الزبداني: آخر معارك حزب الله على الحدود اللبنانية

نقطة أمن دمشق ومائها.. والملاذ شبه الأخير للمعارضة المتحدرة من المنطقة

الزبداني: آخر معارك حزب الله  على الحدود اللبنانية
TT

الزبداني: آخر معارك حزب الله على الحدود اللبنانية

الزبداني: آخر معارك حزب الله  على الحدود اللبنانية

لم تحسم القوات الحكومية السورية، مدعومة بقوات حزب الله اللبناني، معركة الزبداني بعد شهر على انطلاقتها. فالمدينة التي اختبرت خمس محاولات فاشلة لعقد هدنة على مدى السنوات الثلاث الماضية، لا تزال قوات المعارضة فيها تواجه الهجمات، رغم الحصار العسكري، فيما تحشد القوات الحكومية طاقة نارية كبيرة لإنهاء وجود المعارضة في آخر المدن الحدودية مع لبنان.
غير أن التطورات العسكرية، التي ينظر مراقبون إلى أنها لن تكون لصالح 800 مقاتل معارض لا يزالون يتحصنون فيها، فاجأت قياديين معارضين، تحدثوا عن وجوه تشابه بين معركة القصير التي بدأ حزب الله عملياته العسكرية في سوريا منها، نظرًا إلى طول أمد المعركة التي تخطت الشهرين، في وقت تغيب فيه المؤشرات على أن تكون الزبداني، آخر معارك حزب الله في سوريا، رغم أنها آخر الجبهات الاستراتيجية التي تمسّ أمنه على الحدود اللبنانية.

يشكك مصدر معارض بارز أن تكون معركة حزب الله في الزبداني، هي الأخيرة، مستندًا إلى خطاب للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، قال فيه «أينما يجب أن نكون، سنكون». ويقول لـ«الشرق الأوسط» إن دخول حزب الله في المعركة «لم يكن بسبب حماية المقامات الدينية كما زعم في البداية، ولا الحفاظ على أمن الحدود اللبنانية كما قال قياديون فيه»، معتبرًا أن الحزب «أخذ على عاتقه حماية نظام (الرئيس السوري بشار) الذي اعترف صراحة بعجزه عن حشد الطاقات البشرية في المعارك، فنشر قواته في دمشق وريفها وجنوب سوريا وحمص وحلب وأخيرًا إدلب».
وتعتري حزب الله في الزبداني مشكلة ديموغرافية تحول دون تحقيق حسم في المدينة، كما تحول دون التوصل إلى اتفاقات لا تصب لمصلحة المعارضة. ويقول الباحث السياسي والخبير العسكري السوري عبد الناصر العايد: «حين بدأت معركة القصير، انسحب مقاتلو المعارضة إلى القلمون وحمص، قبل انسحابهم أخيرًا بفعل الهجوم على القلمون الغربي إلى الزبداني»، لافتًا إلى أن المدينة «باتت الملاذ شبه الأخير لقوات المعارضة التي تتحدر من المنطقة، ما يزيد حجم الاعتماد على المواجهة». ويضيف: «انسحب مقاتلو المعارضة في السابق من القصير، باتجاه جبهات أخرى لأن موازين القوى لا تسمح بذلك، أما اليوم، فإن عائلاتهم لم يبقَ أمامها خيار آخر، وهم يدركون أن جميع المقاتلين المعارضين الذين قاتلوا في القصير، لم تعد عائلاتهم إليها، وبالتالي، لن يغادروا اليوم مناطقهم».
والزبداني، هي آخر المدن السورية على الحدود اللبنانية التي تحكم قوات المعارضة فيها السيطرة على أجزاء من المدينة، رغم انتشار قوات المعارضة في تلال حدودية، أهمها في جرود عرسال اللبنانية الحدودية مع سوريا. وتمتاز بميزتين استراتيجيتين بالنسبة للمعارضة، من جهة، ونظام الرئيس السوري بشار الأسد وحليفه حزب الله من جهة ثانية، ويتمثلان في موقعها الجغرافي وبأنها تتضمن محطات ضخ مياه الري للعاصمة السورية.
بالنسبة لقوات المعارضة، تتمتع الزبداني بأهمية رمزية، كونها أول مدينة سورية سيطرت عليها بعد اندلاع الأزمة السورية في مارس (آذار) 2011، وقليلاً ما استقطبت مقاتلين أجانب، كون القسم الأكبر من المقاتلين يتبعون فصيل «أحرار الشام»، وهم من أهالي الزبداني وريفها، وأهالي القلمون والقصير الذين استقطبتهم المدينة بعد استعادة النظام السيطرة عليهما.
ومن الناحية الاستراتيجية، تعتبر الزبداني نقطة انطلاق لقطع طريق دمشق - بيروت الدولي، نظرًا لبعد قواتها في جرود الزبداني عن الطريق الدولية، مسافة 8 كيلومترات فقط، فضلاً عن أنها نقطة انطلاق باتجاه العاصمة السورية عبر بلدات ريف دمشق الغربي، ونقطة اتصال بالغوطة الشرقية لدمشق، وبالتالي يمكن تهديد العاصمة السورية التي تسعى قوات النظام لإبعاد الخطر عنها. إضافة إلى ذلك، تعتبر المدينة خط اتصال خلفيا، ولو أنه ضعيف، بمقاتلي المعارضة في الغوطة الغربية لدمشق، وبالتالي باتجاه جنوب سوريا.
وفي المقابل، تسعى القوات النظامية لإنهاء ظاهرة المعارضة على حدود دمشق، وبالتالي استكمال سيطرتها على الحدود اللبنانية، وريف دمشق، وتأمين طريق العاصمة، ومياه الشفة إليها. وقد بدأ الهجوم على الزبداني بعد أسبوع على قطع المعارضة مياه الشفة عن العاصمة السورية، مقابل إطلاق سراح معتقلات، بحسب ما أعلنت فصائل المعارضة أواخر شهر يونيو (حزيران) الماضي.
ويوضح الخبير الاستراتيجي عبد الناصر العايد لـ«الشرق الأوسط»، أن تأمين العاصمة السورية واحتفاظ النظام بها، هو هدف النظام وحزب الله وحلفائهما في روسيا وإيران، وذلك «لتعزيز مكانة النظام، والإبقاء عليه كممثل وحيد للبلاد أمام المجتمع الدولي»، مشيرًا إلى أن النظام اليوم «يتمسك بتمثيله للدولة، وبرموزها السيادية التي تعد أهم نقاط قوته الدولية»، لافتًا إلى أن سيطرته على العاصمة دمشق «توفر له تلك الميزة».
ويشرح العايد أن سيطرته على الرموز السيادية للدولة «تتمثل في الوزارات والحكومة ومؤسسات الدولة، وبالتالي يحتكر التمثيل ويبقى الطرف المعترف به في الأمم المتحدة». ويضيف: «وعي النظام لأهمية الحفاظ على الورقة يمنحه قوة في المحافل الدولية، لذلك أولى معركة دمشق أهمية بالغة».
أما الميزة الاستراتيجية الثانية للنظام التي تمنحه قدرة على الصمود، فتتمثل في الدفاع عن حاضنته الشعبية العلوية في الساحل السوري، والإبقاء على اتصالها بمركز الدولة في العاصمة، كما يقول العايد، معتبرًا أن «حماية العاصمة والمنطقة العلوية، والإبقاء على الاتصال بينهما، يشعره بأمان نسبي، ومن هنا تأتي أهمية العملية في الزبداني بالنسبة إليه التي تعد جزءًا من العاصمة، بينما إبعادها عن الخطر يحظى بأولوية بالنسبة للنظام».
ويتشارك حزب الله، مع حليفه النظام السوري، بتلك الدوافع للانخراط في معركة الزبداني، فيما يهم حزب الله سبب آخر يمثل أولوية بالنسبة إليه، وهو إبعاد قوات المعارضة السورية عن مناطق نفوذه في المناطق اللبنانية أيضًا. فعلى المقلب اللبناني من الحدود، تنتشر بلدات وقرى يغلب عليها الطابع الشيعي، تعتبر الخزان البشري لقاعدة حزب الله الشعبية، وقد تعرضت في وقت سابق في شرق بعلبك، لإطلاق صواريخ مصدرها السلسلة الشرقية لجبال القلمون، فضلاً عن أن قوات المعارضة نفذت كمائن على نقاط تمركز حزب الله في المنطقة الحدودية، وهو ما دفع الحزب، خلال الأشهر الماضية، لإطلاق معركة واسعة للسيطرة على التلال الحدودية مع سوريا في القلمون الغربي والتي كانت تتحصن فيها قوات المعارضة.
ومنذ انطلاق الهجوم على الزبداني، سرى اعتقاد بأن المعركة ستكون آخر المعارك الحدودية لحزب الله التي أطلقها في مدينة القصير (ريف حمص الجنوبي) في ربيع 2013 وامتدت إلى القلمون. وعقدت المقارنة بين القصير والزبداني، على قاعدة «التحصين» لقوات المعارضة، و«الاستنزاف» لحزب الله، فضلاً عن أن المنطقتين تتشابهان لناحية الهجوم على مدينة مأهولة بالسكان المدنيين.
غير أن توقعات مشابهة بأنها ستكون آخر معارك حزب الله الحدودية، ينفيها العايد، قائلا إن المعركة «هي حرب واسعة بكل ما تعنيه الكلمة، وتتطلب القضاء على وجود المعارضة ماديا، عبر القضاء على البيئة البنائية في المدينة، إضافة إلى انتشار المقاتلين المعارضين في بيئتهم الجغرافية وامتدادهم الديموغرافي»، مضيفًا: «هنا نتحدث عن بؤر متعددة، يصعب السيطرة عليها بالنهاية، فالمعارضة في ريف دمشق، ليسوا جيشًا له قيادة تتحطم ويُعلن الانتصار عليها»، معربًا عن اعتقاده أن «القيادة في المدينة، لن تسلم، فقد تختفي في مكان وتظهر في مكان آخر، مثلما حصل إبان معركة القصير، وستخوض حرب العصابات التي لا يمكن إنهاءها ولا يمكن تسجيل نصر إثرها».
ويقول إن «الطبيعة الديموغرافية والجغرافية تقود إلى أن حزب الله والنظام سيوجدون في بيئة مناوئة لهم من الناحية الديموغرافية، ما يعني أن نهاية المعركة لن تتحقق، وستفتح التضاريس حرب استنزاف»، لافتًا إلى أن الحرب «ستكون بلا أفق كونها لا تخضع لمعايير الحروب النظامية»، مشيرًا إلى أن «الحزب والنظام يدركان ذلك، وقد اختبرا الهدن في مناطق أخرى مثل المعضمية والحجر الأسود واليرموك وغيرها حول العاصمة، لكنها لم تمنحهما السيطرة بثقة على المكان، وبقيت سيطرة غير مضمونة النتائج».
وكانت القوات النظامية توصلت إلى هدن واتفاقات مع قوات المعارضة، قضت بسحب السلاح الثقيل، وتخفيف الحصار عنها، لكنها لم تحقق نجاحًا كاملاً نظرًا إلى اختراقها بين الحين والآخر.. وقد اختبرت الزبداني، خمس محاولات للتوصل إلى اتفاق بين قوى المعارضة والنظام، لكنها كانت تسقط، ولم تنجح في عقد اتفاقات كما في مناطق أخرى، رغم أن أولى المحاولات في ريف دمشق بدأت في المدينة.
وفشلت جولة المفاوضات الأخيرة بين النظام والمعارضة في الزبداني، التي بدأت المحاولات فيها بعد 15 يومًا على انطلاق الهجوم، بتحقيق أي نتائج. وفيما تحدث معارضون عن انخراط إيرانيين بالمفاوضات بشكل مباشر، نفت مصادر بارزة في المعارضة السورية ذلك، قائلة لـ«الشرق الأوسط» إن أطرافًا لبنانيين وسوريين «انخرطوا بالمفاوضات عن النظام بالوساطة عبر أعضاء في فريق المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، الذين التقوا بدورهم بممثلين عن لواء أحرار الشام الذي يتمتع بالنفوذ العسكري الأوسع في المدينة». وقال إن المفاوضات التي سهلتها أيضًا فعاليات مدنية من المدينة «وصلت إلى حائط مسدود».
ميدانيًا، وبعد شهر على انطلاق المعركة، لم تستطع القوات الحكومية السورية، مدعومة بقوات حزب الله اللبناني، حسم معركة الزبداني (ريف دمشق الغربي)، رغم التوقعات بالسيطرة عليها في فترة قياسية، وحشد الطاقات لإنهاء وجود المعارضة في آخر معاقل المعارضة السورية على الحدود اللبنانية.
وبحسب «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، يشارك حزب الله اللبناني وقوات الدفاع الوطني والفرقة الرابعة وجيش التحرير الفلسطيني في المعارك ضد فصائل إسلامية أهمها «أحرار الشام» ومسلحين محليين، وسط توثيق سقوط أكثر من 900 برميل متفجر في المدينة، إضافة إلى عشرات الصواريخ ومئات القذائف المدفعية.
وتحولت المعركة إلى مواجهات مباشرة تتركز في الأحياء الواقعة جنوب شرقي الزبداني، بعد انحسارها في مساحة من الأبنية، إثر انسحاب قوات المعارضة من المزارع المحيطة بالمدينة، كان آخرها حي الحكمة المتصل بشارع الجرجانية شرق الزبداني. وبفعل الاشتباكات والالتحام المباشر، تضاءل عدد الغارات الجوية اليومية التي تنفذ ضد قوات المعارضة، فيما يقول ناشطون إن مقاتلي المعارضة يستخدمون «تكتيك الأنفاق لمباغتة قوات حزب الله».
ويقول عضو مجلس قيادة الثورة بريف دمشق إسماعيل الداراني لـ«الشرق الأوسط»، إن وتيرة المعارك خفت عن السابق، مشيرًا إلى أنه «بفعل المواجهات المستمرة، تحولت المعركة إلى استنزاف للطرفين، ولم يستطع حزب الله السيطرة على مناطق استراتيجية». واعتبر أن «المعارك ستعيد تجربة داريا التي لم تستطع قوات النظام السيطرة عليها رغم الدمار الكبير فيها». ويضيف: «تمكنت القوات النظامية من تدمير أبنية بفعل القصف العنيف، لكن تلك الأبنية باتت كتلة إسمنتية بمثابة دشمة، يختبئ فيها القناصون ويتحصنون فيها، ما يمنحهم أهلية لصد الهجمات».
وإذ أشار إلى أن مقاتلي المعارضة في الداخل «يتخطى عددهم الـ800 مقاتل»، قال الداراني إن الحصار المطبق عليها «منع وصول مقاتلين معارضين من الخارج، رغم أن الحصار لا ينطبق بعد على الأسلحة، لأن تهريبها، حتى لو أنه تضاءل، فلا يزال ممكنًا».
وأدت وتيرة العمليات إلى مقتل 37 مقاتلاً من عناصر حزب الله اللبناني في الزبداني خلال شهر يوليو (تموز) الفائت.
ورغم الحصار والقصف، يعرب معارضون عن تفاجئهم من القدرة على الاستمرار بالقتال. ويقول العايد، وهو محلل عسكري سوري معارض: «في الحرب السورية شهدنا عمليات كر وفر واستعادة، مئات المرات، والأمور خاضعة لهذا المنطق، فلا يمكن الحكم على مدينة بالسقوط»، معربًا عن توقعاته «أن نشهد انقلابًا في خريطة الموازين العسكرية لصالح المعارضة، لأنها الطرف المبادر دومًا للمفاجآت، ويستطيعون تحقيق إنجازات رغم أنهم لا يمتلكون خطط واضحة معلن عنها، كما النظام والجيوش النظامية، وقد ظهر ذلك في مفاجأة السيطرة على إدلب وغيرها في الجنوب».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.