاغية: «صدام اسمك هز أمريكا»، وهو القائد «الفلتة» الذي هزّ ذيله للأميركان في كل مواجهة.

لا يمكن وصف ما يسرده علي نكيل في رواية «غرابيل» من أحداث مأساوية تَلَت السقوط المدوِّي لحلم احتلال الكويت، بأنه انتفاضة، ربما لأنها، في سرده، أقرب إلى فورة غضب عارمة أجّجتها الهزيمة والقهر والجوع. شاركت بعض شخصيات الرواية عن وعي في رسم أحداث تلك الأيام، وانتهت تحت الأسوار، أو أنها تسللت بعد ذلك إلى البلدان القريبة؛ خلاصاً من موت أكيد، لكن الغالبية من الفقراء كانوا ملهوفين للقمة عيش كريمة مع «الحسناء»، بعد أن عانت طويلاً من وجبة «وحش الطاوة» بلا طماطم.

صدرت الرواية عن دار الرفاه للطباعة والنشر، وتقع في 131 صفحة من القَطع المتوسط. صمَّم الغلاف الفنان صالح جادري.



بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان
TT

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

تشكل «الحزام» مفخرة ليس فقط لأحمد أبو دهمان وإنما للأدب السعودي الحديث كله بل وللآداب العربية بأسرها لقد أتاح لي الحظ أن أتعرف على أحمد أبو دهمان لأول مرة في ذلك الدرس الأسبوعي الكبير للبروفسور محمد أركون في السوربون. كان دائماً برفقة شخص آخر هو معجب الزهراني. وكنا نرى فيهما الوجه المشرق والمتألق للمملكة العربية السعودية. وما كنا نعرف آنذاك أن معجب سيصبح لاحقاً أحد أشهر المثقفين العرب. وسوف يتبوأ أعلى المناصب في العاصمة الفرنسية: مديراً عاماً لمعهد العالم العربي. كان طالباً عادياً مثلنا لا أكثر ولا أقل. وقد شعرنا بالفخر آنذاك لأن أحد أبناء جيلنا وصل إلى هذا المنصب الرفيع. هذا ناهيك بكونه ناقداً أدبياً وأستاذاً جامعياً لامعاً. وأعتقد أن أحمد أبو دهمان كان فخوراً به إلى أقصى الحدود. كنا مجموعة من الطلاب العرب نحضر تلك الدروس الشهيرة في ثمانينات القرن الماضي وربما تسعيناته. وهي الدروس التي جددت الفكر العربي الإسلامي بشكل غير مسبوق. إنها دروس دخلت التاريخ من أوسع أبوابه بل ودشنت التاريخ العربي ما بعد الأصولي. وقد أصبح بعض طلابه من المشاهير لاحقاً. فبالإضافة إلى الدكتور معجب الزهراني يخطر على بالي الآن شخص آخر نال شهرة واسعة هو الدكتور التونسي محمد الحداد. وهناك حتماً آخرون في مشرق العالم العربي ومغربه ممن خرجهم ذلك الدرس الأكاديمي العبقري الخالد.

فيما بعد توطدت علاقتي بأحمد أبو دهمان عندما تفضل علي واستكتبني في جريدة «الرياض» الغراء. ولم أكن معروفاً آنذاك كثيراً. ولكنها ساهمت في التعريف بي عندما نشرت مقالاتي على صفحاتها الثقافية تحت إشراف الشاعر سعد الحميدين. وكنت أشعر بمتعة كبيرة في تدبيج تلك المقالات وتسليمها له باليد كل أسبوع لكي يرسلها إلى الجريدة. كان يعطيني عادة موعداً في مقاهي باريس القريبة من منزله في الدائرة الخامسة عشرة. وهي منطقة اليونيسكو وبرج إيفل في الواقع: أي من أرقى المناطق الباريسية وأحلاها. وكنا نتحادث كثيراً في المقهى ويجر الحديث الحديث. وما أمتع الحديث مع أحمد أبو دهمان. ما أمتع تلك الأحاديث الباريسية أيام زمان. كم أصبحت الآن بعيداً عنها وعني. وفي عهده الميمون بصفته مسؤولاً عن جريدة الرياض في باريس لم يكتف بنشر مقالاتي المتفرقة على صفحات الجريدة السعودية الكبيرة وإنما كلفني أيضاً بنشر كتابين لا كتاب واحد في سلسلة «كتاب الرياض». وهي سلسلة مشهورة ولها وزنها. وقد كان الكتاب الأول بعنوان: «قراءة في الفكر الأوروبي الحديث»، والثاني بعنوان: «العلم والإيمان في الغرب الحديث». وهما أول كتابين أنشرهما في حياتي. ومن ثمّ فجريدة الرياض لها فضل كبير علي.

