قبل أيام من انقضاء العام، وقّع الشاعر السعودي محمد الماجد ديوانه الثالث «أسفار ابن عواض»، وهو سيرة شعرية، تحاكي بعض قصائد شاعر الحداثة السعودي الراحل محمد عواض الثبيتي، ويقع في 210 صفحات، وصدر عن دار «صوفيا» الكويتية بالتعاون مع «نادي الطائف الأدبي».
الديوان يمثل مجاورة ومنادمة وعقد حوار بين الشعر الموزون والسرد الشعري، ويتألف من ستة فصول: مقام حجاز، ومعاذ الخبت، حريقٌ... ومحاقٌ... ونيازك، والسّيل، والمنازل، والفصل الأخير بعنوان: عن أخي الشعر، عن الأبدية وأحزان ثقيف.
وديوان «أسفار ابن عواض» هو الثالث في سجل محمد حسن الماجد، بعد ديواني «مسند الرمل»، و«كأنه هو». وله ثلاث مجموعات مخطوطة.
الديوان يأخذ القارئ في رحلة شيّقة مع قصائد الثبيتي، بين الهضاب والسهول والبادية، يحاكي تضاريس القصيدة ويضيف لها هامشاً من اللغة والتراث، ويحلق بها إلى فضاءات جديدة.
والثبيتي أحد زعماء الحداثة الفعليين في إبداعه الشعري المتألق، وهو أحد رواد قصيدة التفعيلة ومن أبرز ناظميها على المستوى العربي، ومن القلائل الذين يتميزون بقوة الموهبة الشعرية الواضحة، ونضج القاموس الشعري، وتوظيف المفردة التراثية والبدوية باحتراف، وجمال اللفظ والموسيقى وغزارة المعاني والرمزية الصوفية.
عُرف محمد الثبيتي شاعراً مرموقاً من شعراء القصيدة الحديثة، وأحد أهم أركان قصيدة النثر في السعودية (توفي في 15 يناير/ كانون الثاني) 2011)، وأضاف دفعة جديدة للقصيدة الحديثة في الخليج، وليس في السعودية وحدها، لكنه أضاف لتيار الحداثة زخماً هائلاً، وحققت قصائده حضوراً كبيراً في المشهد الثقافي، وظلت الأجيال يرددون أبياتها، ويترنمون بالصور الباذخة التي ترسمها، وكانت قصيدته «تغريبة القوافل والمطر»؛ القصيدة التي تستحضر أسطورة «تغريبة بني هلال» المشهورة والكفاح في البحث عن الماء، تمثل واحدة من إبداعات «سيد البيد»، التي كان مستهلها:
أدرْ مُهج الصبحِ
صبَّ لنا وطناً في الكؤوسْ
كما تميزت قصيدته «موقف الرمال... موقف الجناس»، وهي القصيدة التي فازت بجائزة «أفضل قصيدة» في الدورة السابعة لـ«مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري» عام 2000، وفيها يقول:
أمضي إلى المعنى
وامتصّ الرحيقَ من الحريقِ
فأرتوي
وقد ولد محمد عواض الثبيتي في عام 1952 بمنطقة الطائف، وحصل على بكالوريوس في علم الاجتماع، وعمل في التعليم، وصدرت له دواوين: «عاشقة الزمن الوردي» 1982، و«تهجيت حلماً... تهجيت وهماً» 1984، و«التضاريس» 1986. عن هذه التجربة، يقول الناقد السعودي الدكتور سعيد السريحي، في تقديمه للديوان: «لنا أن ننزّل تجربة الشاعر محمد الماجد منزلتها من حيث إنها محاولة ناضجة لتمثُّل تجربة الثبيتي، لا باعتبارها صوراً ولغة تتذرع بالمجاز وتتدرع بالاستعارة تلوح في هذه القصيدة أو تلك، وإنما باعتبارها علامات تحيل إلى عوالم متداخلة ومتشابكة، متناقضة ومتكاملة، تستعيد تاريخاً للجزيرة العربية موغلاً في القدم، تستعيده رجالاً ونساءً، جبالاً وسهولاً، مدناً وقرى، وفيافي تتذاءب في أطرافها النيران، وتعوي في بطون أوديتها الذئاب، وتتقافز في شعاف جبالها الأيائل».
أما عن تجربة الثبيتي، فيقول السريحي: «شكلت تجربة محمد الثبيتي، وعلى نحو أدق قصيدة (التضاريس)، منعطفاً في مسيرة الحداثة الشعرية في السعودية؛ إذ رسخت وعياً جديداً بطبيعة اللغة الشعرية، كما أسست لذائقة شعرية مختلفة لا في كتابة الشعر فحسب؛ وإنما لتلقيه كذلك، ولعلنا لا نتجاوز الحق إن ذهبنا إلى أن بإمكاننا إذا ما أردنا أن نؤرخ للحداثة الشعرية أن نتخذ من تجربة الثبيتي خطاً أساساً يميز ما كان قبلها عما جاء بعدها، خاصة لدى جيل الشعراء الشباب الذين تفتح وعيهم على صوت الثبيتي يتلو قصائده على منابر الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون، وعلى قصائده تحتفي بنشرها المجلات الأدبية والملحقات الثقافية في الصحف اليومية». يضيف: «غير أن تجربة الثبيتي الشعرية كانت مثيرة للدهشة على نحو يجعل منها أصدق مثال على ما يُتعارف عليه بـ(صدمة الحداثة)، ولعل ذلك ما جعلها مصدر إشكال لدى من ناصروها كما هي مصدر إشكال لدى من ناصبوها العداء، فقد اجتزأ منها هؤلاء وأولئك صوراً وجملاً شعرية اتخذها خصومه من المتطرفين سبباً للنيل».
