أفلام ترسم صوراً داكنة حول هوليوود الآثمة

«بابليون» أحدثها وقبله أعمال أخرى

«بابليون» العشرينات الخادعة (باراماونت بكتشرز)
«بابليون» العشرينات الخادعة (باراماونت بكتشرز)
TT

أفلام ترسم صوراً داكنة حول هوليوود الآثمة

«بابليون» العشرينات الخادعة (باراماونت بكتشرز)
«بابليون» العشرينات الخادعة (باراماونت بكتشرز)

تتعثَّر مسيرة بعض الأفلام الكبيرة فتقع. فيلم «كليوباترا» (جوزيف مانكوفيتز، 1963) ارتفعت تكاليفه لأكثر مما كان في بال الشركة المنتجة «فوكس»، وعندما حطّ على الشاشات لم ينجز تماماً النجاح الذي سعى إليه. «بوابة الجنة» Heavn‪›‬s Gate (مايكل شيمينو، 1980) أراد أن يقدّم للشاشة «أضخم فيلم وسترن» في التاريخ لكن هذا الطموح الكبير لم ينجز إلا الخسارة الكبيرة أيضاً.‬‬‬
الأمر نفسه كاد أن يحدث لفيلم فرانسيس فورد كوبولا «القيامة الآن» (Apocalypse Now): مشروع ضخم عن الحرب الفيتنامية، لكنه ووجِه بشتى أنواع المصاعب من عواصف عاتية دمّرت ديكورات التصوير، إلى فقدان مارلون براندو القدرة على التركيز وترك التصوير ثم العودة إليه وقد زاد وزنه عن 300 باوند مما منعه من الظهور بكامل بدنه. إدمان مارتن شين على الشرب وقيام المخرج بتصوير مئات آلاف الأمتار من الفيلم فوق المعتاد، مما جعل ميزانية العمل تتضاعف من 16 مليون دولار إلى 32 مليون دولار. كيف أنجز الفيلم إيراداً مقبولاً في نهاية المطاف (نحو 112 مليون دولار) يبقى أمراً غامضاً لكنه أنقذ الفيلم الذي هو أحد أفضل ما أنتجته السينما من أعمال من مصير أسود محتم.

جوش برولِن وتيلدا سونتون في «هايل سيزار» (يونيفرسال بكتشرز)

فضائح منشورة
فيلم داميان شازيل «بابليون» هو من هذا النوع الذي تعثر تحت ثقل طموحاته. دراما عن هوليوود العشرينات وما داخلها من فضائح وخطايا وكل ما يمكن أن ينعتها بالفسق والمجون وضمور الأخلاق. سعى داميان شازيل إلى منح مشاهدي اليوم صورة حول ما كانت عليه هوليوود بالأمس. ليس كل الصورة، بل تلك الموصوفة بكل سوء ممكن: الأنانية، الشرب، الإدمان على المخدرات، الحفلات الماجنة، الإخفاقات التي تحطم أصحابها والأحلام التي تدغدغ الساعين إلى الشهرة مقابل أي ثمن ممكن. النقاد انقسموا وأغلبهم وجدوا الفيلم حافلاً بأكثر مما يلزمه من طروحات. حمل وزناً زائداً من الأمثلة وحشد لصبغ هوليوود بلون واحد مستوحى من «سادوم وعمورة» ومثمراً عن فيلم لم يرد أحد مشاهدته.
هذا مؤسف فالمخرج شازيل موهوب كما برهن على ذلك بأفلامه السابقة «سوط» (2014) و«لالا لاند» (2016) و«رجل أول» (2018). مشكلته هي أنه يقصد اصطياد العيوب في المسائل التي يطرحها فـ«سوط» كان عن قسوة أستاذ موسيقى و«لالا لاند» كان عن افتراق شمل العشّاق بفعل أخطاء أصحابها و«أول رجل» لم يكن عن الخطوة الكبيرة لأول أميركي سار على كوكب القمر، بل ما مر به نيل أرمسترونغ من مخاوف وعقبات شخصية وعلمية تم إخفاؤها فيما نُشر من كتب وأنتج من أفلام حول الموضوع.
على ذلك «بابليون» هو فيلم مختلف بكم الدكانة التي تميّزه.
هوليوود العشرينات، كما وصفها كتاب «هوليوود بابليون» لكينيث أنغر كانت كل ما يصفه فيلم شازيل «بابليون» وأكثر. أنغر كان مخرجاً سينمائياً بدوره تخصص في السينما التسجيلية والسوريالية والتجريبية. كتابه ذاك صدر سنة 1965 ثم سُحب من الأسواق (البعض يقول إنه مُنع) لعشر سنوات قبل أن يصبح متوفراً. سرد المؤلف فيه أحداثاً ومفارقات وحكايات ادّعى صحّتها في حين ادَّعى الإعلام أن معظمها كان ملفقاً. الحقائق بذلك ضاعت، لكن من المحتمل أن يكون أنغر، الذي أحاط بهوليوود من العشرينات إلى الستينات استند إلى أحداث وحقائق أساسية.
لم ينج جون واين وتشارلي تشابلن وإيرول فلين ولانا تيرنر وجودي غارلاند وجون غيلبرت ورودولف فالنتينو وعشرات آخرين أمام الكاميرا وخلفها من أحكامه. اصطاد إدمان جون غيلبرت على الشرب وإدمان جودي غارلاند على المخدرات وموت ثلما تود في سيارتها في ظروف غامضة وجريمة قتل المخرج جون دزموند تايلور التي لم يُعرف مرتكبها إلى اليوم، وفضائح كلارا بو الجنسية والعديد المماثل من الفضائح التي رغب أنغر كشفها فيما يشبه الرغبة في استثمار الموقف لجني النجاح على غلافي الكتاب.

مصنع الأحلام
ليس أن العديد مما ذكره أنغر ومما شوهد على شاشة فيلم شازيل ليس صحيحاً، بل ربما زاد عن حدّه في كلا العملين. بالنسبة لفيلم شازيل بدا كما لو أنه كان بحاجة لخطة عمل مختلفة توفر للمشاهد سرداً أكثر تناسقاً وإقناعاً وأقل سعياً لتغييب الإيحاء مقابل رمي نماذج الانحدار الأخلاقي في وجه المُشاهد مباشرة.
في عمومه هو فيلم لا يختلق. الكثير مما يرد في الفيلم كانت له أصول أو أحداث موازية. ما غاب عنه ذلك النقد الخالص الذي ورد في فيلم بيلي وايلدر «صنست بوليفارد» (1950) حيث لخّص الفيلم حالة نجمة من العهد الصامت والناطق الأول (غلوريا سوانسن) بعدما وجدت نفسها معزولة عن هوليوود بفعل سنوات عمرها. تصبو للعودة بفيلم وتتخيل نفسها أمام الكاميرات كما تعوّدت سابقاً.
الصورة الماثلة هنا لا تنال من هوليوود وكر الفضائح، بل تنال منها كمصنع أحلام يُدير ظهره للنجوم الذي قام بصنعهم حالما يتم استهلاكهم.
عالج الأخوان جووَل وإيثان كووَن هوليوود من زاوية مختلفة في أحداث فيلمهما «Hail‪، ‬ Caesar» سنة 2016. السيناريو الذي قاما بكتابته مبني على جملة من الأحداث التي وقعت لكنها محشورة في خانة السخرية والكوميديا السوداء. منتج «جوش برولِن» عليه حل المشاكل التي تنفجر أمامه: ممثلة ترفض إكمال دورها. ممثل مخطوف من قِبل مجموعة من ضحايا المكارثية. صحافية تريد نقل ما يدور إلى عمودها الفضائحي ومخاطر تأجيل التصوير على فيلم بميزانية ضخمة. هذا بجانب مشاكله الشخصية، الصورة هنا سلبية بدورها، لكنها مسلية أكثر مما تنجح في نقل وقائع أو انتقادها.‬‬‬
في هذا المجال نجح روبرت ألتمن حيث فشل الأخوان كووَن. في فيلمه «اللاعب» (The Player) الذي حققه سنة 1992 عن الأحلام التي تدفع بأصحابها إلى التضحية في سبيل القليل من المجد. الفيلم كوميديا ساخرة. لا يقتبس من أحداث واقعة بل يبني حكايته على ما يُقارب تلك الوقائع أو بوحيها.
‫نظرة الفيلم ليست أحلك من نظرة ديفيد لينش في فيلمه الممتاز «مولهولاند درايف» (2001) ولا بخفة فيلم S.O.B ‬لبلاك إدواردز (1981).‬‬‬
العالق في الذهن أكثر من سواه، لحداثته بالطبع، هو Once Upon a Time in Hollywood لكونتن تارنتينو (2019) الذي دمج حكاية صعود وهبوط نجم (ليوناردو ديكابريو) ومقتل الممثلة شارون تايت (مارغو روبي)، التي تقود البطولة النسائية في «بابليون» في نظرة ذات مسافة عاطفية، فهو لا مع ولا ضد ما يعرضه، لذلك فإن رسالته، في أفضل حالاتها، محايدة ولو إنها - في بعضها على الأقل - مسلية.
وقبله ما قام به داميان شازيل في «بابليون» ليس بعيداً عما كان يقع، ربما بحجم أكبر وفي مختلف مراحل هوليوود وليس حكراً على العشرينات فقط. لكن المميّز هنا هو أن العشرينات كانت العقد الذي أدرك فيه الجميع أن السينما وُلدت لتبقى وأن الصناعة لم تكن مجرد ومضة أو برق في سماء شتوية، بل كانت مخلوقاً يُراهن الجميع على نجاحه، واطراد ذلك النجاح عقداً وراء عقد.
يسرد الفيلم حكايات قابلة للتصديق إلى حد مخيف ينال من الخيال الرومانسي لهوليوود التي وقعت تحت براثن صانعي أفلام ممزّقين بين دوري الصيّاد والفريسة.


مقالات ذات صلة

«البحر الأحمر» يستقبل 2000 فيلم وتكريم خاص لمنى زكي وفيولا ديفيس

يوميات الشرق جانب من المؤتمر الصحافي لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي (الشرق الأوسط)

«البحر الأحمر» يستقبل 2000 فيلم وتكريم خاص لمنى زكي وفيولا ديفيس

أطلق مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي نسخته الرابعة بحلة جديدة تحت شعار «للسينما بيت جديد» من قلب مقره الجديد في المنطقة التاريخية بمدينة جدة.

سعيد الأبيض (جدة)
يوميات الشرق الفنان المصري محمود عبد العزيز (فيسبوك)

مصريون يتذكرون أعمال «الساحر» محمود عبد العزيز في ذكرى رحيله الثامنة

مع حلول الذكرى الثامنة لرحيل الفنان المصري محمود عبد العزيز الشهير بـ«الساحر»، احتفل محبوه على «السوشيال ميديا»، الثلاثاء، بتداول مشاهد من أعماله الفنية.

رشا أحمد (القاهرة )
يوميات الشرق الملصق الدعائي لفيلم «الهوى سلطان» (الشركة المنتجة)

البطولات النسائية تستحوذ على صدارة إيرادات السينما المصرية في الخريف

استحوذت «البطولات النسائية» التي تنوعت موضوعاتها ما بين الرومانسي والكوميدي والاجتماعي على صدارة إيرادات دور العرض السينمائي بـ«موسم الخريف» في مصر.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق الفيلم السعودي القصير «ملكة» (البحر الأحمر)

«مهرجان البحر الأحمر» بانوراما للسينما العربية والعالمية

تشهد الدورة المقبلة لـ«مهرجان البحر الأحمر» في جدة، بالمملكة العربية السعودية، تطوّراً إيجابياً مهمّاً في عداد تحويل المهرجان إلى بيت للسينما العربية.

محمد رُضا (لندن)
يوميات الشرق الممثل كيليان مورفي يعود إلى شخصية تومي شلبي في فيلم «The Immortal Man» (نتفليكس)

عصابة آل شلبي عائدة... من باب السينما هذه المرة

يعود المسلسل المحبوب «Peaky Blinders» بعد 6 مواسم ناجحة، إنما هذه المرة على هيئة فيلم من بطولة كيليان مورفي المعروف بشخصية تومي شلبي.

كريستين حبيب (بيروت)

وثائقي ينقل بعيون إسرائيلية وفلسطينية واقع الاستيطان في الضفة الغربية

المخرجان الفلسطيني باسل عدرا (يسار) والإسرائيلي يوفال أبراهام في باريس (أ.ف.ب)
المخرجان الفلسطيني باسل عدرا (يسار) والإسرائيلي يوفال أبراهام في باريس (أ.ف.ب)
TT

وثائقي ينقل بعيون إسرائيلية وفلسطينية واقع الاستيطان في الضفة الغربية

المخرجان الفلسطيني باسل عدرا (يسار) والإسرائيلي يوفال أبراهام في باريس (أ.ف.ب)
المخرجان الفلسطيني باسل عدرا (يسار) والإسرائيلي يوفال أبراهام في باريس (أ.ف.ب)

بعد أن أحدث ضجة كبيرة في مهرجان برلين السينمائي أوائل العام، يُطرح في صالات السينما الفرنسية الأربعاء الوثائقي «لا أرض أخرى» No Other Land الذي صوّرت فيه مجموعة من الناشطين الإسرائيليين والفلسطينيين لخمس سنوات عملية الاستيطان في مسافر يطا في منطقة نائية بالضفة الغربية.

وقد فاز الفيلم بجائزة أفضل وثائقي في مهرجان برلين السينمائي، فيما اتُّهم مخرجاه في ألمانيا وإسرائيل بمعاداة السامية بعدما قالا عند تسلّم جائزتهما إن الوضع الذي يعكسه الوثائقي هو نظام «فصل عنصري».

أحد مخرجي العمل، باسل عدرا، ناشط فلسطيني ولد في مسافر يطا، وهي قرية تتعرض لهجمات متكررة من المستوطنين. أما الآخر، يوفال أبراهام، فهو إسرائيلي يساري كرّس حياته للعمل في الصحافة.

ويستعرض المخرجان الثلاثينيان في مقابلة مع وكالة الصحافة الفرنسية محطات إنجاز هذا الوثائقي، ويكرران المطالبة بإنهاء الاستيطان.

سيارات لفلسطينيين أحرقها مستوطنون في ضواحي رام الله (د.ب.أ)

يقول يوفال أبراهام عن الفصل العنصري: «من الواضح أنه ظلم! لديك شخصان (أبراهام وعدرا) من العمر نفسه، يعيشان في ظل نظامين تشريعيين مختلفين، تفرضهما دولة واحدة. لا أعتقد أن هذا يجب أن يوجد في أي مكان في العالم في عام 2024 (. .. ) لا يجوز أن يعيش الفلسطينيون في هذه الظروف، تحت سيطرة جيش أجنبي. يجب أن يتمتع كلا الشعبين بحقوق سياسية وفردية، في إطار تقاسم السلطة. الحلول موجودة ولكن ليس الإرادة السياسية. آمل أن نرى خلال حياتنا نهاية هذا الفصل العنصري (...) اليوم، من الصعب جدا تصور ذلك».

وعن اتهامه بمعاداة السامية قال: «هذا جنون! أنا حفيد ناجين من المحرقة، قُتل معظم أفراد عائلتي خلال الهولوكوست. أنا آخذ عبارة معاداة السامية على محمل الجد، وأعتقد أن الناس يجب أن يتساءلوا لماذا أفرغوها من معناها من خلال استخدامها لوصف أولئك الذين يدعون إلى وقف إطلاق النار، وإنهاء الفصل العنصري أو إلى المساواة (...). إنها ببساطة طريقة لإسكات انتقادات مشروعة للغاية. معاداة السامية أمر حقيقي يسجل تزايدا في جميع أنحاء العالم. لذا فإن استخدام هذه العبارة كيفما اتفق فقط لإسكات الانتقادات الموجهة إلى دولة إسرائيل، أمر خطر للغاية بالنسبة لليهود».

وعن اكتفاء الوثائقي بعرض وجهة نظر واحدة فقط ترتبط بالفلسطينيين المطرودين من أرضهم، أوضح أبراهام: «لكي يكون الفيلم حقيقيا، يجب ألا يخلط بين التماثل الزائف (بين وجهتي نظر المستوطنين والفلسطينيين) والحقيقة. ويجب أن يعكس عدم توازن القوى الموجود في المكان. ما كان مهما بالنسبة لنا هو إظهار الاضطهاد المباشر للفلسطينيين.

عندما تنظر إلى مسافر يطا، فإن الخلل في التوازن لا يُصدّق: هناك مستوطنون موجودون هناك بشكل غير قانوني بحسب القانون الدولي، ويحصلون على 400 لتر من المياه في المعدل، بينما يحصل الفلسطينيون المجاورون على 20 لترا. يمكنهم العيش على أراضٍ شاسعة بينما لا يحظى الفلسطينيون بهذه الفرصة. قد يتعرضون لإطلاق النار من الجنود عندما يحاولون توصيل الكهرباء. لذا فإن عرض هذا الوضع غير العادل، مع هذا الخلل في توازن القوى، من خلال وضعه في منظور جانبين متعارضين، سيكون ببساطة أمرا مضللا وغير مقبول سياسيا».

مشهد من فيلم «لا أرض أخرى» (أ.ب)

* باسل عدرا

من جهته، قال باسل عدرا عن تزايد هجمات المستوطنين بعد هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023: «الوضع سيئ وصعب للغاية، منذ عام لم نعد نعرف ما سيحدث (...) في منطقة جنوب الخليل. هجر البعض بسبب الهجمات، خصوصا في الليل، لكن قرى أخرى مثل قريتي بقيت تحت ضغط هائل، وقُتل ابن عمي برصاصة في البطن، كما رأينا في الفيلم. (المستوطنون) يريدون أن يخاف الناس ويغادروا (...) وهم المنتصرون في هذه الحرب في غزة، وهم الأسعد بما يحدث وبما تفعله الحكومة (الإسرائيلية)».