ثم ابتدأت في السنوات اللاحقة أنشر أكثر فأكثر على صفحات «الشرق الأوسط» وانقطعت علاقتي مع الرياض تدريجياً. وقد تزامن ذلك مع عودتي إلى المغرب وعودته هو إلى السعودية.

كنا نعرف أحمد أبو دهمان كاتباً حساساً وصحافياً لامعاً لاذع الأسلوب أحياناً. ولكن ما كنا نعرف أنه روائي يستطيع السيطرة على فن القصة من أولها إلى آخرها. وهنا تكمن المفاجأة الأولى لكل من يعرفونه من كثب. يحصل ذلك كما لو أنه خبأ سره أو لعبته زمناً طويلاً حتى انفجرت في آخر لحظة كالقنبلة الموقوتة. ولكن هل كان هو ذاته يعرف أنه قادر على فن السرد الروائي إلى مثل هذا الحد. ألم يكن يحسب نفسه شاعراً، وشاعراً فقط. وقد كان شاعراً بالفعل. وروايته تضج بالشعر. هذا لا يمنع ذاك. في الواقع أن الكاتب (أي كاتب) لا يعرف من هو بالضبط قبل أن يجرب نفسه. من المعلوم أن نجيب محفوظ كان يعتقد في البداية أنه سيصبح مفكراً أو فيلسوفاً على طريقة طه حسين. ولذلك راح يدبج المقالات الفكرية أو الاجتماعية قبل أن يكتشف في حناياه موهبته الضخمة بوصفه روائياً عبقرياً.

أما المفاجأة الثانية في حالة أحمد أبو دهمان فهي أنه يكتب روايته الأولى بالفرنسية وينجح نجاحاً باهراً. ولعله المشرقي الوحيد الذي حقق هذا الاختراق في الساحة الفرنسية إذا ما استثنينا أمين معلوف بالطبع. ولكن أمين معلوف لبناني تعلم الفرنسية منذ نعومة أظفاره وليس على كبر كما هي حالة أبو دهمان وحالتنا جميعاً. وأما المفاجأة الثالثة فهي أن الرواية (رواية الحزام) حظيت بالطبع في أشهر دور النشر الباريسية: غاليمار. ومعلوم كم هو من الصعب الوصول إلى هذه الدار التي لا تنشر عادة إلا لكبار الكتاب المكرسين سابقاً. ثلاث مفاجآت دفعة واحدة كانت كافية لكي تجعل من هذه الرواية السعودية حدثاً ثقافياً على كلا المستويين العربي والفرنسي. ولكن عن أي شيء نتحدث بالضبط؟ ما مضمون هذه الرواية؟

لنقل باختصار شديد إنها سيرة ذاتية مقنعة. بالطبع فإن الكاتب يستطيع أن يختبئ خلف الروائي بطل القصة ويقول: لا تصدقوا ما أقول. هذا كله خيال في خيال. لا تأخذوا الكلام على حرفيته فهناك دائماً مسافة بين الكتابة الروائية والواقع الحقيقي. وهذا صحيح. ولكن لا أحد يستطيع أن يمنعنا من الاعتقاد بأن الكاتب استوحى أحداث الرواية من حياته الشخصية خاصةً. فهناك توازٍ (إن لم يكن تطابقاً) بين حياة البطل وحياة أحمد أبو دهمان ذاته. ويتجلى هذا التطابق عندما يقول الراوي إنه سيصبح صحافياً لاحقاً، أو عندما يتحدث باستمرار باسم ضمير الشخص الأول، أو عندما يصف مساره من القرية إلى مدينة «أبها» عاصمة الإقليم، إلخ. وهو مسار كلاسيكي معهود لجميع أبناء الريف الفقراء الذين يريدون أن يتعلموا ويخرجوا من هامشيتهم ويصعدوا في المراتب الاجتماعية ويصلوا... وفي هذا الصعود إلى القمة تتجلى لنا ضخامة الصعوبات والعراقيل التي تعترض طريقهم. ينبغي أن يخترقوا عدة حواجز قبل أن يصلوا. ولا يصل في نهاية المطاف إلا النجباء منهم والذين عانوا الأمرّين وصبروا حتى النهاية. وهكذا تنطبق عليهم كلمة نيتشه الشهيرة: «وحدها الشخصيات الاستثنائية تخترق الظروف».

هناك إذن ثلاث بيئات في الرواية: بيئة القرية الأولى، وبيئة مدينة أبها عاصمة الإقليم، وبيئة العاصمة المركزية الكبرى: الرياض. وقد توقف الكاتب طويلاً عند تصوير البيئة الأولى بكل حجرها وشجرها وبشرها وطبيعتها. وقدم لنا لوحات أخاذة لا تقل جاذبية عن أجمل اللوحات الفنية ورسوم المدرسة الانطباعية الفرنسية. ويبدو أن الكاتب كان يجد متعة كبيرة في استعادتها واستذكارها وهو بعيد عنها في باريس. فهل الرواية عبارة عن تصفية حسابات مع الذات والطفولة بالمعنى الإيجابي للكلمة وليس السلبي؟ دون شك. لنقل إنها مراجعة للذات واستكشاف لهوية الذات وأعماقها على كبر. إنها بحث عن الجذور وحنين جارف إلى الأصول لشخص أراد تخليد قريته وطفولته في عمل أدبي رفيع. وربما لهذا السبب نشرتها غاليمار في سلسلة «الطفولة الأولى». بعد أن كتب هذه الرواية يستطيع أحمد أبو دهمان أن يتنفس الصعداء ويقول: لقد أديت واجبي وسددت ديوني. لقد تصالحت مع نفسي.

هناك مشاهد سينمائية أو شبه سينمائية في الرواية حتى لكأنك تحسها وتراها بأم عينيك. ومنها مشهد ذهاب أمه في منتصف الليل لجمع الحطب مع نساء القرية كما كانت تفعل أمي أنا أيضاً. إنه مشهد يصعب عليك أن تمر عليه مرور الكرام دون أن ترتجف. بالمختصر المفيد ما يلي: كل النساء العائدات وأكوام الحطب على رؤوسهن يمضغن بعض الخبز لتخفيف العناء والتعب والجوع ما عدا أمه التي تعض على الحبل بنواجذها موهمة بأنها تأكل شيئاً مثلهن. لقد قتلني هذا المقطع قتلاً، دمرني تدميراً. ولكنه أحياني وأنعشني في الوقت نفسه لأنه أعادني إلى طفولتي العميقة، طفولتي السحيقة. شكراً أحمد أبو دهمان. ألف شكر. إنه الفقر المدقع، الفقر الأسود، ولكنه الممزوج بالشرف وعزة النفس.

هذه قراءة سريعة وناقصة جداً لرواية أحمد أبو دهمان، التي دخلت التاريخ الآن. وهي تشكل مفخرة ليس فقط له، وإنما للأدب السعودي الحديث كله، بل وللآداب العربية بأسرها. تحية لك يا أحمد. تحية لك كاتباً مبدعاً وفارساً عربياً ترجل. كنا نتمنى لو بقيت معنا فترة أطول.


