يتخبّط وثائقي «شمسي الصغيرة المظلمة» (Black Sunshine Baby - «نتفليكس») بمشاعر تشبه صفع الموج للصخر وتردّدات الارتطام والفورة. خليط من التدفّق يندفع إلى أعلى قبل الارتماء. هو سيرة الكفاح العظيم للكاتبة الهندية عائشة تشودري، المنتقلة إلى العلياء بعد تشبّث جبار بالحياة. سرد يؤلم ويلهم. عائلتها المذهلة قدّمت أقصى التضحية للاحتفاظ بالذكرى الحلوة.
العائلة الملوّعة من موت طفلة سبقت ولادة عائشة، قررت الكفّ عن الإنجاب. «عائشة أمر حدث فحسب، كانت تلك رغبة الكون»، تذعن والدتها للمشيئة. وحده الإيمان حال دون إجهاض تلك الطفلة، وفي رأس الأبوين صور قاسية عن موت حلَّ باكراً فتسبب، بخطفه تانيا ابنة السبعة أشهر، بحسرة يكويهما لهيبها.
ترافقت الولادة مع مشكلات صحية دفعت العائلة للانتقال من الهند إلى المملكة المتحدة. في أغسطس (آب) 1996. تأكدت المخاوف: عائشة مصابة بـ«عوز المناعة المشترك الشديد»، وهو مرض عضال يصيب شخصاً في المليون. انتقاها هي بعد فاجعة أختها!
رغم النهاية الحزينة، يشرق نور من «الوثائقي» يضيء الحيّز العميق المظلم. تتفتح في الجروح احتمالات حياة، وإن طغى نزيف واستولت برودة؛ ومن كفاح طوال 18 عاماً، تُنبت سيرة عائشة تشودري زهراً يبقى عطره ليعلن الانتصار على ما يرحل. بطولتها في التحمّل بوجه يضحك، كبطولة عائلتها في الإيمان بالأمل حتى الرمق الأخير. جبابرة بمنح الفرص، بالإصرار، بالمحاولات، بالتعبير الحُر عن نفسٍ تتعذّب.
كان لا بد من إجراء جراحة لنقي العظام رغم خطرها. جُمعت التبرعات في المملكة المتحدة واحتضن شعبها عائشة كأنها بعض روح الأمة. قصتها لامست قلوبهم حين بدأت تُذاع في الإعلام. لم تكن عائلة تشودري سوى زائرة لأرض طاردت فيها إمكان إنقاذ طفلتها. في لحظة كتلك، أدرك الأب أنّ كثيرين من البشر صالحون في دواخلهم. شعر بدفء يُحلّي الإنسانية.
موت تانيا علّم الأبوين جمال التمسك بنجاة عائشة. تدخُل، والتصفيق يشتعل، إلى استوديو للإدلاء بشهادة حياة. أنابيب على أنفها وجرّة الأكسجين تجرجرها وراءها كظلّ. كانت في الـ17. لكن داخلها يعتصر بنضج المتألمين. أخبرت الحاضرين أنّ قصتها مختلفة، فهي أُخضعت لجراحة زرع نقي العظام وعمرها ستة أشهر، والآن تعاني من تليّف رئوي خطير. تحضر لتُلهم بإعلاء شأن الصلابة في المِحن.
طوال الشريط، تظهر رسومها ذات الأبعاد وكتاباتها التي تفوق سنّ المراهقات. تحاكي أختاً لم تسمع عنها سوى مأساة رحيلها المستعجل، فتكتب لتانيا أنها تريد العيش من أجلهما. لم تتعرّف إليها، لكنها لطالما أحبّت الأخت «الرائعة».
تصبح عائشة «الطفلة الأولى في أوروبا»، التي أخضعت لجراحة زراعة خلايا جذعية من أجل «عوز المناعة المشترك الشديد»، وفق أمها. يغرق رأس الأم في جسد طفلة الأشهر الستة فتداعبها وتغني للخلايا لكي تعمل! عزلتها خلال السنوات الخمس الأولى من حياتها أكسبتها خجلاً وغرابة. زجّت بنفسها في زاوية صندوق مُغلق رسمته للإشارة إلى أنها محاصرة. توقها إلى الصداقة ضيَّق أنفاسها، فشكّلت الكلمات والرسوم نوافذ لعبور النسمات.
يرافق تفاقم الوضع نحو الأسوأ مُشاهداً يلمح في السيرة الحياة بلا أقنعتها؛ بعبثيتها ولا عدالتها ومزاجيتها وقسوتها على الأعمار، كمسارٍ محتوم نحو الحقيقة المطلقة الممثلة بالفناء. بحلول عام 2005. اكتشفت العائلة توقّف نمو طول عائشة ووزنها. في هولندا، حيث وظيفة الأب، شخَّص الأطباء إنتاج الجسد هرمونات نمو لا تعمل. النحالة وقصر القامة عرّضاها لتنمر الرفاق والسخرية الأليمة.
«ليس عدلاً ألا يرغب أحد بأن يكون صديقي»، كتبت وهي تتمنى الموت. وجدت في الكلاب رفقة موازية وعوضاً قادراً على بلسمة حزن الروح. تمرّ رسومها بأجساد إنسانية ورؤوس كلابٍ تقول عنها إنها تصبح الأقرب إلى القلب رغم كونها لا تنطق، وتحمل مميزات يكافح البشر لتحقيقها كالعثور على السعادة في أبسط الأشياء.
ألحق العلاج الكيميائي الكثير من الضرر بعائشة، لكن لولاه ما كانت لتنجو. من الهند، هرع الأبوان بها إلى المملكة المتحدة بعد تشخيصها بمرض تراجع الرئتين المزمن. إنه التأثير الجانبي لعملية الزرع، جعل لديها 40 في المائة فقط من احتمالات التنفّس.
على ذلك المقعد في الاستوديو، والناس في حالة إصغاء، تتحدث عن خيارات الحياة: «يمكن اختيار السعادة ومحاولة الابتسام في الوقت الصعب، أو التعاسة. إن كان ينبغي أن أعاني من التليّف الرئوي، فأختار التليّف الرئوي السعيد!».
وقوعها في حب صديق أخيها المُوضّب حقائبه للدراسة في الولايات المتحدة، جعلها تشرق. ورغم كوابيس أنهكت لياليها بتأثير الدواء، اتخذت رسومها فسحات مضيئة. إنما قدرها توالي الخسائر، فخذل الحبيب ومات أحد كلبيها وأصيبت رئتاها بالسوء! بدأت صحتها بالتراجع في عام 2014 فافترستها نوبات السعال. توقفت عن الرسم.
صلابة الأبوين اخترقتها انهيارات طالت الأم وآلمت الأب المتفرّج على قدر عائلته. في يناير (كانون الثاني) 2015، دُفنت عائشة فوق قبر شقيقتها بعد يوم من صدور كتابها «عيد الغطاس الصغير» المُحرّض على الإلهام. عزاء الأب أنّ ابنتيه ستكونان معاً، لكنّ الوجع طغى. مهَّد موت الكلب لموتها، فرمقت والدتها بإحساس أمٍ أصابها فقدان طفل باليتم، كدلالة إلى أنهما ستتبادلان الأدوار والآلام. «وثائقي حزين»، لكن تلك الخيوط المتسرّبة من الشمس تمتلك قوة لجم «انفلاش» الظلام لتستحق استقبال الفجر.
الإلهام الجريح يخطّ رحلة حياة الكاتبة الهندية عائشة تشودري
«وثائقي» تعرضه «نتفليكس» يروي سيرة كفاحها العظيم
الإلهام الجريح يخطّ رحلة حياة الكاتبة الهندية عائشة تشودري
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة