لم تحسم القوات الحكومية السورية، مدعومة بقوات حزب الله اللبناني، معركة الزبداني بعد شهر على انطلاقتها. فالمدينة التي اختبرت خمس محاولات فاشلة لعقد هدنة على مدى السنوات الثلاث الماضية، لا تزال قوات المعارضة فيها تواجه الهجمات، رغم الحصار العسكري، فيما تحشد القوات الحكومية طاقة نارية كبيرة لإنهاء وجود المعارضة في آخر المدن الحدودية مع لبنان.
غير أن التطورات العسكرية، التي ينظر مراقبون إلى أنها لن تكون لصالح 800 مقاتل معارض لا يزالون يتحصنون فيها، فاجأت قياديين معارضين، تحدثوا عن وجوه تشابه بين معركة القصير التي بدأ حزب الله عملياته العسكرية في سوريا منها، نظرًا إلى طول أمد المعركة التي تخطت الشهرين، في وقت تغيب فيه المؤشرات على أن تكون الزبداني، آخر معارك حزب الله في سوريا، رغم أنها آخر الجبهات الاستراتيجية التي تمسّ أمنه على الحدود اللبنانية.
يشكك مصدر معارض بارز أن تكون معركة حزب الله في الزبداني، هي الأخيرة، مستندًا إلى خطاب للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، قال فيه «أينما يجب أن نكون، سنكون». ويقول لـ«الشرق الأوسط» إن دخول حزب الله في المعركة «لم يكن بسبب حماية المقامات الدينية كما زعم في البداية، ولا الحفاظ على أمن الحدود اللبنانية كما قال قياديون فيه»، معتبرًا أن الحزب «أخذ على عاتقه حماية نظام (الرئيس السوري بشار) الذي اعترف صراحة بعجزه عن حشد الطاقات البشرية في المعارك، فنشر قواته في دمشق وريفها وجنوب سوريا وحمص وحلب وأخيرًا إدلب».
وتعتري حزب الله في الزبداني مشكلة ديموغرافية تحول دون تحقيق حسم في المدينة، كما تحول دون التوصل إلى اتفاقات لا تصب لمصلحة المعارضة. ويقول الباحث السياسي والخبير العسكري السوري عبد الناصر العايد: «حين بدأت معركة القصير، انسحب مقاتلو المعارضة إلى القلمون وحمص، قبل انسحابهم أخيرًا بفعل الهجوم على القلمون الغربي إلى الزبداني»، لافتًا إلى أن المدينة «باتت الملاذ شبه الأخير لقوات المعارضة التي تتحدر من المنطقة، ما يزيد حجم الاعتماد على المواجهة». ويضيف: «انسحب مقاتلو المعارضة في السابق من القصير، باتجاه جبهات أخرى لأن موازين القوى لا تسمح بذلك، أما اليوم، فإن عائلاتهم لم يبقَ أمامها خيار آخر، وهم يدركون أن جميع المقاتلين المعارضين الذين قاتلوا في القصير، لم تعد عائلاتهم إليها، وبالتالي، لن يغادروا اليوم مناطقهم».
والزبداني، هي آخر المدن السورية على الحدود اللبنانية التي تحكم قوات المعارضة فيها السيطرة على أجزاء من المدينة، رغم انتشار قوات المعارضة في تلال حدودية، أهمها في جرود عرسال اللبنانية الحدودية مع سوريا. وتمتاز بميزتين استراتيجيتين بالنسبة للمعارضة، من جهة، ونظام الرئيس السوري بشار الأسد وحليفه حزب الله من جهة ثانية، ويتمثلان في موقعها الجغرافي وبأنها تتضمن محطات ضخ مياه الري للعاصمة السورية.
بالنسبة لقوات المعارضة، تتمتع الزبداني بأهمية رمزية، كونها أول مدينة سورية سيطرت عليها بعد اندلاع الأزمة السورية في مارس (آذار) 2011، وقليلاً ما استقطبت مقاتلين أجانب، كون القسم الأكبر من المقاتلين يتبعون فصيل «أحرار الشام»، وهم من أهالي الزبداني وريفها، وأهالي القلمون والقصير الذين استقطبتهم المدينة بعد استعادة النظام السيطرة عليهما.
ومن الناحية الاستراتيجية، تعتبر الزبداني نقطة انطلاق لقطع طريق دمشق - بيروت الدولي، نظرًا لبعد قواتها في جرود الزبداني عن الطريق الدولية، مسافة 8 كيلومترات فقط، فضلاً عن أنها نقطة انطلاق باتجاه العاصمة السورية عبر بلدات ريف دمشق الغربي، ونقطة اتصال بالغوطة الشرقية لدمشق، وبالتالي يمكن تهديد العاصمة السورية التي تسعى قوات النظام لإبعاد الخطر عنها. إضافة إلى ذلك، تعتبر المدينة خط اتصال خلفيا، ولو أنه ضعيف، بمقاتلي المعارضة في الغوطة الغربية لدمشق، وبالتالي باتجاه جنوب سوريا.
وفي المقابل، تسعى القوات النظامية لإنهاء ظاهرة المعارضة على حدود دمشق، وبالتالي استكمال سيطرتها على الحدود اللبنانية، وريف دمشق، وتأمين طريق العاصمة، ومياه الشفة إليها. وقد بدأ الهجوم على الزبداني بعد أسبوع على قطع المعارضة مياه الشفة عن العاصمة السورية، مقابل إطلاق سراح معتقلات، بحسب ما أعلنت فصائل المعارضة أواخر شهر يونيو (حزيران) الماضي.
ويوضح الخبير الاستراتيجي عبد الناصر العايد لـ«الشرق الأوسط»، أن تأمين العاصمة السورية واحتفاظ النظام بها، هو هدف النظام وحزب الله وحلفائهما في روسيا وإيران، وذلك «لتعزيز مكانة النظام، والإبقاء عليه كممثل وحيد للبلاد أمام المجتمع الدولي»، مشيرًا إلى أن النظام اليوم «يتمسك بتمثيله للدولة، وبرموزها السيادية التي تعد أهم نقاط قوته الدولية»، لافتًا إلى أن سيطرته على العاصمة دمشق «توفر له تلك الميزة».
ويشرح العايد أن سيطرته على الرموز السيادية للدولة «تتمثل في الوزارات والحكومة ومؤسسات الدولة، وبالتالي يحتكر التمثيل ويبقى الطرف المعترف به في الأمم المتحدة». ويضيف: «وعي النظام لأهمية الحفاظ على الورقة يمنحه قوة في المحافل الدولية، لذلك أولى معركة دمشق أهمية بالغة».
أما الميزة الاستراتيجية الثانية للنظام التي تمنحه قدرة على الصمود، فتتمثل في الدفاع عن حاضنته الشعبية العلوية في الساحل السوري، والإبقاء على اتصالها بمركز الدولة في العاصمة، كما يقول العايد، معتبرًا أن «حماية العاصمة والمنطقة العلوية، والإبقاء على الاتصال بينهما، يشعره بأمان نسبي، ومن هنا تأتي أهمية العملية في الزبداني بالنسبة إليه التي تعد جزءًا من العاصمة، بينما إبعادها عن الخطر يحظى بأولوية بالنسبة للنظام».
ويتشارك حزب الله، مع حليفه النظام السوري، بتلك الدوافع للانخراط في معركة الزبداني، فيما يهم حزب الله سبب آخر يمثل أولوية بالنسبة إليه، وهو إبعاد قوات المعارضة السورية عن مناطق نفوذه في المناطق اللبنانية أيضًا. فعلى المقلب اللبناني من الحدود، تنتشر بلدات وقرى يغلب عليها الطابع الشيعي، تعتبر الخزان البشري لقاعدة حزب الله الشعبية، وقد تعرضت في وقت سابق في شرق بعلبك، لإطلاق صواريخ مصدرها السلسلة الشرقية لجبال القلمون، فضلاً عن أن قوات المعارضة نفذت كمائن على نقاط تمركز حزب الله في المنطقة الحدودية، وهو ما دفع الحزب، خلال الأشهر الماضية، لإطلاق معركة واسعة للسيطرة على التلال الحدودية مع سوريا في القلمون الغربي والتي كانت تتحصن فيها قوات المعارضة.
