ألف شفق تكشف النقطة الأكثر مأساوية في تاريخ السلطنة العثمانية

صاحبة «قواعد العشق الأربعون» التركية تعود برواية جديدة

ألف شفق
ألف شفق
TT
20

ألف شفق تكشف النقطة الأكثر مأساوية في تاريخ السلطنة العثمانية

ألف شفق
ألف شفق

عندما سألت ذات مسامرة شاعرنا الكبير محمود درويش في منزله الباريسي، عن أولى قراءاته، أجاب دون تردد: «الشاعر التركي ناظم حكمت». رحم الله شاعرنا الذي وضع قدمي على أول كنز أدبي تركي. منذئذ ما فتئت قدماي تتقدما على هذا الطريق، وتتوغل في أعماق هذا الأدب الذي قطع أشواطا شاسعة المسافات في الإبداع الأدبي شعرا ونثرا حتى بلغت أقلام يشار كمال، وإحسان أنار، وأحمد حمدي تابينار، ومؤخرا أورهان باموق صاحب رائعة «اسمي أحمر»، والحائز على جائزة نوبل، وألف شفق (اسمها من الحرف العربي ألف الذي يكني به الأتراك كل شخص مستقيم كحرف الألف).
اليوم ومع كل إصدار لباموق، أو شفق تتسابق دور النشر العالمية لترجمته بلغات شتى ولتتصدر هذه الأعمال المكتبات في أكبر المدن الغربية. لقد تعرف الغرب على هذه الكاتبة التركية الأصل التي تكتب بلغة شكسبير عبر رائعتها «قواعد العشق الأربعون»، حيث وضعت في متناول القارئ الغربي أجمل لقاء بين صوفيين: شمس التبريزي وجلال الدين الرومي في قونية العثمانية، وبداية رقصة المولوي التي تربط السماء بالأرض، وتقرب المخلوق من خالقه. ولم تقتصر نجاحات شفق على هذا الإنجاز الأدبي الفريد، بل تعدته أيضا في أعمال أخرى لا تقل إبداعا واتساعا: «لقيطة إسطنبول»، «شرف»، وسواهما. هذه الروائية التي تجمع بين سحر الكلمة، وسلاسة السرد، والتنقيب في زوايا التاريخ العثماني، على غرار كاتبنا أمين معلوف، تخطت عتبة أخرى من الإبداع - وإن يعيب عليها النقاد الأتراك بأنها أنغلوفونية وتكتب بأسلوب يعجب الغرب - في إصدارها الأخير: «صانع المهندس» ترجمة العنوان من الإنجليزية، أو «مهندس السلطان»، الترجمة في النسخة الفرنسية، أو «الفتى المتيم والمعلم» الترجمة بالعربية).
هذه الرواية تحمل القارئ إلى عوالم السلطنة العثمانية في أوج قوتها، وعظمتها، في عهد السلطان سليمان القانوني، وسليم الثاني (السكير)، ومراد الثالث. وبداية المشاريع المعمارية الكبرى التي قام بها يوسف بن خضر بن جلال الدين الحنفي المعروف بمعمار خواجة سنان الذي قام بتشييد أروع الأبنية العثمانية من مساجد، وحمامات، وجسور، وسواها. وكان له آلاف العمال، والصناع، والمهرة، وأربعة تلاميذ: أحمد آغا، وداود آغا، ويتيم بابا علي، وسنان الصغير.
جاهان الصبي الهندي، الذي تدور الرواية حوله، الهارب من زوج أمه الذي يتهمه بقتلها على متن مركب يحمله مع فيل أبيض يروضه كهدية للسلطان العثماني في إسطنبول من قبل المهراجا. هذا الصبي النحيل كقضيب خيزران، بقامة لا تشكو طولا ولا قصرا، ببسمة ساحرة، وغمازة في الخد الأيسر، كإصبع خباز في قرص عجين، توقعت له أمه مستقبلا باهرا، وتهافت الصبايا عليه يسحرهن بابتسامته، وغمازته. نعيش معه قصة فريدة من مروض للفيل في حديقة القصر، إلى معماري نادر المهارات، متتلمذا على يد معمار سنان الكبير، وعاشق متيم بابنة السلطان مهرماه.
تنطلق رواية شفق من النقطة الأكثر مأساوية في تاريخ السلطنة العثمانية، التي باتت عادة متبعة من قبل السلاطين وهي قتل إخوة السلطان مع بداية الحكم، ولكن هذه المرة كانت تحت أنظار جاهان الذي دخل خلسة قاعة القصر التي حدثت فيها جريمة قتل إخوة السلطان مراد الثالث الخمسة بأمر منه كي لا ينازعوه في حكمه، متخفيا وراء ستارة.
شفق جعلت من الصبي الهندي شخصية خارقة قادرة على كل شيء، فهو استطاع أن ينجو مع فيله الأبيض من الغرق بعد أن قذف بهما قبطان الباخرة في البحر، ويعيش على جزيرة نائية في عرض المحيط الهندي، ثم يسعفه الحظ بأن يلتقطه مركب آخر ويوصله إلى إسطنبول، شريطة أن يقوم بالسرقة من تحف وثروات القصر لحسابه، مهددا له بالقتل إن لم يفعل، يتقرب من الأميرة الساحرة مهرماه عن طريق الفيل، ولكن يسرق بخفة وصيفتها، وكل ما يمكن أن تصل يده إليه إرضاء للقبطان الذي يهدده. يشارك مع فيله في حرب السلطان سليمان في مولدافيا ويهاجم أعداءه بشراسة ويظهر شجاعة منقطعة النظير، ويساعد معمار سنان الذي اكتشف السلطان سليمان مواهبه في بناء جسر على نهر كي تمر قواته عليه قبل بدء المعركة الكبرى ضد المولداف. يسر السلطان من فعل الصبي وفيله وكذلك المعمار سنان الذي يكتشف حذاقة وذكاء الصبي الآتي من خلف البحار.
تتابع شفق روايتها وتغلو قليلا في إضفاء صفات خارقة على بطل روايتها، الذي يقهر زعيم الغجر بالبان، ويفحمه بالحجة كي يسفد فيله شوتا فيلته غولبهار. ثم هو الذي يختاره معمار سنان ليكون تلميذه المفضل فيرسله إلى مدرسة القصر ليتعلم الهندسة، ثم يطلب منه المساعدة في بناء مسجد السليمانية أعظم أثر خلفه سليمان القانوني في إسطنبول، وعليه يقع الخيار لزيارة روما والالتقاء بنحات العصر ونابغته مايكل أنجلو. وبقدرة قادر يتعلم الصبي التركية بسرعة كبيرة ليكون قادرا على الحديث وبطلاقة مع الأميرة ميهرماه، والسلطان، ومعمار، والقبطان المهدد، ثم يتعلم الإيطالية بنفس السرعة ليتكلم مع الإيطاليين في روما ومع مايكل أنجلو، وكذلك بالنسبة للفرنسية. لكن قدرة جاهان لا تتوقف بالنسبة للكاتبة عند حد، فهو يناقش السلطان بمزايا بناء قنطرة لقطر المياه في إسطنبول على عكس ما يرى الوزير الأول رستم باشا، صهر السلطان المتزوج من كريمته مهرماه بتدبير من أمها روكسلان، ويتكبد عناء اللحاق بالسلطان في رحلة صيد على فيله ويبحث معه بناء القنطرة، ومصحة، دون أن يأذن له معلمه معمار سنان، أو أن يغضب السلطان من وجوده غير المرغوب فيه في رحلة صيد. فكيف لمروض فيل أن يرتقي بهذه السرعة ليكون أحد متحدثي السلطان دون إذن، والمعروف أن مقابلة السلطان سليمان لم تكن بهذه السهولة، ولا سيما من قبل هذا المروض الذي تسلل من إسطبلات القصر على ظهر فيله، ووصل في الوقت المناسب، الذي تمكن فيه الملك من اصطياد ظبية سقطت مضرجة بدمائها بصدفة أخرى بين قدمي جاهان ليأتي السلطان ويتكلم معه حول مشروع معماري في عز رحلة صيد.
مثل هذه المصادفات والمبالغة في السرد تتكرر مرة أخرى عندما يعلم الباشا رستم بمغامرة جاهان فيأمر بسجنه في القلعة الكبرى، وهناك يلتقي صدفة برئيس الغجر بالبان الذي سجن قبله بتهمة سرقة، فينقذه من موت محتم بعد مرض ألم به، وتتدخل ميهرماه لدى زوجها ليعفو عنه ويخرجه من السجن. مع أن معلمه معمار سنان لم يتدخل البتة لإنقاذ صانعه المدلل من سجنه مع علمه بأنه سجن دفاعا عن مشروعه المعماري. ثم ينقذه مرة ثالثة وبصدفة محضة أيضا بعد أن أوثقه صديقه داود ورماه في كوخ مهجور بعيدا عن إسطنبول بعد أن زور وصية المعلم سنان الذي أوصى بأن يكون جاهان خليفته في منصبة.
ولكن ما نعيبه على الخيال الروائي للكاتبة أنها أقحمت وقائع من محض خيالها ليس لها سند تاريخي. فجعلت جثة سليمان القانوني أشهر وأقوى سلاطين بني عثمان بعد وفاته في موقعة سيكتوار في المجر أن توضع على ظهر الفيل شوتا لإيهام جنود الانكشارية بأن السلطان ما زال حيا تحاشيا لهبوط معنوياتهم وخسارة المعركة. مع أن الواقعة التاريخية الصحيحة هي أن فتح قلعة سيكتوار قد تم قبل وفاته بمرض النقرس وعندها قال جملته الشهيرة: الآن طاب الموت.
الصبي الهندي لم تتوقف مغامراته مع السلاطين، إذ بات أيضا بعلاقة طيبة مع السلطان سليم السكير الذي كان يطيب له اللهو متسكعا مع حاشيته على ظهر الفيل الأبيض في شوارع إسطنبول ليلا بعد سكرة ثقيلة لم يعد أقداحها. وهو الذي ساعد معلمه سنان في بناء مسجد السلطان سليم أيضا ورسم قبته النادرة الجمال في الهندسة المعمارية. وتتوالى هذه المبالغات في الرواية إلى حد يدفع القارئ للتساؤل: لماذا لم يذكر التاريخ شيئا عن هذا الهندي العبقري كما ذكر زوجة السلطان روكسلان؟.
وتدخل الكاتبة جاهان في مغامرة أخرى يقوده إليها رئيس الخدم عندما يصطحبه إلى حمام غسل الأحزان حيث الماء والخمرة والوجه الحسن وتوهمه بائعة الهوى التي اختارها له بأنه قتلها بعد أن دفعها بقوة وسقطت على رأسها فاضطر إلى الهرب ليختبئ لدى صديقه القديم داود الذي بات رئيس المعماريين في السلطنة بعد أن خلف معمار سنان، وليكتشف أنه خانه ليهرب منه مجددا ليستقل مركبا يقله إلى أكرة في الهند بعد أن بلغ من الكبر عتيا ليجد هناك السلطان شاه جيهان يشيد تاج محل ليضم رفات زوجته ممتاز محل التي أحبها حبا جما. يقدم جاهان نفسه للملك كمساعد للمعماري الكبير سنان الذي يطلب من مهندسه أمان الله خان شيرازي بأن يوكل إليه برسم قبة الضريح، ويطلب له زوجة هندية شابة حامل من زوج توفي بعد زواجه مباشرة وتصغره سنا بنحو سبعين سنة. جاهان الذي كان عاشقا لابنة السلطان مهرماه، وحزن حزنا شديدا على موتها، تزوج بعد سبعين سنة بزوجة تخالفها في كل شيء من حيث الجمال والكمال، لكنها كانت رقيقة. وعندما تضع الزوجة طفلها الذي يتبناه جاهان، يعطيه اسم معلمه: سنان.
وهنا تنهي الكاتبة مغامرة فريدة من نوعها لبطل روايتها جاهان.
تعترف الكاتبة بأنها تلاعبت ببعض التواريخ، وكذلك تخيلت الكثير من الأحداث غير الواقعية، وأن فكرة هذه الرواية جاءتها صدفة عندما كانت تركب سيارة أجرة في إسطنبول ومرت أمام الجامع الجديد ورأت طفلا يستند إلى جداره ثم وقع بصرها على مصور للمسجد في أحد الكتب وأمام الصورة فيل أبيض. هذه الصور مجتمعة ألهمتها هذه الرواية التي تميزت بسلاسة سردها المتسلسل للأحداث مع بعض الحبكات بين مقطع وآخر لا تقطع نفس قارئها، بل تسافر معه في إسطنبول في أوج عظمتها، يتعرف على شوارعها، وساحاتها، ومراحل بناء مساجدها، بل وألبستها ومأكولاتها. لكن يبقى لدي كقارئ، قبل أن أكون ناقدا، كيف بقي جاهان هذا العبقري في البناء، والألمعي في التعلم السريع للغات، واختلاطه بالسلاطين، مروضا للفيل ينام في الإسطبل ليلا ويعمل مهندسا معماريا نهارا في أكبر وأعظم الآثار المعمارية التي خلفها معمار سنان؟ ألم يستحق من عظماء السلاطين الذي أسدى لهم كل هذه الخدمات أن يكون له مكانا لائقا، حتى بعد موت الفيل شوتا هرما؟
لقد جاءت هذه الرواية بدرجة أقل إبداعا من الروايات الأخرى التي دفعت بالروائية إلى مقدمة الروائيين الأتراك، ربما لأن شخصية مروض الفيل جاهان لم تكن مقنعة، وإقحامها في التاريخ العثماني وإبرازها كشخصية حقيقية التي قد تخفى على القارئ العادي حقيقة وجودها من عدمه. لكن هذا لا ينتقص من متعة القراءة لرواية تسافر ببطلها وبنا عبر قارات ثلاث، على مدى عمره المديد.