ويلفت السريحي إلى أنه «لم يكن كثير من الشعراء الذين فتنوا بتجربة الثبيتي وتأثروا بها أوفر حظاً من أولئك الخصوم الناقمين والنقاد الدارسين، فكان وقوفهم على تجربة الثبيتي وقوفاً لا يكاد يتجاوز التخوم، ويكتفي بخطف الخطفة يجدها ماثلة في صورة أو استعارة أو جملة شعرية دون النفاذ إلى ما وراء تلك التخوم من عوالم شعرية تتمرأى فيما كان ينصبه الثبيتي من علامات تمد جذورها في تربة موغلة في العتاقة يلتقي فيها الأسطوري بالتاريخي والوثني بالديني والراهن بما هو متوار خلف القرون». ويذكر أن محمد الماجد في هذا الديوان «راح يستنطق من قصائد الثبيتي ما لم تقله تلك القصائد، كأنما يستكمل حديثاً للشاعر وضع الموت يده على فمه قبل أن يكمله، ويستنطق من تاريخ الجزيرة ما وضع المؤرخون أيديهم على شفاه الجزيرة كي لا تبوح به، ويستنطق من أرض الجزيرة ما تكتمت عليه هذه الأرض فلم تنبئ به إلا من تستأمنه على أسرارها ومفاتنها». يضيف: «في هذه التجربة يكابد الماجد معاناة نحت اللغة الحجرية التي كابدها الثبيتي وهي تنسكب بيضاء نافرة كعروق الزجاجة».
في «أسفار ابن عواض»، يقلب الماجد اللغة على جمر الغضا حتى تنضج فتنشق أكبادها عما هو مخبوء فيها (...) والماجد حين ينحرف عن «محمد الثبيتي» إلى «ابن عواض»؛ فإنما يفعل ذلك ليشرب لغته عتاقة تؤول بها إلى تمتمات قديمة تسفر عن خدٍ وتصدُّ عن خدٍ، ثم تنثني كالنفس المرتد (...) وكأنما أراد الماجد أن يمسك ثور اللغة من قرنيه وأن يستحلب من تاريخ الجزيرة ما يؤاخي به بين الأجداد القدامى الذين طوتهم البيد، وأحفادهم الذين يطوون البيد ثم تتفرق بهم السبل.
في «أسفار ابن عواض»، لا يفتأ الماجد يخمر كرم اللغة، ويصف الدنان على جانبي الكلام يتنادم حولها العشاق وقاطعو الطريق والوحش، فإذا ما ثملوا من الشعر عاجوا إلى النثر، حتى إذا ما أخذتهم النشوة؛ اختلط عليهم الأمر فلا يتبينون هذا من ذاك، وتكشف لهم ما كاده الماجد حين خبأ في دنان النثر ضرباً من نبيذ الشعر المعتق. وفي «أسفار ابن عواض» رحلة الماجد (وهو) يتتبع أثر الثبيتي، كلما قبض قبضة منه صنع منها كهيئة الطير يحلق بين جبال مكة ووديان الطائف وشعاب بني سعد، فإذا آب حط على شرفة من شرفات قلعة أجياد، يتحلق حوله الطائفون والعاكفون والتوابون والممعنون في الغواية، فيحدثهم حديث من رأى ومن سمع عما لم يروه من قبل ولم يسمع به آباؤهم الأولون. في الافتتاحية، نقرأ:
«وشم
وآنية
وسبع من تلاوات الطيور
إذا نزلن على المهاة
نزلنَ بيضاً يا مخاضُ منجّمات
يغسلنها بدم النبات
قاماتهنَّ من الصَّبا
وكلامُهنَّ من البيات»
من قصيدة «معاذ الخَبْت»:
«يا طاعنا في التيه
يا غَرْبَ القصيدة
ما رغاءُ الشعر تحت لسانك؟
ما نحيب الأبجدية؟
ما وقوفك عند أبواب الروي؟
وما انحناؤك كلما مرَّ الخليلُ؟
ولا حليب يسيل من صدر الكتابةِ
لا غيوم من النساء على المصبِّ
وما محابر شعرنا إلا تمائم في رقاب الطير
هلل یا شمال
ليل لعوب في الممر إلى المها
وأخ له تحت الغضا
يفتض أحلام الرمال
لُذنا بذئبٍ
وانتظرنا الوقتَ
حتى شبَّ عن بنت معتّقةٍ
كخابية من الأفلاك
أمطرَ صحونا
واستقبلتنا الريحُ
تنفض عن يديها الطلق:
جاءتكم دلال
فتبينوا أمر القطا
على القطا...
وتفرقوا أسراب آلْ
قرّت عيون المدلجين
توضأوا بالبرق
وازدلفوا إلى طور
فما انتخبوا حصيّ بعد العشي
وما رموا ليلاً لهم إلا وصبحهم هلال»
«تغريبة» محمد الماجد و«أسفار ابن عوّاض»
محاكاة شعرية لبعض قصائد الثبيتي بين الهضاب والسهول
«تغريبة» محمد الماجد و«أسفار ابن عوّاض»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة