ليلى العضم وإلياس أبو شبكة: رغبتها في الخلود قابلها بحثه المازوشي عن مصدر للإلهام

حب من خارج الزواج استمر لسنوات سبع وأثمر «نداء القلب» و«إلى الأبد»

إلياس أبو شبكة
إلياس أبو شبكة
TT

ليلى العضم وإلياس أبو شبكة: رغبتها في الخلود قابلها بحثه المازوشي عن مصدر للإلهام

إلياس أبو شبكة
إلياس أبو شبكة

لم يكن الشاعر اللبناني إلياس أبو شبكة مجرد تفصيل عابر على خريطة الشعر العربي المعاصر، فالشاعر الذي رفض الانقلاب على نظام الشطرين، رفض بالمقابل أن يكون نسخة مكررة عمن سبقه من الشعراء، فحقن الشكل الشعري التقليدي بأمصال جديدة، متخذاً حقلاً معجمياً بالغ التميز، ومستلاً لغته من خلجات الروح وكهرباء العصب. ولعل مقدمة الشاعر لديوانه الأبرز «أفاعي الفردوس»، التي يرد فيها على بول فاليري ومذهب الرمزيين في إعلاء شأن الصنيع والتوشية الجمالية، لم تُظهر انحيازه الواضح للمذهب الرومانسي فحسب، بل بدت المعادل النظري لشعره الخارج من أتون الآلام وتمزقات العصب المحتدم، الذي يختزله قوله:

إجرحِ القلبَ واسقِ شعرك منه فدَمُ القلب خمرة الأقلامِ

وإذا أنت لم تعذَّب وتغمسْ قلماً في قرارة الآلامِ

فقوافيكَ زخرفٌ وبريقٌ كعظامٍ في مدفنٍ من رخامِ

والأرجح أن التناقض المأزقي في حياة أبو شبكة المولود في نيويورك عام 1903. قبل عودته مع العائلة إلى ذوق مكايل، ليس متأتياً من تكوينه الشخصي فحسب، بل غذته عوامل أخرى، أبرزها مقتل أبيه المأساوي على يد بعض اللصوص. وكان لانحدار العائلة من حالة اليسر السابقة إلى فقرها المستجد، أثره النفسي السلبي على الشاب العصبي والمعتد بنفسه، الذي لم توفر له موهبته سبل العيش الكريم، وسط محيط اجتماعي لا يقيم وزناً إلا لأصحاب النفوذ والممسكين بمقاليد السلطة والمال.

ليس بالأمر الغريب تبعاً لذلك، أن يجد أبو شبكة في المرأة الترياق الذي يلأم صدوع نفسه، والحضن الذي يوفر له ما يحتاجه من الحنان والدفء. وكانت أولغا ساروفيم، ذات الجمال الهادئ وجارته في ذوق مكايل، هي الفتاة الأولى التي خفق لها قلب الفتى المراهق. ومع أنها كانت تكبره بسنوات عدة، إلا أن أبو شبكة ما لبث أن أعلن خطوبته على أولغا، بعد أن بدأت الألسن تطال علاقتهما بالسوء، مطلقاً عليها اسم غلواء، وناشراً قصائده عنها في صحف لبنانية عدة.

والأرجح أن تأخره في الزواج من أولغا حتى عام 1932 لا يعود لأسباب مادية ومعيشية كما كان يزعم، بل لخوفه من الانخراط في المؤسسة الزوجية، التي كان يخشى في ظل زمنها الرتيب وقيودها المرهقة، أن يفقد مناجم مخيلته ومصادر إلهامه. وينقل عنه صديقه الشاعر رياض المعلوف قوله إنه أصر على أن لا يتشاطر مع غلواء المنزل ذاته، كي لا تضمر في داخله حالة الشغف وجذوة الكتابة. لكن من يتابع قصيدة الشاعر الطويلة «غلواء»، سيلاحظ أن أكثر المقاطع توهجاً واحتداماً هي التي تتمحور حول الشعر والألم والنوازع الإنسانية المحتدمة، في حين أن جانبها الأوفر لا يبارح ما ألفناه من وجوه التجديد الشكلي الذي عرفناه مع الموشحات ونماذج عصر النهضة.

