القاهرة مدينة الألف وجه

من «منف» إلى العاصمة الإدارية

القاهرة... مجسم لجانب من العاصمة الإدارية
القاهرة... مجسم لجانب من العاصمة الإدارية
TT

القاهرة مدينة الألف وجه

القاهرة... مجسم لجانب من العاصمة الإدارية
القاهرة... مجسم لجانب من العاصمة الإدارية

«القاهرة وعمرانها... تواريخ وحكام وأماكن» كتاب جديد للدكتور نزار الصيَّاد، صدر مؤخراً عن دار «العين» بالقاهرة متزامناً مع كتاب آخر للمؤلف، صدر عن دار «المرايا»، بعنوان «المدينة الأصولية»، عبارة عن تحرير وتقديم لأبحاث مؤتمر نظَّمه عن ممارسات التدين والتطرف وآثارها على العمران. وقد سبق للصياد أن نشر 20 كتاباً بالإنجليزية؛ حيث يعمل أستاذاً للعمارة والتخطيط والتأريخ العمراني بجامعة كاليفورنيا – بيركلي، التي رأس مركزها لدراسات الشرق الأوسط لمدة 20 عاماً.
كتاب «القاهرة وعمرانها» يبدو مرجعاً جامعاً عن المدينة، كتبه المؤلف بالعربية فيما يشبه التحرير الجديد لـ4 من كتبه بالإنجليزية عن المدينة. كتب الأول منها بينما لم يكن عمره يتجاوز 25 عاماً، كدراسة أكاديمية عن الشكل العمراني للقاهرة الإسلامية، نشرها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بكامبردج عام 1981، وهو غير مترجم إلى العربية، بينما الثلاثة الأخرى مترجمة.

ويستند في الكتاب الجديد إلى المصادر الأصلية من «الخطط» والسير التاريخية، مروراً بتواريخ المقريزي وابن إياس والجبرتي، وكتب الرحالة المسلمين والأجانب، حتى الروايات المعاصرة، مثل ثلاثية نجيب محفوظ، ورواية خيري شلبي «رحلات الطُّرشجي الحلوجي»، مستنداً إلى عدة مناهج تاريخية، حيث يصعب تماماً أن يكون هناك منهج لا يدخله الانحياز الآيديولوجي، فكل كتابة تاريخية عن زمن مضى تحب أن تؤكد على عناصر في زمنها وتنحاز إليها.
الكتاب محاولة شديدة الطموح للإحاطة بمدينة متعددة في طبقاتها التاريخية وشاسعة المساحة، حيث يضم حيزها العمراني عاصمتين فرعونيتين: «منف» جهة الجنوب في منطقة الهرم، و«أون» في الشرق (هليوبوليس باليونانية)، الاسم الذي لم يزل متداولاً، للإشارة إلى جزء من حي مصر الجديدة شرق القاهرة.
وتمتد العصور الإسلامية للمدينة وتتنوع وظائفها، التي تأتي في مقدمتها غالباً وظيفتها كمعسكر، من فسطاط عمرو بن العاص إلى قطائع أحمد بن طولون، ثم بوصفها قصراً لخليفة الفاطميين، ثم بوصفها قلعة للأيوبيين إلى حقبتين مملوكيتين، ثم بوصفها إقليماً في الدولة العثمانية، ثم مدينة تقاوم الحملة الفرنسية، ثم القاهرة الأوروبية التي بناها الخديوي إسماعيل، وما تبع ذلك من تحديث بداية القرن العشرين، ثم عاصمة الجمهورية الاشتراكية، فجمهورية الانفتاح، ثم أخيراً العاصمة الإدارية الجديدة!
القاهرة الحالية هي كل تلك المدن وأكثر في امتداد عمراني واحد لمدينة مترامية الأطراف، بحيث يتعين على من يريد الذهاب من شرقها إلى غربها أو من شمالها إلى جنوبها أن يقطع نحو 150 كيلومتراً من العمران المتصل.
وفي ظل الضخامة والتعقيد اللذين ينطوي عليهما تاريخ وجغرافيا القاهرة، يصعب على مؤرخ، رحَّالة، أو سائح أن يحيط بها، وكل من زارها يعود بوجه أو وجهين من وجوهها، الوجه الذي صادفه أو تمكن من رؤيته، أو ما أرادت القاهرة أن تكشفه له. في هذا الإطار، يذكر الصيَّاد على سبيل المثال أن الخديوي إسماعيل كان يسابق الزمن للانتهاء من عاصمته الأوروبية، المنقولة عن قلب باريس، بينما وصل الضيوف بشغف لرؤية عمران القرون الوسطى (القاهرة الإسلامية) محملين بخيال «ألف ليلة وليلة».
وقد شهدت القاهرة الإسلامية في العقدين الماضيين تطويراً يعتبره الصيَّاد تغييراً لوظائفها الحقيقية لتصبح فضاءً للسياحة، لا للحرفيين كما كانت، فصارت التسميات المرتبطة بالحرف، مثل «النحاسين»، مجرد تسميات تسبح في فضاء قصبة القاهرة القديمة، المعروفة بـ«شارع المعز».
في بعض الأحيان، تضطر المدن للخضوع لصورتها المتخيلة، فتتقمصها ويصبح الأصل تابعاً للصورة. يروي الصياد واقعة تاريخية طريفة، حيث تم تمثيل القاهرة في معرض إكسبو شيكاغو عام 1893. وقام المهندس المعماري ماكس هرتز بتصميم الجناح المصري في المعرض، ليكون صورة طبق الأصل من منطقة سبيل وكُتَّاب عبد الرحمن كتخدا وبعض المساجد والبيوت حوله. وعند ترميم الأصل المتهالك بعد ما يزيد على 70 عاماً تمت الاستعانة بالنسخة المقلدة لترميم السبيل الأصلي.
كما يروي المؤلف واقعة كان هو نفسه شاهداً عليها، عندما نظَّم مؤتمراً في القاهرة يناقش ظاهرة اختلاق التراث، وخلال زيارة ضيوف المؤتمر لهضبة الهرم، وقف أستاذ أميركي يطل على أبي الهول مندهشاً ويتمتم بخيبة أمل: «ما هذا؟ أبو الهول صغير جداً، إنه صغير جداً». الرجل يعمل أستاذاً في جامعة نيفادا، يرى كل يوم فندق «لوكسور» الذي يتمثل اسم مدينة الأقصر، على شكل هرم بالحجم الطبيعي لهرم منقرع، ومدخله مصمم على هيئة أبو الهول، بضعف حجم التمثال الأصلي، وقد شعر الزائر بالإحباط عندما رأى أن الأصل أصغر من الصورة المحفوظة في خياله.
ربط الصياد الحقب التاريخية بحكامها، حيث لا يمكن برأيه النظر إلى حقبة معمارية دون معرفة شكل الحكم فيها ورأي الشعب في ذلك الحكم واستجاباته له. لكن العمارة المصرية القديمة لم تمت بشكل مفاجئ ذات لحظة، وإنما جرت عليها تحولات تلبي احتياجات الغالب، منذ أن قام الإسكندر بغزوها في 332 - 331 قبل الميلاد، وقد تبع ذلك الغزو 3 قرون من حكم البطالمة، ثم الحكم الروماني، ثم الحكم الإسلامي، بعد أن أنهى عمرو بن العاص الحكم البيزنطي المضطرب عام 641م وأسس الفسطاط على الشاطئ الشرقي للنيل بعد التغلب على حصن بابليون في الموقع ذاته.
ومع الخلافة العباسية، صار مركز الثقل في بغداد، وغربت شمس الفسطاط، وأسس الحاكم العباسي «العسكر» إلى الشمال الشرقي منها. ومع ظهور نفوذ الجنود ذوي الأصول التركية، برز أحمد بن طولون ونقل المركز من الفسطاط والعسكر، فأقام ما سماه «القطائع» ويعني بالعربية العنابر أو الأحياء، وقد شيدها على غرار مدينة سامراء العراقية التي أثرت على ذوقه في العمارة.
لا ينافس مسجد أحمد بن طولون في القاهرة من حيث الحجم سوى مسجد الحاكم بأمر الله الفاطمي، وقد كانت المرحلة الفاطمية من أزهى المراحل في تاريخ القاهرة، منذ أن دخلها جوهر الصقلي أو الصقلبي قائداً لحملة الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، حيث أوقع الهزيمة بالإخشيديين عام 969م، ثم بحث عن موقع لإقامة ثكنة لقواته، لأنه كان يحمل أفكاراً لتأسيس عاصمة جديدة طبقاً لتصورات الحاكم بأمر الله عن كرسي ينافس كرسي الخليفة في بغداد. واختار الصقلي لذلك قطعة الأرض شرق الفسطاط والقطائع، فكأن العواصم الإسلامية صارت سلسلة تتجه شرقاً.
وبعد 4 سنوات وصل المعز وسكن القاهرة وأعلنها عاصمة لخلافته، وقام رحالة إيطالي بعد ذلك بتحريف الاسم إلى «الكايرو» وهو الاسم الذي استقر في اللغات الأجنبية!
كل مرحلة تاريخية كانت تأذن بأفول موقع وإشراق آخر، ولم يكن مرور الجند على القاهرة هو المؤثر الوحيد في تخطيطها وعمارتها، بل ساهمت الأوبئة كالطاعون والكوليرا في تشكيلها. وهكذا مضت أزمنة المدينة، شهد بعضها تشييد الصروح الضخمة، والبعض اكتفى برموز بسيطة، وبعض العصور تركت ندوباً عميقة على جسدها.
يختتم نزار الصياد الكتاب الذي يقع في 416 صفحة من القطع المتوسط بفصل «خواطر عن قاهرة المستقبل... بين العاصمة الجديدة والجمهورية الجديدة». ويبرر الكاتب السرعة التي مر بها على مشروع مثير للجدل بأن التأريخ العمراني عمل يتم بعد انقضاء الحقبة، لا في أثنائها.


مقالات ذات صلة

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)
كتب بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة

ندى حطيط

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم