موسم باريس لخريف وشتاء 2023 ـ 2024... بين معانقة الماضي والثورة عليه

التاريخ يعيد نفسه في حركات نسوية

من عرض «لويفي» (لويفي) - تايورات بأكتاف حادة مع بنطلونات ضيقة وإيشاربات (الصور من سان لوران)
من عرض «لويفي» (لويفي) - تايورات بأكتاف حادة مع بنطلونات ضيقة وإيشاربات (الصور من سان لوران)
TT
20

موسم باريس لخريف وشتاء 2023 ـ 2024... بين معانقة الماضي والثورة عليه

من عرض «لويفي» (لويفي) - تايورات بأكتاف حادة مع بنطلونات ضيقة وإيشاربات (الصور من سان لوران)
من عرض «لويفي» (لويفي) - تايورات بأكتاف حادة مع بنطلونات ضيقة وإيشاربات (الصور من سان لوران)

أكتاف حادّة وكأنها دروع، تايورات بتنورات مستقيمة، ربطات عنق نحيفة وإكسسوارات بعدد لا يضاهيه سوى تنوعها، واعترافات من مصممين بأنهم تقبّلوا أخيراً فكرة العودة إلى الماضي ليستقوا منه أفكاراً تناسب الحاضر، وبالنسبة للبعض لتلميع صورتهم.

أول إطلالة: تنورة مستقيمة وقميص مكرمش وربطة عنق (الصور من ديور) - من عرض «جيفنشي» (الصورة من جيفنشي)

هذه هي الصورة التي سادت أسبوع باريس لخريف وشتاء 2023 - 2024. نبش المصممون في أرشيفات قديمة وصاغوا منها تصميمات تلمس الواقع وتُعبر عنه بشكل أو بآخر وهم يؤكدون أنها ليست استنساخا بل استعارة. ماريا غراتزيا مصممة «ديور» عادت إلى الخمسينات، وأنطونيو فاكاريللو، مصمم دار «سان لوران» إلى أواخر السبعينات، كذلك جوناثان سوندرز، مصمم «لويفي»، وماثيو ويليامز، مصمم «جيفنشي»، وغيرهم. قد يكون الأمر هروباً من الواقع الحالي، كما قد يكون مجرد حنين إلى زمن كان فيه الإبداع على أشُدّه لنيل رضا امرأة خرجت لتوِّها من حرب عالمية، وأخرى خاضت حركات نسوية للتحرر من ذكورية المجتمع أو دخلت مجالات عمل كانت محرومة منها. خلال كل هذه التطورات كانت تحتاج إلى أسلحة تمنحها الثقة ودخول المنافسة بقوة.
هذا الحنين إلى التاريخ لم يتجلَّ في الأكتاف الحادّة فحسب، بل حتى في الديكورات. عرض «سان لوران» مثلاً استنسخ قاعة فندق إنتركونينتال التي كان الراحل إيف سان لوران يقيم فيها عروضه الحميمة، وعرض «لويفي» أقيم في قصر فينسين (شاتو دي فينسين)؛ القصر الذي سُجن فيه الماركيز دو ساد وشهد نهاية الجاسوسة الألمانية ماتاهاري، خلال الحرب العالمية الأولى.

اضطر ماثيو ويليامز للعودة إلى جذور الدار الكلاسيكية في هذه التشكيلة (الصورة من جيفنشي)

باختياره هذا القصر، بالرغم من بُعده عن وسط باريس، أراد المصمم أن ينغمس الحضور في هذا التاريخ، قبل دخول قاعة العرض التي شُيّدت في الحديقة على شكل صندوق أبيض. اعترف المصمم بأن كثيراً من التصميمات، ولا سيما الإكسسوارات، مستوحى من أرشيف الدار في السبعينات، وهو الأمر الذي قال إنه كان يرفضه رفضاً باتّاً منذ سنوات. الآن تغيَّر الوضع، فقد أصبحت للماضي وظيفة جديدة: «إنه بداية انطلاق»، وفق قوله. الشيء نفسه كان بالنسبة لديمنا مصمم دار «بالنسياغا» الذي كان مُرغماً على أن يعيد النظر في أسلوبه الصادم في هذه المرحلة الحرجة بالنسبة له.

من عرض «لويفي» (الصورة من لويفي)

لم يكن أمامه سوى الإذعان لفكرة العودة إلى الكلاسيكيات، بعد الجدل الذي أثار عليه غضب عدة جهات بسبب حملته الإعلانية الأخيرة التي ظهر فيها أطفال في أوضاع غير مريحة. حتى الأميركي ماثيو ويليامز الذي كان مُصرّاً على حقن دار جيفنشي بجرعة زائدة من الأسلوب «السبور»، اضطر لتقبُّل «بورجوازية» مؤسسها الراحل هيبار. عاد إلى أرشيفه واستلهم منه تصميمات شديدة الأناقة والرومانسية لم تغِب فيها لمسات «السبور» التي تُميز أسلوبه، لكنها، هذه المرة، شكّلت جسراً مقبولاً بين الماضي والحاضر، وهو ما شرحته الدار بقولها إن العرض كان «مفهوماً جديداً للأناقة يدمج الماضي بالحاضر، حيث تعود القصّات والتفاصيل القديمة بحُلّة تُرضي ذوق الجيل الجديد». أما كيف جسَّد المصمم الأميركي هذا الأمر، فبتشكيلة تطغى عليها الأحجام الكبيرة، والقصّات المفصّلة مع الأكتاف البارزة والخصر الضيّق، من دون أن ينسى الفستان الأسود الناعم الذي جاء بأطوال مختلفة.
بدورها عادت بنا المصممة ماريا غراتزيا تشيوري إلى الخمسينات؛ فترة شهدت فيها الدار مجدها وكتب فيها المؤسس كريستيان ديور فصلاً مثيراً أعاد فيه للمرأة أنوثتها التي سرقتها منها سنوات الحرب العالمية الثانية وما ترتَّب عليها من شُح الموارد، الأمر الذي اضطرها لاستعمال أقمشة رجالية خشنة وتنّورات مستقيمة. اللافت أن تشكيلة ماريا غراتزيا، هذه المرة، كانت بمثابة احتفال بأسلوب المؤسس الرومانسي وثورة عليه في الوقت نفسه. لم تستعمل مثله أمتاراً وفيرة من الأقمشة كما فعل هو لإخراج المرأة من حالة التقشف التي فرضتها عليها الحرب، ولا أكثرت من الموسلين والحرير والتافتا وغيرها من الأقمشة بشكلها وملمسها الناعم، ولا حتى أعادت إلينا تصميم الكريول بتنورته المستديرة، فهذه اقتصرت على فساتين السهرة والمساء أكثر. مع أول ظهور لعارضة بقميص أبيض يبدو مكرمشاً وتنورة مستقيمة بالأسود، تشعر بأنها عادت إلى أناقة فترة الحرب وليس بعدها.
ماريا غراتزيا تعرف أن الزمن لم يعد هو الزمن، والوضع الحالي يتطلب حسابات جديدة، قد يكون «التستُّر» فيها على الترف بمعنى تجنب استعراض الجاه، واحداً منها، الأمر الذي يفسر أنها تعمّدت أن تجعل الأقمشة المترفة تبدو قديمة ومكرمشة باستعمال تقنيات تدخل فيها خيوط من الـ«إينوكس» لتكتسب هذا المظهر. المصممة تعرف أيضاً أن المرأة الشابة تريد أزياء وإكسسوارات عملية للنهار، وهو ما لبَّته من خلال قطع متنوعة يبقى القاسم المشترك بينها تنورات مفصلة على الجسم وألوان الأبيض والأسود والرمادي مع قليل من الألوان بدرجات مطفية. كانت هناك أيضاً بنطلونات تبدو مريحة نسّقتها مع قمصان باللون الأبيض وربطات عنق بالأسود، في صورة تعكس القوة الناعمة للمرأة.
ولأن جاكيت «البار» جزء لا يتجزأ من جينات الدار لا يمكن تجاهله أو تجاوزه، فإنه لم يغِب في هذه التشكيلة، وإن جاء بطول أقصر من المعتاد، ما أكسبه روحاً ديناميكية وشبابية لم ينافسه فيها سوى «تيشيرت» كُتب عليه «لا أندم على أي شيء»، وهو عنوان أغنية إديث بياف الشهيرة Je ne regretted rien. الصورة اختلفت فيما يتعلق بالتصميمات الموجهة للمساء والسهرة، فهذه كانت احتفاء حقيقياً بأسلوب كريستيان ديور بتنّورات الكريول المستديرة والفساتين الرومانسية المتوهجة بألوان الأحجار الكريمة مثل أحمر الياقوت، وأخضر الزمرّد، ولون التوباز الأصفر، والأزرق. وطبعاً الأقمشة المترفة التي تتراقص فيها خيوط من الذهب والفضة. تقول الدار إن المجموعة بالنسبة للمصممة كانت «فرصة للتفكير في تلك العلاقة التي تربط الأزياء بالجسم، والموضة بالتعمق في الأسلوب الفرنسي»، وبالتركيز على ثلاث شخصيات استثنائية: كاترين ديور أخت المؤسس، والمغنية إديث بياف، والممثلة جولييت غريكو. سبب اختيارها هؤلاء النساء تحديداً أنهن لم يُجسّدن الصورة النمطية للجمال الكلاسيكي. كان كل واحدة منهن تتمتع بمواهب وشخصية قوية. تمرّدن وكافحن، وفي النهاية فرضن أنفسهن في مجالاتهن. ليس هذا فحسب، بل نجحن أيضاً في قلب معايير الأنوثة، وهو ما كان صعباً في مرحلة ما بعد الحرب. هذه التحديات تظهر على السطح حالياً، وكأن الزمن لم يُغيّر شيئاً، مثل تنامي الحركات النسوية المطالبة بحقوق لم تتحقق، مع أن هذه الحركات يجب أن تكون من «خبر كان»! معاناة المرأة، بالنسبة لماريا غراتزيا، لم تنته، فهي لا تزال تُكافح كي تحقق ذاتها وتفرض تميزها واختلافها، أما كيف جسدت كل هذا في 96 إطلالة، فمن خلال لمسات أنثوية قصّتها بلغة فيها تحدٍّ لمفهوم الأنوثة والذكورة، أو كما قالت الدار: «إنها تشكيلة مندمجة في الطابع المتمرّد، ومُفعمة بالقوة والرقّة في آن واحد».
طبعاً لا يكتمل أي عرض تقدمه ماريا غراتزيا تشيوري لـ«ديور»، من دون تعاون مع فنانة، فمنذ دخولها الدار منذ سبع سنوات، وهي تتبع هذا التقليد. هذه المرة، اختارت الفنانة البرتغالية جوانا فاسكونسيلوس لتصميم ديكور مكان العرض على شكل حديقة متفتحة بالألوان. أشكال ضخمة تبدو للوهلة الأولى ساذَجة، لكن الفنانة قالت إنها استوحتها من أرشيف الدار الفرنسية، وتحديداً من أخت المؤسس كاترين ديور، التي كانت عضواً في المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي. الورد كان من الأشياء القليلة التي كانت تجعلها تحب الحياة وتتشبث بها. من شدة حبها للورود افتتحت محلاً لبيعها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. هذا الديكور بألوانه الفاتحة وأشكاله المتفتحة كان خلفية مناسبة خفّفت من صرامة اللونين الأسود والأبيض اللذين غلبا على التشكيلة.
في مساء اليوم نفسه، قدَّم أنطوني فاكاريللو لدار «سان لوران» ما يمكن القول إنه إحياء لأسلوب الراحل إيف سان لوران في السبعينات عندما أنّث التوكسيدو الرجالي وأدخله خزانة المرأة مثيراً بذلك جدلاً كبيراً في أوساط المحافظين، وثورة هلَّلت لها أوساط الموضة. لم تكن الأزياء وحدها التي عزَّزت مشاعر الحنين إلى الماضي، بل أيضاً أجواء المكان، بثريّاته الضخمة التي تتدلى من كل الجوانب وعلى مستوى منخفض. تشرح الدار أنها استلهمت الديكور من فندق الإنتركونينتال الذي كان يقيم فيه إيف سان لوران عروضه. على هذا الأساس استعان فاكاريللو برموز تلك الحقبة، مثل الثريات البرونزية التي كانت الإضاءة الوحيدة التي اعتمد عليها العرض، ليُضفي عليه الغموض والإثارة ويعيدنا إلى أجواء الصالونات الفخمة.
بدأ العرض وكانت الصورة مثيرة، بطلتها امرأة قوية تستعمل أزياءها كدروع في حرب تخوضها لفرض ذاتها. أهم ما في العرض أن القطع نفسها تكررت، ومع ذلك لم يُصب تكرارها بالملل، وهو ما يمكن اعتباره إنجازاً في وقت أصبح فيه التركيز على شيء واحد شديد الصعوبة. جاكيت بعد جاكيت، كلها بأكتاف حادّة وضخمة، وبعضها بأقمشة مقلّمة ومأخوذة من خزانة الرجل أو من الجلد. نسقها مع «تيشيرتات» بصدر مفتوح جداً وتنورات مستقيمة تلامس الركبة مع فرق سنتيمترات قليلة ـ أعلاها أو أسفلها، أغلبها بفتحات عالية في الجانب أو من الوسط. هذه أكثر القطع التي حدّدت التشكيلة، إضافة إلى إيشاربات نسّقها المصمم بشكل ذكي، فهي مرة تشدُّ كتف جاكيت من اليمين إلى الشمال بواسطة مشبك، ومرة تلعب دور فيونكة تزيِّن العنق، ومرة تلُفّ العنق لتتدلى من خلفه وكأنها شال أو ذيل طويل. تشرح الدار أن أنطوني كافاريللو «لم يحدّد موسم شتاء 2024 بتجسيد معين لشكل معين للمرأة، بل اختار استخلاص جوهر أسلوب سان لوران الكلاسيكي، الذي يمثّل مزيجاً جذاباً من الدقة والإحساس أضاف إليه إرثه الخاص لتقديم تصميمات مُعاد ابتكارها تواكب متطلبات العصر».
ما أكده العرض فعلياً أن هذا الموسم لم يكن عن الأزياء ولا الإكسسوارات فحسب، بل كان حالة زمنية بكل ما تتضمنه من مشاعر وتاريخ. ما أنقذ ماريا غراتزيا وأنطونيو فاكاريللو وجوناثان سوندرز وغيرهم من المصممين، من الوقوع في استنساخ القديم، أنهم أخذوا الأساسيات وترجموها بلغة تعكس احتياج المرأة إلى أزياء تخوض بها معركة جديدة في مرحلة صعبة، فهي أيضاً تعود إلى حركة بدأت في الستينات وترسخت في الثمانينات باقتحامها مجالات العمل بقوة.


مقالات ذات صلة

لمسات الموضة اختلافات كثيرة وجرية تُفرِّق بين شخصيتَي كل من كاثرين ميدلتون وميغان ماركل وطموحاتهما

في عام 2019، تغيّر المشهد تماماً بعد زواج ميغان ماركل من الأمير هاري. فجأة، اشتدّت المقارنات بين «السلفتين»، وصبّت كلها في صالح السمراء القادمة من أميركا.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة الزائر إلى المعرض سيستمتع بساعات تاريخية مكتوبة بالأحجار الكريمة والمعادن النفيسة (أ.ف.ب)

معرض «كارتييه» في متحف «فيكتوريا وألبرت» يفتح أبوابه للتاريخ

يتتبع المعرض العلاقة الخاصة والتاريخية التي تربط الدار بالعائلة الملكية البريطانية، منذ أن وصفها الملك إدوارد السابع بـ«صائغ الملوك وملك الصاغة».

جميلة حلفيشي (لندن)
يوميات الشرق دعوة لإعادة تخيُّل البامبو بطرق جريئة وغير متوقَّعة (غوتشي)

البامبو ودار «غوتشي»... تداخُل مُلهم بين الثقافة والتصميم

يستلهم «لقاءات البامبو» فكرته من نهج «غوتشي» المبتكر في الحِرف منذ منتصف حقبة الأربعينات، عندما استخدمت الدار، البامبو، في صناعة أيدي الحقائب.

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة لقطة من جناح «IWC» في المعرض (ووتشرز آند ووندرز)

معرض «ساعات وعجائب 2025» يعيد عقارب الساعات إلى «الزمن» الجميل

الأزمات المتتالية علّمت صناع الترف أنه عندما يُغلق باب تُفتح منافذ جديدة، وهذا وجدوه في الشرق الأوسط؛ سوق منتعشة اقتصادياً، وزبائنها من الشباب تحديداً.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة كان الفرو الخامة الرئيسية في تشكيلة اختار لها المصمم منتجعات شتوية فخمة (إيلي صعب)

إيلي صعب يُغير اتجاهه لا أولوياته

جرأة إيلي صعب في هذه التشكيلة تتمثل في تخفيفه من رومانسيته التي كانت ولا تزال ورقته الرابحة، وتوجهه إلى شابة تتمتع بروح رياضية عالية

جميلة حلفيشي (لندن)

أميرة ويلز ودوقة ساسيكس تفرّقهما كل التفاصيل... حتى حب الموضة

اختلافات كثيرة وجرية تُفرِّق بين شخصيتَي كل من كاثرين ميدلتون وميغان ماركل وطموحاتهما
اختلافات كثيرة وجرية تُفرِّق بين شخصيتَي كل من كاثرين ميدلتون وميغان ماركل وطموحاتهما
TT
20

أميرة ويلز ودوقة ساسيكس تفرّقهما كل التفاصيل... حتى حب الموضة

اختلافات كثيرة وجرية تُفرِّق بين شخصيتَي كل من كاثرين ميدلتون وميغان ماركل وطموحاتهما
اختلافات كثيرة وجرية تُفرِّق بين شخصيتَي كل من كاثرين ميدلتون وميغان ماركل وطموحاتهما

تمضي السنوات، وتُثبت الأحداث أن الرابط الوحيد بينهما لا يتعدى انتماءهما إلى العائلة المالكة البريطانية عبر الزواج. كل التفاصيل الأخرى تُفرَقهما بما في ذلك طريقة تعاملهما مع الموضة.

الأولى هي أميرة ويلز، كاثرين ميدلتون، بريطانية من أسرة ميسورة، تتمتع برشاقة العارضات، تميل إلى لغة الهمس، ولا تنوي خضَّ المتعارف عليه. كما تشرَّبت من ثقافة بلادها أن كل ما هو شهي ودائم يُطبخ على نار هادئة. الثانية هي دوقة ساسيكس، ميغان ماركل، أميركية من أسرة مختلطة، تعكسها بشرة تجمع بين بياض والدها وسمار والدتها، تميل إلى لغة تصرخ بالجاه وكسر الثوابت لإثبات الذات.

لقطة أرشيفية تجمع أميرة ويلز كاثرين ودوقة ساسيكس ميغان ماركل قبل «ميغسيت»
لقطة أرشيفية تجمع أميرة ويلز كاثرين ودوقة ساسيكس ميغان ماركل قبل «ميغسيت»

الأولى تتعامل مع الأزياء والمجوهرات كلغة دبلوماسية بحكم مكانتها بوصفها ملكة مستقبلية، والثانية بعقلية «مؤثرة» ترى فيها وسيلة لتحقيق الربح والطموحات الذاتية. هذه على الأقل الرسالة التي وصلت للمشاهد بعد عرض برنامجها «بالحب مع ميغان» الذي بثته منصة «نتفليكس» في الرابع من شهر مارس (آذار) الماضي. استعرضت فيه حبَّها للموضة والثروة من خلال أزياء قدرت بنحو 130 ألف جنيه إسترليني ومجوهرات بقيمة 337 ألف جنيه إسترليني. المشكلة، وفق المنتقدين، أنها لم تأخذ بعين الاعتبار أنها لا تتناسب مع برنامج عن الطبخ. لم تشفع لديهم محاولاتها الدمج بين الرخيص والنفيس في بعض اللقطات.

