هزبر محمود: أصبح الشعر حاجة في زمن التوحش

الشاعر العراقي الفائز بجائزة سوق عكاظ.. ورث عن التربة العراقية سحنتها المغموسة بالألم والمعاناة

الأمير خالد الفيصل يعلن أسماء الفائزين بجائزة عكاظ (الشرق الأوسط})  -  هزبر محمود
الأمير خالد الفيصل يعلن أسماء الفائزين بجائزة عكاظ (الشرق الأوسط}) - هزبر محمود
TT

هزبر محمود: أصبح الشعر حاجة في زمن التوحش

الأمير خالد الفيصل يعلن أسماء الفائزين بجائزة عكاظ (الشرق الأوسط})  -  هزبر محمود
الأمير خالد الفيصل يعلن أسماء الفائزين بجائزة عكاظ (الشرق الأوسط}) - هزبر محمود

بهدوئه المعتاد، وسكونه العذب، يخفي الشاعر العراقي الفائز بجائزة سوق عكاظ لهذا العام هزبر محمود غيوما محملة بالحزن والمطر. سجّل حضورا متميزا في فضاء الشعر العربي، وورث من التربة العراقية سحنتها المغموسة بالألم والمشحونة بالمعاناة.
كان لديه حضور بارز في مسابقة «أمير الشعراء»، لكّنه سجل فوزا أخيرا بحصوله على لقب شاعر عكاظ لهذا العام.
هزبر محمود أساسا مهندس مدني، وخريج كلية الهندسة في جامعة الموصل، من مواليد محافظة ديالى، ويعيش ويعمل في شركة «غاز الشمال» في كركوك المحافظة التي تمتزج فيها الثقافات العراقية. وهو عضو في اتحاد الأدباء العراقيين، له مجموعتان شعريتان: «أثر على الماء»، و«تركتُ الباب رهوا»، ومجموعة ثالثة تصدر قريبا «أعشاش لطيور الأربعين».
أجرينا الحوار التالي مع الشاعر العراقي هزبر محمود بعد فوزه بجائزة «سوق عكاظ»..
* ماذا يعني لك الفوز بجائزة سوق عكاظ؟
- الفوز بجائزة سوق عكاظ بالنسبة لي ينقسم إلى نجاح من شقين، الأول لي شاعرا، والآخر لي إنسانا، أما شاعرا فهو الرئة التي شرفتني بها المملكة العربية السعودية في هذه النقطة من ماراثون القصيدة، فجَدَّدتْ الطاقة والنفس الذي سيجعل المواصلة ذات طبيعة مختلفة كونها تستند إلى تأييد تلك الصحراء التي صنعتْ بامتدادها وحرِّ رملها أنفاس رئات فحول الشعراء عبر الأزمنة.
وهذه الرئة ستمنحني شهيقا من دون حشرجة، يوفِّر لي الهدوء الذي يجعلني أصغي لذاتي من جديد، فأسمع بكل وضوح تلك الألحان التي عادةً ما تتداخل وتصبح صعبة التمييز بعد المسافات الطويلة تحت شمس القوافي اللاهبة في جوٍّ فقدنا فيه مظلة النقد العربي إلا قليلا، وبذلك هي تحمل بشارة القادم أكثر من حملها مكافأة الماضي.
أما نجاحي بها إنسانا فهو هذه التهاني من الأحبة الذين وفَّرتُ لهم الفرح - الأسرة، الأقارب، الأصدقاء - حتى الذين لا يعلمون شيئا عن الشعر كان يكفيهم مجدا أن يسمعوا اسمي يلفظ ثلاثيا من شفتي الأمير خالد الفيصل، فعلموا بذلك أن الفوز كان ذا قيمة معنوية كبيرة وأن ذلك المسمى فصيحا، المجهول بالنسبة لهم، قد وجد صداه في قلوبٍ تعوَّدتْ أن تواجه الإبداع بالتشجيع من دون تمييز أن يكون هذا الإبداع محليَّا أو عربيَّا، فالمملكة تملك من الأبوَّة العربية والإسلامية ما يجعلها تعتبر كلَّ مبدعٍ ابنا لها وتعتبر إنجازه إنجازا للعربية سواءً كان هذا المبدع في مكة أو كركوك العراقية.