التحليل النفسي للنار

التحليل النفسي للنار
TT

التحليل النفسي للنار

التحليل النفسي للنار

عاد الشتاء وعاد التحديق الموسمي في النار. النار ليست مادة، بل لغز. تاريخياً، لم يكن طهي الطعام والدفء هما الغرضان الوحيدان، بل كان الإنسان يصف صلي عظامه وجروحه بالنار علاجاً لكل أوجاعه التي يعرفها والتي لا يعرفها، كقوة تطهير. من الصداع وأوجاع الظهر إلى عضّات الحيوانات ولسع العقارب والحيّات، كان يعالج كل ذلك بالاصطلاء والكي.

لكن التحديق في النار وفي حركتها الأفعوانية التي لا تستقر على شكل ثابت ولا تعيد نفسها مرتين، يشعر بأن هذا المشهد ليس مجرد رؤية عابرة، بل انجذاب صامت يعلق بالفكر. ثمة شيء في النار يدعو إلى السكون أمام شيء ذي قداسة وهيبة. كأنها تخاطب طبقة أقدم من العقل، طبقة لا تستجيب بسهولة للتفسير. في لحظة التحديق يأبى الذهن بغريزته الأولى، كل محاولة لاختزالها إلى شيء محدد. النار لا تحضر أمامي كجسم، بل كفعل وحركة خالصة. إنها صيرورة تُرى ولا تُمسك. ولهذا يبدو أي تعريف مادي لها ناقصاً منذ البداية، مهما بدا مطمئناً أو دقيقاً.

تقول الفيزياء والكيمياء الحديثة إن اللهب ليس مادة صلبة ولا سائلة، بل مزيج من غازات متوهجة وبلازما ضعيفة ناتجة عن الاحتراق. هذا توصيف دقيق من حيث القياس والتحليل، لكنه لا يلامس جوهر تجربتنا الحية بالنار. إنه يشرح شروط الظهور، لا معنى الحضور. العلم هنا يتعقب الظاهرة، ويفككها إلى عمليات وجسيمات وانتقالات طاقة، لكنه لا يجيب عن السؤال الذي يفرض نفسه، ماذا تكون النار في ذاتها؟ بل لعل هذا الوصف العلمي، بدل أن يحسم المسألة، يزيدها تعقيداً، لأنه يعترف ضمنياً بأن النار ليست شيئاً قائماً بذاته. ما يظهر كمادة ليس إلا وسيطاً تمر عبره النار، لا النار نفسها، ولهذا لا يمكن تثبيتها في مفهوم واحد.

من هذا التوتر بين ما يُعاش وما يُفسَّر، نعود إلى البدايات الأولى للفلسفة، إلى الفلاسفة الأيونيين الذين جرى تصويرهم طويلاً بوصفهم ماديين بدائيين. غير أن هذا التصوير يخفي أكثر مما يكشف. فطاليس حين قال إن الماء هو المبدأ الأول لم يكن يتكلم عن سائل محسوس، بل عن مبدأ حيّ قادر على التحول والتولد. وأنكسيمانس حين جعل الهواء أصلاً لم يكن يقصد هواء التنفس، بل قوة لطيفة تتكاثف وتتخلخل فتنتج الكثرة. أما أنكسيمندر، حين تحدث عن غير المتعين، فقد تجاوز أصلاً فكرة المادة المحددة، ووضع مبدأ لا يُرى ولا يُمسك. سؤالهم لم يكن مما صُنع العالم كجسم، بل كيف يصير، وكيف يتحول، وكيف يمكن للعقل أن يفهم الحركة نفسها.

في هذا السياق تُظهر نار هيراقليطس معناها الحقيقي. فهي ليست عنصر الموقد، ولا مادة فيزيائية، بل صورة فلسفية للصيرورة الدائمة. النار عنده تعبير مكثف عن عالم يقوم على التوتر والصراع والتحول المستمر. إنها تقول إن الوجود لا يُفهم من خلال الثبات، بل من خلال التغير، وإن الحقيقة ليست ما يستقر، بل ما يتبدل. ولهذا لا تكون نار هيراقليطس مبدأً مادياً بالمعنى الحرفي، كما يروج الماديّون، بل لغة فكرية تشير إلى أن العالم فعل وحركة لا جوهر، وأن العقل نفسه لا يستطيع أن يفهم الكون إلا إذا تخلى عن وهم السكون.

هذا الحدس القديم يجد امتداده المعاصر عند غاستون باشلار. ففي كتابه «التحليل النفسي للنار» لا يسعى إلى تقديم نظرية علمية جديدة، بل إلى قلب زاوية النظر رأساً على عقب. إنه يعيد النار من المختبر إلى المخيلة، ويقول إن الخطأ لم يكن في اختيار النار موضوعاً للتفكير، بل في اختزالها إلى مادة. النار، في نظره، صورة نفسية عميقة، تسكن الإنسان قبل أن يفكر فيها علمياً، وتسبق المفهوم والتجربة المعملية معاً. إنها ترتبط بالرغبة والمعرفة والعدوان والألفة في آن واحد، ولهذا تملك هذه القدرة الغريبة على لفت النظر وإيقاف الزمن، فننظر إليها في صمت وإجلال.

يرى باشلار أن التحديق في النار فعل تأملي بدائي، يكشف عن أحلام السيطرة والتحول والتطهير. في النار نحلم بالقوة، لكننا نستحضر الخطر أيضاً، وننجذب إليها بقدر ما نخشاها. إنها تجمع الأضداد النفسية، الدفء والدمار والسكينة والتهديد، ولهذا كانت حاضرة في الأساطير والطقوس وتاريخ السحر وذاكرة الشعر، لا بوصفها عنصراً طبيعياً فقط، بل بوصفها تجربة داخلية كثيفة. والعلم، بحسب باشلار، لم يتقدم إلا حين قطع مع هذه الخيالات النارية الأولى، لكنه حين فعل ذلك ربح الدقة وخسر المعنى، ربح السيطرة وخسر الدهشة.

وهنا لا يدعو باشلار إلى رفض العلم، بل إلى وضعه في موضعه. العلم يفسر الظواهر، لكنه لا يستنفد دلالتها. النار، حتى بعد كل التفكيك الفيزيائي، تظل تجربة تُعاش قبل أن تُحلل، وتظل قادرة على إرباك العقل الذي يريد تحويل كل شيء إلى موضوع يمسك به ويهيمن عليه. ولهذا يحوّل باشلار السؤال مِن: ما النار؟ إلى ماذا تفعل النار في النفس؟ سؤال لا يبحث عن جوهر ثابت، بل عن أثر وعلاقة وصدى داخلي.

عند هذه النقطة يكتمل المسار النظري. تنتقل النار من كونها ظاهرة تُوصَف مادياً إلى كونها مبدأً دلالياً للصيرورة عند الفلاسفة الأيونيين، وتبلغ ذروتها الفلسفية عند هيراقليطس بوصفها لغة للتغير الدائم لا عنصراً فيزيائياً. ثم يأتي باشلار ليعيد توجيه السؤال، فلا يجعل النار موضوعاً للعلم ولا مبدأً كونياً، بل يجعلها مفتاحاً لفهم المخيلة الإنسانية ذاتها. عند هذا الحد تتكشف حدود المادية، لا بعدها خطأ، بل بوصفها أفقاً جزئياً ابتدائياً من أفق الفهم، وتظهر إمكانية تفكير آخر لا يُلغي العلم ولا يناقضه، بل يضعه في موضعه، ويذكّر بأن بعض الظواهر لا تُستنفد حقيقتها بما تتكوّن منه، بل بما تُحدثه في الوعي والخيال.

* كاتب سعودي.


«سنوات المَغَر» للإماراتية مريم الزرعوني

«سنوات المَغَر» للإماراتية مريم الزرعوني
TT

«سنوات المَغَر» للإماراتية مريم الزرعوني

«سنوات المَغَر» للإماراتية مريم الزرعوني

عن مركز أبو ظبي للغة العربية صدرت رواية «سنوات المغر» للكاتبة والشاعرة الإماراتية مريم الزرعوني، وذلك ضمن مشروع «قلم»، الذي «يدعم رعاية الأصوات السردية الإماراتية، لتأخذ فرصتها في منظومة السرد العربي المعاصر».

