فتوحات فضائية مذهلة في 2023

مهام للهبوط على القمر... وتلسكوبات لدراسة الكون

تلسكوب «يوكليد»
تلسكوب «يوكليد»
TT

فتوحات فضائية مذهلة في 2023

تلسكوب «يوكليد»
تلسكوب «يوكليد»

مع مرور السنوات وما تشهده من تطوّرات في الفضاء وعلم الفلك، لا بدّ من الاعتراف بأنّ 2022 كان عاماً غنياً سيصعب اللحاق به.
أذهلت وكالة «ناسا» العالم بمشاهد كونية التقطها تلسكوب «جيمس ويب» الفضائي، ودفعت بعثة «دارت»، كويكباً إلى مدارٍ جديد، وأعادت بعثة «أرتميس» البشرية إلى مسار القمر، وأنهت الصين بناء محطّة فضائية جديدة في المدار، وأتمّت شركة «سبيس إكس» 61 إطلاقاً وهبوطاً صاروخياً في 12 شهراً، وأدّت حرب أوكرانيا إلى اهتزاز موقع روسيا بوصفها قوّة فضائية.
أحداث فضائية متوقعة
هذه الأحداث وكثير غيرها حصلت في 2022، لكنّ عام 2023 يعد بكثير من الحماس من على منصّات الإطلاق وسطح القمر وفي السماء. نقدّم لكم في ما يلي لائحةً بأهمّ الأحداث الفضائية المتوقّعة؛ ولو أنّ مواعيد بعضها لم تُحدّد بعد:
> هبوطٌ جديد أو أكثر على سطح القمر: نستطيع الحديث عن هبوطٍ واحدٍ أكيد على سطح القمر خلال 2023؛ فقد أطلقت الشركة اليابانية «آي سبيس» بعثتها «إم1» على متن صاروخ «سبيس إكس» في ديسمبر (كانون الأول) الماضي. وتسير «إم1» في طريقٍ بطيئة وفعّالة لناحية استهلاك الوقود، ومن المتوقّع أن تصل إلى القمر في أبريل (نيسان) المقبل، حيث ستحاول إنزال عربة جوّالة من صناعة الإمارات العربية المتحدة، وروبوت من تطوير وكالة «جاكسا» الفضائية اليابانية، بالإضافة إلى حمولات أخرى.
قد يشهد العام الجديد أيضاً 5 محاولات إطلاق أخرى؛ فقد تعاونت وكالة «ناسا» مع شركتين من القطاع الخاص لنقل حمولات إلى سطح القمر. واجهت الشركتان، «إنتويتف ماشينز» في هيوستن و«أستروبوتيك تكنولوجي» في بيتسبرغ، تأخيرات خلال العام الماضي، ولكنّ رحلاتهما المقررة قد تحدث في الأشهر المقبلة.

تلسكوب «يوكليد»