* لستَ غريبا عن المنابر الشعرية، لكّنك تقف قريبا على منبر كان يقف فيه النابغة الذبياني ليجيز الشعراء.. ماذا يعني لك ذلك؟
- منذ اللحظة التي قررت الاشتراك بها في المسابقة وأرسلت بها نتاجي لسوق عكاظ شعرت بأن واحدا من الذين سيقابلونه بميزان حكمهم هو النابغة الذبياني، ميزان الذهب ذاك الذي يحمل الكثير من المراتب العُشرية من أجل دقة الحُكْمِ بين المتقارب من الإبداع. لقد قال أحفاد الذبياني كلمتهم التي منحوني بها الثقة. أما وقوفي على منبره فسوف يكون تحليقا عبر التاريخ والحاضر والمستقبل، وإذا اتفقنا على الماضي والحاضر فقد تسألني لماذا المستقبل؟ فأقول لأني متفائل بأن هذه الجائزة ستستمر في قادم القرون، وستكون أسماؤنا حاضرة في الأجيال التي ستمر على منبرها بعد أن تغيب أجسادنا، لذلك لن أكتفي بالتحليق بالماضي والحاضر حين أكون على منبره.
* مِمَ تتغذى قصائدك.. ما هي الروافد التي تستقي منها قصائدك؟
- قرأتُ الكثير من الشعراء القدماء والحاضرين كما قرأ الشعراءُ الشعراءَ، لكنِّي أختلف أنني قرأتُ الشعراءَ بقلِّةٍ وبحذر، كنتُ أقرأ الشعراءَ بعقل المهندس وليس بعقل الشاعر، وهذا جعلني أفهم مكانة الشاعر وليس شعره، لذلك بقي شعري بمنأى عن أن يكون نسخة من أحد.
قد لا أكون بحاجة لسرد هذه المقدمة لدى القارئ العادي، لكن القارئ الشاعر يعلم لماذا أتيتُ بها.
* كيف نشأت تجربتك الشعرية.. بمن تأثرت؟
- الشعر في العراق هو يوميات الناس رغم طغيان الشعبي الذي هو بالتالي شعر، فأنت بمجرد أن تمازح صديقا أو تهجره لفترة أو تقصر بحقه يرد عليك بمقطع شعري، وأنا بدأته إلقاءً منذ دخولي المدرسة، إما بإلقاء النصوص الموجودة في المنهج التعليمي أو القصائد الشعبية التي كانت تملأ الشوارع أثناء الحرب مع إيران، هذا الأمر جعلني أعشق المنصةَ باكرا ورسَّخ في عيني مشهد عيون الناس وهم صامتون ينتظرون مني أن أقول، لم أكن أتوقع أن أكتبه، فأنا كنتُ أرى الناس الذين يكتبون الشعر ليسوا من أهل الأرض فهم حتما جاءوا من كوكب آخر أو أنهم بشرٌ مثلنا، لكنهم تعرضوا لصدمة بنوع من الموجات التي لم يكتشف ماهيتها العلم بعدُ، حتى كبرتُ فلم يعدْ يكفيني الشعر الشعبي ولا كلُّ الشعر المكتوب، فظهرتْ الحاجة أن أعبر أنا عن نفسي وتلتْ المحاولات حتى وقفت على ذاتي.
لن أقول إني تأثرت، فكما قلت لك في السؤال السابق إنني قرأت الشعراء بحذر خوف التأثر، لكني أحببتُ شعر معظم شعراء الخط الأول من الماضين والحاضرين. وميَّزتُ السياب في نصوصه التي كتبها ليس بحثا عن الكم الشعري.
* أين يقع العراق ضمن مصادر إلهامك الشعري؟
- العراق كلُّ شعري، بذلتُ جهدا كبيرا حتى جعلت بعض قصائدي تخلو منه، رغم ذلك أشعر بأن قصيدة العراق الحقيقية لم أكتبْها بعدُ، في مرحلةٍ من شعري كنتُ مريضا بالعراق، لا أعرف كيف يمكن أن يُكتب بيت شعرٍ لا يكون ملهمه العراق، مشكلة العراق في شعري أنه الأب، قسوته توجيه وطاعته بِرٌّ والتمرد عليه عقوق، كنتُ أشجِّع الحبيبة أن تتجلى لتأخذ من سطوة العراق في القصيدة فيغيِّبها العراق من حيثُ لا أشعر، وإذا أردت مثالا حيَّا من شعري على ذلك فهو الأبيات الأولى من قصيدتي (آخر الألحان) التي بدأتُها غزلا فلم أعلم كيف خطفها العراق:
«حِضْنِي عَتيْقٌ وﭐحْتِجَاجُكِ مُكْلِـفُ
ولِسَانِي الصَّحْرَاءُ وﭐسْمُكِ مُتْرَفُ
وَوَرَاءَ جُرْحِي أَلْفُ جُرْحٍ، مَا لَهَا
نفس الأَذَىٰ.. فَٱحْتَارَ ماذا يَنْزفُ
وَالسَّاكِنُونَ بِرَاحَتَي قَبَائلا،
بِهِمَا قَضَوْا عُمُرا، عَلَيْـهِ تَأَسَّفُوا!
وَتَنفسوْني في الحُروبِ، فَصِرْتُ
حَفْرا في الـهَوَاءِ، وآيَةً لا تَهْدفُ!
فالجرح هنا العراق والساكنون براحتي أهله والحروب حروبه.
* هل لا يزال العراق ملهما للشعراء.. هل لا تزال القافية العراقية تُشوى على جمر المعاناة؟
- العراق لا يقال عنه «لا يزال» - مع حبي لك - كذلك الأمر مع أي حضارة عظيمة، لأنَّنا بذلك نقيس عمر العراق على أعمارنا أو أعمار القريبين من أجدادنا وأولادنا، وهذا قياس غير منطقي؛ لأن هذه الحضارة حتى إذا غابتْ عن الإلهام لجيل أو جيلين من الشعراء بسبب ظروف اجتماعية أو خلل في منظومة الزمن فإنه سيعود ناصعا في الأجيال التي تلي، لذلك هو الملهم الخالد لشعرائه، أما جمر المعاناة فمعك حقٌّ، يبدو أنه القدر الذي يلازم القافية العراقية منذ العراق وحتى يشاء الله. ما لفت نظري في المنابر الشعرية العراقية هو أن القاعات تضج بالتصفيق لهذه القافية وبطون الكتب كفلتْ لها أن تكون المحطة الأكثر نصوعا، وأي بعد عنها يعدُّ بُعدا عن كمال الشعرية وأشدُّ القصائد خلودا هي التي تكلمت عن الألم.
* كتبتَ قصيدة «غريب آخر على الخليج»، مثلت امتدادا لقصيدة الشاعر بدر شاكر السياب «غريب على الخليج»، ما الذي يجمع بينك وبين السياب؟
- يا سلام!.. ما أحببت سؤالا كما أحببتُ هذا السؤال، والسبب عبارته الأخيرة التي جمعتْ بيني وبين السياب! قصيدة «غريب آخر على الخليج» واحدة من قصائد ديواني «أثرٌ على الماء» التي قرأتها في مهرجان مؤسسة البابطين في الكويت عام 2013 وأحدثت تفاعلا كبيرا لدى جمهور المهرجان.
ما يجمعني بالسياب في هذه القصيدة - ظاهرا - أننا عراقيان في الكويت، ذاك البلد الرائع الذي احتضن السياب مريضا واحتضنني ضيفا، فأنا حين وجدت السياب تكلم بنصه عن حزن عراقي وحزن سيابي حدثا معه أردت الاستفادة من الطاقة التي تركها نصّ السياب في الأدب العربي، فأخبرتُ بنصي عن حزن عراقي آخر حدث معي، هذا ظاهرا، أما ما يجمعني بالسياب عمقا فهو قولاه الشهيران في هذا النص الأول «الشمس أجمل في بلادي من سواها» والثاني «والموتُ أهون من خطية».