أما لُقى الشاعر الأكثر فرادة فسنجدها في «أفاعي الفردوس»، حيث علاقة أبو شبكة المحمومة مع روز ساروفيم، المرأة المتزوجة التي أطلق عليها اسم «وردة»، انعكست على شكل صراع روحي عاصف بين الدنس والطهر، بينما خرجت قصائد أخرى من رحم علاقته بالمغنية السمراء «هادية»، التي لم يتوان عن تعليق صورتها في صدر منزله الزوجي، قبل أن يضبطها في فراش أقرب أصدقائه إليه. وإذا كان الديوان المذكور أحد الإرهاصات المبكرة بالحداثة الشعرية، حيث تأثر بمناخاته شعراء لاحقون بينهم خليل حاوي، فقد بدا واضحاً تأثر الشاعر بعوالم بودلير الجحيمية، لا سيما في «أزهار الشر»، حيث يتخذ من خيانة دليلة لشمشون قناعاً لعشيقته الخائنة:

ملّقيه بحسنك المأجور وادفعيه للانتقام الكبيرِ

إنما الحسن يا دليلة أفعى كم سمعنا فحيحها في السريرِ

والبصير البصير يُخدع بالحسن وينقاد كالضرير الضريرِ

لستِ زوجي بل أنتِ أنثى عُقابٍ شرسٍ في فؤادي المسعورِ

وإذ ظل أبو شبكة يبحث طويلاً عن المرأة الحلم، التي تعيد إلى شعره وحياته النيران التي أخمدها الزواج، فقد وجد في ليلى العضم ضالته ومثاله الأنثوي الأسمى. ولم يكن الشاعر ليأبه بكونها متزوجة وأماً لولدين، لأن همّه كان منصباً على تغذية أناه المتفاقمة بما تحتاجه من عناصر الشغف والحب المشبوب، فيما كانت هي من جهتها ترى فيه السبيل الأنجع لنقل جمالها الفاني إلى خانة الخلود. وفي كتابه المميز «لكي تحب أتيت الأرض» ينقل هنري زغيب عن جورج غريّب، الكاتب ومدير مدرسة عينطورة، قصة الرسالة التي دستها في جيبه ليلى العضم، المرأة الجميلة التي كان لها ولدان في مدرسته، بغية إيصالها إلى صديقه الأثير. ويتحدث غريّب عن المنظار الذي كان يثبته الشاعر في مكتبه الوظيفي ليقرّب إلى عينيه صورة حبيبته، وعن الدموع التي انهمرت على خديه لدى حديثه معها على الهاتف، وعن الحادثة الغريبة التي وقعت له في الخنشارة حين أخطأ العنوان الذي زودته به لكي تلتقيه بين جدرانه، والجروح التي أصيب بها بعد أن ظنه أصحاب المنزل أحد اللصوص المحترفين.

وكثيراً ما كان أبو شبكة يجلس بين مدافن الذوق المقابلة لمنزل حبيبته، مساهراً الضوء المنبعث من غرفة نومها، فلا يبارح المكان إلى أن ينطفئ الضوء فجراً، وحين علمت ليلى بالأمر صارت تطفئ الضوء في وقت مبكر، إشفاقاً على شاعرها من السهر والبرد. كما روت أم أبو شبكة أن ابنها أحب ليلى إلى درجة الهوس، وحين تخلفت مرة عن موعده أكد أنه أبصرها تمر على صورة طيف أو غيمة بيضاء، ثم تستسلم الأم لدموعها وهي تعاين «ما فعله العشق بوحيدها المجنون».

ولم يكن جمال ليلى الباهر هو وحده ما شد الشاعر العاشق إلى ليلاه، بل عقلها المتفتح واطّلاعها الواسع على ثقافة العصر، وحساسيتها العالية إزاء الشعر والفن. كما ظهرت موهبتها في الكتابة من خلال الرسائل التي بعثت بها إلى الشاعر، والتي لا تقارن أبداً بكتابات غلواء الركيكة، قبل أن تطلب منه إتلافها لدى إصابته بسرطان الدم، لدى تهديد زوجها لها بأبشع العواقب. وفي رسالتين نجتا صدفة من التلف، يكتب لها الشاعر: «أيها الجمال البهي النقي الذي يمدني بأمل الحياة. أنا الشاعر الجهنمي الرؤى، وأنت من جعل مني شاعراً حنوناً وصافياً»، فتكتب له بدورها: «الهنيهة التي أنفصل فيها عنك، أحتفظ بها لأزداد تعلقاً بك. ولحظة أراك تغادرني، يكويني الألم فأجمّد شكلك وأحملك معي إلى عزلتي. أنت في ذاتي وحولي، وواحد أحد في هذا العالم». أما حديث البعض عن الطبيعة الطهرانية واللاجسدية لعلاقة الطرفين، فلا تدحضه سيرة أبو شبكة مع النساء الأخريات فحسب، بل إشاراته المتكررة إلى ما كان يحدث بينهما من عناقات حارة وتواصل جسدي، تجنب الشاعر الإفصاح عن تفاصيله.

