الفلسفة بصيغة المؤنث: سيلا بن حبيب نموذجًا

تقترح مواطنة كونية.. مواطنة ما بعد الدولةـ الأمة وتفتح «العلبة السوداء للسيادة الوطنية»

الفلسفة بصيغة المؤنث: سيلا بن حبيب نموذجًا
TT

الفلسفة بصيغة المؤنث: سيلا بن حبيب نموذجًا

الفلسفة بصيغة المؤنث: سيلا بن حبيب نموذجًا

ما يزال الاهتمام في منطقتنا بالفلسفة بصيغة المؤنث ضعيفا جدا، ومن أجل تقريب القارئ إلى بعض الأقلام الفلسفية الصاعدة، سنخصص هذا المقال للفيلسوفة سيلا بن حبيب.
ولدت سيلا بن حبيب في إسطنبول سنة 1950. وهي أستاذة العلوم السيَاسيَّة والفلسفة بجامعة يال الأميركية، وتدير في الجامعة، برنامج الإثيقا والعلوم الاقتصادية والسيَاسيَّة. وهي عُضو الجمعيَّة الفلسفيَّة الأميركية منذ 1996. واشتغلت سابقًا مع هابرماس. وتهتمُ سيلا تحديدًا، بالنظريَّة النقديَّة والنظريَّة النِّسويَّة. كَتبَت أطروحتها في فلسفة هِيغل السيَاسية سنة 1977 (أي في النصف الثاني من عقدها الثاني)، حيثُ قَارَنت فِيهَا بين تصوُّر هيغل لمفهوم الحق والحق الطبيعي. وبعد ذلك نَاقشَت أُطروحتها في فلسفة هوبز.
تَنظُر بن حبيب إلى الفلسفة السيَاسية لا كبحثٍ في تَاريخ الفكر أو الفلسفة السياسيين، بِقدرِ ما هي اتصال والتصاق بالأَحْداث الرَّاهِنَة والمُعَاشَة، من أجل استقصائها وتحري دلالاتها، لأن التحَوُّل الكبِير الذي عَاشَتهُ في سنوات التسعينات، ساهم في تدشينها البَحث في قَضايا التعدُّديَّة الثَّقَافيَّة والمُواطَنة والهجرة داخل الاتحاد الأوروبي. وتهتم بِالرَّوابِطِ بين العقلانيَّة التواصُليَّة والأخلاق والدِيمُقراطيَّة التشَاوريَّة، حيث يلعبُ الفضاء العمومي دورًا محوريًا. ولهذا فهي بحق، مُنظِرَة ومُفكِرة تنتمي إلى الجيل الثالث للنظريَّة النقديَّة، من خلال اشتغالها مع هابرماس وأكسيل هونيث ونانسي فريزر، وجوديث بتلر. لذلك تقول عن صاحب العقلانية التواصلية: «يَعُود الفَضل لهابرماس في نحته لمفهوم العَقلانيَّة التواصُليَّة، وأَنَا بِدورِي أعتبر أن العقلانيَّة التواصُليَّة مُسَلَّمَة، وأَفْتَرِضُ مُسبَقًا، أَن كُلَ عَمَلِي يَتَمَحورُ حول صَلاحيَّة الانتِقال إلى العقلانيَّة التواصليَّة».
كتبت سيلا عن قضايا عالم المعيش، التي تُؤرقُ ملايين الأشخاص في العالم: من قَبِيل مشكلات الهجرة، الاحتلال، مخيمات اللاجئين، المقيمين، الـ«من دون أَوراق»، المُهمشِين والمَقصيين بِسبب العرق أو اللغة أو الدين أو الهُويَّة. وطَرحَت في مؤلفاتها الأخيرة: «حقوق الآخرين: الأجانب، المقيمين، والمواطنين»، و«كَونْيَّة أُخْرَى»، قضايا جوهرَّية حول الشَّرعيَّة الدِّيمُقرَاطيَّة، اللِّيبِرَاليَّة الدُّستُوريَّة، الحَق في الإقَامَة المُؤَقتَة والدَائِمَة، الحكومة العالمية، الفيدرالية العالمية... وتُقَدِم فيها حُجَجًا قويَّة لحماية الجماعات البشريَّة الهشَّة وَالضعيفة (الأجانب، المقيمين، اللاجئين...).
يَصعُبُ الإلمام بمجمل فلسفة سيلا بن حبيب لاعتبارات عدة:
- كَونُ إسهَامَاتِها مُتعدِّدَة المَشَارِب ومُتنوعَة جدًا، تتراوح بين قضايا كثيرة لا ندعي إمكانيَّة الإلمام بها جميعها في هذا المقال.
- ما يَزالُ فكر الفيلسوفة جاريًا، مما يعني أنَ مُحاوَلَة حَصرِه في هذا الاتجاه أو ذاك، إنما هو مُغَامرة كبرى في حقها.
- كَونُ وضعِهَا الخَاص، وتاريخهَا الخاص، يفرضان عليها الانخراط السيَاسي في قَلبِ المعركة، لذلك فإن مَواقِفَهَا السيَاسية تجدُ مَكانهَا كثيرًا في فلسفتهَا.
- اهتمامُهَا بقَضَايا العصر الأكثَر إِلحَاحًا، من قبيل الهجرة، الحدود، السيَادَة، المُواطَنة، وهي القضايا التي تعرف مُستَجَدَّات جَارية لا حصر لها.
إلا أنه رغم ذلك، أمكننا التمييز بين مرحلتين أساسيتين من تطوُّر فكر الفيلسوفة سيلا بن حبيب الفلسفي والسياسي معا:
* مرحلة ما قبل التسعينات (من القرن العشرين)، وقد مثلت الفلسفة السيَاسية الحديثة والمعاصرة مصدرَ فِكرها الفلسفي. وهي مرحلة الشباب إن جاز التعبير الالتوسيري هنا، حيث تشكل فكرها من خلال اشتغالها على عباقرة الفكر السياسي الحديث، من أمثال هيغل (أنجزت أطروحتها الأولى حول هيغل - الذي استلهمت منه الكثير من أفكارها - بعنوان: «هيغل والحق الطبيعي: بحث في الفلسفة السيَاسية الحديثة»)، وتوماس هوبز، وكانط (من خلال فحصها لمشروع السَلام الدَائم الذي أَسَست عليه أطروحاتها الحالية حول المُواطَنة الكَونيَّة، والسيَادَة ما بعد الوطنية)، ومرورا بحنا آرنت Arendt (حيث أنجزت كتابين حول فكرها - أشرنا إليهما أعلاه - موظفة بشكل كبير مفهوم آرنت الذائع الصيت: «الحق في التمتُّع بكافة الحقوق»).
* مرحلة ما بعد التسعينات، حيثُ انكبت أساسًا، على مُعالجة قَضَايا الوَضع البَشَري الأَكثَر إِلحَاحًا: النِّسويَّة، الهِجرَة، التعَدُّد الثَّقَافِي، المُواطَنة العالميَة، الدِيمقراطيَّة، العَدَالَة، السيَادَة.
نظريَّة الديمقراطيَّة
ولا تنفصل نظريَّة الديمقراطيَّة عند سيلا بن حبيب عن مشروعها الفلسفي – السيَاسي العام، فهي نظريَّة في العدالة، وفي الحق، وفي المُواطَنة الكَونيَّة التي تتأسس على منظور كُوسمُوبُولِيتي يحاول إعادة النظر في طريقة تدبير المشاكل العالميَّة المتناميَة، وأساسًا تلك المتعلِّقة بالهجرة والبيئة والمساواة، والنِّسويَّة، والمُواطنة، والتعَدُّد الثَّقَافِي. فالثَّقافات لا تتشكَّل أحاديَّة القُطب، أي بمعزل عن الثَّقافات الأخرى، بل تتشكَّل من خلال حوارها مع الثَّقافات الأخرى. وتفيد الديمقراطيَّة عندها «بناءَ جماعة سيَاسية بقواعِدَ واضِحة، يتم عبرها تحديد العلاقات بين الداخل والخارج». وفي الدِّيمقراطيَّة «يستمدُ الدُّستورُ شَرعيَّتَهُ من الإرادَة الجمعيَّة والمتَّحِدة للشَّعب». فالشَّعبُ الدِّيمقراطي يَقبلُ سُلطة القَانون، لأنَّه في الآن نفسهِ، واضع ومستقبل هذا القانون. «إن مُواطِنَ دِيمقراطيَّة ما ليس بالمواطن العالمي، بل مُواطِنٌ داخل مجموعة سيَاسية محددة، بغض النظر عَمَّا إذا كان ذلك يتعلق بدولة مركزية أو فدراليَّة أو باتحاد للدول».
ولضمان الانسجام بين التعدُديَّة الثَّقَافيَّة والكُوسمُوبُولِيتيَّة في عالم اليوم، تأخذ بعين الاعتبار ثلاثة شروط:
- التعامل بالمساواة: حيث يجب أن يتمتَّع أعضاء الأقليَّات بالحقوق المدنية والسيَاسية والاقتصاديَّة والثقافيَّة نفسها التي تتمتع بها الأغلبيَّة.
- القَبول الطوعي: حينما يولدُ فرد ما، لا يجب أن يعيَّن له دين ما أو ثقافة ما بشكل أوتوماتيكي. ولا يجب أن تترك الدولة للجماعات الحق في تقرير حياة الأفراد. فأعضاء المجتمع لهم الحق في التعبير بأنفسهم عن اختياراتهم.
- الحرية في الخروج من الجماعة والحرية في التجمع: لكل فرد الحريَّة في الخروج عن جماعته. فحينما يتزوج فرد من جماعة أخرى، فلكل منهم الحق في الحفاظ على عضويَّته. ويجب إيجاد تسويَّاتٍ بالنسبة للأزواج بين الجماعات وأطفالهم.
يطرح موضوع الانسجام بين التعدُديَّة الثَّقَافيَّة والمساواة الديمقراطيَّة نقاشات كبرى. فالشَّرط الأول يتعلق بالكثير من الثَّقافات التي تتعرض فيها الأقليَّات لاضطِهَادَاتٍ مُتكَرِّرَة من طرف الأغلبية، وحيثُ لا تَقُومُ الحكومَات بأي جُهدٍ لوقف المجازر التي يتعرَّضُونَ لهَا.
المُسَاواة والتنوع في عَصِر العولَمَة
لم يكن الفكر والفلسفة السياسيان يهتمان بشكل كبير بمسألة التعدُديَّة الثَّقَافيَّة قدر اهتمامهما بها اليوم، بحيث كرست معاهدة ويستفالي المنظور الأحادي للهوية والمواطنة داخل الدولة الوطنية (الدولة – الأمة) فيما يشبه الدولة – المدينة؛ رغم أن أفلاطون كان يصرخ دوما، داخل الدولة المدينة: «أنا لَسْتُ أَثِينيًّا، وَلا يُونَانيًا: أَنَا مُواطِنُ العالم»، وعلى مِنوالِه تغنى الرواقيون والكلبيون بالمواطنة العالمية والكونية. وقليلا ما استثمر هذا الإرث اليوناني في الفلسفة السيَاسية، ويعود هذا المشكل في نظر بن حبيب، إلى الفصل العبثي بين الديموس والإثنوس.
ستتعزز الدراسات حول إشكالات الهُويَّة والتعدُديَّة الثَّقَافيَّة، مع نهاية الحرب العالمية الثانية وما تلاها من بداية جديدة للعلاقات الدولية، والاعتراف بالمؤسسات الدولية والعالمية التي دافعت عن تعزيز حقوق الإنسان، وهي الإشكالات التي عالجتها سيلا في كتابها القيم: «مطالب الثقافة: المتماثل والمختلف في عصر العولمة».
يتناول هذا الكتاب إشكالية هامة طبعت النقاشات المعاصرة لتزيل الوهم الذي يرى أن الثقافات مجرد أجزاء من فسيفساء يمكن الهيمنة عليها بسهولة، ويمكن تلخيصها في السؤال التالي: كيف يمكن تطبيق الديمقراطية الليبرالية في عالم مليء بأشكال جديدة من صراع الهويات والثقافات؟
وقفت في الفصل الأول على استخدام وسوء استخدام الثقافة، لتنتقل إلى الإشكالية القديمة – الجديدة: نحن وهم، لتقترح نموذجا بديلا لتغيير السياسات المعاصرة - في الفصل الثالث - يمكن الاقتداء به في التغيير، سمته من إعادة التوزيع إلى الاعتراف. وهو الشعار نفسه الذي تبنته نانسي فريزر في كتابها: ما العدالة الاجتماعية؟ الاعتراف وإعادة التوزيع. كما وقفت فيه على مسألة التعدُديَّة الثَّقَافيَّة ومواطنة النوع الاجتماعي، وما يرتبط بها من معضلات لتقترح الديمقراطية التداولية كبديل للديمقراطية الليبرالية من خلال وقوفها على مفهوم ما بعد الدولة – الأمة.
في مقاله حول الديمقراطية التشاركية: الحدود والاستقلال الذاتي، يذهب رومان فيلي، إلى أن العولمة قد طرحت رهانات جديدة تتجاوز إطار الدولة الوطنية، بحيث إن قضايا من قبيل الهجرة والكوارث البيئية والإرهاب، تفترض حلولا تتجاوز الإطار الوطني الويستفالي، مما يعزز الحاجة إلى حكامة دولية بدأت تطرح نفسها، رغم أنها تسير عكس إرادة الشعوب. وهناك بالنسبة لسيلا بن حبيب، طريقة أخرى لتصور المواطنة الجديدة، أي مواطنة تتجاوز مفهوم مواطنة الإقامة. وعلى هذا الأساس أعادت النظر في مفهوم الضيافة الذي طرحه كانط في مشروع السلام الدائم، بحيث تستوجب المواطنة الجديدة في نظرها إعادة بناء تصور الفعل السياسي دون المرور بقطيعة قانونية بين العضو الذي ينتمي إلى الجماعة، أو غير العضو القادم إلى تلك الجماعة من جماعة أخرى (قد يكون مهاجرا أو مقيما بشكل مؤقت أو دائم أو لاجئا). هكذا، فالحدود الخاصة بدولة ما يمكن إعادة تحديدها من منظور كُوسمُوبُولِيتي – كوني يتجاوز المنظور الويستفالي. وتستدل سيلا بن حبيب على ذلك بالحركات الاجتماعية الحضرية التي تجسد نموذجا «فعلا سياسيا» خارج التمييز الكلاسيكي بين العضو - وغير العضو. وبناء عليه تقترح سيلا بن حبيب مواطنة كونية أو مواطنة ما بعد الدولة – الأمة، وما يقتضيه ذلك من ضرورة إعادة بناء أسس هذه المواطنة على نحو جذري. إلا أن الأمر لا يتعلق بـ«محو الحدود السيادية للدول وإنما طرق جديدة لتدبيرها»، أي «فتح العلبة السوداء للسيادة الوطنية».



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.