سوق عكاظ يعيد شاعر السلام والحكمة بعد 14 قرنًا من رحيله

ينطلق غدًا في الطائف ولبيد بن ربيعة شخصيته الشعرية

يستعيد سوق عكاظ في الطائف أهم الشخصيات الشعرية العربية
يستعيد سوق عكاظ في الطائف أهم الشخصيات الشعرية العربية
TT

سوق عكاظ يعيد شاعر السلام والحكمة بعد 14 قرنًا من رحيله

يستعيد سوق عكاظ في الطائف أهم الشخصيات الشعرية العربية
يستعيد سوق عكاظ في الطائف أهم الشخصيات الشعرية العربية

بعد نحو 14 قرنا من رحيله، يستعيد مهرجان سوق عكاظ التاريخي الشاعر الجاهلي لبيد بن ربيعة صاحب المعلقة الرابعة في تصنيف النقاد بين المعلقات السبع، بعد اختياره شخصية السوق الذي ينطلق غدا الأربعاء بمحافظة الطائف في دورته التاسعة، تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز.
وقد عاش الشاعر لبيد في نعيم من العيش وفي حياة يتوق فيها إلى مطلق دائم، يعانق فيه السلام والحكمة والسعادة، رافضا قيود الواقع حيث يتناحر الناس ويتنابزون ولا ينجب فيهم ويسلم بينهم إلا الأقوياء المدربون على البطش، وهي ذات الأجواء التي يعيش فيها عالمنا العربي اليوم، والذي تشهد معظم دوله أعمال عنف وقتل وتفجير وتدمير.
اشتهر لبيد بمطولاته، فبخلاف معلقته التي بدأها بوصف الديار المقفرة والأطلال الدارسة والتي حددها النقاد بـ88 بيتا ومنها:
عفتِ الديارُ محلُّها فمُقامُهَا ** بمنًى تأبَّدَ غَوْلُها فَرِجَامُهَا
فمدافعُ الرَّيَّانِ عرِّي رسْمُها ** خلقًا كما ضَمِنَ الوُحِي سِلامُها
دمِنٌ تَجَرَّمَ بعدَ عهد أنِيسِهَا ** حِجَجٌ خَلَوْنَ حَلالُهَا وحَرَامُهَا
رزقَتْ مرابيعَ النُّجومِ وصابَهَا ** ودقُ الرواعدِ جوْدُهَا فرهامُها
كما أن هناك قصائد رثائية في أخيه إربد وأخرى في الرد على اللئيمين على شدة إنفاقه.
عاش الشاعر لبيد في الجاهلية والإسلام، حيث عد من المؤلفة قلوبهم، إلا أنه لم ينظم في الإسلام سوى بيت واحد، ومعظم شعره المعدود نظم في الجاهلية، وهو آخر أصحاب المعلقات، وشكلت حياة الشاعر شخصيته وطبيعة شاعريته والموضوعات التي طرقها في أشعاره، إذ قتل والده وهو في السنوات الأولى في طفولته، فكفله أعمامه، وعاش بينهم في نعيم من العيش، وكان والده كريما وصاحب سؤدد وهو ما جعله يلقب بـ«ربيعة المقترين»، وقد عاش لبيد عيشة السادة وحمل جينات أبيه في الكرم، فكان يقري الضيف، ويهرع للنجدة، وينظم في الفخر والوصف والحكم، مترفعا عن التكسب بشعره، وقد نحا نحوا زهديا ظاهرا، في حين غلبت الصفة الحكمية في شعره.
فجع لبيد بمقتل أخيه إربد، وشرع ينظم فيه المراثي المتفجعة التي تدنو في معظم معانيها إلى مراثي المهلهل في مقتل أخيه كليب، والخنساء في أخيها صخر، وذلك بتعداد المآثر والعويل والندم، لكن الشاعر لبيد ينفرد فيها إلى النظرة الحكمية التي تتصدى لمصير الإنسان عامة، والتأمل بالحياة والموت، مستسلما عبرها إلى الله، علما بأن الشاعر اشتهر في شعره بتقواه ونهجه نهجا دينيا معبرا فيه عن أفراحه وأتراحه، ومظهرا في ذلك جوانب نفسه المتعددة.
سجل لبيد بن ربيعة اسمه من أصحاب المعلقات السبع، بل إن معلقته تم تصنيفها الرابعة بينها رغم أنه آخر أصحابها، وأظهر الشاعر فيها بل وفي معظم شعره نظرته التشاؤمية للحياة وللكون وقد وقع الشاعر في شعره على أنه الإنسان الفاجع الشديد التوتر، وأن لا خلاص للإنسان من نفسه، ومما طبع فيه من رغبات متناقضة لا تتحقق إحداها حتى تفجعه بأخرى، فالديار عفت الريح بها، وأزالت آثارها وقد توحشت لارتحال أهلها، ذاكرا في معلقته ديار أهله بني عامر، التي بدت معشبة لترادف الأمطار عليها وهو تعبير واقعي بخلو المكان وانعدام استخدامه مدللا على هذا الخلو بوجود الظباء والنعام، وقد تكاثرت لأن المكان استحال إلى مسكن للبهائم.
ويسرد لبيد في معلقته ما سكن الديار بعد رحيل أهلها من البقر الواسعات العيون متسائلا بحسرة أمام هذه الجوامد عن سكانها، ومسترجعا ذكرى الرحيل وقد حمل السكان خيامهم التي يسمع لها صريرا لجدتها، وقد بدت النساء يسرن جماعات وتظهر بينهم «نوار» التي تشبب بها وقد بعدت، وتقطعت أسباب وصالها بعد أن تجاوزت مكان ارتحالها ومنازل قومها في بيشة لتحل بموضع «فيد» مجاورة أهل الحجاز.