ورغم أن المقارنة بين أولغا وليلى، تقع على المستويين الجمالي والمعرفي في مصلحة الأخيرة، فإن في احتفاظ أبو شبكة بالاثنتين معاً، ما يؤكد زهوه النرجسي بتنافس المرأتين على قلبه، ولو من موقعين متغايرين، فيقول مخاطباً ليلى:

وحقّ هوى غلوا أحسّكِ في دمي وأُقسم ما في غَلْوَ حبٌّ مدمِّرُ

جرت في دمي وحياً وتجرين في دمي ولكنّ لونَ الحبّ قد يتغيّرُ

ومع أن أولغا، بحكم الطابع الشرعي للعلاقة، هي التي رافقت لحظات احتضاره الأخيرة في المستشفى عام 1947. كما دفنت إلى جانبه عند رحيلها، لكن ليلى العضم هي التي نفذت إلى صميم قلبه وعقله. وهي التي غذت قصائده بلهب الإبداع، فخاطبها في «نداء القلب» قائلاً:

جمالكِ هذا أم جمالي؟ فإنني أرى فيكِ إنساناً جميل الهوى مثلي

وهذا الذي أحيا به، أنتِ أم أنا؟ وهذا الذي أهواه، شكلكِ أم شكلي؟

أُحسُّ خيالي في خيالكِ جارياً وروحكِ في روحي وعقلكِ في عقلي

كأنكِ شطرٌ من كياني أضعتُهُ ولما تلاقينا اهتديتُ إلى أصلي

أما ليلى المسكونة به والوفية لذكراه، فقد كتبت في مذكراتها عنه «إن روحينا اللتين تفصلهما اليوم مطارح لا منظورة وجسور مستحيلة، تتلامسان وتتواصلان في رغبة واحدة. إن العاصفة التي فجّرها غيابك نزعت الغيوم التي كانت تحجب عني رؤية أعماقي. بعدها صرت أرى بوضوح كل ما في عمق ذاتي لأنني تعذبت كثيراً، وتأكد أنني منذ غيابك صرت أستطيع الاحتفاظ بك لي وحدي».



الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

المؤرخة أود دو كيروس
المؤرخة أود دو كيروس
TT

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

المؤرخة أود دو كيروس
المؤرخة أود دو كيروس

لعل من أهم سمات الكتابات النقدية المواكبة لتحولات الفن المعاصر عبر العالم، تلك التي تقرنه دوماً بمسعى الانزياح الجذري بدلالات كلمة «فن»، على نحو يجعله معاكساً في كثير من الأحيان لتقاليد التشكيل البصري الخاضع للقواعد، في الرسم والصباغة والنحت، ومناهضاً لثقافة التحفة المرتكزة على مفاهيم فلسفية، متصلة بأذواق نخب محدودة ذات تكوين فني متين. لتنتقل إلى كونها شاملة لـ«أغراض» تجارية متباينة، موجهة لطبقة جديدة من الأثرياء، منفصلة عن المعايير الجمالية والأكاديمية المستقرة، وخاضعة لنوازع استهلاك المنتج الفاخر، وما يتصل به من رغائب إبراز الرفاه. وهو الفهم الذي يبرز للنظر انتقال الفن من وضع «التعبير الثقافي» إلى كونه تمثيلاً «لانتماء طبقي».

في هذا السياق، يتموضع كتاب «الفن المعاصر، التلاعب والجغرافيا السياسية» (منشورات إيرول، باريس، 2025) - Art contemporain, manipulation et géopolitique- وهو الإصدار الأخير للناقدة ومؤرخة الفن الفرنسية أود دو كيروس Aude de Kirros، التي اكتسبت شهرتها عبر العقود الثلاثة الأخيرة بوصفها من أكبر الباحثات المرتابات في واقع الفن اليوم، ومن أشد المعترضين على اختراقات الفن المعاصر لقواعد التشكيل البصري، ومن أكثر النقاد تشدداً في تحليل معايير تصنيف الأعمال ومنحها معادلات مالية. هي القادمة إلى عوالم الأروقة والمتاحف ومزادات الأعمال الفنية من مسار تعليمي توزع بين معهد الدراسات السياسية، وكلية الحقوق، ومحترفات الحفر (الغرافيك) في باريس، لتنتج أعمالاً بنكهة فلسفية لا تخفي تولعها بالسياسة والاقتصاد والسوسيولوجيا، من قبيل: «الفن الخفي، المنشقّون عن الفن المعاصر»، و«السنوات السوداء للرسم: 1983 – 2013»، و«قداسة الفن المعاصر، الأساقفة والمفتشون والمفوّضون»، و«خديعة الفن المعاصر، طوباوية مالية». إصدارات جعلت إسهاماتها المكثّفة في الحياة الفنية تتجلى عبر إدراك ناضج لعمق التحوّلات التي شهدها الفن عبر أصقاع الكون.

يتناول الكتاب موضوع الفن المعاصر في صلاته بما يمكن وسمه بـ«صناعة القيمة»، عبر تحليل نقدي لسوق الفن المعاصر، يضع تحت مجهر الاختبار السياقات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية، متجاوزاً التحليل المستند إلى قراءة وتأويل مرتكزات الخطاب الجمالي البحت؛ إذ تناقش أود دو كيروس تلك المرتكزات بوصفها عتبات لما بعدها، انطلاقاً من افتراض نقدي يرى أن الفن المعاصر، خاصة الأعمال التي تباع بأسعار خيالية، لا تعكس في وضعها ذاك «ذوقاً» أو «تعبيراً فنياً» فقط، عبر صور لا تخلو من تطرف، بل إنها غدت، على نحو ظاهر، تتخطى منطلقات الأسلوب «المفاهيمي»، الزاهد في أشكال اللوحة والمنحوتة المأثورتين، لتتحول إلى أداة نافذة شديدة التأثير في أيدي النخب والمؤسسات المالية والجهات الحكومية، توظفها بحرص ووفق شروط معقدة لخدمة مصالحها الخاصة. وبتعبير الباحثة في إحدى فقرات الكتاب: «لقد توقّف الفن المعاصر عن أن يكون مجرد مفهوم صرف، محصور تداوله في دائرة صغيرة من (السعداء المعدودين) الذين يتغذّون على غموضه. وأصبح فنّاً (جامعاً لكل شيء)، يضمّ كل المفاهيم: الفن، والموضة، والتصميم، وما سوى ذلك» (ص 16).

يمتد الكتاب على 4 فصول، ومقدمة، وخلاصات، وفهارس، في أزيد من 350 صفحة، تتخذ العناوين الفرعية التالية: «فنون في زمن الحرب» وهو الفصل الأول المشتمل على مبحثين، تدرس في الأول «البدايات الطوباوية للفن العالمي ما بين 1917 - 1991»، وتعالج في الثاني «التحوّل ذو الطابع الهيمني للفن ما بين 1990 - 2000 »، وتخصص الفصل الثاني: لـ«الحقبة العالمية في عقدي 2000- 2020» وتتناول فيه عبر مبحثين قضايا: «أوج النموذج الهيمني»، ثم «بزوغ العصر متعدد الأقطاب»، وتتناول في فصل ثالث: «خرائطية الفن المعاصر: من الهيمنة إلى التنافس»، وفي الفصل الرابع والأخير الموسوم بـ«قوى جديدة وتقنيات جديدة: ثورة الفن عالمياً»، تخوض في تحولات العقود الفنية الأخيرة عبر مبحثين، أولهما عن: «آخر حروب الفن، سنوات 2010–2020»، والثاني عن «التحولات النسقية للفن المعاصر ما بين 2020–2024».

والحق أن التحليل النقدي في هذا الكتاب، الذي لا يخلو من نبرة سجالية ملحوظة، يذهب في مجمله إلى تبني نظرة تاريخية محكومة ببنية الصراع السياسي - الاقتصادي، حيث يوَظَّف الفن المعاصر، من جهة، من حيث هو نتاج لقضايا العنصرية والعولمة وتغير المناخ والتحول الجنسي... ومن جهة ثانية، بوصفه حصيلة للتحكم المؤسساتي، وهو ما يبرر الانتشار السريع لتيارات الفن المعاصر المتفاقمة عبر العالم، وسعيها لإخضاع ما سواها. ولا غرابة بعد ذلك أن لا تالو الباحثة جهداً في إبراز أن عالماً يفيض بالصور والعروض والاحتفالات الفنية، التي روّجت لها إقامات فنية وأروقة ومتاحف شهيرة عبر العالم من نيويورك إلى سيدني، ومن لندن إلى باريس ومن داكار إلى دبي،... أصبح معها الفن المعاصر المدعوم مؤسساتياً والمسنود مالياً، عبر سياسات حكومية شتى، الأكثر حضوراً، على نحو يغمر المشهد بشكل شبه كلي، حيث بات يشكل واجهة براقة تحجب خلفها ما تبقى من تجارب فنية أخرى.

وغير عصي عن البيان أن هذا الوهج المتصل لا يكشف حقيقة الفن، بل يخلق واجهة مكتفية بذاتها، بحيث يبدو كل ما يقع خارج دائرة الضوء كأنه غير موجود أصلاً. وشيئاً فشيئاً تنزلق أعمال استثنائية كثيرة من داخل هذا المشهد المزدحم إلى منطقة العتمة، لا لأنها تعجز عن التأثير، بل لكونها تفتقد لمجال يسمح لها بالتجلي. ومع مرور الوقت، لا تتوارى هذا التجارب إلى الخلفية فحسب، بل تُدفَع إلى حالة من الانمحاء تجعل وجودها نفسه موضوعاً للشك، ويحتاج من يشتغل عليها إلى إثبات أنها ما تزال حية.

ولا ينفصل الدور التحكمي للمؤسسات الفنية الكبرى من إقامات وأروقة ومتاحف، التي تسلط أود دو كيروس عليها الضوء، عن وظائف المُموِّلين الخواص، وبعض الحكومات في تشكيل الذوق العام، والتلاعب بقيمة الأعمال الفنية، ما يُرسخ هيمنة المركز الغربي على المشهد الفني العالمي من جهة، ولا يترك لمفاهيم من قبيل «الجمهور الفني» و«جامعي الأعمال الفنية» و«تلقي المعارض»، دلالات واضحة، خارج ما تكسبها إياه تلك المؤسسات والسياسيات المتصلة بها، بحيث يتجلى الأمر كما تبرزه الباحثة في أكثر من موضع في الكتاب، من حيث هو «صناعة» لاعبين كبار، لهم قدم في الواجهة البراقة لأعمال «التركيب الفني» و«الهوت كوتير» و«تصاميم المجوهرات» و«أعمال الديكور»... وقدم في الخلفية المعتمة للمال ورهاناته ومضارباته ومآزقه.

ولا جرم بعد ذلك أن تكون «صناعة القيمة» تعريفاً مهذباً لما يمكن أن يكون عليه «التلاعب بسوق التحف»، وسرعان ما تكشف الباحثة الفرنسة، التي تعلن عن نفسها كأحد أصوات مقاومة هذا الدور التحكمي، عن آليات التلاعب التي تُمارس في هذا القطاع، من خلال وسطاء يجعلون القيمة تبدو غير طبيعية، بل «مُؤمَّنة» من خلال شبكة مغلقة، يتم فيها تحديد الأسعار وتضخيمها، عبر تكتلات من جامعي التحف والمستشارين وصالات المزادات الكبرى، ما يخلق نوعاً من التداول من الداخل (délit d’initiés)؛ إنها شبكة الوسطاء نفسها التي تنتهي إلى قولبة «العمل الفني» وأصحابه، باعتبارهم «منتجات» يتم الترويج لهم، وفقاً لمنطق السوق، بدلاً من الجدارة الفنية. ما دامت أعمال الفن المعاصر لم تعد تقيَّم، بناء على معايير جمالية أو فنية، بل أصبحت تدار باعتبارها منتجاً مالياً مشتقاً، داخل سوق يمكن وسمها حسب الباحثة بـ«يوتوبيا مالية» (Utopie financière) تُنتج قيمة لأشياء قد لا تمتلكها في الأصل.

يتبنى الكتاب في مجمله نظرة تاريخية محكومة ببنية الصراع السياسي ــ الاقتصادي

وتدريجياً تخلص أود دو كيروس، عبر مباحث الكتاب وفصوله، إلى محصلة، تتولى فيها تلك المؤسسات المتحكمة في القيم الفنية وما يوازيها من أنصبة مالية، تشريع سوق لا يعكس حقيقة المنجز، بل حقيقة افتراضية متواضع عليها من قبل سلسلة الوسطاء، الأمر الذي سيسهل معه أن تتحول الأعمال الفنية التي باتت لها تلك القدرة التجريدية الكبرى للقيم المنقولة، إلى جعل سوق الفن ملاذاً مالياً، يعتبر مرتادوه من رجال أعمال، ومنتهزي فرص، ومغامرين، الأعمال الفنية بمنزلة أصول آمنة مربحة، خاصة بعد الأزمات الاقتصادية الكبرى، مثل أزمة 2008، التي لاحظت الكاتبة بصددها أن سوق الفن (على عكس الأسواق الأخرى) استمر في تسجيل مبيعات قياسية، ما دلّ على انفصاله عن الاقتصاد الحقيقي وتحوله إلى مكان آمن لاستثمار الأرصدة الجامدة، بالقدر نفسه الذي مثّل فيه فضاءً تبادلياً استثنائياً لغسيل الأموال، والتهرب الضريبي. وبتعبير الباحثة، فـ«جيل جامعي التحف الفنية الذي كان يحدّد الذوق في نهاية القرن العشرين لم يعد موجوداً. كان هذا الجيل أنغلوساكسونياً وأوروبياً، غنياً ومثقفاً أو راغباً في أن يكون كذلك. أما الموجة الجديدة فهي تتجاوزه في الثراء، ولم تعد لكلمة (فن) في عرفها المعنى نفسه... لهذا من الطبيعي أن تتكيّف دور المزادات لتقدم لهذا الجيل الجديد مزيجاً بارعاً، وغير متجانس، مما قد يرغب في استهلاكه؛ من العمل الفني إلى حقيبة اليد، ومن غرض التصميم إلى الموضة» (ص 15- 16).

