ميلي.. فيلسوف الملايين الأربعة وسؤال الحرية

حقق علاقة تواصل بين العلم والفلسفة حسب التصور اليوناني

ألفريد ميلي
ألفريد ميلي
TT

ميلي.. فيلسوف الملايين الأربعة وسؤال الحرية

ألفريد ميلي
ألفريد ميلي

الفيلسوف الأميركي ألفريد ميلي المولود في مطلع النصف الثاني من القرن الماضي في ولاية ميتشيغان هو أحد أهم الفلاسفة المعاصرين في ما يخص مبحث حرية الإرادة. يلقب ميلي بفيلسوف الملايين الأربعة بسبب حصوله على دعم مالي يقدر بأربعة ملايين دولار من منظمة جمعية جون تيمبلتون لإجراء دراسات وبحوث عن حرية الإرادة على مدار أربع سنوات ضمن مشروعهم الضخم «الأسئلة الكبرى». هذا المال يفترض أن يصرف على دعم باحثين فلاسفة وعلماء لدراسة حرية الإرادة مما يحقق شراكة علمية فلسفية طالما حلم بها كثيرون. أيضا هذا يشمل عقد مؤتمر كل عام يجتمع فيه أهل الاختصاص لتكوين مجتمع علمي مكثف حول سؤال حرية الإرادة. هذا السؤال كان لسنين طويلة سؤالا ميتافيزيقيا بحتا ولكنه في الفترة الأخيرة ومع تقدم علوم السيكولوجي والأعصاب وعلوم الدماغ فإن السؤال أصبح سؤالا علميا أيضا. ميلي ومعه مجموعة كبيرة من الفلاسفة أدركوا أنه من اللامنطقي العمل بعيدا عن المنجز العلمي في هذا الشأن. هنا نشهد علاقة تواصل بين العالم والفيلسوف تذكرنا بالتصور اليوناني للفلسفة والذي كان يجمع العالم والفيلسوف في شخصية واحدة. لن نستغرب إذن حين نعلم أن ميلي كتب أطروحته للدكتوراه عن أرسطو ونظريته في الدوافع البشرية.
ميلي يعمل أستاذا في جامعة فلوريدا ستيت.. الجامعة التي أدرس فيها وكان من حسن حظي أن درست معه في بداية العام مادة لطلاب الدراسات العليا مخصصة لسؤال حرية الإرادة وتحديدا لنقاش المنجز العلمي المتعلق بهذه المسألة. كأستاذ كان ميلي نموذجا للفيلسوف التحليلي الحريص على الوضوح والدقة. جزء كبير من الدراسة كان مجادلة للمنتج العلمي عن حرية الإرادة. طريقة العمل الدراسي كالتالي: يقرأ الجميع دراستين علميتين كل أسبوع، ويكون الجزء الأول من المحاضرة عرضا للأفكار في البحثين ثم تعليقا من الأستاذ والطلاب وجدلا وحوارا حول القضايا المطروحة. مطلوب من كل طالب كتابة ثلاث دراسات عن القضايا المطروحة وفي نهاية الفصل الدراسي عقدت الجامعة مؤتمرا عن حرية الإرادة حضره بعض المؤلفين الذين قرأ الطلاب أعمالهم خلال الفصل الدراسي وآخرون ناقشوا تلك الأعمال. الأساتذة في القسم يستقطبون طالبات وطلابا لهم ذات الاهتمام من أجل تكوين فريق عمل باهتمامات مشتركة.
بشكل عام ميلي يقدم تحليلات عامة وتأطيرية حول سؤال حرية الإرادة. أساسا هو حريص على فهم ماذا نعني بمصطلح حرية الإرادة. الكتابات عن هذا الموضوع تمتد لقرون طويلة والناس تستخدم هذا المصطلح بمعان مختلفة. أحد تلك المعاني هو المعنى الشائع والعام والمقصود به أن يتصرف الإنسان من دون إجبار من شخص آخر. معنى آخر هو أن الإنسان الحر هو من لديه القدرة على الاختيار.. بمعنى أنك حر في ركوب التاكسي إذا كنت في نفس الظروف تملك القدرة على أن تفعل شيئا آخر غير ركوب التاكسي. المعنى الثالث لحرية الإرادة والوارد في الأدبيات ذات العلاقة يعرف حرية الإرادة على أنها قدرة فوق طبيعية، بمعنى أنها قدرة تمتلكها الأرواح أو الكائنات غير المادية. هذه القدرة مفارقة وخارجة عن قوانين