في المقابل، حققت أميرة ويلز، كاثرين ميدلتون، المعادلة الصعبة بين الأناقة الراقية وعدم خلق أي جدل. ربما يفتقد أسلوبها للإثارة أو الجرأة، إلا أنها تنجح دائماً في إيصال رسائل هادفة. هذا الاختلاف نابع من شخصية رياضية بطبعها؛ فهي تفضل المشي وممارسة النشاطات التنافسية في الهواء الطلق على متابعة توجهات الموضة. في بداية ظهورها، لم تولِها اهتماماً سوى في المناسبات الرسمية، أو إذا استدعى الأمر تأدية واجب وطني لدعم صناعة الموضة البريطانية أو ما شابه، إلى حد أن عشاق الموضة تنمّروا عليها آنذاك.

كانت ميغان ماركل في بداياتها هي الغالبة في سباق الأناقة بجرأتها واختياراتها (أ.ف.ب)
كانت ميغان ماركل في بداياتها هي الغالبة في سباق الأناقة بجرأتها واختياراتها (أ.ف.ب)

في عام 2017، تغيّر المشهد تماماً بعد دخول ميغان ماركل على الخط بزواجها من الأمير هاري. فجأة، اشتدّت المقارنات بينهما، وصبّت كلها في صالح السمراء القادمة من أميركا. كانت في أول ظهورها بمثابة نسمة صيف منعشة بجرأتها، مقارنةً بالإطلالات الكلاسيكية والمتحفّظة التي اعتادتها نساء الأسرة المالكة عموماً، وكاثرين ميدلتون تحديداً. توسم صنّاع الموضة خيراً فيها.

خلال زيارة لجامعة «نوتينغهام ترانت» لدعم الصحة العقلية والنفسية للطلاب (رويترز)
خلال زيارة لجامعة «نوتينغهام ترانت» لدعم الصحة العقلية والنفسية للطلاب (رويترز)

لكن ذلك العام شكّل أيضاً نقطة تحوّل واضحة في إطلالات كاثرين؛ لأنها دخلت فيه سباق الأناقة وهي متسلّحة بروحها الرياضية. بين ليلة وضحاها، أصبحت ندّاً لا يُستهان به. لم تنس أنها، أولاً وأخيراً، ملكة بريطانيا المستقبلية، وأن ما يناسب غيرها من صراعات موسمية لا يناسب مكانتها بالضرورة. ركّزت على رسم صورة كلاسيكية تعكس روح العصر، ببقائها قريبة من شريحة واسعة من بنات الشعب، ومن دون الخروج عن بروتوكول العائلة المالكة، القائم على عدم استفزاز الذوق العام أو استعراض الجاه. أما في المناسبات الرسمية التي تمثل فيها التاج البريطاني، فالأمر مختلف تماماً؛ تظهر دائماً بأبهى صورة، باعتمادها أزياء بتوقيع مصمّمين مشهود لهم بالموهبة والابتكار، وغالباً ما تُفصَّل خصيصاً على مقاسها من دون الإعلان عن أسعارها.

لكل مقام مقال

باتت أميرة ويلز تُتقن لعبة الغالي والرخيص فمرة تظهر بتايور من «ألكسندر ماكوين» ومرات من «زارا»
باتت أميرة ويلز تُتقن لعبة الغالي والرخيص فمرة تظهر بتايور من «ألكسندر ماكوين» ومرات من «زارا»

باتت أميرة ويلز تُتقن لعبة الغالي والرخيص. فمرة تظهر بتايور من «ألكسندر ماكوين» ومرات من «زارا».