ومنذ انطلاق الهجوم على الزبداني، سرى اعتقاد بأن المعركة ستكون آخر المعارك الحدودية لحزب الله التي أطلقها في مدينة القصير (ريف حمص الجنوبي) في ربيع 2013 وامتدت إلى القلمون. وعقدت المقارنة بين القصير والزبداني، على قاعدة «التحصين» لقوات المعارضة، و«الاستنزاف» لحزب الله، فضلاً عن أن المنطقتين تتشابهان لناحية الهجوم على مدينة مأهولة بالسكان المدنيين.
غير أن توقعات مشابهة بأنها ستكون آخر معارك حزب الله الحدودية، ينفيها العايد، قائلا إن المعركة «هي حرب واسعة بكل ما تعنيه الكلمة، وتتطلب القضاء على وجود المعارضة ماديا، عبر القضاء على البيئة البنائية في المدينة، إضافة إلى انتشار المقاتلين المعارضين في بيئتهم الجغرافية وامتدادهم الديموغرافي»، مضيفًا: «هنا نتحدث عن بؤر متعددة، يصعب السيطرة عليها بالنهاية، فالمعارضة في ريف دمشق، ليسوا جيشًا له قيادة تتحطم ويُعلن الانتصار عليها»، معربًا عن اعتقاده أن «القيادة في المدينة، لن تسلم، فقد تختفي في مكان وتظهر في مكان آخر، مثلما حصل إبان معركة القصير، وستخوض حرب العصابات التي لا يمكن إنهاءها ولا يمكن تسجيل نصر إثرها».
ويقول إن «الطبيعة الديموغرافية والجغرافية تقود إلى أن حزب الله والنظام سيوجدون في بيئة مناوئة لهم من الناحية الديموغرافية، ما يعني أن نهاية المعركة لن تتحقق، وستفتح التضاريس حرب استنزاف»، لافتًا إلى أن الحرب «ستكون بلا أفق كونها لا تخضع لمعايير الحروب النظامية»، مشيرًا إلى أن «الحزب والنظام يدركان ذلك، وقد اختبرا الهدن في مناطق أخرى مثل المعضمية والحجر الأسود واليرموك وغيرها حول العاصمة، لكنها لم تمنحهما السيطرة بثقة على المكان، وبقيت سيطرة غير مضمونة النتائج».
وكانت القوات النظامية توصلت إلى هدن واتفاقات مع قوات المعارضة، قضت بسحب السلاح الثقيل، وتخفيف الحصار عنها، لكنها لم تحقق نجاحًا كاملاً نظرًا إلى اختراقها بين الحين والآخر.. وقد اختبرت الزبداني، خمس محاولات للتوصل إلى اتفاق بين قوى المعارضة والنظام، لكنها كانت تسقط، ولم تنجح في عقد اتفاقات كما في مناطق أخرى، رغم أن أولى المحاولات في ريف دمشق بدأت في المدينة.
وفشلت جولة المفاوضات الأخيرة بين النظام والمعارضة في الزبداني، التي بدأت المحاولات فيها بعد 15 يومًا على انطلاق الهجوم، بتحقيق أي نتائج. وفيما تحدث معارضون عن انخراط إيرانيين بالمفاوضات بشكل مباشر، نفت مصادر بارزة في المعارضة السورية ذلك، قائلة لـ«الشرق الأوسط» إن أطرافًا لبنانيين وسوريين «انخرطوا بالمفاوضات عن النظام بالوساطة عبر أعضاء في فريق المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، الذين التقوا بدورهم بممثلين عن لواء أحرار الشام الذي يتمتع بالنفوذ العسكري الأوسع في المدينة». وقال إن المفاوضات التي سهلتها أيضًا فعاليات مدنية من المدينة «وصلت إلى حائط مسدود».