وقد تحذو بعثات قمرية تابعة لثلاثة برامج حكومية حذو هاتين الشركتين، وهي: بعثة «تشاندرايان3» الهندية التي تأخرت العام الماضي وقد تنطلق خلال العام الحالي؛ وبعثة «سليم» («سمارت لاندر فور إنفستغيتنغ مون») اليابانية التي تستهدف اختبار تقنيات اليابان للهبوط القمري؛ وبعثة «لونا25» الروسية التي تأجّلت في سبتمبر (أيلول) الماضي، وقد تحاول «وكالة الفضاء الاتحادية الروسية (روسكوسموس)» إطلاقها في 2023.
> صواريخ جديدة: غادر نظام الإطلاق «سبيس لانش» التّابع لوكالة «ناسا» كوكب الأرض في 2022، وأضاء سماء ولاية فلوريدا بشعلة مذهلة حاملاً معه بعثة «أرتميس1» إلى القمر. حوّل هذا الإطلاق الأنظار إلى «سبيس إكس» التي تعمل اليوم على بناء الجيل المقبل من صواريخها «ستارشيب»؛ أحد العناصر الأساسية في بعثة «أرتميس3» المأهولة والمنتظرة إلى القمر.
نجحت «سبيس إكس» في تجاوز مراجعة بيئية أساسية عزّزت من جهوزيتها لإطلاق رحلة مدارية تجريبية وغير مأهولة من جنوب تكساس في حال تلبية بعض الشروط، إلا إنّ الصاروخ لم يجهز للطيران في 2022. لم تعلن الشركة بعد عن موعد اختبار هذا العام، ولكنّ التجارب الأرضية الروتينية لمعدّات «ستارشيب» تشير إلى أنّ الشركة بصدد التحضير له.
قد نرى في عام 2023 عدداً من الصواريخ الأخرى التي تقلع للمرّة الأولى؛ أبرزها «فولكان سنتور» الذي ستطلقه «يونايتد لانش أليانس» ليحلّ أخيراً محلّ «أطلس في» الذي لعب دوراً أساسياً في إطلاقات الصواريخ الأميركية في العقدين الماضيين. يعتمد «فولكان» على محرّك BE-4 من تصميم شركة «بلو أوريجن» المختصة في الصواريخ والتي أسّسها جيف بيزوس.
ومن المتوقع أن يختبر عددٌ من الشركات الأميركية الخاصة صواريخ فضائية خلال العام الحالي؛ أبرزها شركتا «ريلاتيفيتي» و«إي بي إل»، وقد تلحق بها شركات أجنبية مثل «ميتسوبيشي للصناعات الثقيلة» التي قد تختبر صاروخ «إتش3» الياباني في فبراير (شباط) المقبل، وشركة «أريان سبيس» التي تحضّر لرحلة تجريبية لصاروخ «أريان6» الأوروبي.
دراسات كونية
> تلسكوبات فضائية جديدة: أذهل تلسكوب «ويب» محبّي الفضاء والعلماء بصوره عن الأكوان، ولكنّ هذا العام قد يحمل لنا مزيداً من الفرص عبر مراصد مدارية متنوّعة. ويعدّ مرصد «شانشان» الصيني أبرزها بوصفه أشبه بنسخة محدّثة وأكثر تطوّراً من تلسكوب «هابل» الشهير. تعتزم البعثة مسح الكون باستخدام موجات بصرية وفوق بنفسجية في مدار حول الأرض، بالقرب من محطّة «تيانجونغ» الفضائية الصينية. وأيضاً، من المتوقّع أن تستهلّ اليابان العام الجديد بإطلاق بعثة «كريزم» التي ستستخدم مطيافية الأشعة السينية لدراسة غيوم البلازما في محاولة لتفسير تركيبة الكون. وأخيراً وليس آخراً، قد ينطلق التلسكوب الفضائي الأوروبي «يوكليد (أقليدوس)» على متن صاروخ «سبيس إكس» بعد أن أدّى الاجتياح الروسي لأوكرانيا إلى خسارة التلسكوب مقعده على صاروخ «سايوز» الروسي. يستهدف التلسكوب الأوروبي دراسة الطاقة المظلمة والمادّة المظلمة في الكون.
> بعثات كوكبية جديدة: سيستقبل كوكب المشتري هذا العام سفينة فضائية ستكون أوّل بعثة تدور حول قمر كوكبٍ آخر. ستنطلق بعثة «جويس» («جوبيتر آيسي مون إكسبلورير») التابعة لـ«الوكالة الفضائية الأوروبية» على صاروخ «أريان5» في 5 أبريل المقبل لتستقرّ في نظام «جوفيان» (نظام أقمار صناعية تشكّله أقمار المشتري) في عام 2031. بعد وصولها إلى الكوكب الهدف، تعتزم البعثة تنفيذ 35 طيراناً بالقرب من 3 من أقمار الكوكب العملاق؛ هي «كاليستو»، «أوروبا»، و«غانيميد»، التي يُعتقد أنّها تحتوي محيطات تحت أسطحها. وفي عام 2034، ستبدأ «جويس» الدوران حول «غانيميد»؛ أكبر أقمار النظام الشمسي.
بدورها؛ تخطّط شركة «روكيت لاب» في نيوزيلاندا، للاقتراب من الشمس، واستخدام صاروخ «إلكترون» لإرسال بعثة إلى كوكب الزهرة (فينوس). وسيحاول قمر الشركة الصناعي المسمّى «فوتون» توظيف مسبار صغير طوّرته الشركة بالتعاون مع باحثي «معهد ماساتشوستس للتقنية»، لإجراء دراسة سريعة لغلاف الكوكب الجوي السام. كان من المزمع أن تنطلق البعثة في مايو (أيّار) المقبل، ولكنّها ستواجه على الأرجح بعض التأجيل بسبب إعطاء الشركة الأولوية لبعثات أخرى.
> كسوف كلّي وآخر شبه كلّي: ينتظرنا في عام 2023 كسوفان شمسيان؛ واحدٌ كاملٌ في 20 أبريل المقبل سيسيطر في الجزء الجنوبي من الكرة الأرضية، وسيحجب خلاله القمر ضوء الشمس بشكلٍ كليّ في أجزاء بعيدة من أستراليا وإندونيسيا.
بدورها؛ ستشهد أميركا الشمالية كسوفاً حلقياً في 14 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل؛ في بعض الأحيان، يُطلق على هذا النوع من الكسوف اسم «حلقة النّار»؛ لأنّ القمر خلالها يكون بعيداً جداً من الأرض بحيث لا يستطيع حجب الشمس بشكلٍ كلي ولكنّه يُظهر ما يشبه تأثير الحلقة عندما يصل إلى ذروته. سيظهر هذا الكسوف في أجزاء من الولايات المتحدة قبل أن ينتهي في أميركا الجنوبية والوسطى. وإذا كانت الأحوال الجوية ملائمة، فسيستمتع النّاس بعرضٍ شمسي رائع يسبقُ كسوفاً كلياً في 8 أبريل 2024، الذي من المتوقّع أن يغطي الولايات المتحدة من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي.

* خدمة «نيويورك تايمز»



الذكاء الاصطناعي يُوسّع الأفق... ويضيّقه من دون بصيرة نافذة

الذكاء الاصطناعي يُوسّع الأفق... ويضيّقه من دون بصيرة نافذة
TT

الذكاء الاصطناعي يُوسّع الأفق... ويضيّقه من دون بصيرة نافذة

الذكاء الاصطناعي يُوسّع الأفق... ويضيّقه من دون بصيرة نافذة

الذكاء الاصطناعي موجود في كل مكان، فهو يُغذّي نقاشات مجالس الإدارة، ويُوجّه الأولويات، ويُحدّد الوصول إلى المعلومات، ويُحفّز تجارب المستهلكين، كما كتبت لويزا لوران(*).

رؤى أوضح مقابل نقاط ضعف قيادية

لكن بينما يَعِد الذكاء الاصطناعي برؤى أكثر وضوحاً وسرعة في اتخاذ الإجراءات، فإنه يُسرّع أيضاً من ظهور نقاط ضعف يُعاني منها القادة بالفعل.

المفارقة هي أنه يُمكن للذكاء الاصطناعي أن يُوسّع الأفق، لكن إذا استُخدم دون بصيرة صحيحة، فإنه يُضيّقه. وعندما تتلاقى هذه الجوانب السلبية من نقاط الضعف مع سرعة تبني الذكاء الاصطناعي في العمل فإن العواقب تتضاعف.

لقد رأيتُ هذا يتجلّى في مختلف القطاعات -من خلال أدواري القيادية في «غوغل»، و«ميرسك Maersk»، و«دياغيو Diageo»، وفي تقديم المشورة للمديرين التنفيذيين الذين يُشكّلون بعضاً من كبرى المؤسسات في العالم. إن النمط واضح: التكنولوجيا لا تتوقف عند نقاط الضعف، بل بدلاً من تنبيهنا إليها فإنها تمحو آثارها -حتى تنزلق الميزة التنافسية بهدوء.

تقليص نقاط الضعف بالذكاء الاصطناعي

إليكم ثلاث طرق يوسع بها الذكاء الاصطناعي نقاط الضعف وكيفية تقليصها.

1. البيانات من دون سياق- راحة زائفة. يتخذ كل ذكاء اصطناعي شكله، بما أمكنه الوصول إليه. وإن كان الذكاء الاصطناعي التوليدي يسترشد بالاحتمالية، فإن الذكاء الاصطناعي الوكيل يعمل بناءً على البيانات التي تم تدريبه عليها. وكلاهما لا يفيد إلا بقدر السياق الذي يمكنه رؤيته.

هنا تظهر أول نقطة ضعف: يخطئ القادة في اعتبار مخرجات الذكاء الاصطناعي واقعاً بحد ذاته، متناسين أن النظام محدود بمدخلاته. قد تتوهج لوحة المعلومات باللون الأخضر، أو قد يقدم الذكاء الاصطناعي إجابات دقيقة -لكن الدقة من دون سياق راحة زائفة.

قد يبدو هذا تحدياً مألوفاً، حيث يمكن أن يجعل الاعتماد على مؤشرات الأداء الرئيسية الثابتة التقدم الداخلي يبدو مقنعاً، ولكنه يفشل في ربطه بالتحولات الحقيقية في السوق.

إن تطبيق الذكاء الاصطناعي على هذه المقاييس سيعزز هذا الاختلال. فإذا طُبقت قواعد العمل على مستوى منخفض جداً في المؤسسة أو العملية، فسيحدث نقص في التحسين. وفي سياق الذكاء الاصطناعي، يتفاقم هذا على نطاق واسع، مما يُقيد عدم الكفاءة في كل قرار آلي.

* كيفية معالجة نقاط الضعف: انتقلْ من التحقق من صحة ما تتابعه بالفعل إلى استكشاف ما لم تره بعد. تعاملْ مع البيانات على أنها مجال للاختبار، لا بوصفها لوحة معلومات للتأكيد. اسألْ: أين تظهر التناقضات؟ وأين تتعارض الإشارات؟ وأين تكشف أطراف النظام عن شيء مختلف عن المركز؟ تتقلص النقاط العمياء عندما يكون القادة فضوليين بما يكفي لاستكشاف الشذوذ بدلاً من تفسيره.

2. الاستعانة بمصادر خارجية للحكم تُضعف القيمة الأساسية. تظهر نقطة ضعف سلبية (عمياء) أخرى متنامية عندما تُلقى مسؤولية كبيرة على الأنظمة الخارجية أو الشركاء.

الذكاء الاصطناعي قوي، لكنه ليس محايداً. إذا استعان القادة بمصادر خارجية لإصدار الأحكام دون الاستفادة من خبراتهم الخاصة، فإنهم يخاطرون بتفريغ القيمة ذاتها التي تُميّز أعمالهم.

فكّر في الأمر بهذه الطريقة: لديك معرفة شخصية، ومعرفة جماعية داخل شركة أو مؤسسة، ومعرفة عالمية. تسعى الشركات بطبيعتها إلى ربط الذكاء الجماعي والاستفادة منه، فلماذا، عندما يتعلق الأمر بالذكاء الاصطناعي، يُهمل الكثيرون ضرورة مشاركة المعرفة ووضعها في سياقها وتحديثها بنشاط للحفاظ على قيمتها؟

قد تُحقق إدارة التكاليف من خلال الاستعانة بمصادر خارجية لمراكز الاتصال وفورات ملموسة، لكنها تُحوّل أيضاً رؤى العملاء القيّمة خارج نطاق العمل.

* كيفية معالجة الجوانب السلبية: مع أن الذكاء الاصطناعي ضروري للكفاءة والعمليات المستقبلية، إلا أن الاستراتيجية يجب أن تُعطى الأولوية. اعرف عرضك -القيمة الحالية والمستقبلية- وابنِ نهجك في الذكاء الاصطناعي بناءً على ذلك، وليس على توافر البرامج المُدربة مسبقاً، أو أسعار الشركاء، أو سهولة استخدام ما يقدمه الآخرون. اسأل: مَن يستفيد من البيانات التي تحتفظ بها؟ ومَن لديه حق الوصول إلى البيانات التي قد تساعدك على النمو؟ في العديد من القطاعات، سيصبح هذا أساساً لنماذج إيرادات جديدة وشراكات أعمق -أو سبيلاً للتخلص من تلك التي تفتقر إلى الوضوح الاستراتيجي.

3. الفخ المعرفي وراء الراحة الخوارزمية

حتى مع وجود بيانات واسعة ومتطورة ووضوح استراتيجي قوي، لا يزال الذكاء الاصطناعي قادراً على حصر القادة في حلقات من المتاهات. لقد صُممت الخوارزميات للتعلم من الأنماط، لكن الأنماط ليست مثل الرؤى؛ فهي تُعزز، افتراضياً، ما هو الأكثر تمثيلاً، وليس ما هو أكثر ما تتعرف عليه البصيرة النافذة.

الذكاء الاصطناعي يعكس اليقين الذي يتوق إليه القادة، مُسرّعاً من سرعة ترسيخ الافتراضات غير المُختبرة لتتحول إلى استراتيجية. والنتيجة هي تضييق في الرؤية -أكثر إقناعاً، وأسرع حركة، وأصعب كشفاً بالبصر. إذا تُركت دون رادع، هكذا تجد المؤسسات نفسها عالقة في أنماط مألوفة بينما يُعيد المنافسون تعريف السوق من حولهم.

* كيفية معالجة الجوانب السلبية: يكمن الحل في البقاء على أرض الواقع بما يكفي لملاحظة متى يصبح اليقين راحةً بدلاً من أن يكون حقيقة. هذا يعني التساؤل واستبعاد الافتراضات التي لم تعد تُجدي نفعاً، والسماح بإعادة اختبار الرواية في ضوء واقع اليوم والغد.

الضعف هو إشارة إلى مواضع عدم تحديث الافتراضات. دعْ هذه النقاط تطفو على السطح، واعترف بما يتطلبه الأمر لتغيير رأيك، وكن فضولياً بشأن ما يمكن أن يناسبك، واستكشف اتجاهات ناشئة جديدة لتشكيل إطار جديد. القادة الذين يجسدون هذا الموقف يوسعون مجال رؤيتهم ويمنعون الذكاء الاصطناعي من ترسيخ النقاط العمياء وتحويلها إلى استراتيجية.

الذكاء الاصطناعي يختبر القيادة

الخيط الذي يربط النقاط العمياء الثلاث هو نفسه: الذكاء الاصطناعي لا يلغي حدود الحكم البشري، بل يضخِّمها. إنه يُعزز ما إذا كانت الشركة منسجمة أم مجزأة، منعزلة أم متناغمة، سواء كان القادة فضوليين أم راضين، سواء كانت الاستراتيجية نشطة أم سلبية.

والاختبار الحقيقي لا يكمن في سرعة التبني، بل في الوعي الذي يُحدثه القادة -هل يستطيعون البقاء منفتحين بما يكفي لتحدي ما يبدو مؤكداً، مع التمسك بما يُحدد قيمتهم حقاً؟ يتطلب ذلك بناء منصة للتواصل، حيث تُغذي وجهات النظر المتنوعة النظام -ما يربط بين الأفراد والبيانات- ويضمن ثقافة وصول إلى البيانات لا يُرحَّب فيها بالاستكشاف نحو طموح مشترك فحسب، بل يُتوقع منه أيضاً. وهذا يُمهد الطريق ليس فقط لاستخدام الذكاء الاصطناعي، بل للنمو معه.

* مجلة «فاست كومباني»، خدمات «تريبيون ميديا».