أما في المناسبات غير الرسمية فهي تحرص على اختيار قطع بسيطة من محلات شعبية مثل «زارا» و«إيل كي بنيت» و«ريس» وغيرها. ليس هذا فحسب، بل تعيد ارتداء نفس القطع في مناسبات متعددة. أحياناً تجددها بإضافة فيونكة على الياقة أو بتنسيقها مع قطعة من مصممها المفضل. مثلاً ظهرت في ثلاث مناسبات مختلفة بفستان متوسط الطول من «زارا» بمربعات صغيرة بالأبيض والأسود تشبه نقشة «البايزيلي». كانت قد ظهرت به أول مرة في 2020 وأعادته للصورة منذ أشهر قليلة خلال زيارة لدار رعاية أطفال.

هذا الذكاء في اختيار أزياء تراعي الزمان والمكان وراءه خبراء متخصصون يتابعون نبض الموضة والشارع على حد سواء، الأمر الذي جنَّبها ما تتعرض له ميغان ماركل من انتقادات بسبب اختياراتها الشخصية واندفاعها لفرض أسلوبها.

تظهر ميغان في البرنامج بكامل أناقتها وهو ما رآه البعض مبالغاً فيه واستعراضاً للجاه (نتفليكس)
تظهر ميغان في البرنامج بكامل أناقتها وهو ما رآه البعض مبالغاً فيه واستعراضاً للجاه (نتفليكس)

المشكلة في إطلالات ميغان ماركل أنها رغم أناقتها العالية وأسعارها الباهظة، لا تراعي خصوصية المكان والزمان. وليس أدل على ذلك من الميزانية التي تطلّبتها أزياؤها ومجوهراتها في برنامجها «بالحب، مع ميغان»، وكذلك الأسعار المرتفعة للمنتجات المعروضة على موقع التسوق الإلكتروني الذي أطلقته مؤخراً تحت اسم As Ever. هذه الأسعار، مقرونةً برغبتها الواضحة في الانتماء إلى نادٍ نخبوي، تجعلها تبدو منفصلة عن الواقع، خصوصاً أن أغلب متابعاتها من ذوات الإمكانيات المحدودة أو المتوسطة في أفضل الأحوال.

على العكس منها، تنجح كاثرين في احتضان فئات متنوعة من المجتمع، حيث تتنقل بين الرسمي وغير الرسمي، وبين الراقي والبسيط كفراشة. في كليهما تُجيد تقديم نموذج يُحتذى به في خيارات الموضة المستدامة. ليس فقط لأنها تُكرِّر القطع نفسها أكثر من مرة، وتدعم مصممين يرفعون شعار الاستدامة؛ بل لأنها لم تتردد في حفل جوائز إيرث شوت في عام 2022 أن تعتمد فستاناً مستعملاً، أي من «البالة» في خطوة غير مسبوقة من قبل. بقدر ما كانت هذه الخطوة صادمة، كانت أيضاً رسالة قوية استقبلتها أوساط الموضة البريطانية تحديداً بالتهليل، بحكم أنهم يسعون لترسيخ مكانة لندن بوصفها عاصمة عالمية للموضة المستدامة منذ فترة غير قصيرة.

ظهرت كاثرين ميدلتون بهذا الفستان من «زارا» 3 مرات منذ عام 2020 إلى اليوم (أ.ف.ب)
ظهرت كاثرين ميدلتون بهذا الفستان من «زارا» 3 مرات منذ عام 2020 إلى اليوم (أ.ف.ب)

بهذا الأسلوب والحرص على قراءة تغيرات العصر، كسبت لحد الآن الكثير من القلوب، بما في ذلك قلب حميها الملك تشارلز الثالث، الذي يقال إنه لا يبخل عليها بشيء، ويوفر لها ميزانية لا يستهان بها. السبب أنها إلى جانب مكانتها في السلم الملكي، أكدت له أنها مثله «حريصة» ولا تبالغ. هذه المعاملة الخاصة لم تحظ بها «سلفتها» ميغان، الأمر الذي أثار حفيظة الأمير هاري وأشار إليه في إحدى المقابلات قائلاً إن والده رفض تمويل زوجته. وحسب مزاعم البعض، فإن رد الملك بعد إلحاح الابن كان أنه ليس «بنكاً» مفتوحاً.