* في قصيدتك «غريب آخر على الخليج» تطفو هموم الذات ووجع الاغتراب وأنت لم تكتبها في غربة..
- نعم، للأمانة وللتاريخ أنا لم أكن مغتربا في الكويت بل كنتُ ضيفا عزيزا مُحتفى به، كان الكرمُ فوقَ الوصف وكنتُ بين أهلي، لذلك قلت في القصيدة:
تَجِيءُ بِصَبْرٍ فَوْقَ حَاجَةِ غُرْبَةٍ
إلى غُرْبَةٍ، كُلُّ الذينَ بِهَا أَهْلُ
تَرَى فِي الخَلِيْجِ، الآنَ، قَارِبَ: «مَرْحَـبَـا»
بُمَوْجِ شِفَاهٍ، لَيْسَ يُدْرِكُهَا عَقْلُ
وَأَنْتَ جَلَبْتَ الصَّبْرَ، صَبْرَكَ كُلَّهُ،
فَلَيْتَكَ قَدْ أَبْقَـيْتَ صَبْرَا لِمَنْ ظَلُّوْا
* الحزن سمة الشعر العراقي الجنوبي، لكنك أيضا مسكون بهذا الحزن، فكل من يقرأ قصائدك يجد تيمة الحزن ملازمة، كيف تفسر ذلك؟
- عاش العراق من جنوبه إلى شماله ذات الحزن عبر عصوره، ولولا عدالة توزيع هذا الحزن على مساحته لما وصل للقرن الميلادي الحادي والعشرين واسمه العراق بخريطته الحاليَّة. هو انتهى هكذا بعد أن قطع سبعين قرنا في التاريخ، وهذا دليلُ على أن هؤلاء الناس كان حزنهم واحدا فوحَّدَهمْ، من خلال مشاهدتي للعراق رأيت الحزنَ أقوى عناصر الوحدة للشعوب ولا أعني وجود الحزن بالطبع، بل أعني عمق لونه حتى وإن كان فاتحا. نحن لا يهمنا دين أو قومية، هذا الجار الذي يبكي على نفس ما أبكي عليه أو يفرح لما يفرحني، والدليل ما يحصل الآن من مطالبات في بعض مناطق بالانعزال حين اختلف الحزن.
الذي أعرفه أن القصيدة، لم يختلف حزنها حين حزن العراق ولن يختلف فرحها إذا فرح العراق.
* أين تجد نفسك في فضاء الشعر، هل تميل لجنس أو شكل أو قالب محدد، أم تطلق العنان للقصيدة تصنع قالبها كيف تشاء؟
- أجد نفسي في العبارة التي اقتلعت الإحساس من ذاتي كاملا وأنزلته غير منقوص على الورقة، تلك العبارة التي لا تقبل تبديل كلمة مكان كلمة ولا حرف مكان حرف، وأي تبديل سيجعلها أقلَّ إشراقا. كان يؤسفني دائما أن السامع أو القارئ لم يعِ الفرق بين قلم الرصاص الذي لا يكتب في كل مرة إذا لم يتحمَّل ألم المبراة وبين قلمٍ نسي ألم المبراة (والشاعر لا بدَّ أن يكتب بقلم الرصاص)، لكنَّ «عكاظ» فهمتْ وهي ستجعل الآخرين يعيدون النظر في فهمهم.
* هل يقلقك تراجع الشعر عن حضوره في المشهد؟
- لا مشهد ثقافيا عربيا بلا شعر، مع اعتزازي بكل الفنون الأخرى، ولكن إذا انسحب الشعر من المشهد العربي يوما فإن الفراغ الذي سيتركه سيكون زيتيا لا يبتلُّ بمطر الفنون الأخرى، مَن يقلق على الشعر في الذات العربية يقلق على طفل من حضن أمه.
* هل لا يزال للشعر دور في عالم مسكون بالتوحش؟
- الشعر وُلدَ في أزمنةٍ كان فيها العالم مسكونا بالتوحش، بل ونستطيع القول إنه وُلِدَ لأنه أصبح الحاجة في زمن التوحش، وُلدَ جنينا جائعا عُريانا فكبر في بيئة هي الأقسى حتى أصبح الشَّاب اليافع الأقوى، واجه طقوسا حملتْ كلَّ أنواع التوحش وقام بدوره فيها، فهل من المنطقي أن يفقد دوره الآن؟



ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»
TT

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

بعد تطواف روائي بين تونس في «باب الليل»، وسوريا في «حذاء فلليني»، يعود الروائي المصري وحيد الطويلة في روايته الأحدث: «سنوات النمش»، إلى عالمه الأثير في القرية المصرية، تلك التي عايَن بعض جوانبها في روايات سابقة، مثل «أحمر خفيف» و«الحب بمن حضر»، وفي كل مرة يقدم هذه القرية من منظور مغاير، مكتشفاً جانباً جديداً من قوانينها وجمالياتها، وقواعدها الصارمة ظاهرياً. هذه القواعد والتقاليد نفسها التي لا يتوقف أهل القرية عن انتهاكها سراً، في تواطؤ ضمني مفضوح يعرفه الجميع، لكنهم لا يجرؤون على الإفصاح عنه وإعلانه.

«سنوات النمش» (الصادرة عن «دار المحرر») يشير عنوانها إلى البقع التي تعكِّر البياض، أو اللون الأصلي، فكأن الراوي يرصد السنوات التي كانت مليئة بالبقع في حياته وحياة قريته وناسها، وتدور أحداثها في إحدى قرى الدلتا، شمال القاهرة، عبر راوٍ طفل يسرد الأحداث كلها بعينيه ورؤيته؛ فهو راوٍ مراقِب ومشارِك ومتورِّط؛ إما في الأحداث بشكل مباشر، أو بتعاطفه مع حدث هنا أو هناك، حتى ما وقع قبل ولادته، ويظل يكبر مع الأحداث متابعاً هذه القرية البعيدة عن سيطرة الحكومات المتعاقبة واهتماماتها، أو كما يعتبرها أهلها «على شمال الدنيا»، وأنها ليست موجودة على الخريطة؛ فهي قرية غارقة في الجهل والمرض والخرافة.

زمنياً، يغطي فضاء الرواية المساحة منذ الأربعينات تقريباً، وحتى نهاية القرن العشرين، حين نرى الراوي الطفل وقد صار شيخاً كبيراً يزور المعالم الأثرية في الأقصر مع ابنتيه الشابتين، ويغني مع المغنين الشعبيين. وطوال هذه الفترة ترصد الرواية تحولات هذه القرية منذ العهد الملكي، حين كانت براري لا يسكنها سوى اللصوص وقُطّاع الطرق؛ إذ كانت اللصوصية المهنة الأشهر التي تتباهى بها عائلات القرية، مروراً بثورة يوليو (تموز) وزعامة جمال عبد الناصر، وصولاً لمرحلة الرئيس الأسبق أنور السادات، وانعكاس هذه التحولات السياسية الكبيرة على القرية وقاطنيها.

رواية الطفل للأحداث منحت السرد قدرة كبيرة على الفضح والتعرية، وكشف علاقات الحب الخفية، وما ينتج عنها أحياناً من صراعات، يكون الحب سببها الحقيقي المضمر، الذي يعلمه الجميع، لكن كل أطراف الصراع تدّعي أسباباً أخرى معلنة.

هذه القدرة الطفولية على الفضح منحت السرد قدراً كبيراً من السخرية والكوميديا، فالفضح بطبيعته له سمت كرنفالي ساخر وكوميدي، أقرب إلى المسخرة؛ فمن يبدو في الظاهر وقوراً نرى (بعين الطفل المندهش) باطنه المتهتِّك المحتجب عن الجميع.