منهج جينومي جديد يُسرّع تشخيص الأمراض النادرة في بريطانيا

منهج جينومي جديد يُسرّع تشخيص الأمراض النادرة في بريطانيا
TT

منهج جينومي جديد يُسرّع تشخيص الأمراض النادرة في بريطانيا

منهج جينومي جديد يُسرّع تشخيص الأمراض النادرة في بريطانيا

يشهد علم الجينوم نقلة نوعية غير مسبوقة مع ظهور منهجين متكاملين أحدثا فرقاً ملموساً في حياة مئات العائلات التي تكافح لفهم الأسباب الحقيقية وراء حالات وراثية نادرة.

منهج جينومي

وفي حين أعلن علماء معهد ويلكوم سانغر وجينوميكس إنغلاند في المملكة المتحدة عن تطوير منهج جينومي قادر على كشف طفرات بنيوية معقّدة طالما استعصت على الفحوص التقليدية، أظهرت دراسة ثانية من مستشفى «غريت أورموند ستريت» في لندن أن إدخال تسلسل الجينوم الكامل ضمن خدمات هيئة الصحة البريطانية NHS ساعد الأطفال المصابين بالأمراض النادرة على الوصول إلى التشخيص والرعاية المناسبة بشكل أسرع من أي وقت مضى.

وترسم هذه التطورات المتزامنة ملامح مرحلة جديدة في فهم الجينوم البشري، قائمة على رؤية أوسع للطفرات الوراثية وقدرة أعلى على تفسير الحالات المعقدة التي كانت تُعدّ «لغزاً طبياً» لسنوات طويلة.

كشف الطفرات البنيوية وإعادة رسم حدود التشخيص

تركز الاختبارات الجينية التقليدية على الطفرات الصغيرة التي تصيب قاعدة واحدة في الحمض النووي لكنها غالباً ما تُخفق في كشف الطفرات البنيوية Structural Variants وهي تغيّرات واسعة تشمل حذفاً أو تكراراً أو إعادة ترتيب لمقاطع طويلة من الجينوم تزيد على 50 قاعدة.

وقد تكون هذه الطفرات السبب الأساسي لاضطرابات عصبية أو نمائية أو جسدية لكنها تظل «غير مرئية» عندما يُحلَّل الجينوم على شكل مقاطع صغيرة متفرقة.

وقد شبّه الباحثون الأمر مجازياً بمحاولة قراءة كتاب تمزقت جُمله إلى قصاصات صغيرة قد نفهم جزءاً من القصة لكن الصورة الكاملة تبقى ناقصة.

مشروع «مائة ألف جينوم»

من هنا جاء المنهج الجديد الذي اعتمد على تحليل بيانات 13 ألفاً و700 فرد من الآباء والأطفال ضمن مشروع مائة ألف جينوم. ومن خلال خوارزميات متقدمة تمكن الفريق من اكتشاف 1870 طفرة بنيوية، كثير منها لم يكن قابلاً للكشف سابقاً. كما اتضح أن واحدة من كل ثماني طفرات معقّدة ومتشابكة وهي الأصعب رصداً بالفحوص السريرية التقليدية.

وقاد هذا التحليل العميق إلى تحديث أو تقديم تشخيصات جديدة لـ145 طفلاً بينهم نحو 60 يحملون طفرات بنيوية معقدة لم يكن بالإمكان اكتشافها من قبل.

وقال الدكتور هيونتشول جونغ المؤلف الأول للدراسة من معهد ويلكوم سانغر في المملكه المتحده في الورقة البحثية المنشورة في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 عبر دورية Nature Communications إن هذا المنهج يتيح لنا رؤية بنية الجينوم بعمق غير مسبوق. ولم نعد نكتفي بمعرفة وجود حذف أو تكرار بل نفهم كيفية تفاعل هذه التغيّرات معاً وكيف تؤثر على بيولوجيا المريض.

وأضاف أن هذه الخطوة تفتح الباب أمام عصر جديد في تشخيص الأمراض الوراثية النادرة وتفسيرها. ونحن الآن نرى بنية الجينوم بطريقة لم تكن ممكنة سابقاً. ولم نعد نبحث فقط عمّا إذا كان هناك حذف أو تكرار بل نفهم كيف تتفاعل هذه التغيّرات معاً وتؤثر على وظيفة الجينات.

التشخيص المبكر... قوة تُعيد الأمل للعائلات

وفي موازاة هذا التقدّم العلمي اللافت كشفت دراسة حديثة أخرى من مستشفى غريت أورموند ستريت للأطفال في لندن ونُشرت في Genetics in Medicine في 2 ديسمبر (كانون الأول) 2025 عن نتائج تحمل بارقة أمل لآلاف العائلات. وقد بيّنت الدراسة أن اعتماد تسلسل الجينوم الكامل ضمن خدمات هيئة الصحة البريطانية لم يُسرّع فقط عملية التشخيص بل رفع دقته بشكل ملحوظ في حالات كانت تُعَدّ من أكثر الأمراض ندرة وتعقيداً.

وحلّل الباحثون بيانات 500 طفل خضعوا للفحص عبر خدمة الطب الجينومي وقارنوها ببيانات 2.000 طفل من مشروع «الجينومات المائة ألف». وكانت المفاجأة أن معدل التشخيص ارتفع من 22 في المائة إلى 29 في المائة، وأن الأطفال باتوا يحصلون على تشخيص واضح قبل عامين كاملين من العمر الذي كان يحدث فيه ذلك سابقاً وهي فترة حاسمة في حياة طفل يعاني من مرض وراثي غامض.

ووصفت الدكتورة إيما ويكلينغ استشارية الوراثة السريرية والمسؤولة عن الدراسة هذا التطور بأنه «تحوّل جذري في مسار الرعاية». وقالت إن الرؤى التي قدمها مشروع المائة ألف جينوم مكّنتنا من إعادة تشكيل خدماتنا، إذ إن التشخيص المبكر لا يمنح العائلات وضوحاً فحسب بل يمكّننا من التدخل في اللحظة المناسبة ومنح الأطفال أفضل فرصة ممكنة للرعاية والعلاج.

وأوضحت ويكلينغ أن قوة هذا الفحص لا تكمن فقط في نتائجه الأولية، بل أيضاً في إمكانية إعادة تحليل البيانات مستقبلاً كلما كشفت الأبحاث عن تغيّرات جينية جديدة. مضيفة أن هذا يعني أن العائلات التي لا تمتلك اليوم خيارات علاجية قد تحصل غداً على إجابات... وربما علاجات.

بهذا التقدم يبدو أن علم الجينوم لا يقدّم تشخيصاً مبكراً فحسب بل يفتح باباً واسعاً للأمل ولرحلة جديدة تقود إلى فهم أدقّ وعلاج أسرع للأطفال الأكثر هشاشة.

مستقبل الطب الجينومي

يجمع المنهجين: منهج كشف الطفرات البنيوية المعقدة، والتشخيص المبكر عبر تسلسل الجينوم الكامل، خيط واحد؛ هو الرغبة في بناء صورة أكثر شمولاً لجينوم الإنسان.

هذه الصورة الموسّعة ستسمح بفهم أفضل لمسار الأمراض النادرة وتوقع المضاعفات قبل حدوثها ثم تصميم علاجات شخصية ودقيقة، وأخيرا إعادة تحليل البيانات مستقبلاً مع اكتشاف طفرات جديدة.

وتؤكد البروفسورة دام سو هيل كبيرة المسؤولين العلميين في هيئة الصحة البريطانية أن الطب الجينومي يمنح العائلات بارقة أمل ويقدم للأطفال تشخيصاً أوضح وأسرع، وهو ما يفتح الباب لرعاية أكثر فاعلية.

ومع تطور أدوات تحليل الجينوم يصبح من الواضح أن النظر إلى ما هو أبعد من الطفرات الصغيرة وإلى الطفرات البنيوية الواسعة قد يكون المفتاح لفهم ما ظل لسنوات خارج نطاق التفسير العلمي.

ولكثير من العائلات، فإن مجرد الحصول على إجابة هو نقطة تغيير كبرى وبداية رحلة جديدة نحو فهم الواقع وتخفيف القلق ووضع خطوات واضحة للمستقبل.


الولايات المتحدة تُطلق أكبر استراتيجية حكومية للذكاء الاصطناعي في القطاع الصحي

 حين تصبح المستشفيات شبكة واحدة... يقودها عقلٌ رقميّ واحد
حين تصبح المستشفيات شبكة واحدة... يقودها عقلٌ رقميّ واحد
TT

الولايات المتحدة تُطلق أكبر استراتيجية حكومية للذكاء الاصطناعي في القطاع الصحي

 حين تصبح المستشفيات شبكة واحدة... يقودها عقلٌ رقميّ واحد
حين تصبح المستشفيات شبكة واحدة... يقودها عقلٌ رقميّ واحد

في لحظةٍ لم يعد فيها الذكاءُ الاصطناعي ترفاً تقنياً ولا موجةً عابرة من وادي السيليكون، اتخذت واشنطن خطوة تُشبه انتقال الطب من عصر الورق إلى عصر ما بعد البيانات. ففي الرابع من ديسمبر (كانون الأول) 2025، كشفت وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأميركية (HHS) عن أول استراتيجية حكومية كبرى لدمج الذكاء الاصطناعي في جسد النظام الصحي الأميركي بالكامل - وثيقة من عشرين صفحة لا تُراجع أدوات التكنولوجيا فحسب، بل تعيد تعريف معنى الرعاية الطبية، وكيف تُدار، وكيف تُوزَّع، وكيف تُراقَب.

ولعل المفارقة أن هذا التحوّل الهائل، الذي قد يغيّر شكل الطب خلال العقد المقبل، مرّ بهدوءٍ شبه تام في الإعلام العربي، رغم أنه يحمل تحديات وفرصاً قد تمسّ المنطقة العربية قبل غيرها... من بنية المستشفيات إلى سيادة البيانات، ومن تدريب الأطباء إلى شكل العيادات في مدن المستقبل.

وكيل وزير الصحة الأميركي يعلن الاستراتيجية

من التجربة إلى البنية التحتية: ماذا تكشف الاستراتيجية الأميركية؟

لا تتعامل واشنطن مع الذكاء الاصطناعي بوصفه برنامجاً تجريبياً أو أداةً تُضاف إلى رفّ التقنيات الطبية؛ بل بوصفه طبقة تشغيلية جديدة ستستقر في قلب النظام الصحي، كما تستقر الكهرباء في الجدران والإنترنت في المستشفيات. لذلك جاءت الاستراتيجية بخمسة مسارات تشكّل — إذا اكتملت — ملامح الجيل الجديد من الطب الأميركي:

1. حوكمة صارمة تُعرّف المخاطر قبل وقوعها، عبر معايير واضحة للاستخدام الآمن والشفاف، تمنع الانحياز وتحدّ الأخطاء الخوارزمية.

2. بنية رقمية موحّدة تُعيد ترتيب الفوضى التاريخية للبيانات الصحية، وتخلق منظومة قابلة للتكامل بين المستشفيات، وشركات الدواء، والباحثين.

3. تمكين العاملين الصحيين عبر أدوات ذكية تُخفّف العبء المتراكم من السجلات، وتسرّع القرار الطبي، وتعيد للطبيب جزءاً من وقته المسروق.

4. تسريع البحث والتطوير الدوائي من خلال نماذج تنبؤية قادرة على محاكاة التجارب السريرية، واكتشاف مؤشرات المرض قبل ظهوره في الواقع.

5. تعزيز الصحة العامة بإنشاء رادارات رقمية قادرة على التقاط بوادر الأوبئة وتحليل أنماط الأمراض، قبل أن تتحوّل إلى موجات متأخرة يصعب احتواؤها.

هذه ليست مجرد خطة حكومية جديدة، ولا مبادرة تقنية تُضاف إلى أرشيف السياسات؛ إنها إعادة تنظيم جذرية قد تغيّر الطريقة التي تُصنع بها الأدوية، وتُتابَع بها الحالات، وتُدار بها المستشفيات، وتُفهم بها الصحة العامة في القرن الحادي والعشرين.

لماذا يُعدّ هذا التحوّل حدثاً عالمياً؟

لأن ما يحدث في واشنطن لا يبقى داخل حدودها؛ فالنظام الصحي الأميركي — بعمقه العلمي، وحجمه الاقتصادي، وقدرته على تشكيل معايير العالم — يشبه حجراً ضخماً يُلقى في بحيرة الطب العالمية، لتتداعى أمواجه إلى كل القارات. وحين تعلن مؤسسات بحجم المعاهد الوطنية للصحة (NIH) ومراكز مراقبة الأمراض (CDC) وإدارة الغذاء والدواء (FDA) أنها ستُدخل الذكاء الاصطناعي في عملها اليومي، فهذا يعني عملياً إعادة كتابة قواعد اللعبة الطبية:

الاكتشاف الدوائي قد يقفز سنوات إلى الأمام، مع خوارزميات قادرة على غربلة ملايين الجزيئات في أيام بدل سنوات.

التشخيص سيصبح أدق وأعمق بفضل نماذج تتعلّم من مخزون لا ينضب من السجلات الطبية والصور والإشارات الحيوية.

لمسة الإنسان... وبداية عصر الذكاء الاصطناعي الصحي

إن الأوبئة قد تُرصد قبل أن تتكاثر، من خلال تحليلات تنبؤية تراقب الأنماط الخفية التي لا تراها العين البشرية. كما أن هيئات الصحة العالمية نفسها قد تعيد ترتيب معاييرها، إذ درج العالم لعقود على تبنّي السياسات الأميركية في الأدوية والأجهزة والمعايير السريرية... وهذا التحوّل لن يكون استثناءً.

بهذا المعنى، فإن الاستراتيجية الأميركية ليست وثيقة داخلية، بل حدث نظامي عالمي سيُعيد تشكيل طبّ المستقبل، وربما يفرض على الدول — ومن ضمنها دول المنطقة العربية — التفكير بطريقة جديدة في البنية الصحية والسياسات والتنظيم.

تساؤلات داخلية: بين الحماسة والقلق

ورغم موجات الترحيب التي رافقت الإعلان، فإن الاستراتيجية الأميركية لا تأتي بلا ظلال. فهي تفتح — داخل الولايات المتحدة نفسها — باباً واسعاً أمام أسئلةٍ تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها تقف على تخوم أخطر ما في الطب: الثقة.

من يحمي البيانات الصحية للمواطنين؟ وكيف يمكن ضمان ألا تتحوّل السجلات الطبية إلى مادة للاقتصاد الرقمي؟

هل يمكن للخوارزمية أن تخطئ؟ وإذا حدث الخطأ - كما حدث في تجارب سابقة - فمن يتحمّل المسؤولية: الشركة أم الطبيب أم النظام الصحي؟

ما حدود نفوذ شركات التقنية الكبرى؟ وهل ستصبح القرارات الصحية مرهونة بخوارزميات لا يعرف أحد كيف بُنيت؟

وكيف يمكن تفادي تحيّز النماذج الذكية؟ إذ أثبتت دراسات أميركية أن البيانات غير المتوازنة قد تُنتج قرارات تمييزية دون قصد.

إنها أسئلة لا يمكن تجاوزها، لأن مستقبل الطب — مهما تقدّم — لا يقوم على التكنولوجيا وحدها، بل على ثقة المريض وطمأنته بأن ما يرى الطبيب على الشاشة هو امتدادٌ لضميره، لا لاحتمالات خوارزمية غامضة.

ما الذي تعنيه هذه الخطوة للعالم العربي؟

في المنطقة العربية، تتقدّم دول مثل السعودية والإمارات بخطى لافتة نحو بناء منظومات «صحة ذكية»، لكن الإعلان الأميركي لا يمرّ عابراً؛ فهو يطرح سؤالاً أكبر من حدود التكنولوجيا: هل تحتاج المنطقة إلى استراتيجية وطنية، وربما إقليمية، موحّدة للذكاء الاصطناعي الصحي؟

فالعالم يدخل حقبة جديدة يُعاد فيها تعريف الطب من جذوره: طبٌّ يُبنى على البيانات لا الملفات الورقية، وعلى التنبؤ لا ردّ الفعل، وعلى الخوارزميات التي توسّع رؤية الطبيب لا التي تستبدل بها اجتهاده. وإذا كانت واشنطن تعيد اليوم صياغة مستقبلها الصحي، فإن منطقتنا — بخاصة دول الخليج — قد تجد نفسها أمام لحظة تقرير مشابهة، تفرض أربعة مسارات واضحة:

* بناء سجلات صحية موحّدة تُصبح الغذاء الأساسي للنماذج الذكية في المستشفيات والعيادات.

* تطوير أطر أخلاقية وقانونية تحمي خصوصية المريض وتمنع سوء استخدام البيانات.

* الاستثمار في نماذج لغوية وطبية عربية تفهم الجينات، واللغة، والسياقات الاجتماعية لشعوبنا، بدل الاعتماد على نماذج مستوردة لا تعي خصوصيتنا.

* رسم استراتيجية مشتركة تجمع الجامعات والهيئات الصحية وصنّاع القرار لتطوير أدوات تشخيصية ووقائية محلية، تُعيد للمنطقة دورها في الابتكار لا الاستهلاك.

إن مستقبل الذكاء الاصطناعي الصحي في العالم العربي لن يُبنى بقرارات تقنية فقط، بل برؤية تعدّ البيانات ثروة وطنية، والبنية الرقمية جزءاً من الأمن الصحي، والابتكار مسؤولية مشتركة بين الحكومات والمجتمع العلمي

الموجة الثانية لتقنية عملاقة - حكومية

إن ما فعلته واشنطن ليس مجرّد إعلان تقني، ولا خطوة بيروقراطية في أرشيف وزارة الصحة؛ إنه تأسيس لمرحلة جديدة من تاريخ الطب، مرحلة تلتقي فيها السياسة مع العلم، ويقف فيها الإنسان جنباً إلى جنب مع الخوارزمية، كلٌّ يختبر حدود الآخر. لقد انطلقت الموجة الأولى من الذكاء الاصطناعي من الشركات الناشئة، من مختبرات وادي السيليكون ومنصّات التقنية العملاقة؛ لكن الموجة الثانية — الأعمق والأخطر والأوسع تأثيراً — تنطلق الآن من الحكومات نفسها، من المؤسسات التي تنظّم العلاج، وتراقب الدواء، وتُحدّد ما يعنيه «الأمان» و«العدالة» و«المسؤولية» في الرعاية الصحية.

وفي هذا التحوّل، لا يعود السؤال المركزي: كيف سيبدو الطب بعد عشر سنوات؟ بل يصبح سؤالاً أكثر جرأة وقلقاً: هل ستكون أنظمتنا الصحية — في العالم العربي — جاهزة لاستقبال هذا المستقبل قبل أن يفرض نفسه؟ هل نملك البنية الرقمية، والمعايير الأخلاقية، والكوادر المؤهلة، والرؤية المشتركة التي تجعل الذكاء الاصطناعي أداة قوة لا مصدر تبعية؟

إن الذكاء الاصطناعي، مهما تعقّد، ليس مستقبلاً تقنياً فحسب؛ إنه اختبار حضاري. اختبار لقدرتنا على أن نجعل التكنولوجيا امتداداً لضمير الطبيب لا امتداداً لهيمنة الشركات، وأن نجعل الخوارزمية وسيلة لتحرير الوقت الإنساني لا لاستنزافه، وأن نبني طبّاً يقترب أكثر من الإنسان... لا يبتعد عنه. وكما قال الفيلسوف الدنماركي كيركغارد: «المستقبل لا يُكتشف، بل يُصنع». وما تفعله الولايات المتحدة اليوم هو صناعة مستقبلها الصحي. ويبقى السؤال المفتوح أمام منطقتنا: هل سنكون شركاء في صناعة هذا المستقبل... أو متلقّين له؟