أنوار البابا الطيب

البابا في العراق (أ.ب)
البابا في العراق (أ.ب)
TT
20

أنوار البابا الطيب

البابا في العراق (أ.ب)
البابا في العراق (أ.ب)

لماذا ننعته بـ«الطيب»؟ لأنه جعل من الانفتاح على الإسلام والمسلمين أحد المحاور الأساسية لعهدته البابوية. وقد لقيتْ مبادراته أصداء واسعة في كلا العالمَين العربي والإسلامي. وربما كانت أجمل صورة سيحتفظ بها التاريخ عنه هي عندما رأيناه يوقِّع في أبوظبي على وثيقة «الأخوة الإنسانية» مع شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، بتاريخ 4 فبراير (شباط) عام 2019. عندئذٍ تَعانق الإسلام والمسيحية لأول مرة على الأرض العربية من خلال هاتين الشخصيَّتين الدينيَّتين الكبيرتين. وهي الوثيقة التي تدعو إلى السلام العالمي والعيش المشترك بين الأمم. إنها تدعو إلى الحوار والتعاون والتفاهم بين مختلف الأديان والأقوام والشعوب. وهذا يمثل تطبيقاً حرفياً أو شبه حرفي للآية الكريمة التي تقول: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا...» (الحجرات الآية 13).

ولكن المصيبة هي أن التيار الآخر المتشدد الذي يجتاح العالمَين العربي والإسلامي حالياً يرفض هذا الانفتاح والحوار والتعايش. إنه يراهن على الانغلاق والتعصب وإثارة النعرات الدينية والمذهبية وتهييجها إلى أقصى حدٍّ ممكن. فأي التيارين سوف ينتصر يا ترى؟ هل التيار الظلامي هو الذي سينتصر أم التيار الأنواري؟ هل المسلمون الحقيقيون هم الذين سينتصرون أم المتأسلمون المتاجرون بالدين كما يقول ممدوح المهيني في مقالة رائعة هنا في «الشرق الأوسط»؟ بناء على انتصار هذا التيار أو ذاك سوف يُحسم مصير العرب والمسلمين ككل. ليس لدينا أدنى شك في أن تيار الانفتاح والتقدم هو الذي سوف ينتصر في نهاية المطاف؛ لأنه يتماشى مع حركة التاريخ؛ ولأن العرب صناع حضارات كما برهنوا على ذلك في الماضي إبان العصور الذهبية. وليس لدينا أدنى شك في أن تيار التعصب والانغلاق سوف ينهزم؛ لأنه مضاد لحركة التاريخ. ولكن متى سيتحقق ذلك؟ المعركة لن تكون سهلة ميسورة، وإنما صعبة وضارية. هذا أقل ما يمكن أن يقال. قوى الماضي التي تشد إلى الخلف لا تزال حتى الآن أقوى من قوى المستقبل التي تشد إلى الأمام. القوى الظلامية الشعبوية الراسخة طيلة عصور الانحطاط لا تزال أقوى من القوى النهضوية التنويرية التي تبزغ أنوارها حالياً في شتى ربوع العالم العربي.

لتوضيح هذه النقطة أكثر، دعونا نَعُدْ إلى البابا ذاته وإلى تاريخ الأديان المقارنة. فعن طريق المقارنة تتوضح الأشياء. و«من لا يقارن لا يعرف» كما يقول المثل الصيني. لقد عبَّر البابا يوماً ما عن خطورة الحزازات المذهبية داخل المسيحية، عندما قال ما فحواه: «عندما كنت طفلاً صغيراً في بلادي، الأرجنتين، كانوا يقولون لنا إن البروتستانتيين جميعاً كفرة، سوف يذهبون إلى الجحيم. جميعهم عن بكرة أبيهم». كان ذلك في أربعينات القرن الماضي عندما كان البابا في التاسعة أو العاشرة من عمره. عندما يقول البابا هذا الكلام بعد أن كبر وبلغ من العلم والنضج مبلغه فإنه يكاد ينفجر بالضحك. ثم يضيف: كنا نعتقد اعتقاداً جازماً بأنه لا يمكن أن يدخل الجنة إلا الكاثوليك؛ لأنهم الفرقة الناجية الوحيدة في المسيحية.

وقد استطاعوا فرض هذه الفكرة لأنهم الأقوى والأكثر عدداً. نقول ذلك على الرغم من أن البروتستانتيين هم جماعة الإصلاح الديني. وبالتالي فهم الأكثر عقلانية وتطوراً في فهم الدين المسيحي، وهم الأكثر تحرراً من قوالب العصور الوسطى البالية والعقائد الدوغمائية المتحجرة. ولكنهم كانوا مغلوبين على أمرهم لأنهم أقلية، والحق دائماً مع الأكثرية. والأكثرية كانت تعدّهم زنادقة وكفاراً، بل ومرتدين عن الدين. ولذلك كانت تذبحهم وتُعمل المجازر فيهم على أساس طائفي محض. ولهذا السبب فروا من فرنسا بمئات الألوف هائمين على وجوههم. أما الآن فقد انتهت الحزازات المذهبية في أوروبا المستنيرة المتحضرة، وأصبحت من مخلفات التاريخ. ولم يعد الكاثوليكيون يكفِّرون البروتستانتيين أو يحرمونهم من نعمة الله ودخول الجنة. فلماذا لا يتحقق ذلك يوماً ما بين المسلمين عندما يستنيرون ويتحضِّرون؟ لا شيء مستحيلاً في التاريخ. حركة التقدم والتطور سوف تفعل فعلها يوماً ما بعد أن يتثقف الشعب ويتعلم. ثم يضيف هذا البابا الطيب قائلاً: «نحن جميعاً ننتمي إلى الجنس البشري. نحن جميعاً من مسلمين ومسيحيين ويهود وبوذيين إلى آخره من مخلوقات الله، أو من عيال الله، كما يقول المفكر التونسي محمد الطالبي». فلماذا لا نؤمن بالوحدة من خلال التنوع والتعدد؟ لماذا لا نعدّ أنفسنا جميعاً إخوة في البشرية والإنسانية والآدمية؟ وهذا هو مضمون الوثيقة التاريخية الموقَّعة في أبوظبي. الناس الطيبون الأخيار موجودون في كل الأديان والمذاهب. ولكن المشكلة هي أن الأصوليين الانغلاقيين يرفضون ذلك رفضاً قاطعاً. إنهم لا يقيمون وزناً لأي شخص إن لم يكن ينتمي إلى طائفتهم أو مذهبهم، أو حتى تنظيمهم الحزبي ومرشدهم الأعلى. نقول ذلك على الرغم من أن القرآن الكريم يقرُّ صراحةً بالتنوع والتعددية. ألم يقل: «ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة»؟ ولكنه لم يشأ. هل الله عاجز عن جعل الناس كلهم على دين واحد؟ مستحيل. معاذ الله. الله قادر على كل شيء. ولكنه شاء التنوع والتعددية لحكمة تعلو على عقولنا وأفهامنا. وهذا يعني أن الفرقة الناجية كما يفهمها البابا هي تلك الفرقة التي تجمع كل الناس الطيبين الفاعلين للخير أياً كانت أديانهم ومذاهبهم. نقطة على السطر.