قدرة الراوي الطفل على الفضح والتعرية، تطال حتى أخته، كاشفاً عن مدى عشقها للتحكُّم والتسلُّط؛ إذ يمنحها القدر فرصة لممارسة ميولها السلطوية الكامنة فيها، عبر زواجها من ضابط طيب يستجيب لكل طلباتها، فتجد الفرصة سانحة لتمارس أدواره الرسمية في غيابه، فتعطي هي الأوامر للعساكر، وتتواصل مع مديرية الأمن نيابة عنه، كاشفة عن جانبها المتسلِّط الكامن فيها، الذي ما يني يجد نافذة صغيرة لينشط، معلناً وجوده وتمدُّده، حتى إنها تنتظر عودة زوجها الخاضع لسطوتها حباً فيها، لتمارس عليه سطوتها، وتمسك بالميكروفون كأنها ديكتاتور يخطب في شعبه الخاضع، ويكون هو كل جمهورها ورعيتها.

ثمة جانب آخر، تفضحه الحكاية، أو الحكايات التي تترى في تتابع مدهش، وهو الجانب الذكوري المسيطر على هذا العالم القروي البسيط، ممثلاً في استئثار الرجل بالمواريث، ومنع الميراث عن المرأة، فضلاً عن رفض كثير من الرجال أن تتزوج شقيقاتهم، ويكون المعلن أن هذا الرفض بسبب عدم خروج الميراث لرجل غريب، لكن السبب المضمر هو رفض الرجل أن يطأ رجل غريب شقيقته. لكن رغم هذه الذكورية المهيمنة، ثمة تمثيلات على التمرُّد النسوي لكسر هذه القواعد الذكورية المتصلبة، مثل العمة فريال، العزباء التي تصدم الجميع، وتخترق الأعراف والمواضعات الاجتماعية، وتعلن رغبتها في الزواج ثانية، بعد طلاقها من زوجها اللص، ولا تكتفي بإعلان هذه الرغبة التي تنتهك السائد، بل تمعن في التحدي، ولا تكف عن البحث بنفسها عن عريس.

يعتمد الراوي على صيغة الحكي الشعبي الشفاهي؛ فتبدو الرواية كلها وكأنها سلسلة محكيات يرويها الطفل (بعدما كبر) فيستدعي حياته وعلاقاته وما رآه وسمعه في القرية وعنها وعن شخوصها طوال طفولتها، بطريقة أقرب إلى جلسات السمر واستدعاء الذكريات بشكل شفاهي، دون أن يحكمه رابط واضح، فالحكايات تتناسل، دون التزام بتتابع زمني دقيق؛ فقد تأتي حكاية حديثة عن الأب، ثم تتلوها حكاية عن الجد، ثم حكاية عن أحد أصدقاء الطفولة، وحكاية أخرى عن إحدى العمات، فحلقات الحكي تتداخل وتتابع بلا تخطيط مسبق، وتتمثل شفاهية الحكي في أن الراوي قد ينسى بعض الذكريات، وسرعان ما يتذكرها، مثلما يقول في أحد المواضع: «كنت وأبي على الطريق، لا أتذكر إلى أين... لا، لا، تذكرت الآن، كنا في نهاية فقرة من فقرات الشتاء المتقطعة، يغزونا المطر ثم يتوقف ليومين»... هذه الآلية في إعلان النسيان والاستدراك بالتذكر، آلية شفاهية بامتياز. فضلاً عن بدء التذكر بالأجواء والطقس والمطر، وكأن الراوي يعيد تذكر المشهد كاملاً بصرياً، وأنه يحدث الآن أمام عينيه؛ فالحكاية لا تكتمل إلا بتذكُّر تفاصيلها كاملة، بأجوائها، وبتعبيرات الوجوه أحياناً؛ فهو دائماً يرسم مشاهد بصرية مكتملة، ليضع المتلقي الضمني، في قلب الحدث والحكاية.

