الثقافة في لبنان مورد رزق 200 ألف شخص وتدرّ ملياري دولار سنوياً

رؤية غير منظورة تخضع لدراسات وتمويلات

معرض بيروت الدولي للكتاب في دورة سابقة
معرض بيروت الدولي للكتاب في دورة سابقة
TT

الثقافة في لبنان مورد رزق 200 ألف شخص وتدرّ ملياري دولار سنوياً

معرض بيروت الدولي للكتاب في دورة سابقة
معرض بيروت الدولي للكتاب في دورة سابقة

منذ أكثر من عشر سنوات، ودول كثيرة تُعنى بالنهوض بما باتت تسمى «الصناعات الثقافية والإبداعية». يُعنى بذلك كل المهن ذات العلاقة بالخلق والابتكار، بما فيها التصميم والرقص والتصوير الفوتوغرافي والموسيقى. إضافة كلمة «صناعة» إلى المهن الإبداعية والأنشطة الفنية المختلفة، لفتت النظر في زمن الكلمة الأولى والأخيرة فيه للربح، إلى أن المثقفين والفنانين ليسوا عالة على مجتمعاتهم، بل هم من المساهمين الرئيسيين في تحقيق المداخيل الوطنية، وبمبالغ لا يستهان بها، لكنها بقيت مدة طويلة غير منظورة.

دراسات إحصائية

قبل عامين، صدرت دراسة تحت عنوان «المساهمة الاقتصادية للصناعات الثقافية والإبداعية في لبنان - التشخيص والإمكانات والتوصيات»، كانت السفارة الفرنسية في بيروت، بالشراكة مع الوكالة الفرنسية للتنمية قد كلفت بها «معهد باسل فليحان» من أجل تقييم وضع الصناعات الثقافية والإبداعية، ومعرفة وزنها الاقتصادي وأهميتها الاستراتيجية. وجاءت الدراسة بعد الانهيار الاقتصادي العارم الذي حلّ بالبلاد، وانفجار 4 أغسطس (آب) الذي أتى ليس فقط على مئات العمارات التراثية، وإنما عشرات المؤسسات الثقافية من غاليريات ومسارح ومكاتب ومراكز تصميم... وغيرها؛ لكنها في الوقت نفسه تمكنت من رصد الحركة الثقافية قبل أن تنزف الكثير من فنانيها.

لم تأت النتائج مفاجئة لمن كان يتابع دراسات سابقة، قامت بها مؤسسات جامعية ولم يتح لها الانتشار؛ فالغالبية تظنّ أن المهن التي تتسم بالابتكار هي في العموم محكومة بالحاجة إلى من يمولها.

الأرقام تقول العكس، وتؤشر إلى مدى أهمية الإبداع في المجتمع اللبناني، والدور الكبير الذي تحتله الفنون في حياة الناس، وفي تنمية الحركة السياحية، وإنعاش الاقتصاد والإسهام الذي لا مجال للشك فيه في إسعاد الناس، وتأمين مصادر دخل لآلاف الأسر.

أظهرت الأرقام أن ما يقارب 5 في المائة من الناتج المحلي اللبناني، يأتي من الصناعات الثقافية والإبداعية. وهذه النسبة تشكل مبلغاً وازناً يصل إلى ملياري دولار في السنة. وتوظف هذه القطاعات نحو 200 ألف شخص. فلو أحصينا من يعملون في مجال النشر من تأليف وطباعة وتصحيح وتجليد ونقل وتوزيع، لوجدنا أن عددهم وحدهم يصل إلى المئات، وإن أضفنا إليهم العاملين في مجالي السينما والتلفزيون، وكذلك في المسرح والتصوير والتصميم، والرسم والنحت والرقص، والمتاحف... وغيرها من المجالات، لوجدنا أن العدد يفوق مائتي ألف على الأرجح، خصوصاً أن الدراسات الحديثة ترى أن كل المجالات المستفيدة من الزخم الثقافي في بلد ما، من فنادق ومواصلات وسياحة، يمكن أن تحتسب ضمن المكاسب التي تعود بها الثقافة على المجتمعات الحديثة.