الطبيعة. نجد هذا الفهم شائعا في العصور القديمة وصولا إلى فلسفات القرن الثامن عشر المثالية أو التوفيقية بين المثالية والتجريبية. هذا المعنى لحرية الإرادة مستبعد من البحث العلمي ومن الجدل الفلسفي المتوجه للبحوث العلمية. السبب وراء ذلك أن الدعوى هنا تبدأ بأن حرية الإرادة لا يمكن أصلا ملاحظتها ولا دراستها بالبحث التجريبي المباشر. مثل هذه الدعاوى يجري فحصها فلسفيا من منطلق تماسكها المنطقي ومدى توافقها أو تعارضها مع مقولات أخرى تبدو مقبولة أو بديهية لأصحاب هذه الدعاوى.
بحسب ميلي، فإن الفهم الثاني للحرية هو ما يواجه تهديدا من الكشوفات العلمية لأنه يفترض أن يعمل الدماغ بطريقة معينة تجعل الفرد يمتلك على الأقل خيارين على ذات القيمة يحقق بينهما حرية الإرادة والقرار. وهذا ما يقود ميلي للاهتمام بشكل كبير بأعمال بنجامين ليبيت. جزء أساسي من عمل ميلي كان ولا يزال دراسة وتحليلا لأعمال بنجامين ليبيت وبحوثه عن حرية الإرادة. نتذكر أن أطروحة ليبيت الأساسية هي أن القرارات التي نتخذها تنشأ أولا في الدماغ قبل أن نعي بها وأن ما نقوم به واعين محصور في نقض تلك القرارات. مع ليبيت تبدو القرارات التي نتخذها من طبيعة مقاربة لردود فعلنا العفوية أو للإجراءات البيولوجية التي تجري في أجسادنا. ميلي متشكك جدا في تجارب ليبيت من عدة نواح.. من ناحية أساسية ميلي متشكك في إمكانية تعميم نتائج التجربة، بمعنى أن نتائج تجربة متعلقة بسلوك بسيط كتحريك كف اليد تختلف بدرجة عالية عن قرارات معقدة متعلقة مثلا باتخاذ قرار اجتماعي أو اقتصادي كقرار الزواج أو الاستثمار. من جهة أخرى، ميلي قلق من تفاصيل كثيرة في التجربة تتعلق بدقة تحديد الوقت بين انطلاق الإشارات العصبية في الدماغ وبين تحديد أعضاء التجربة للوقت الذي وعوا فيه رغبتهم بتحريك أيديهم. أيضا ميلي يشكك ويستعين بتجارب أخرى تشير إلى أن تحريك كف اليد يحتاج لوقت أقصر مما ورد في دراسات ليبيت، بمعنى أن هناك وقتا محسوبا في دراسات ليبيت لا يتعلق بتحريك الكف وربما كان حسابه هو ما يوهم بأن قرار تحريك اليد قد جرى اتخاذه بلحظات بسيطة قبل الوعي به. هذه التشككات لدى ميلي تجعله يقف موقف اللاأدري تجاه هذه القضية تحديدا. كل ما يقوله أن الأدلة المتوفرة لا تثبت فقداننا لحرية الإرادة بمعنى تعدد الخيارات، كما أنه لا توجد أدلة تثبت وجود تلك القدرة. ما يبدو ميلي مطمئنا إليه هو وجود حرية الإرادة بالمعنى الأول المباشر والذي يعني اتخاذ قرار من دون فرض أو تحكم من الخارج.



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لواحدة من أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذا العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى أن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفعالية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني وتستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقة تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسنح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

ومن جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين من أن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق كمكان لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».