ولعل تحول دلالة «الفن»، واختلال توازن القيمة الإبداعية والمالية، وخضوع أثمان التحف لتحكم مؤسسات كبرى، مع اتساع سوق الفن ليشمل صناعات فاخرة شتى تغري بالاستثمار، كلها عوامل أسهمت بحسب كتاب «الفن المعاصر: التلاعب والجغرافيا السياسية» في الرهان على القوة الناعمة للفن، ليس داخل الاقتصاد فقط، بل ضمن سياقات جيوسياسية متعددة، حيث أضحى سوق الفن ساحة معركة غير مباشرة بين القوى التقليدية (أوروبا والولايات المتحدة) والقوى الصاعدة (الصين ودول الخليج)، هذه الأخيرة التي دخلت مضمار المنافسة بخطط مستقبلية لتَبْيِئَةِ منتجات الفن المعاصر ضمن محيطها، ليس بهدف اكتساب شرعية ثقافية مضافة فقط، بل بقصد تحدي الهيمنة الغربية القديمة. إنه التنافس ذاته الذي ضاعف من أسعار الأعمال الفنية، وحوّلها إلى «سلاح» في أيدي النخب المالية والسياسة المتصارعة. وبتعبير موجز، فقد مثّلت الجغرافيا السياسية للفن، بحسب أود دي كيروس، السبيل إلى الكشف عن «تحوّل العمل الفني من كونه قيمة جمالية إلى رمز للقوة»، ونقطة ارتكاز في شبكات النفوذ العالمية التي تربط بين الإبداع والمال، والسلطة، والعلاقات الدولية في عالمنا المعاصر.


«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد
TT

«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد

رغم أن الطبعة الجديدة التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة من كتاب «جحا الضاحك المضحك»، توحي بعمل مخصص لأشهر شخصية ساخرة في التراث العربي، فإن عباس محمود العقاد (1889 – 1964) اختار كمفكر من طراز خاص أن يكرس المساحة الكبرى من كتابه لمناقشة «فلسفة الضحك» عبر حقب زمنية مختلفة.

البداية كانت من عند أفلاطون؛ إذ ذكر المضحكين والمضحكات وهو يبحث عن مكانهم في «مدينته الفاضلة» أو جمهوريته المثالية التي أراد أن يقصرها على الأفاضل والمأمونين، وأن يجنبها عوارض النقص والرذيلة، فبدا له أن الشعر موكل بالجانب الضعيف من الإنسان، بغير تفرقة بين شعر المأساة وشعر الملهاة.

ويرى الفيلسوف اليوناني الأشهر أن الإنسان الكريم يأبى أن يستسلم للبكاء إذا أصيب في عزيز عليه بشكل شخصي، لكنه لا يبالي أن يبكي أو يحزن إذا رأى هذا المنظر معروضاً عليه في مسرحية مفجعة؛ لأن البكاء يخدعه في هذه الحالة ويوقع في روعه أنه يبكي لغير مصابه فيتغلب على نفسه في سبيل غيره. والإنسان الكريم يأبى أن يتفوه بالعبارات الكوميدية أو التراجيديات المضحكة، ولكنه يستسلم للضحك إذا سمعها محكية في رواية هزلية يمثلها المسرحيون أمامه.

وليس بالشيء الجيد، وفقاً له، أن يكون في «الجمهورية الفاضلة» إنسان يغلب على وقاره الضحك أو البكاء على نحو يحطّ من منزلة البشر في صورتهم المثالية. إن نزلاء جمهوريته «يجب أن يتساموا على مشاهد الهزل التي لا تليق إلا بالعبيد والأجراء». ومن هنا أثنى على المصريين؛ لأنهم يعلمون الأبناء الموسيقى والرقص قياماً بالشعائر والطقوس في المعابد، ولكنهم لا يسمحون للشعراء بخلط الألحان بالأغاني المبتذلة، أو تركيب القصائد الموزونة على رقص الخلاعة والمجون.