ما بعد الانهيار الاقتصادي

لكن كل هذه الأرقام اللبنانية المتفائلة تعرضت لنكسة منذ الانهيار الاقتصادي وما أتى بعده بسبب انفجار المرفأ. يقدّر البعض في ظل غياب إحصاءات دقيقة، أن أكثر من نصف العاملين في المجال الثقافي قد غادروا البلاد بالفعل، بسبب الضغط الاقتصادي المتزايد، وهو ما يمكن ملاحظته بسهولة عند تعداد أسماء الفنانين الذين لم يعودوا على الساحة، أو الكتّاب الذين التحقوا ببلدان اغتراب أبنائهم، أو السينمائيين الذين باتوا يفضلون العمل من الخارج. وبسبب غياب كل هؤلاء باتت هناك حلقة مفرغة بين جيلين، بحيث لا يستطيع الجيل الأكبر نقل خبراته للجيل الجديد، الذي يعمل كأنه أحياناً يبدأ من الصفر. ويزيد الوضع تعقيداً الغياب التام لأي مشروع رسمي أو خطة وطنية شاملة، متسعة الرؤية للتعويض عما جرى تدميره.

لهذه الأسباب مجتمعة، نلاحظ أنه منذ انفجار الرابع من أغسطس تحاول هيئات دولية ودول أجنبية بينها فرنسا وإيطاليا وسويسرا وحتى ألمانيا، الدفع باتجاه استعادة لبنان بعضاً من زخمه الإبداعي المثمر الذي فقده، ليس فقط من أجل تغذية روح الابتكار، وإنما بشكل رئيسي للمساعدة في نمو الاقتصاد. وكان كل من «المورد الثقافي» و«آفاق»، وجهات مانحة أخرى قد عملت منذ بدء الوباء على إعادة لملمة شمل ما تداعى. فعلى سبيل المثال، من أصل 43 مسرحاً كانت في بيروت، لم يبقَ سوى نحو 7 مسارح ناشطة. هذا عدا المهرجانات التي تعطلت بسبب شح التمويل، وهي الآن تحاول العودة إلى الحياة ببرامج نابضة، مثل مهرجانات بعلبك وبيت الدين.

قبل ثلاثة أشهر، أي في شهر فبراير (شباط) الماضي، جرى الإعلان عن مبلغ سخي، لكنه يبقى قليلاً، لتمويل الصناعات الثقافية. وفتح باب تقديم الطلبات الذي ينتهي آخر هذا الشهر. والمبلغ الذي سيجري توزيعه على أكثر من 60 مشروعاً لمؤسسات وأفراد، يصل إلى 2.2 مليون دولار، ستخصص للفاعلين الثقافيين في قلب بيروت عموماً، وفي المناطق التي طالها دمار انفجار المرفأ بشكل خاص. ويأتي هذا التمويل بمبادرة من المكتب الإقليمي لـ«اليونيسكو» في إطار مشروع «بيريت» المكون من شقَّين: إعادة تأهيل المساكن التراثية في بيروت، وإنعاش الصناعات الثقافية والإبداعية، يموله الصندوق الائتماني المخصص للبنان، ويديره البنك الدولي.

مساعدات غير كافية

مشروع «بيريت» بالمليوني دولار، قد يسهم في مساعدات يمكن القول إنها تحدّ من الخسائر؛ لكنها ليست كافية لإنقاذ الوضع برمته بشكل جذري؛ إذ يعرف الممولون أن هذه الصناعات، بتنوعاتها في لبنان، كانت دائماً من بين الأكثر نشاطاً وحيوية، ومساهمتها الغنية، قبل بدء الأزمة الحالية، شكلت عاملاً حاسماً في تكوين الثروات في البلاد. ولكنّ انفجار المرفأ أدى إلى اضطراب شديد في أنشطة القطاع الثقافي، وهي كانت في الأصل تعاني الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة التي شهدها لبنان في السنوات الثلاث الأخيرة. فالأحياء المتضررة من الانفجار هي الأكثر كثافة بالغاليريات والمسارح والمؤسسات الإبداعية على أنواعها، وهي قد تضررت بشكل بالغ، فمنها ما أغلق، وبعضها تعطّل لبعض الوقت، ومنهم من وجد الهجرة أفضل وسيلة.

المساعدات الخارجية حتى الآن هي التي ساعدت على صمود كثير من المؤسسات. متحف سرسق الذي أتى الانفجار على جزء مهم من مبناه ومحتوياته، قد يكون المثال الأبرز، فهو بفضل المساعدات وإسعاف لوحاته المتضررة في متاحف عالمية، سيعيد فتح أبوابه بعد أيام في حلة جديدة.

لكن هذا الدعم المجلوب لن يكفي، فمشروع «بيريت» مثلاً يدعم المشاريع الفردية بمبالغ صغيرة تتراوح بين ألفين وخمسمائة دولار إلى عشرة آلاف دولار، بينما قد تتراوح مساعدة المؤسسة الواحدة بين عشرة آلاف وخمسة وعشرين ألف دولار.

تشمل النتاجات الثقافية التي يدعمها هذا المشروع، ورش العمل القصيرة لتنمية مهارات الإبداع، كذلك إدارة المسارح، وهندسة الصوت والضوء، وتصميم الأزياء، ومهن التراث الثقافي غير المادي، التي تتداولها الأجيال.

حقائق

توظف القطاعات الثقافية في لبنان نحو 200 ألف شخص



رحيل أحمد أبو دهمان سفير الأدب السعودي في البلاط الفرانكفوني

الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
TT

رحيل أحمد أبو دهمان سفير الأدب السعودي في البلاط الفرانكفوني

الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
الروائي السعودي أحمد أبو دهمان

غيّب الموت، مساء الأحد، الكاتب والروائي السعودي المقيم في باريس، أحمد أبو دهمان، عن 76 عاماً، وهو أول كاتب سعودي يؤلف رواية باللغة الفرنسية هي رواية «الحزام» الصادرة عام 2000 عن دار «غاليمار»، التي حققت شهرةً واسعةً وطُبعت 7 طبعات، وتُرجمت إلى 8 لغات، وتمّ نقلها إلى العربية ونشرتها دار «الساقي».

الأمير بدر بن فرحان وزير الثقافة السعودي يهدي وزيرة الثقافة الفرنسية رواية «الحزام» (أرشيف)

اعترافاً بقيمة هذه الرواية، أهدى الأمير بدر بن فرحان وزير الثقافة السعودي في شهر يونيو (حزيران) 2023، ريما عبد المالك، وزيرة الثقافة الفرنسية، رواية «الحزام» للكاتب السعودي أحمد أبو دهمان.

ولد أحمد أبو دهمان في قرية آل خلف في محافظة سراة عبيدة في منطقة عسير، جنوب المملكة، وبعد أن أكمل دراسته الابتدائية في قريته، انتقل إلى أبها لإكمال المرحلة الثانوية، ثم التحق بمعهد تدريب المعلمين بالرياض، وعاد إلى قريته بعد تخرجه ليعمل معلماً مدة ثلاث سنوات. بعدها أكمل تعليمه الجامعي بجامعة الملك سعود بالرياض وتخرج من قسم اللغة العربية بدرجة ممتاز، ثم أصبح معيداً في الجامعة نفسها، وفي عام 1979 التحق بجامعة السوربون في فرنسا وحصل على درجة الماجستير.

غلاف رواية «الحزام»

كتب في الصحافة السعودية، وكان له عمود في صفحة الرأي بجريدة «الرياض» بعنوان «كلام الليل»، وشغل مدير مكتب مؤسسة «اليمامة» الصحافية في باريس، والرئيس التنفيذي لمؤسسة «الحزام للاستشارات الإعلامية»، ومقرها في الرياض.

وفي ندوة أقيمت له، تحدث عن روايته «الحزام»، فقال إنها لا تمثل سيرةً ذاتيةً، «ولكني كتبتها لأروي عن بلادي لابنتي ولزوجتي. فنحن ننتمي لبلد متعدد وفيه تنوع ثقافي».


سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية
TT

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

حين نشر الناقد البريطاني ويليام إمبسون William Empson كتابه المرجعي في النقد الأدبي سبعة أنماط من الغموض Seven Types of Ambiguity عام 1930، كان في الرابعة والعشرين من عمره؛ لكنّه مع ذلك وضع واحداً من أكثر الكتب تأثيراً في النقد الأدبي الحديث. لم يكن إمبسون يتعامل مع الغموض بوصفه عيباً في التعبير بل بعدّه قلب الشعر النابض. رأى أنّ اللغة حين تبلغ أقصى درجاتها الفنية لا توضّح بقدر ما تلمّح، ولا تفسّر بقدر ما تُثير، وأنّ الجمال يكمن في المسافة بين ما يُقال وما يمكن أن يُقال. من هنا جاءت فكرته الجريئة: يمكن تصنيفُ الغموض ذاته في سبعة أنماط، تتدرّج من البسيط إلى المركّب، ومن الغموض اللغوي إلى الغموض الوجودي. جعل إمبسون من الغموض (أو التعقيد بلغة الأدب التقنية) متعة جمالية في ذاته؛ فالقصيدة عنده ليست معادلة لغوية تقود إلى استجابة موحّدة لدى القرّاء بل كائن متعدد الطبقات، وكلُّ قراءة تكشف عن جانب من نسيج ذلك الكائن.

منذ أن قرأتُ كتاب إمبسون لم أُبْطِل التفكير بالكيفية التي نستلهم بها أفكاره وننقلها من الشعر إلى الرواية: اذا كان للغموض الشعري أنماطُهُ السبعة؛ فلماذا لا تكون للمتعة الروائية أيضاً أنماطُها؟ لماذا نظنُّ أنّ مُتعة القراءة حالةٌ واحدة موحّدة في وقتٍ تدلُّنا فيه خبرتُنا على أنّ هذه المتعة طيفٌ واسعٌ من تجارب التلقّي والانفعالات الشخصية؟

لا بأس من مثال تطبيقي حقيقي. أفكّرُ كثيراً في روايات عديدة من أمثال رواية قوس قزح الجاذبية Gravity’s Rainbow التي كتبها الروائي الأميركي توماس بينتشون Thomas Pynchon. هذه الرواية تدور وقائعها في أواخر الحرب العالمية الثانية، وتستكشف موضوعات معقدة مثل جنون العظمة والفساد والتقنية، وتركّز على تصميم صواريخ V-2 الألمانية وتأثيرها. الرواية مشبعة بالغموض؛ لكنّه غموض إبداعي من درجة رفيعة يبدأ من عنوان الرواية ذاتها حيث إنّ مسار الصاروخ يشبه قوس قزح. هذه الرواية غير مترجمة إلى العربية، وكثيراً ما تساءلت: لماذا الإحجامُ عن ترجمتها؟ هل يستشعر المترجمون أنّها تفتقرُ إلى المتعة المفترضة في القراءة الروائية؟ سيكون تعسّفاً خطيراً أن نفترض متعة جمعية في هذه الرواية كما يحصل مثلاً مع روايات دوستويفسكي؛ لكن مع هذا سيجد قليلون ربما متعة عظيمة فيها. سيقودنا الحدسُ إلى أنّ تلك القلّة المخصوصة هي لقرّاء لهم شيء من معرفة بالرياضيات والفيزياء وتواريخ الحروب وتداخلات السلطة وضغوطها. لا يمكن في النهاية التصريحُ بمتعة شاملة مطلقة للعمل الروائي. هذا مدخل يوضّحُ التمايز الحتمي بين أنماط المتعة الروائية بين القرّاء.

*****

منطلقةً من كتاب إمبسون أعلاه، سأحاولُ الإشارة إلى سبعة أنماط من المتعة الروائية، لا بوصفها تصنيفاً نهائياً بل بوصفها خريطة أولى في جغرافيا اللذة السردية.

أولى المتع السردية هي متعة الانغماس. إنّها المتعة الأولى التي يتذوقها القارئ منذ طفولته، حين يفتح كتاباً ويجد نفسه فجأة في مكان آخر.