ثم يواصل الشاعر التقاط صور عدة في المعلقة منها الوصف الوجداني المتصل بـ«الأتان» وفحلها الذي يرمز إلى الغيرة الغريزية الوحشية المشبوبة بحمّى الأنثى الهالعة عليها هلعا مفجعا، كما تحفل بعض مقطوعات المعلقة بالرموز الإنسانية المتقمصة من تصرف الحيوان الغريزي، الحريص على أنثاه ليخلع الشاعر على ذلك الفحل من نفسية العربي الحريص على عرضه ونفسية الإنسان عامة، وإلى الخوف من الموت والبؤس والتشبث بالحياة، ليعود الشاعر إلى التشبيب بالعشيقة وتعداد الليالي التي طابت له، وتلذذ فيها بالهوى، ومنادمة الكرام بأقداح الخمر بحضور جارية تضرب على عودها إلى وقت السحر وعلى وقع صياح الديكة.
ثم يكمل معلقته مفتخرا بكرمه وشجاعته وأمانة قومه وتكافلهم في حين أن مطولاته الأخرى فقد كان يستهلها بمطلع حكمي، بدلا من المطلع الطللي، واصفا الصحراء والناقة التي امتطاها، داعيا إلى حياة المسالمة والتأمل والترجّي فيما وراء الكون، فهناك مطولة أخرى حملت عنوان: «مطولة لبيد» استهلها بمطلع حكمي بدلا من المطلع الطللي، وعدد أبياتها 84 بيتا ومطلعها:
إنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيرُ نَفَلْ ** وبإذْنِ اللّهِ رَيْثي وعَجَلْ
أحمد اللهَ فَلا نِدَّ لَهُ ** بيدَيْهِ الخَيرُ ما شاء فَعَلْ
مَنْ هَداهُ سُبُلَ الخَيرِ اهْتَدَى ** ناعِمَ البَالِ ومَنْ شاءَ أضَلّ
وتعد قصيدة لبيد التي يرثي فيها أخاه إربد الأشهر بين قصائده، وقد استهلها بمطلع حكمي مشيرا فيها إلى حقيقة الموت للمرء وتبقي النجوم وسائر مظاهر الطبيعة من دونه ذاكرا ما كان من أمره مع شقيقه وأنسه به، قبل أن يفارقه ويفصله عنه الموت ويؤكد على أن فجيعته بأخيه هي فجيعة عامة، لافتا إلى أنه عانى أحوال الدهر كلها فلم يعد يجزع أو يطرب لها، بل غدا لا مباليا بها، محتقرا ما يتفاخر به الناس، ويرى أن المال والأهل ليسوا سوى ودائع في أيدينا، لا يلبث الموت أن ينتزعها منا. فالموت محتم يلازم الحياة ملازمة الأصابع للعصا. وتنحو القصيدة في مجملها نحوا مشبعا بالسويداء والقنوط والنعي، ومما جاء في القصيدة ذات الـ20 بيتا:
بلينا وما تبلى النجومُ الطَّوالِعُ ** وتَبْقَى الجبالُ بَعْدَنَا والمَصانِعُ
وقد كنتُ في أكنافِ جارِ مضنّة ٍ ** ففارقَني جارٌ بأرْبَدَ نافِعُ
فَلا جَزِعٌ إنْ فَرَّقَ الدَّهْرُ بَيْنَنا ** وكُلُّ فَتى ً يَوْمًا بهِ الدَّهْرُ فاجِعُ
فَلا أنَا يأتيني طَريفٌ بِفَرْحَة ٍ ** وَلا أنا مِمّا أحدَثَ الدَّهرُ جازِعُ
ومَا النّاسُ إلاّ كالدّيارِ وأهْلها ** بِها يَوْمَ حَلُّوها وغَدْوًا بَلاقِعُ
وَيَمْضُون أرْسَالاً ونَخْلُفُ بَعدهم ** كما ضَمَّ أُخرَى التالياتِ المُشايِعُ
ومَا المَرْءُ إلاَّ كالشِّهابِ وضَوْئِهِ ** يحورُ رَمادًا بَعْدَ إذْ هُوَ ساطِعُ
ومَا البِرُّ إلاَّ مُضْمَراتٌ منَ التقَى ** وَما المَالُ إلاَّ مُعْمَراتٌ وَدائِعُ
ومَا المالُ والأهْلُونَ إلاَّ وَديعَة ٌ ** وَلا بد يَوْمًا أنْ تُرَدَّ الوَدائِعُ
وفيما يشبه الوصية يوجه لبيد رسالة في قصيدة من 5 أبيات إلى ابنتيه يظهر فيها مودته أن يعيش ولا يموت لافتا إلى أن جميع أبائه من ربيعة إلى مضر قد ماتوا ولم يسلم منهم أحد، فكذلك هو لا بد له من الموت، مشيرا إلى ما أصاب ابنه نزار لعظة لكم تجعلكما تدركان أن الناس متساوون أمام الموت.
تَمَنّى ابنَتَاي أنْ يَعيشَ أبُوهُما ** وهلْ أنا إلاَّ من ربيعة َ أو مضرْ
وفي ابني نزارٍ أُسوة ٌ إنْ جزعتُما ** وَإنْ تسألاهُمْ تخبرَا فيهِمُ الخبرْ
فَقُوما فَقُولا بالذي قَدْ عَلِمْتُمَا ** وَلا تَخْمِشَا وَجْهًا وَلا تحْلِقا شَعَرْ
وقُولا هوَ المرءُ الذي لا خليلَهُ ** أضاعَ، وَلا خانَ الصَّديقَ وَلا غَدَرْ
إلى الحَوْلِ ثمَّ اسم السّلاَمِ علَيكُما ** وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كاملاً فقدِ اعتذرْ



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.