تقع الرواية في 223 صفحة من القطع المتوسط، وتتناول سيرة شخصية (غريب) المولود في الشارقة في زمن شكل مفترقاً تاريخياً حاسماً في الخليج العربي، حين كانت الهويات تتشكل والحدود ترسم ملامحها الراهنة. وتستعرض رحلة هذا البطل القلق في بحثه عن إثبات ذاته وإنسانيته، بينما تضعه الظروف في مواجهة عالم لا يعترف بالفرد إلا عبر الوثيقة، فتبدو مساراته وكأنها محاولة دائمة لانتزاع الاعتراف بوجوده.

وتنشغل بفكرة العبور بين الأمكنة والهويات، إذ يتحول الزمن إلى مادة قابلة للتأمل، بعيداً عن السيرة أو الشهادة المباشرة. تدخلنا الرواية عالم (غريب) بثقة، ولا ترفع صوتها، إنّما تهمس في وعي القارئ المحبّ، للدخول في حوارٍ إبداعي مع الرواية، بينما تتشكل الشخصية الرئيسة داخل فضاء خليجي متغير، محمّل بأسئلة الانتماء والذاكرة والحدود التي ترسمها التحولات الاجتماعية والسياسية. وتتميز بنبرة هادئة تتجنب الاستعراض، معتمدة على بناء داخلي متماسك، يسمح للشخصيات أن تنمو عبر التفاصيل الصغيرة بعيداً عن المنعطفات الصاخبة، واللغة فيها تتعدّى التوسّل بالحكي؛ لتخلق آليات تسهم في تركيب جديد للمعنى، وتتقدم بحذر، كما تسمح بظهور أشكال سردية محسوبة ومختلفة داخل الفضاء الطباعي، تزجّ بالقارئ في النصّ السيري المتخيّل، فاتحًة آفاقه أمام بناء التجربة الإنسانية من الداخل.

تسعى «سنوات المَغَر» إلى تقديم إجابة محتملة على سؤال الهويّة، ثم تترك الباب موارباً للتأمل في معنى العيش داخل تحولات كبرى. فدون ادعاء تمثيل جماعي، تنحاز الرواية إلى العمق الإنساني الغامض، وتسبر مسؤولية الفرد في تكوّن الهويّة، ومغبّات القرارات التي عليها سيتجلى المصير.

تستنطق الجمادات لتصبح شريكة في رواية الحكاية؛ فتروي شجرة وصخرة ومرآة وأطياف حلمية مقاطع من سيرة (غريب)، مانحة الرواية تعددية صوتية تعكس التوتر بين زمن الشظف وزمن الطفرة، وبين انكسارات الذات وتحولاتها داخل فضاءات الخليج الممتدة، وتنسج الكاتبة عبر هذا التمازج توازياً بين تحول المكان وتحولات الإنسان، في بناء سردي محكم يوثِّق الذاكرة ويستعيد طبقاتها المتراكمة.

تعد «سنوات المغر» العمل الروائي الأول لمريم الزرعوني الموجه للكبار، بعد أن قدمت رواية اليافعين «رسالة من هارفارد».

من أجواء الرواية نقرأ: «مّد يده وأطبقها على الغيمة وابتسم، شعر بدفء يسري من النافذة إلى جسده، أخذ يمرر سبابته على ملامحها ويرسمها حتى اكتملت، تحدّرت من عينيه دمعتان صارتا خيطين شفيفين يتصلان عند ذقنه مشكّلتين قطرة ضخمة تهوي بحرارتها على صدره، نادته المضيفة لتقديم وجبة الغداء، فلم يلتفت... كررت نداءها لكنّه لم يشعر، كان ملتصقاً بالنافذة مغموراً في حِجر سهيلة، يفتح فمه ثم يلوك النبق من يدها، غارقاً في حلاوته».