ثم يذكِّرنا البابا فرنسيس بهذه الحكمة الجوهرية: ينبغي أن نتحاشى المغالطات التاريخية. بمعنى لا ينبغي أن نسقط مفاهيم الحاضر على الماضي. بمعنى آخر لا ينبغي أن نحاكم أناس الماضي المساكين المحدودين عقلياً على ضوء مقاييس الزمن الحاضر. في الماضي كنا متعصبين وطائفيين لأن عقلية ذلك الزمان ما كانت تستطيع أن تتصور وجود دين آخر صحيح غير الدين المسيحي، أو وجود مذهب واحد صحيح غير المذهب الكاثوليكي البابوي. لم يكن يخطر على بالهم إطلاقاً إمكانية التعايش مع الآخر المختلف ديناً ومذهباً. كيف يمكن أن تتعايش مع كافر؟ أعوذ بالله، معاذ الله. ولكن أوروبا تطورت وتقدمت وتجاوزت كل هذه الانغلاقات المذهبية والطائفية. لقد خلفتها وراء ظهرها بسنوات ضوئية. ثم يردف البابا قائلاً: «إن العالم الإسلامي، الذي لا يزال غاطساً جزئياً في ظلمات العصور الوسطى، سائر على طريق التقدم والاستنارة لا محالة. ولكن ينبغي أن نكون صبورين معه. فهذه الطفرة المعرفية والإيمانية ليس من السهل تحقيقها بين عشية وضحاها». وهذا ما يقوله ريجيس دوبريه أيضاً وكل عقلاء الغرب. الأصولية المتطرفة لن تنتصر في نهاية المطاف في العالم العربي، ولكنَّ هزيمتها ليست بالأمر السهل، فالثورات العلمية والفلسفية والسياسية، بل وحتى الدينية، التي هضمتها الشعوب الأوروبية على مدار ثلاثة قرون، لا يمكن للشعوب العربية أن تهضمها على مدار ثلاثة عقود. يلزمنا وقت أطول. ثم إننا لا نهدف إلى استئصال الدين كما يزعم بعضهم، وإنما فقط إلى استئصال المفهوم الطائفي والظلامي والتكفيري للدين. فرق كبير.

نحن جميعاً ننتمي إلى الجنس البشري

البابا

ثم يرى البابا أنه لكي يتمكَّن العالم العربي من تجاوز الأصولية القروسطية المظلمة فإن عليه أن يقبل بتطبيق المناهج التاريخية والفلسفية الحديثة على نصوصه التراثية الكبرى مثلما فعلنا نحن مع الإنجيل والتوراة. فهذه هي الخطوة الأولى التي لا بد منها لتجاوز العقلية الانغلاقية والتفسيرات القديمة للدين. وهذا ما فعلناه نحن في أوروبا. ولولا ذلك لبقينا نذبح بعضنا بعضاً على أساس طائفي أو مذهبي حتى الآن. لا يمكن تجاوز الطائفية إلا عن طريق ثورة عقلية وفكرية حقيقية، خصوصاً فيما يتعلق بفهم الدين وتفسيره. هذا شيء مؤكد. وبالتالي فأمام المسلمين مهمة ضخمة ينبغي أن يحققوها في السنوات المقبلة. كان الله في عونهم.

هذا، وقد صرَّح البابا في أثناء زيارته التاريخية الناجحة جداً للعراق عام 2021 قائلاً: «شيئان متضادان لا يجتمعان بأي حال من الأحوال: الإيمان بالله من جهة، وارتكاب العنف والتفجيرات العشوائية من جهة أخرى. من يؤمن بالله لا يمكن أن يستبيح دماء الناس الآمنين. ولا يمكن أن يمارِس أعمال التفجير والتكفير والترويع. كفانا عنفاً، كفانا تطرفاً، كفانا تعصباً. الرسالة موجهة للدواعش وكل الجماعات المتطرفة بطبيعة الحال».

أخيراً لقد كشف لنا البابا في مذكراته الأخيرة سراً دفيناً مهماً، وهو أنه تعرَّض لعملية اغتيال حقيقية في أثناء وجوده على أرض العراق. ولكن الله نجاه منها بمعونة المخابرات البريطانية. وهي من أقوى المخابرات وأكثرها دقةً وفاعليةً في العالم. ففي أحد لقاءاته العامة خلال تلك الزيارة، كان هناك شخصان داعشيان مدججان بالقنابل ومستعدان لتفجير المكان كله بمَن فيه البابا وغير البابا. مجزرة حقيقية. ولكن المعلومة البريطانية الحاسمة وصلت قبل آخر لحظة لحسن الحظ، فتمكنت السلطات العراقية من القبض عليهما وتحييدهما. انظر بهذا الصدد مذكرات البابا الصادرة في الترجمة الفرنسية عن دار نشر «ألبان ميشال» قبل بضعة أسابيع، في 400 صفحة بعنوان: «البابا فرنسيس مفعم بالأمل». السيرة الذاتية التي شكلت حدثاً تاريخياً في مجال النشر. ظهرت بشكل متزامن في أكثر من 100 بلد.