بوسع من يتابع المشهد الثقافي في العالم العربي أن يكتشف ما انتهى إليه هذا المشهد من انسداد في الأفق بدأت بوادره في العقد الأخير من القرن الماضي واستمر خلال العقدين المنصرمين من هذا القرن دون أن تبدو في الأفق بوادر انفراج لما تمر به الحال الثقافية، وإذا كانت جملة من العوامل المتصلة بالوضع العام الذي مرت وتمر به عدد من الدول العربية مسؤولة عن حالة انسداد الأفق؛ فإن ثمة عوامل أخرى أدت إلى ذلك، وهي عوامل تتصل بالتغيير الذي عصف بمفهوم الثقافة ووضعها على منحى تاريخي لا يطال مفهومها فحسب، وإنما يمتد ليطال أدواتها والجهات المنتجة لها والشرائح المستهدفة بما تقدمه من محتوى كذلك.
- تراجع حواضن الثقافة العربية
تكالبت على العالم العربي جملة من الأحداث التي أفضت إلى تقويض دول عربية وساهمت في تقويض كثير من مؤسسات دول أخرى، وهو تقويض طال مؤسسات الدولة كما طال مؤسسات المجتمع المدني والتي كانت محصلة لنضال طويل المدى لترسيخ مفهوم المشاركة الوطنية في النهضة والتنمية على نحو مستقل وموازٍ لما تبذله الدول في هذا الشأن؛ وهذا ما أدى إلى تعميق حجم الخسارة التي عانت منها تلك الدول والشعوب العربية، ولم تكن للمؤسسات الثقافية أن تصمد حين تنهار المؤسسات الداعمة لها ولم يكن لها كذلك أن تصمد تحت وطأة فقدان الثقة في ثقافة لم تستطع أن تحول دون الكارثة التي شهدتها تلك الدول والمأساة التي انتهت إليها تلك الشعوب.
وإذا كنا نتفق على أن مختلف الأقطار العربية قد ساهمت في إنتاج وصياغة الثقافة العربية المعاصرة بقدر أو آخر، وأن رواد الثقافة العربية المعاصرين ينتمون إلى أقطار عربية مختلفة ومتعددة، فإن علينا أن نتفق على أن الثقافة العربية المعاصرة تدين بالفضل لثلاث عواصم عربية شكلت الحواضن الثقافية الأكثر إنتاجاً والأعمق تأثيراً، خاصة حين أصبحت منابرها الثقافية من مجلات ومهرجانات ومؤتمرات ودور نشر ومعارض كتب هي المَعين الذي ينهل منه المثقفون العرب، وهي معبرهم إلى ينطلقون منه صوب الآفاق العربية المختلفة، وإذا كانت تلك العواصم العربية الثلاث هي بغداد وبيروت والقاهرة، فإن لنا أن نتخيل حجم الكارثة التي حلت بالثقافة العربية حين عطلت الأحداث والاشتباكات السياسية دور عاصمتين وأضعفت دور العاصمة الثالثة، وإذا كان الغزو الأميركي للعراق وما سبقه من حصار اقتصادي وما تلاه من انفلات أمني وفوضى سياسية قد قوض مفهوم الدولة فقد قوض في الوقت نفسه منابر العراق الثقافية، ومن أهمها مهرجان «المربد» ومجلة «أقلام» ومجلة «المورد»، فتعطل بذلك الدور الذي لعبته بغداد على مدى عقود في تأصيل الثقافة العربية وتحديثها في الوقت نفسه، في الوقت نفسه نجد بيروت التي لم تكد تتعافى من الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان على مدى ما يقارب العقد والنصف تقع ضحية لتجاذبات سياسية وصراعات حزبية أفضت إلى خلخلة مؤسسات الدولة وانتهت إلى تعطيل دور بيروت الذي كان بتمثل في جانبين مهمين، جرأة التحديث الذي قادته مجلة «شعر» وكرّسته مجلة «الآداب»، وحركة النشر التي تعرضت لانتكاسة شديدة أفضى إليها الوضع الاقتصادي المتردي من ناحية وتعثر حركة التوزيع نتيجة لتعثر العلاقات اللبنانية بكثير من الدول التي كانت تمثل السوق المستهلكة لنتاج المطابع ودور النشر اللبنانية، أما القاهرة، فإن الشعور بتراجع دورها إنما ينطلق من تقدير عظمة وتاريخية الدور الذي لعبته في تأسيس حركة النهضة في الثقافة العربية؛ مما آل بكبار المثقفين المصريين إلى أن يصبحوا رموزاً ثقافية وقيادات للفكر تركت آثارها على خريطة الثقافة العربية من المحيط إلى الخليج، وتراجع الدور المصري جاء محصلة لما ترتب على حالة الفوضى غير الخلاقة التي عانت منها مصر في أعقاب ما أطلق عليه الربيع العربي وأسفر عن وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة؛ مما اضطرت معه مصر إلى خوض ثورة مضادة بدأت بعدها تستعيد مؤسساتها المدنية التي بدأت خلال حكم تلك الجماعة طابعاً آيديولوجياً، وتستعيد بذلك دورها الثقافي التنويري شيئاً فشيئاً.
تراجع دور الحواضن الثقافية العربية التي يؤثَر عن طه حسين ذات يوم أن قال عنها «القاهرة تكتب وبيروت تنشر وبغداد تقرأ»، واهتزت ثقة المثقفين بثقافة عجزت عن أن تجنّب أوطانهم ما تعرضت له من كوارث، أو تركتهم على هامش الأحداث يقفون منها موقف العاجز عن فعل شيء، وانشغل المواطن العربي بقضايا أمنه واستقراره وقوت يومه ولم يعد لديه من الوقت والاهتمام ما يمنحه لثقافة أصبحت مجرد ترف، وإن لم تكن كذلك فهي ثقافة لا تمنحه أمناً ولا تسد له رمقاً.
- انزياح مفهوم الثقافة
لم تتأثر الثقافة بما عصف بالعالم العربي وحواضنه الثقافية من أحداث فحسب وإنما تعرّضت لما يشبه الزلزال الداخلي الذي أفضى إلى زحزحة مفهومها وتغيير أدواتها والمنتجين لها والشرائح التي تستهدفها. وقد تمثل هذا الزلزال في وسائل التواصل المتعددة والوسائط التقنية المختلفة، ولم تكن الثقافة التي أفرزتها هذه الوسائل والوسائط إضافة إلى الثقافة المؤسسة أو الثقافة التقليدية بمفاهيمها وأدوات والفئات المنتجة لها بقدر ما كانت زحزحة لها وطرحاً بديلاً يفتقر إلى العمق، ولكنه في الوقت نفسه يمتلك القدرة على الانتشار، بديل سهل يتصل بالحياة اليومية وينأى عن القيم العليا للثقافة وما قدمه روادها عبر العصور من فنون مختلفة، لم يعد جمهور القراء يتداولون بينهم الحديث عن روايات نجيب محفوظ وقصائد الجواهري ومقالات العقاد ومغامرات تجربة مجلة «شعر»، أقصى ذلك الزلزال المتمثل في الوسائط ووسائل التواصل الثقافة الجادة وزادها عزلة ولم يعد ثمة نور يلوح في آخر النفق الذي وجدت نفسها فيه.
- الثقافة وتعزيز جودة الحياة
واكب هذا الانسداد في أفق الثقافة العربية وتراجع دور حواضنها والتغيير الذي مسّ مفاهيمها وأدواتها والمنتجين لها بروز الدور السعودي على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وقد تحقق لها ذلك نتيجة لحالة الاستقرار التي شهدتها المملكة وسياسة التوازن التي اعتمدتها؛ فنجت بذلك مما عصف ببعض الدول العربية من غزو وحصار وتخبط سياسي وحالة من الفوضى التي أعقبت ما عرف بالربيع العربي. وقد تعزز الدور الثقافي للسعودية في أعقاب المواجهة الحاسمة للاتجاه الديني المتشدد وتخلصها مما كرسه تيار الصحوة من انغلاق وتوجس من الآخر وريبة في كثير من الفنون ومصادرة للعديد من الأنشطة، مكّن التغلب على الفكر المتشدد والمتطرف من إطلاق قدرات وإمكانات المجتمع السعودي وحرره من مخاوفه وما كان مفروضاً عليه من قيود وحققت له القرارات والأنظمة التي كانت تصدر على نحو متوالٍ ومتصاعد فرصاً عديدة للاستمتاع بجودة الحياة التي ظل محروماً منها على مدى عقود كان التعليم فيها يطال كثيراً من الأنشطة الثقافية، وعلى رأسها دور السينما وقاعات الموسيقى وحفلات الغناء.
ربطت استراتيجية وزارة الثقافة في السعودية الثقافة بجودة الحياة فتوسعت دوائرها ومجالاتها، وتعددت منابرها وكثرت الجماعات المنتجة لها وتوسعت دوائر المتلقين لها، ضمت تحت جناحها كثيراً من الفنون التي كانت مهمشة رغم أنها تشكل عناصر مهمة من شأنها أن تساعد في توفير حياة كريمة للإنسان.
لم يعد مفهوم الثقافة قاصراً على الفكر والأدب بفنونه المختلفة، لم تعد الثقافة قصيدة أو قصة قصيرة أو رواية، لم تعد محدودة فيما يمكن أن يعرف بالثقافة الصلبة، أصبحت الثقافة ثقافة تعنى بالأزياء وفنون الطبخ والموسيقى والغناء والمسرح والسينما والتراث الوطني والفنون الشعبية، أو ما يمكن اعتباره «ثقافة سائلة» تنسرب داخل النسيج اليومي للحياة العامة، وكانت رسالة تلك الاستراتيجية واضحة: جودة الحياة تتحقق من خلال هذه العناصر المتعددة إذا ما ارتقينا بالنظرة إليها ومنحناها حقها من الاهتمام والعناية، وعندها يمكن لها أن تصبح البديل لما بات ينتشر في مواقع التواصل من ثقافة زائفة أو ثقافة هشة على أحسن تقدير.
- أفق التوقع
في هذا الإطار يكون بإمكاننا أن نستشرف آفق ثقافة 2023، فنرى فيه تعزيزاً لمفهوم الثقافة السائلة وارتقاءً بقيمتها وتكريساً لدورها في توفير جودة الحياة بينما ستشهد الثقافة الصلبة استمراراً في التراجع باستثناء جهود فردية تقدم نتاجاً ثقافياً جيداً غير أنه يظل محدود الأثر وغير قادر على إعادة صياغة وعي المواطن العربي فضلاً عن المساهمة في إخراج الوطن العربي من مأزقه التاريخي الذي انتهى إليه.
*مثقف وشاعر سعودي