إنها متعة الغياب الطوعي عن الواقع: أن نذوب في العالم الروائي حتى ننسى أننا نقرأ. في هذه اللحظات لا نكون خارج النص بل داخله، نعيش مع شخصياته ونتنفس هواءه. نقرأ موبي ديك فنشعر برائحة البحر، أو آنا كارينينا فنرتجف أمام قطارها القادم. الانغماس هو نوع من الحلم الواعي، تجربة بين الخيال والوجود، فيها يتحوّل القارئ من متلقٍ إلى مشارك. إنها متعة لا تبحث عن المعنى بقدر ما تبحث عن الإقامة المؤقتة في عالم آخر، موازٍ، بحثاً عن ذلك النسيان الجميل الذي يُعيد إلينا براءة الخيال.

المتعة الثانية هي متعة التركيب. في هذا النمط، القارئ لا يستسلم للنص بل يتحدّاه. إنه القارئ الذي يتعامل مع الرواية كما يتعامل عالم الآثار مع نقش قديم: يحلّلُهُ، يربط بين أجزائه، يبحث عن رموزه ومفاتيحه. هنا تتحوّل اللذة إلى فعل فكري، إلى شغف ببنية السرد لا بوقائعه فقط. روايات مثل اسم الوردة لأومبرتو إيكو، أو قوس قزح الجاذبية لتوماس بينتشون تُجسّد هذا النمط: أعمال تُبنى كإنشاءات فكرية رفيعة يشارك القارئ في رسم خريطتها. المتعة هنا لا تأتي من الحكاية بل من الذكاء البنائي، ومِنْ شعور القارئ أنه شريك في صناعة المعنى، لا مستهلك له فحسب.

النمط الثالث من المتعة الروائية هو متعة الاعتراف. ليست كل الروايات مرآة للعالم؛ فبعضها مرآة للذات. حين نقرأ عملاً مثل الغريب لألبير كامو أو البحث عن الزمن المفقود لبروست، فإننا لا نبحث عن حكاية بقدر ما نبحث عن أنفسنا. الرواية هنا مساحة اعتراف مؤجلة، نرى فيها ما لا نجرؤ على قوله في الحياة اليومية. القارئ في هذا النمط يجد لذّته في التعرّف إلى ذاته عبر الآخر. كل سطر يذكّره بجراحه الصغيرة، وكلُّ شخصية تعيد إليه ظلّه المفقود. إنها المتعة التي تولد من الحميمية، ومن الإحساس بأن النصّ يعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا.

النمط الرابع هو متعة اللغة. في هذا النمط تتراجع الحكاية إلى الخلف وتتقدّم اللغة إلى المقدمة. هنا لا تتجسّدُ المتعة في (ماذا يحدث؟) بل في (كيف يُقال؟). الكاتب لا يسرد فقط بل يعزف بالكلمات. يحوّل الجمل إلى موسيقى. المتعة هنا جمالية خالصة، متعة الإصغاء إلى اللغة وهي تُعيدُ اكتشاف نفسها، وحيث تصبح القراءة نوعاً من الإصغاء اللذيذ لصوت داخلي يحدّثك من غير وسيط.

النمط الخامس هو متعة القلق. ليست كل المتع الروائية مقترنة بطمأنينة راسخة. أحياناً يهبنا الأدب لذة مقلقة كمن ينظر في مرآة تكشف له عما لا يريد أن يراه. روايات مثل 1984 لجورج أورويل أو الطاعون لكامو تمنحنا هذا النمط: متعة القلق المفضي إلى المواجهة، لا الهروب. القلق هنا ليس سلبياً بل لحظة وعي. إنه الارتجاف الجميل أمام الحقيقة، والمتعة التي تنبع من الخطر المعرفي حينما يفتح النص باباً نحو المجهول الأخلاقي أو السياسي أو الوجودي. إنها المتعة التي تُشبه المأساة الإغريقية: الألم الذي يطهّر؛ لأنّ القارئ يخرج منها أكثر معرفة وإن كان أقل راحة.

النمط السادس هو متعة الدهشة. كل قارئ يحمل في داخله توقاً إلى الدهشة، إلى تلك اللحظة التي تتجاوز فيها الرواية كل توقّع. الدهشة ليست مجرد مفاجأة في الحبكة بل توافقٌ خفيٌّ بين ما لم نتوقّعه وما يبدو، رغم ذلك، منطقياً إلى حد الجمال. حين نقرأ رواية المسخ لكافكا ونجد إنساناً يستيقظ ليجد نفسه حشرة، أو ندلف أجواء رواية مائة عام من العزلة لماركيز فنرى الواقع يمتزج بالسحر، ندرك أننا أمام متعة من نوع نادر: متعة أن يُعاد ترتيب العالم في وعينا. الدهشة هي لحظة تولد فيها لغةٌ جديدةٌ للحياة، تجعل القارئ يشعر أنه يرى العالم الذي طال عهده به بعيون جديدة.

النمط السابع هو متعة الغياب. هذه هي المتعة الوحيدة التي لا تحدث في أثناء القراءة بل بعدها. تتحقق هذه المتعة حين نغلق الكتاب، ونكتشف أن شيئاً منه ما زال يعمل فينا بصمت. إنها المتعة التي تنبع من النقص، من الإحساس بأنّ الرواية لم تُغلق العالم بل فتحته على احتمالاته. روايات كثيرة تعيش فينا بهذه الطريقة، وعندما نغادرها في المحطّة الأخيرة، فكلها تترك فينا شيئاً ناقصاً، فراغاً صغيراً يواصل التمدّد فينا ويترك بصمة شاخصة في ذاكرتنا. الغياب هو ذروة المتعة الناضجة: حين نكتشف أنّ القراءة ليست لحظة بل أثر طويل الأمد، وأنّ النص العظيم لا يُقرأ مرة واحدة بل يسكن الذاكرة كوشم لا فكاك من مفاعيله المستقبلية.

*****

ما أودُّ التأكيد عليه أن ليست المتعة الروائية واحدة؛ بل هي مُتعٌ عديدة تتخالف شكلاً وآلية مع تبدّل القارئ والزمن والمزاج. في العادة المتواترة يجد القارئ الشاب لذّته في الانغماس، والمفكّر يجدها في التركيب، والمكلومُ في الاعتراف، والعاشق للجمال في اللغة، والمتوتّر في القلق، والمغامرُ في الدهشة، والحكيم في الغياب. إنها ليست طبقات متنافسة بل مستويات متداخلة. قد نبدأ بالانغماس وننتهي بالغياب، أو نمرّ من بوّابة الدهشة إلى القلق ثم نعود إلى الاعتراف. الرواية الحقيقية لا تُشبِعُنا من الخارج؛ بل تُوقظ فينا القارئ من الداخل. وحين ندرك ذلك نفهم أنّ إمبسون كان محقاً: الجمال يكمن في التعدّد، في الغموض، في أن تكون التجربة الأدبية قابلة لأن تُقرأ بسبعة أنماط على الأقل.

إذا كان الغموض في الشعر هو تعدّد المعنى؛ فإنّ المتعة في الرواية هي تعدّد سبل التلقي. كلاهما دعوة غير مقيّدة للحرية؛ حرية الكاتب في أن يكتب، وحرية القارئ في أن يجد لذّته الخاصة، لا تلك التي أعدّها له المؤلف.

أعظمُ خواص الرواية الحقيقية هي أنها تمنحنا هذا الحق الجميل: أنْ يحبّها كلٌّ منّا بطريقته ووسائله ومقاربته الفكرية الخاصة.


الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»
TT

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

يتناول كتاب «إدراك العالم... الصور النمطية المتبادلة بين الأنا والآخر» للدكتور زهير توفيق، التصورات المتبادلة بين العرب المسلمين والآخرين في العصور الحديثة والوسطى، لا سيما الشرق الفارسي والغرب الكنسي. وقد صدر الكتاب عن «الآن ناشرون وموزعون» بالأردن في 420 صفحة.

يقول المؤلف في المقدمة معرِّفاً بالكتاب: «يُمثِّل هذا الكتاب دراسة استقصائية تاريخية وتحليلية لجدل الأنا والآخر، من خلال رصد التصورات المُتبادَلة بين العرب المسلمين والآخرين في العصور الوسطى والحديثة، كون العرب المسلمين مثَّلوا ذاتاً لتعيين الآخر، وتخيُّله على المستوى الديني والإثني والسياسي؛ خاصةً الفرس والأسود واليهودي والمسيحي، بفرعيه اللاتيني والبيزنطي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كونهم موضوعاً للآخرين؛ أي صورتهم في المخيال الفارسي الشرقي (الشعوبية) والغربي الأوروبي؛ الرومي البيزنطي واللاتيني في القرون الوسطى، وتحولات تلك الصورة في أوروبا العصور الحديثة».

ويرى المؤلف في المقدمة أن نظرة كلا الطرفين للآخر هي ثابتة، فلم «يخرج لا الشرق العربي الإسلامي، ولا الآخر في الشرق والغرب قديماً وحديثاً، عن مُسلَّماته وطرائق تفكيره في فَهْمِ الآخر، فقد بقيت ثوابتُه الحضارية والدينية والإثنية سُلطةً مرجعيةً في فهم الذات والآخر، وتمييز الأنا عن الآخرين من فُرسٍ ويهود وبيزنطيين ولاتين، ومهما تغيَّرت الصورة وتحوَّلت لأسباب داخلية وخارجية، فإن الثابت البنيوي فيها هو الآخرية وعُمق الغيرية؛ أي تصعيد الخلاف والاختلاف، فالذات هي المركز الذي تدور حوله الأطراف، والأفضل والمعيار الأمثل، والآخر أو الآخرون مجرد أطراف، هوامش وبرابرة وكفاراً ومنحرفين، ولا يستحقون أكثر مما تمنحه لهم الذات المتعالية».

ويأتي المدخل التمهيدي للكتاب مستشهداً بالعلاقة بين الأنا والآخر (الشرق والغرب)، على اعتبار أن الشرق حين يُذكر يتبادر إلى الذهن الشرق المسلم على وجه الخصوص، والغرب يُراد به الغرب الأوروبي بالأساس قديماً وحديثاً.

يقول: «تفترض قراءتنا للموضوع استمرار الصور النمطية للعرب والمسلمين، وهي الصور التي تشكَّلت في العصور الوسطى، ودخلت معجم الغرب بشكل نهائي كما هو في الاستشراق السياسي والأنثروبولوجي الحديث (الواعي لذاته) الذي نشأ في نهاية القرن الثامن عشر مع حملة نابليون بونابرت على المشرق العربي سنة 1798م».

وعن وضوح رغائب الغرب من الشرق (المسلم)، يقول: «لم ولن يتلطّف الغرب مع الشرق إلا إذا تواطَأ معه على ذاته، وتماهى في خطاب الغرب ومسيرته ورطانته من خلال نُخبةٍ فكرية وسياسية وكيلة، نجح الغرب في خَلْقِها ورفعها إلى سدَّة السُّلطة، واستمدت مشروعيتها ومرجعية وجودها مِن دعمه المطلق على جميع المستويات، ومقابِل ذاك الدعم سوَّقت خطابه في ثقافتها العالمة والشعبية على حدٍّ سواء، وهذا دليل نجاح الغرب في اختراق الشرق الذي وصل إلى طاعة الوكلاء، وامتثالية التابعين».

ويفصِّل المؤلف القول حول أعلام الغرب البارزين الذين تبنوا أفكاراً تنويرية، ومنهم جيبون: «يبدو جيبون منسجماً مع التنوير، ويقدم رؤية مستقلة نقدية خاصة لأحكام الغرب المتحاملة والسلبية عن الإسلام حتى ذلك الوقت، ففي عرضه لأخلاق العرب ودياناتهم قبل الإسلام يقول: (غير أنه في الدولة العربية، وهي أكثر بساطة [من الرومان واليونان] فإن الأمة حرة لأن كل فرد من أبنائها يستنكف أن يُطأطئ الرأس في خضوع وذلة لإرادة سيد ما، ولقد حصَّن العربي نفسه بفضائل صارمة من الشجاعة والصبر والاعتدال، ودفعه حبه للاستقلال إلى ممارسة عادة ضبط النفس، وحفظته خشية العار من أن يذل بالخوف من الألم والخطر والموت، وإن رجاحة عقل العربي وضبط نفسه واضحان في مظهره الخارجي)».