ألف شفق تكشف النقطة الأكثر مأساوية في تاريخ السلطنة العثمانية

صاحبة «قواعد العشق الأربعون» التركية تعود برواية جديدة

ألف شفق
ألف شفق
TT

ألف شفق تكشف النقطة الأكثر مأساوية في تاريخ السلطنة العثمانية

ألف شفق
ألف شفق

عندما سألت ذات مسامرة شاعرنا الكبير محمود درويش في منزله الباريسي، عن أولى قراءاته، أجاب دون تردد: «الشاعر التركي ناظم حكمت». رحم الله شاعرنا الذي وضع قدمي على أول كنز أدبي تركي. منذئذ ما فتئت قدماي تتقدما على هذا الطريق، وتتوغل في أعماق هذا الأدب الذي قطع أشواطا شاسعة المسافات في الإبداع الأدبي شعرا ونثرا حتى بلغت أقلام يشار كمال، وإحسان أنار، وأحمد حمدي تابينار، ومؤخرا أورهان باموق صاحب رائعة «اسمي أحمر»، والحائز على جائزة نوبل، وألف شفق (اسمها من الحرف العربي ألف الذي يكني به الأتراك كل شخص مستقيم كحرف الألف).
اليوم ومع كل إصدار لباموق، أو شفق تتسابق دور النشر العالمية لترجمته بلغات شتى ولتتصدر هذه الأعمال المكتبات في أكبر المدن الغربية. لقد تعرف الغرب على هذه الكاتبة التركية الأصل التي تكتب بلغة شكسبير عبر رائعتها «قواعد العشق الأربعون»، حيث وضعت في متناول القارئ الغربي أجمل لقاء بين صوفيين: شمس التبريزي وجلال الدين الرومي في قونية العثمانية، وبداية رقصة المولوي التي تربط السماء بالأرض، وتقرب المخلوق من خالقه. ولم تقتصر نجاحات شفق على هذا الإنجاز الأدبي الفريد، بل تعدته أيضا في أعمال أخرى لا تقل إبداعا واتساعا: «لقيطة إسطنبول»، «شرف»، وسواهما. هذه الروائية التي تجمع بين سحر الكلمة، وسلاسة السرد، والتنقيب في زوايا التاريخ العثماني، على غرار كاتبنا أمين معلوف، تخطت عتبة أخرى من الإبداع - وإن يعيب عليها النقاد الأتراك بأنها أنغلوفونية وتكتب بأسلوب يعجب الغرب - في إصدارها الأخير: «صانع المهندس» ترجمة العنوان من الإنجليزية، أو «مهندس السلطان»، الترجمة في النسخة الفرنسية، أو «الفتى المتيم والمعلم» الترجمة بالعربية).
هذه الرواية تحمل القارئ إلى عوالم السلطنة العثمانية في أوج قوتها، وعظمتها، في عهد السلطان سليمان القانوني، وسليم الثاني (السكير)، ومراد الثالث. وبداية المشاريع المعمارية الكبرى التي قام بها يوسف بن خضر بن جلال الدين الحنفي المعروف بمعمار خواجة سنان الذي قام بتشييد أروع الأبنية العثمانية من مساجد، وحمامات، وجسور، وسواها. وكان له آلاف العمال، والصناع، والمهرة، وأربعة تلاميذ: أحمد آغا، وداود آغا، ويتيم بابا علي، وسنان الصغير.
جاهان الصبي الهندي، الذي تدور الرواية حوله، الهارب من زوج أمه الذي يتهمه بقتلها على متن مركب يحمله مع فيل أبيض يروضه كهدية للسلطان العثماني في إسطنبول من قبل المهراجا. هذا الصبي النحيل كقضيب خيزران، بقامة لا تشكو طولا ولا قصرا، ببسمة ساحرة، وغمازة في الخد الأيسر، كإصبع خباز في قرص عجين، توقعت له أمه مستقبلا باهرا، وتهافت الصبايا عليه يسحرهن بابتسامته، وغمازته. نعيش معه قصة فريدة من مروض للفيل في حديقة القصر، إلى معماري نادر المهارات، متتلمذا على يد معمار سنان الكبير، وعاشق متيم بابنة السلطان مهرماه.