ميدانيًا، وبعد شهر على انطلاق المعركة، لم تستطع القوات الحكومية السورية، مدعومة بقوات حزب الله اللبناني، حسم معركة الزبداني (ريف دمشق الغربي)، رغم التوقعات بالسيطرة عليها في فترة قياسية، وحشد الطاقات لإنهاء وجود المعارضة في آخر معاقل المعارضة السورية على الحدود اللبنانية.
وبحسب «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، يشارك حزب الله اللبناني وقوات الدفاع الوطني والفرقة الرابعة وجيش التحرير الفلسطيني في المعارك ضد فصائل إسلامية أهمها «أحرار الشام» ومسلحين محليين، وسط توثيق سقوط أكثر من 900 برميل متفجر في المدينة، إضافة إلى عشرات الصواريخ ومئات القذائف المدفعية.
وتحولت المعركة إلى مواجهات مباشرة تتركز في الأحياء الواقعة جنوب شرقي الزبداني، بعد انحسارها في مساحة من الأبنية، إثر انسحاب قوات المعارضة من المزارع المحيطة بالمدينة، كان آخرها حي الحكمة المتصل بشارع الجرجانية شرق الزبداني. وبفعل الاشتباكات والالتحام المباشر، تضاءل عدد الغارات الجوية اليومية التي تنفذ ضد قوات المعارضة، فيما يقول ناشطون إن مقاتلي المعارضة يستخدمون «تكتيك الأنفاق لمباغتة قوات حزب الله».
ويقول عضو مجلس قيادة الثورة بريف دمشق إسماعيل الداراني لـ«الشرق الأوسط»، إن وتيرة المعارك خفت عن السابق، مشيرًا إلى أنه «بفعل المواجهات المستمرة، تحولت المعركة إلى استنزاف للطرفين، ولم يستطع حزب الله السيطرة على مناطق استراتيجية». واعتبر أن «المعارك ستعيد تجربة داريا التي لم تستطع قوات النظام السيطرة عليها رغم الدمار الكبير فيها». ويضيف: «تمكنت القوات النظامية من تدمير أبنية بفعل القصف العنيف، لكن تلك الأبنية باتت كتلة إسمنتية بمثابة دشمة، يختبئ فيها القناصون ويتحصنون فيها، ما يمنحهم أهلية لصد الهجمات».
وإذ أشار إلى أن مقاتلي المعارضة في الداخل «يتخطى عددهم الـ800 مقاتل»، قال الداراني إن الحصار المطبق عليها «منع وصول مقاتلين معارضين من الخارج، رغم أن الحصار لا ينطبق بعد على الأسلحة، لأن تهريبها، حتى لو أنه تضاءل، فلا يزال ممكنًا».
وأدت وتيرة العمليات إلى مقتل 37 مقاتلاً من عناصر حزب الله اللبناني في الزبداني خلال شهر يوليو (تموز) الفائت.
ورغم الحصار والقصف، يعرب معارضون عن تفاجئهم من القدرة على الاستمرار بالقتال. ويقول العايد، وهو محلل عسكري سوري معارض: «في الحرب السورية شهدنا عمليات كر وفر واستعادة، مئات المرات، والأمور خاضعة لهذا المنطق، فلا يمكن الحكم على مدينة بالسقوط»، معربًا عن توقعاته «أن نشهد انقلابًا في خريطة الموازين العسكرية لصالح المعارضة، لأنها الطرف المبادر دومًا للمفاجآت، ويستطيعون تحقيق إنجازات رغم أنهم لا يمتلكون خطط واضحة معلن عنها، كما النظام والجيوش النظامية، وقد ظهر ذلك في مفاجأة السيطرة على إدلب وغيرها في الجنوب».