«قارئ الجثث»... مصر الملكية في مذكرات طبيب تشريح بريطاني

كشف عن خفايا قضايا أثارت جدلاً تاريخياً وسياسياً

سيدني سميث... قارئ الجثث
سيدني سميث... قارئ الجثث
TT

«قارئ الجثث»... مصر الملكية في مذكرات طبيب تشريح بريطاني

سيدني سميث... قارئ الجثث
سيدني سميث... قارئ الجثث

عن «الدار المصرية – اللبنانية» بالقاهرة، صدر كتاب «قارئ الجثث» ترجمة الباحث والروائي مصطفى عبيد، وهو عبارة عن مذكرات طبيب التشريح البريطاني سيدني سميث في مصر الملكية. تكمن أهمية الكتاب في أنه يكشف عبر فصوله عن بعض الجرائم التاريخية في البلاد، وأيضاً لما يحتويه من حكايات مثيرة من أماكن أخرى خارج مصر حول جرائم القتل والانتحار ودور الطب الشرعي في كشفها، كما تتضمن المذكرات وقائع حول أهم عمليات التشريح التي أجراها في مصر، ومن بينها جثامين ضحايا أشهر قاتلتين متسلسلتين، وهما «ريا وسكينة» اللتان كوّنتا عصابة متخصصة في استدراج النساء وقتلهن بهدف الحصول على مصوغاتهن الذهبية. ويوضح الكاتب كيف توصل إلى تحديد شخصياتهما رغم مرور أشهر عدة على دفنهما. كما تضمنت المذكرات تفاصيل عن تشريح جثمان السير لي ستاك، سردار الجيش البريطاني في مصر وحاكم السودان العام في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 1924، والذي لقي مصرعه على يد جماعة مسلحة أطلقت النار عليه، وأصابته بجروح خطيرة أدت إلى وفاته، بالإضافة إلى إصابة الياور والسائق الخاص به، ويعد الحادث هو أكبر عملية اغتيال لضابط رفيع المستوى في الجيش الإنجليزي بمصر، وسبب الحادث ضجة لدى الحكومتين البريطانية والمصرية.
وكذلك يستعرض الكتاب أشهر القضايا المحيرة التي شكلت ألغازاً للشرطة في بريطانيا وآيرلندا، وأستراليا وماليزيا، وكيف ساهمت الخبرات العملية التي اكتسبها الطبيب الشرعي في مصر في حل هذه الألغاز.
ويوضح المترجم في مقدمته كيف استهوته فكرة النبش في الدفاتر القديمة، فعندما ترجم قبل سنوات قليلة «مذكرات توماس راسل - حكمدار القاهرة»، والذي عاش في مصر طوال الفترة من 1902 إلى 1946 وكان شاهداً دقيقاً على وقائع الجريمة في مصر، توقف عند كثير من الإشارات التي قدمها لكتب وشهادات لموظفين كبار قدِموا من إنجلترا وعملوا في مختلف القطاعات في مصر خلال فترة الاحتلال. وكان من بين إشارات راسل باشا، حديثه عن كبار خبراء الطب الشرعي في إنجلترا وزياراتهم المتكررة إلى مصر، في بدايات القرن العشرين، وكيف وجدوا بها حقلاً نموذجياً للتجارب والخبرات نتيجة تنوع الجرائم وتعدد أساليب القتل، ذاكراً أسماء بعض الأطباء الشرعيين المعروفين، مثل مستر نولان، وسيدني سميث. والأخير معروف للعاملين في مجال الطب الشرعي المصري، باعتباره أحد مؤسسي مصلحة الطب الشرعي سنة 1927، كما أنه شارك طبيباً مصرياً في إصدار أول كتاب باللغة العربية عن الطب الشرعي سنة 1924.
قضى سميث في مصر 11 عاماً في النصف الأول من القرن العشرين، ثم سافر لاستكمال تجاربه في مجال كشف الجرائم من خلال الطب الشرعي في آيرلندا واسكوتلندا، وأستراليا، وسيلان، وقدم عنها شهادات ضمن مذكراته التي جُمعت ونُشرت في سنة 1959.
يستشهد الكتاب بقول كيث سيمبسون، كبير الأطباء الشرعيين في لندن، بأن سميث يمثل استنساخاً حقيقياً لجوزيف بيل، طبيب الجراحة بإدنبرة الذي استوحى منه آرثر كونان دويل شخصية «شارلوك هولمز» الشهيرة. كما قال عنه توماس راسل - حكمدار البوليس في القاهرة «لقد وجد سيدني سميث في مصر حقلاً نموذجياً لمختلف الجرائم نتيجة تنوع أساليب القتل».
ويكشف الكتاب كيف أنه وجد في سيرة سميث خفايا غامضة جرى معظمها في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، وكانت اكتشافاته سبباً للوصول للجناة في العديد من القضايا المرعبة التي تمكن من فك غموضها.
ومثلها مثل كثير من شهادات الخبراء والأساتذة الإنجليز في مصر إبان الاحتلال، فقد قوبلت مذكرات الرجل بارتياب وتشكيك من باحثين مصريين، وخاصة بعد تحرر مصر من الاحتلال الإنجليزي، وما تلى ذلك من مقاطعة وطنية لكل ما هو إنجليزي بما في ذلك البحث العلمي. وهكذا لم تتم ترجمة مذكراته رغم أن نصفها على الأقل يتحدث عن عالم الجريمة وطرق القتل وظواهر التسميم الجنائية في مصر، بل عن جرائم شهيرة فيها مثل قضية أشلاء الحسناء الرومانية إيما.

آراء متعاطفة مع مصر

خلال فتره وجوده بمصر في الفترة من بداية 1917 إلى نهاية 1927 احتك سميث بالمجتمع المصري خلال مرحلة مهمة من مراحل تطوره عقب ثورة 1919، وما نتج منها من تطور مجتمعي واضح انعكس على التعليم والثقافة ومختلف مناحي الحياة. كما تابع الرجل خلال وجوده في مصر قضايا جنائية وسياسية معقدة انحاز فيها جميعا إلى ضميره العلمي، قبل انتمائه الوطني؛ ما جعله في بعض الأحيان يكشف بوضوح كيف كانت سلطات الاحتلال البريطاني في مصر توظف لصوصاً سابقين للعمل كخفر غير نظاميين، ثُم تستخدمهم في قتل المتظاهرين وإثارة الشغب لتحقيق أهداف سياسية. بل إننا نجده يشهد في إحدى المرات لصالح سجين مصري تعرض للتعذيب في أحد السجون.
ويقدم سميث في مذكراته آراء متعاطفة مع الحركة الوطنية في مصر ومع سعد زغلول عندما يشير في مقترحاته للمسؤولين الإنجليز، إلى أنه يرى إمكانية منح مصر حكماً ذاتياً مبكراً على غرار ما حدث في نيوزيلندا، وانتخاب سعد زغلول رئيساً للمصريين، وهو ما رد عليه مرؤسوه بسخرية مكررين أنه أفرط في الشراب.
كما يقدم وصفاً دقيقاً للقرى المصرية في بدايات القرن العشرين، وكيف كانت مرتعاً للبؤس والحرمان وموطناً للأمراض النادرة، ومركزاً للجهل والإهمال؛ ما جعلها بمثابة حقل خصب لمختلف أنواع الجرائم وطرق القتل بدءاً بالتسميم بالزرنيخ وحتى الخنق وتقطيع الضحية لأشلاء عدة. لذلك؛ ظلت مصر تعيش معه حتى بعد أن يُغادرها، فيتذكر في كل جريمة يُحقق فيها استناداً إلى خبرته في الطب الشرعي، موقفاً مشابهاً عايشه في مصر واستفاد منه.
ومن الأشياء اللافتة في هذه المذكرات، أن صاحبها لا يجد بأساً في أن يُبدي آراء معتدلة وموزونة عند تحدثه عن عقائد المصريين وعاداتهم، دون استعلاء أو تعمد إساءة مثل كثير من أصحاب الشهادات الأجانب. لذلك؛ تبقى مذكراته وثيقة مدهشة حيث تُقدم بشكل تفصيلي كيف يعمل الطبيب الشرعي كمخبر ومحلل للأحداث، وكيف يستنطق الجثث ويعيد إضاءة مسرح الجريمة ويتتبع الآثار ليُخلّص بريئاً أو يُثبت الإدانة على مُجرم. ولهذا؛ فقد سمح المترجم لنفسه أن يستفيد من خلفيته الروائية فيستبعد عنوان المذكرات الأصلي وهو «على الأرجح... قتل» ليضع عنواناً أقرب لما استشعره خلال ترجمته الحكايات وتنقله من صفحة لأخرى، وهو «قارئ الجثث»؛ إذ يبدو الحاكي هنا أشبه بقارئ للجثث، مُهمته استهداف الحقيقة، بغرض وحيد هو مقاربة العدالة خدمة للبشرية. كما استعان بالدكتورة سمر عبد العظيم أستاذ الطب الشرعي بجامعة عين شمس، لضبط ترجمة المصطلحات الطبية.
ولد سيدني ألفريد سميث في ركسبورج بنيوزيلندا في 4 أغسطس (آب) سنة 1884، ودرس الطب في جامعة إدنبرة وتخرج سنة 1912، قبل أن يتخصص في الطب الشرعي وينبغ فيه، ثم التحق بالخدمة طبيباً بجيش إنجلترا خلال الحرب العالمية الأولى سنة 1914. وفي سنة 1917 تقدم سميث لشغل وظيفة مستشار للطب الشرعي للحكومة المصرية، وتم تعيينه في هذا المنصب ليُنشئ وحدة للطب الشرعي بوزارة العدل. كما عمل محاضراً في كلية طب القصر العيني وتتلمذ على يديه عشرات الأطباء المصريين في مجال الطب الشرعي، وأصدر بمشاركة عبد الحميد عامر كتاب «الطب الشرعي في مصر» سنة 1924.
ثم عاد الرجل إلى بلاده ليتولى مناصب عدة في مجال الطب الشرعي وليحقق في قضايا كبرى، وتم تعيينه عميداً لكلية الطب بإدنبره، وحاز تكريمات عديدة بعد نجاحه في حل ألغاز قضايا جنائية عديدة. وفي سنة 1955 استقبلته كلية طب قصر العيني في مصر وتم تكريمه، ثم تقاعد ورحل عن دنيانا في 9 مايو (أيار) سنة 1969 باسكوتلندا عن عمر ستة وثمانين عاماً.


مقالات ذات صلة

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

كتب إيمانويل كانط

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟

لطفية الدليمي
كتب «الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري

رشا أحمد (القاهرة)
شمال افريقيا الكاتب الجزائري بوعلام صنصال يتحدث في مؤتمر صحافي خلال الدورة الثانية والستين لمهرجان برلين السينمائي الدولي 9 فبراير 2012 (أ.ب)

الجزائر تواجه دعوات متزايدة للإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال

دعا سياسيون وكتاب وناشطون إلى الإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.