تنطلق رواية شفق من النقطة الأكثر مأساوية في تاريخ السلطنة العثمانية، التي باتت عادة متبعة من قبل السلاطين وهي قتل إخوة السلطان مع بداية الحكم، ولكن هذه المرة كانت تحت أنظار جاهان الذي دخل خلسة قاعة القصر التي حدثت فيها جريمة قتل إخوة السلطان مراد الثالث الخمسة بأمر منه كي لا ينازعوه في حكمه، متخفيا وراء ستارة.
شفق جعلت من الصبي الهندي شخصية خارقة قادرة على كل شيء، فهو استطاع أن ينجو مع فيله الأبيض من الغرق بعد أن قذف بهما قبطان الباخرة في البحر، ويعيش على جزيرة نائية في عرض المحيط الهندي، ثم يسعفه الحظ بأن يلتقطه مركب آخر ويوصله إلى إسطنبول، شريطة أن يقوم بالسرقة من تحف وثروات القصر لحسابه، مهددا له بالقتل إن لم يفعل، يتقرب من الأميرة الساحرة مهرماه عن طريق الفيل، ولكن يسرق بخفة وصيفتها، وكل ما يمكن أن تصل يده إليه إرضاء للقبطان الذي يهدده. يشارك مع فيله في حرب السلطان سليمان في مولدافيا ويهاجم أعداءه بشراسة ويظهر شجاعة منقطعة النظير، ويساعد معمار سنان الذي اكتشف السلطان سليمان مواهبه في بناء جسر على نهر كي تمر قواته عليه قبل بدء المعركة الكبرى ضد المولداف. يسر السلطان من فعل الصبي وفيله وكذلك المعمار سنان الذي يكتشف حذاقة وذكاء الصبي الآتي من خلف البحار.
تتابع شفق روايتها وتغلو قليلا في إضفاء صفات خارقة على بطل روايتها، الذي يقهر زعيم الغجر بالبان، ويفحمه بالحجة كي يسفد فيله شوتا فيلته غولبهار. ثم هو الذي يختاره معمار سنان ليكون تلميذه المفضل فيرسله إلى مدرسة القصر ليتعلم الهندسة، ثم يطلب منه المساعدة في بناء مسجد السليمانية أعظم أثر خلفه سليمان القانوني في إسطنبول، وعليه يقع الخيار لزيارة روما والالتقاء بنحات العصر ونابغته مايكل أنجلو. وبقدرة قادر يتعلم الصبي التركية بسرعة كبيرة ليكون قادرا على الحديث وبطلاقة مع الأميرة ميهرماه، والسلطان، ومعمار، والقبطان المهدد، ثم يتعلم الإيطالية بنفس السرعة ليتكلم مع الإيطاليين في روما ومع مايكل أنجلو، وكذلك بالنسبة للفرنسية. لكن قدرة جاهان لا تتوقف بالنسبة للكاتبة عند حد، فهو يناقش السلطان بمزايا بناء قنطرة لقطر المياه في إسطنبول على عكس ما يرى الوزير الأول رستم باشا، صهر السلطان المتزوج من كريمته مهرماه بتدبير من أمها روكسلان، ويتكبد عناء اللحاق بالسلطان في رحلة صيد على فيله ويبحث معه بناء القنطرة، ومصحة، دون أن يأذن له معلمه معمار سنان، أو أن يغضب السلطان من وجوده غير المرغوب فيه في رحلة صيد. فكيف لمروض فيل أن يرتقي بهذه السرعة ليكون أحد متحدثي السلطان دون إذن، والمعروف أن مقابلة السلطان سليمان لم تكن بهذه السهولة، ولا سيما من قبل هذا المروض الذي تسلل من إسطبلات القصر على ظهر فيله، ووصل في الوقت المناسب، الذي تمكن فيه الملك من اصطياد ظبية سقطت مضرجة بدمائها بصدفة أخرى بين قدمي جاهان ليأتي السلطان ويتكلم معه حول مشروع معماري في عز رحلة صيد.
مثل هذه المصادفات والمبالغة في السرد تتكرر مرة أخرى عندما يعلم الباشا رستم بمغامرة جاهان فيأمر بسجنه في القلعة الكبرى، وهناك يلتقي صدفة برئيس الغجر بالبان الذي سجن قبله بتهمة سرقة، فينقذه من موت محتم بعد مرض ألم به، وتتدخل ميهرماه لدى زوجها ليعفو عنه ويخرجه من السجن. مع أن معلمه معمار سنان لم يتدخل البتة لإنقاذ صانعه المدلل من سجنه مع علمه بأنه سجن دفاعا عن مشروعه المعماري. ثم ينقذه مرة ثالثة وبصدفة محضة أيضا بعد أن أوثقه صديقه داود ورماه في كوخ مهجور بعيدا عن إسطنبول بعد أن زور وصية المعلم سنان الذي أوصى بأن يكون جاهان خليفته في منصبة.