حكاية القرية، أو مجموع الحكايات الصغيرة التي تشكل عبر تضافرها حكايتها ككل (بما فيها من علاقات حب وصراعات عائلية، وثارات وفقر وحفاء، وطموحات وانكسارات للشخوص الأفراد من آحاد الناس) لا تنفصل عن حكايات أكبر، فحكايتها محض دائرة صغرى، تحتويها دوائر أكبر، منها حكاية الوطن وتحولاته السياسية، من ملكية، إلى نظام جمهوري وأحلام القومية العربية، وتعلّق الأب بزعامة عبد الناصر، ثم مرحلة الانفتاح، وهناك أيضاً دائرة الحروب، بدءاً من الاحتلال الإنجليزي وآثاره الممثلة في بعض الطرق والكباري التي شُيّدت في ظل حكم الاحتلال، ثم حرب فلسطين، ونكسة 67، وصولاً إلى حرب أكتوبر (تشرين الأول) 73؛ فهذه دائرة أخرى تلقي بظلال تحولاتها على دائرة حكاية القرية. ثمة دائرة عربية لا تنفصل عن الدوائر الأصغر، تتجلى أحيان عبر سفر أحد أقارب الطفل الراوي إلى الشام وإقامته في لبنان فترة طويلة، ثم فراره منها قبل الحرب الأهلية، وعودته إلى قريته/ وقوقعته؛ إذ تنكمش أحلام أبناء القرية، في استعارة لانكماش الأحلام العربية الكبرى تحت وطأة الحروب والنزاعات الطائفية والقومية، وعودة كل شخص للانزواء والتقوقع في قريته/ طائفته/ قوميته، حتى لو لم يكن متناغماً معها، بعد تبدُّد حلم اندماج الجميع في كلٍّ جامع.

ثمة ملمح آخر يتصل بكسر تخييلية الحكاية، وإيجاد صلة بها بالوقع المعيش؛ فالرواية رغم كونها بالأساس عملاً تخييلياً، فإنها المؤلف يتعمد (كعادته) خلق وشائج تربطها بالواقع السياسي والثقافي والفني، كما فعل في «جنازة جديدة لعماد حمدي» التي جعل اسم بطلها على اسم النجم السينمائي الشهير، أو «حذاء فلليني» التي تحيل للمخرج الإيطالي الشهير، فإنه (هنا) في «سنوات النمش» يجعل اسم أحد أبطال الرواية «القذافي»، وهو شخصية نرجسية بامتياز في روايته، ويعاني جنون عظمة واضحاً، ويجعل اسم شقيقه «العكش»، في إشارة للاسم الذي أطلقه المصريون على إعلامي شهير، إضافة إلى حيلة أخرى؛ فقد أراد والد الراوي إنشاء مدرسة في القرية، واشترطت عليه الدولة وجود 30 طالباً لإطلاقها، فلم يجد سوى 23 طفلاً، فاضطر لتزوير شهادة ميلاد لطفل متخيَّل باسم وهمي، فجعل اسم هذا الطفل غير الموجود «خيري شلبي». وبالطبع لا يخفى أن هذه ليست مصادفة، بل أقرب إلى تحية لاسم الروائي الكبير الراحل خيري شلبي، ابن قرية بالمحافظة نفسها، كما أن الإحالات لأسماء واقعية شهيرة توجِّه القارئ إلى أن العمل الروائي المتخيَّل غير منقطع الصلة بالعالم والواقع من حوله؛ فهو تمثيل لهما، وترتبط به بدرجة ما، رغم اعتماد المنطق السردي على الاسترسال الحكائي، الذي يفيد من تقنيات الحكي التراثية في «ألف ليلة وليلة»؛ حيث امتزاج الواقعي بالغرائبي، وتناسل الحكايات من بعضها، مشكلة في النهاية من هذه الطبقات الحكائية حكاية كبرى، أشبه بجدارية ضخمة، تؤرخ لقرية مصرية «على شمال السما» ظلّت عقودا رازحة تحت وطأة الفقر والجهل والمرض.