تعزيز جودة الحياة بالثقافة السائلة

بعد تراجع الحواضن العربية وانسداد الأفق

تعتبر المؤتمرات والمعارض من الفعاليات التي يروج لها عبر مشاهير منصات التواصل الاجتماعي في السعودية (الشرق الأوسط)
تعتبر المؤتمرات والمعارض من الفعاليات التي يروج لها عبر مشاهير منصات التواصل الاجتماعي في السعودية (الشرق الأوسط)
TT

تعزيز جودة الحياة بالثقافة السائلة

تعتبر المؤتمرات والمعارض من الفعاليات التي يروج لها عبر مشاهير منصات التواصل الاجتماعي في السعودية (الشرق الأوسط)
تعتبر المؤتمرات والمعارض من الفعاليات التي يروج لها عبر مشاهير منصات التواصل الاجتماعي في السعودية (الشرق الأوسط)

بوسع من يتابع المشهد الثقافي في العالم العربي أن يكتشف ما انتهى إليه هذا المشهد من انسداد في الأفق بدأت بوادره في العقد الأخير من القرن الماضي واستمر خلال العقدين المنصرمين من هذا القرن دون أن تبدو في الأفق بوادر انفراج لما تمر به الحال الثقافية، وإذا كانت جملة من العوامل المتصلة بالوضع العام الذي مرت وتمر به عدد من الدول العربية مسؤولة عن حالة انسداد الأفق؛ فإن ثمة عوامل أخرى أدت إلى ذلك، وهي عوامل تتصل بالتغيير الذي عصف بمفهوم الثقافة ووضعها على منحى تاريخي لا يطال مفهومها فحسب، وإنما يمتد ليطال أدواتها والجهات المنتجة لها والشرائح المستهدفة بما تقدمه من محتوى كذلك.
- تراجع حواضن الثقافة العربية
تكالبت على العالم العربي جملة من الأحداث التي أفضت إلى تقويض دول عربية وساهمت في تقويض كثير من مؤسسات دول أخرى، وهو تقويض طال مؤسسات الدولة كما طال مؤسسات المجتمع المدني والتي كانت محصلة لنضال طويل المدى لترسيخ مفهوم المشاركة الوطنية في النهضة والتنمية على نحو مستقل وموازٍ لما تبذله الدول في هذا الشأن؛ وهذا ما أدى إلى تعميق حجم الخسارة التي عانت منها تلك الدول والشعوب العربية، ولم تكن للمؤسسات الثقافية أن تصمد حين تنهار المؤسسات الداعمة لها ولم يكن لها كذلك أن تصمد تحت وطأة فقدان الثقة في ثقافة لم تستطع أن تحول دون الكارثة التي شهدتها تلك الدول والمأساة التي انتهت إليها تلك الشعوب.

زائران في مكتبة محمد بن راشد التي افتتحت خلال 2022 في دبي (أ.ف.ب)

وإذا كنا نتفق على أن مختلف الأقطار العربية قد ساهمت في إنتاج وصياغة الثقافة العربية المعاصرة بقدر أو آخر، وأن رواد الثقافة العربية المعاصرين ينتمون إلى أقطار عربية مختلفة ومتعددة، فإن علينا أن نتفق على أن الثقافة العربية المعاصرة تدين بالفضل لثلاث عواصم عربية شكلت الحواضن الثقافية الأكثر إنتاجاً والأعمق تأثيراً، خاصة حين أصبحت منابرها الثقافية من مجلات ومهرجانات ومؤتمرات ودور نشر ومعارض كتب هي المَعين الذي ينهل منه المثقفون العرب، وهي معبرهم إلى ينطلقون منه صوب الآفاق العربية المختلفة، وإذا كانت تلك العواصم العربية الثلاث هي بغداد وبيروت والقاهرة، فإن لنا أن نتخيل حجم الكارثة التي حلت بالثقافة العربية حين عطلت الأحداث والاشتباكات السياسية دور عاصمتين وأضعفت دور العاصمة الثالثة، وإذا كان الغزو الأميركي للعراق وما سبقه من حصار اقتصادي وما تلاه من انفلات أمني وفوضى سياسية قد قوض مفهوم الدولة فقد قوض في الوقت نفسه منابر العراق الثقافية، ومن أهمها مهرجان «المربد» ومجلة «أقلام» ومجلة «المورد»، فتعطل بذلك الدور الذي لعبته بغداد على مدى عقود في تأصيل الثقافة العربية وتحديثها في الوقت نفسه، في الوقت نفسه نجد بيروت التي لم تكد تتعافى من الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان على مدى ما يقارب العقد والنصف تقع ضحية لتجاذبات سياسية وصراعات حزبية أفضت إلى خلخلة مؤسسات الدولة وانتهت إلى تعطيل دور بيروت الذي كان بتمثل في جانبين مهمين، جرأة التحديث الذي قادته مجلة «شعر» وكرّسته مجلة «الآداب»، وحركة النشر التي تعرضت لانتكاسة شديدة أفضى إليها الوضع الاقتصادي المتردي من ناحية وتعثر حركة التوزيع نتيجة لتعثر العلاقات اللبنانية بكثير من الدول التي كانت تمثل السوق المستهلكة لنتاج المطابع ودور النشر اللبنانية، أما القاهرة، فإن الشعور بتراجع دورها إنما ينطلق من تقدير عظمة وتاريخية الدور الذي لعبته في تأسيس حركة النهضة في الثقافة العربية؛ مما آل بكبار المثقفين المصريين إلى أن يصبحوا رموزاً ثقافية وقيادات للفكر تركت آثارها على خريطة الثقافة العربية من المحيط إلى الخليج، وتراجع الدور المصري جاء محصلة لما ترتب على حالة الفوضى غير الخلاقة التي عانت منها مصر في أعقاب ما أطلق عليه الربيع العربي وأسفر عن وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة؛ مما اضطرت معه مصر إلى خوض ثورة مضادة بدأت بعدها تستعيد مؤسساتها المدنية التي بدأت خلال حكم تلك الجماعة طابعاً آيديولوجياً، وتستعيد بذلك دورها الثقافي التنويري شيئاً فشيئاً.

الحواضن الثقافية والمهرجانات والمؤتمرات ومعارض الكتب باتت المَعين الذي ينهل منه المثقفون العرب (الشرق الأوسط)

تراجع دور الحواضن الثقافية العربية التي يؤثَر عن طه حسين ذات يوم أن قال عنها «القاهرة تكتب وبيروت تنشر وبغداد تقرأ»، واهتزت ثقة المثقفين بثقافة عجزت عن أن تجنّب أوطانهم ما تعرضت له من كوارث، أو تركتهم على هامش الأحداث يقفون منها موقف العاجز عن فعل شيء، وانشغل المواطن العربي بقضايا أمنه واستقراره وقوت يومه ولم يعد لديه من الوقت والاهتمام ما يمنحه لثقافة أصبحت مجرد ترف، وإن لم تكن كذلك فهي ثقافة لا تمنحه أمناً ولا تسد له رمقاً.
- انزياح مفهوم الثقافة
لم تتأثر الثقافة بما عصف بالعالم العربي وحواضنه الثقافية من أحداث فحسب وإنما تعرّضت لما يشبه الزلزال الداخلي الذي أفضى إلى زحزحة مفهومها وتغيير أدواتها والمنتجين لها والشرائح التي تستهدفها. وقد تمثل هذا الزلزال في وسائل التواصل المتعددة والوسائط التقنية المختلفة، ولم تكن الثقافة التي أفرزتها هذه الوسائل والوسائط إضافة إلى الثقافة المؤسسة أو الثقافة التقليدية بمفاهيمها وأدوات والفئات المنتجة لها بقدر ما كانت زحزحة لها وطرحاً بديلاً يفتقر إلى العمق، ولكنه في الوقت نفسه يمتلك القدرة على الانتشار، بديل سهل يتصل بالحياة اليومية وينأى عن القيم العليا للثقافة وما قدمه روادها عبر العصور من فنون مختلفة، لم يعد جمهور القراء يتداولون بينهم الحديث عن روايات نجيب محفوظ وقصائد الجواهري ومقالات العقاد ومغامرات تجربة مجلة «شعر»، أقصى ذلك الزلزال المتمثل في الوسائط ووسائل التواصل الثقافة الجادة وزادها عزلة ولم يعد ثمة نور يلوح في آخر النفق الذي وجدت نفسها فيه.

كلية الملك فهد الأمنية تشارك في معرض الكتاب الدولي في جامعة الملك فيصل بالأحساء (واس)

- الثقافة وتعزيز جودة الحياة
واكب هذا الانسداد في أفق الثقافة العربية وتراجع دور حواضنها والتغيير الذي مسّ مفاهيمها وأدواتها والمنتجين لها بروز الدور السعودي على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وقد تحقق لها ذلك نتيجة لحالة الاستقرار التي شهدتها المملكة وسياسة التوازن التي اعتمدتها؛ فنجت بذلك مما عصف ببعض الدول العربية من غزو وحصار وتخبط سياسي وحالة من الفوضى التي أعقبت ما عرف بالربيع العربي. وقد تعزز الدور الثقافي للسعودية في أعقاب المواجهة الحاسمة للاتجاه الديني المتشدد وتخلصها مما كرسه تيار الصحوة من انغلاق وتوجس من الآخر وريبة في كثير من الفنون ومصادرة للعديد من الأنشطة، مكّن التغلب على الفكر المتشدد والمتطرف من إطلاق قدرات وإمكانات المجتمع السعودي وحرره من مخاوفه وما كان مفروضاً عليه من قيود وحققت له القرارات والأنظمة التي كانت تصدر على نحو متوالٍ ومتصاعد فرصاً عديدة للاستمتاع بجودة الحياة التي ظل محروماً منها على مدى عقود كان التعليم فيها يطال كثيراً من الأنشطة الثقافية، وعلى رأسها دور السينما وقاعات الموسيقى وحفلات الغناء.

زوار لمعرض الكتاب في جدة (واس)

ربطت استراتيجية وزارة الثقافة في السعودية الثقافة بجودة الحياة فتوسعت دوائرها ومجالاتها، وتعددت منابرها وكثرت الجماعات المنتجة لها وتوسعت دوائر المتلقين لها، ضمت تحت جناحها كثيراً من الفنون التي كانت مهمشة رغم أنها تشكل عناصر مهمة من شأنها أن تساعد في توفير حياة كريمة للإنسان.
لم يعد مفهوم الثقافة قاصراً على الفكر والأدب بفنونه المختلفة، لم تعد الثقافة قصيدة أو قصة قصيرة أو رواية، لم تعد محدودة فيما يمكن أن يعرف بالثقافة الصلبة، أصبحت الثقافة ثقافة تعنى بالأزياء وفنون الطبخ والموسيقى والغناء والمسرح والسينما والتراث الوطني والفنون الشعبية، أو ما يمكن اعتباره «ثقافة سائلة» تنسرب داخل النسيج اليومي للحياة العامة، وكانت رسالة تلك الاستراتيجية واضحة: جودة الحياة تتحقق من خلال هذه العناصر المتعددة إذا ما ارتقينا بالنظرة إليها ومنحناها حقها من الاهتمام والعناية، وعندها يمكن لها أن تصبح البديل لما بات ينتشر في مواقع التواصل من ثقافة زائفة أو ثقافة هشة على أحسن تقدير.
- أفق التوقع
في هذا الإطار يكون بإمكاننا أن نستشرف آفق ثقافة 2023، فنرى فيه تعزيزاً لمفهوم الثقافة السائلة وارتقاءً بقيمتها وتكريساً لدورها في توفير جودة الحياة بينما ستشهد الثقافة الصلبة استمراراً في التراجع باستثناء جهود فردية تقدم نتاجاً ثقافياً جيداً غير أنه يظل محدود الأثر وغير قادر على إعادة صياغة وعي المواطن العربي فضلاً عن المساهمة في إخراج الوطن العربي من مأزقه التاريخي الذي انتهى إليه.
 

*مثقف وشاعر سعودي


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.