وكانت خلاصة رأيه في كتاب «الجمهورية» وكتاب «القوانين» أن الشعراء يحسنون صناعة القصائد ويستحقون من أجل ذلك أكاليل الغار «ولكن ليلبسوها ويخرجون من المدينة الفاضلة إلى حيث يشاءون».

ولم يذكر أفلاطون سبب الضحك إلا في كلمات قليلة خلال هذه المباحث الأخلاقية، وهو يرى في تلك الكلمات أن الضحك مرتبط بالجهل الذي لا يبلغ مبلغ الإيذاء، وأن الشعراء يضحكوننا حتى يحاكوا أولئك الجهلاء، ولكنهم «إذا طرقوا موضوع الملحمة أو المأساة عظموا الطغيان وجعلوا رواياتهم حكاية لأعمالهم، فلا أمان لهم في محاكاة الجهل ولا في محاكاة الطغيان».

وكان أرسطو أدق من أستاذه في تعبيراته وتصنيفاته لأقسام الشعر؛ لأنه وضع فيها مبحثاً خاصاً بـ«المسرحيات المضحكة» التي تتبع تطورها منذ أن كانت نوعاً من الهجاء والأغاني الشهوانية إلى أن أصبحت موضوعاً للإضحاك والتسلية. وهو يرى أن الضحك نوع من أنواع الدمامة أو التشوّه، لكن بدرجة لا تبلغ حد الإيلام. وفي نبذة منسوبة إليه من رسالة مقطوعته، طُبعت في برلين سنة 1899، يؤكد على الدور التطهري للضحك قائلاً:

«إن الملهاة تطهر النفس كما تطهرها المأساة؛ لأن النفس المطبوعة على الرحمة أو على حسن الذوق تجد في المأساة والملهاة منصرفاً لما تنطوي عليه من العطف والشوق إلى الكمال واجتنابه التشويه».

ويرى العقاد أن كلا الفيلسوفين قد أخطأ في فهم المأساة والملهاة على أنها نوع من التقليد والمحاكاة؛ لأن «الشعر المسرحي يعرض الفواجع بتمثيل أناس يحاكون المصابين بها في حركاتهم وأقوالهم، وكذلك يفعل بالمضحكات والملهيات. ويندر بين فلاسفة القرون الوسطى من نظر إلى الضحك نظرة جدية ورآه يتضمن حكمة تجعله جديراً بالبحث عنه وعن أسبابه، لانصرافهم إلى البحث في الأصول الدينية وأسرار ما وراء الطبيعة. ولعل فلاسفة اليونان الأقدمين كانوا على هذا الرأي، ولم يبحثوا ولو بعض البحث في الضحك وأسبابه إلا في طريق بحثهم عن التراجيديا والكوميديا مع رجوع هذه في أساسها إلى سير الأرباب وطقوس المعابد».

ويرى العقاد أنه «إذا كنا نعيب على الثقافة القديمة قلة البحث في الضحك وأسبابه، فإن الثقافة الحديثة كانت على النقيض، حيث اهتمت به على نحو يكاد يكون مبالغاً فيه باعتباره مؤشراً على مزاج هذه الأمة أو تلك، ويكشف عن طبيعتها باعتباره مكوناً أصيلاً من مكونات الثقافة العامة، ولا يقل أهمية في ذلك عن الأدب والتراث الشعبي. ومن أبرز الأمثلة لذلك كتاب (الضحك) الذي صدر للفيلسوف الفرنسي هنري برغسون عام 1911، والذي تجاوز عدد مراجعه الأربعين مرجعاً».

ويعود هذا الإفراط في الكتابة عن الضحك، كما يرى العقاد، إلى سبب مهم يتمثل في نشأة علم الذوق أو علم الجمال الذي ينظر في الفروق بين الجميل والجليل والمضحك كما تعرضها الفنون الجميلة، لا سيما الأدب المسرحي؛ إذ أصبح البحث عن المضحك والمبكي والحسن والقبيح مقروناً بالبحث فلسفياً عن المقدس والقداسة في شعور الإنسان وممارساته.

ويرى برغسون، كما يضيف العقاد، أننا «لا نضحك إذا رأينا إنساناً يتصرف تصرف الآلة ويقيس الأمور قياساً آلياً لا محل فيه للتميز المنطقي، ولكننا نضحك في الجماعة عامة ولا نضحك منفردين؛ لأن الضحك تنبيه اجتماعي أو عقوبة اجتماعية لمن يغفل عن العرف المتبع في المجلس أو في المحفل أو في الهيئة الاجتماعية بأسرها. والضحك عنده إنساني بمعاني الكلمة، فلا يُشاهَد في غير الإنسان، ولا يستثيرنا في غير عمل إنساني أو عمل نربطه بالإنسان».

كما أننا لا نضحك من منظر طبيعي أو من جماد كائناً ما كان، إلا إذا ربطناه بصورة إنسانية وجعلناه شبيهاً بإنسان نعرفه أو منسوباً إلى عمل من أعمال الناس، وقد نضحك من قبعة نراها، فلا يكون الضحك منها نفسها، بل من الإنسان الذي يلبسها ونتصور هيئته فيها، كما يقول.

ومن شروط الأمر المضحك عند الفيلسوف برغسون أن يحصل في جماعة أو يرتبط بالتصرف الجماعي، فقلما يضحك الإنسان على انفراد إلا إذا استحضر العلاقة الاجتماعية في ذهنه. وقلما ننظر إلى أحد يضحك على انفراد إلا خامرنا الشك في عقله، ما لم يكن له عذر نعلمه!


تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني
TT

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

في روايته الجديدة «ولا غالب» الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة، يقدم الكاتب الكويتي عبد الوهاب الحمادي معالجة فنية ودرامية جديدة لتاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني يعلي من قيمة التسامح وقبول الآخر ويستنكر منطق الإقصاء بين الشرق والغرب.

على تلال غرناطة تلتقي أربع شخصيات معاصرة تطاردها أزماتها الشخصية في زماننا الحالي وقد دلفت عبر «بوابة الزمن» لتستيقظ في عام 1492 عشية سقوط المدينة حيث وجدوا أنفسهم أمام مهمة إنقاذ غرناطة من مصيرها المحتوم كآخر قلاع العرب في بلاد الأندلس. تمنح الرواية الشخصيات أحد خيارين: تغيير مجرى التاريخ أو أن يصبحوا ضحاياه الجدد، لكن كيف لأربعة غرباء يحمل كل منهم ندوب صدمته الخاصة أن يغيروا مصير الأمة الأندلسية؟

وسبق أن صدر للمؤلف عدة أعمال منها «سنة القطط السمان» التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة كتارا للرواية العربية، كما صدر له كتاب «دروب أندلسية» في أدب الرحلات.

من أجواء الرواية نقرأ:

على تل أخضر أمامي، استوى قصر الحمراء مثل شيخ شاحب ممدد على سرير مستشفى، لم يقتص المرض من وسامة تالدة. لطخت الشمس الآفلة غيوماً، تلتحف سماء غرناطة بلون النارنج. نظرت إلى الساعة في معصمي، قاربت السابعة أعدت لف الشال المغمور بعطرها حول رقبتي أحميها من صقيع نهايات ديسمبر فغمرتني رائحة الليمون. أغمدت كفي في جيبي، ضحكة شبان ورائي ونغمات عازف غيتار يصدح بغناء إسباني مكلوم. جميع الأعين وفرقعات آلات التصوير تحاول أن تقتنص جمال الشيخ على سريره الأخضر، لولا الحمراء لما أمسى لهذا المكان معنى لهم ولولاك ياصاحبة العطر، لما كان للحمراء معنى لي.

فهمت الآن لماذا كنت ياغادة تحبين هذه المدينة الواقعة خارج خريطة السياحة العربية غرناطة، ولماذا كنت تقرئين قبل النوم كتباً مصورة عن الأندلس أو تنصتين لبرامج إذاعية تاريخية وتتنهدين في أواخر أبيات الشعر، أو ترهفين لوديع الصافي وفيروز يتناجيان موشحاً، غصة في قلبي لن تزول لفتوري عن تحقيق رغبتك في زيارة هذا المعلم.

تغافلت أن القدر قد يسلب منا من نحب وقد يسلبنا أنفسنا. كنت أؤجل وكنت ترضين بأعذار انشغالي: عيادة مكتظة، سعال مرضي، حالات طارئة تنزف، خفارات ليلية مرهقة، نحيب أطفال، إعداد أوراق مؤتمرات طبية، بل وتجدين أعذاراً تقنعك أو هكذا كنت تتظاهرين لأنك تدركين أن التاريخ لا محل له في تلافيف دماغي.أحب تنفس عطر الليمون عندما تدنين مني وتلقبيني هامسة بصانع المعجزات، صانع المعجزات الذي رحلت يا غادة بين يديه، أغمضت عينيك إلى الأبد دون أن يقدر على فعل أي شيء».