ولكن ما نعيبه على الخيال الروائي للكاتبة أنها أقحمت وقائع من محض خيالها ليس لها سند تاريخي. فجعلت جثة سليمان القانوني أشهر وأقوى سلاطين بني عثمان بعد وفاته في موقعة سيكتوار في المجر أن توضع على ظهر الفيل شوتا لإيهام جنود الانكشارية بأن السلطان ما زال حيا تحاشيا لهبوط معنوياتهم وخسارة المعركة. مع أن الواقعة التاريخية الصحيحة هي أن فتح قلعة سيكتوار قد تم قبل وفاته بمرض النقرس وعندها قال جملته الشهيرة: الآن طاب الموت.
الصبي الهندي لم تتوقف مغامراته مع السلاطين، إذ بات أيضا بعلاقة طيبة مع السلطان سليم السكير الذي كان يطيب له اللهو متسكعا مع حاشيته على ظهر الفيل الأبيض في شوارع إسطنبول ليلا بعد سكرة ثقيلة لم يعد أقداحها. وهو الذي ساعد معلمه سنان في بناء مسجد السلطان سليم أيضا ورسم قبته النادرة الجمال في الهندسة المعمارية. وتتوالى هذه المبالغات في الرواية إلى حد يدفع القارئ للتساؤل: لماذا لم يذكر التاريخ شيئا عن هذا الهندي العبقري كما ذكر زوجة السلطان روكسلان؟.
وتدخل الكاتبة جاهان في مغامرة أخرى يقوده إليها رئيس الخدم عندما يصطحبه إلى حمام غسل الأحزان حيث الماء والخمرة والوجه الحسن وتوهمه بائعة الهوى التي اختارها له بأنه قتلها بعد أن دفعها بقوة وسقطت على رأسها فاضطر إلى الهرب ليختبئ لدى صديقه القديم داود الذي بات رئيس المعماريين في السلطنة بعد أن خلف معمار سنان، وليكتشف أنه خانه ليهرب منه مجددا ليستقل مركبا يقله إلى أكرة في الهند بعد أن بلغ من الكبر عتيا ليجد هناك السلطان شاه جيهان يشيد تاج محل ليضم رفات زوجته ممتاز محل التي أحبها حبا جما. يقدم جاهان نفسه للملك كمساعد للمعماري الكبير سنان الذي يطلب من مهندسه أمان الله خان شيرازي بأن يوكل إليه برسم قبة الضريح، ويطلب له زوجة هندية شابة حامل من زوج توفي بعد زواجه مباشرة وتصغره سنا بنحو سبعين سنة. جاهان الذي كان عاشقا لابنة السلطان مهرماه، وحزن حزنا شديدا على موتها، تزوج بعد سبعين سنة بزوجة تخالفها في كل شيء من حيث الجمال والكمال، لكنها كانت رقيقة. وعندما تضع الزوجة طفلها الذي يتبناه جاهان، يعطيه اسم معلمه: سنان.
وهنا تنهي الكاتبة مغامرة فريدة من نوعها لبطل روايتها جاهان.
تعترف الكاتبة بأنها تلاعبت ببعض التواريخ، وكذلك تخيلت الكثير من الأحداث غير الواقعية، وأن فكرة هذه الرواية جاءتها صدفة عندما كانت تركب سيارة أجرة في إسطنبول ومرت أمام الجامع الجديد ورأت طفلا يستند إلى جداره ثم وقع بصرها على مصور للمسجد في أحد الكتب وأمام الصورة فيل أبيض. هذه الصور مجتمعة ألهمتها هذه الرواية التي تميزت بسلاسة سردها المتسلسل للأحداث مع بعض الحبكات بين مقطع وآخر لا تقطع نفس قارئها، بل تسافر معه في إسطنبول في أوج عظمتها، يتعرف على شوارعها، وساحاتها، ومراحل بناء مساجدها، بل وألبستها ومأكولاتها. لكن يبقى لدي كقارئ، قبل أن أكون ناقدا، كيف بقي جاهان هذا العبقري في البناء، والألمعي في التعلم السريع للغات، واختلاطه بالسلاطين، مروضا للفيل ينام في الإسطبل ليلا ويعمل مهندسا معماريا نهارا في أكبر وأعظم الآثار المعمارية التي خلفها معمار سنان؟ ألم يستحق من عظماء السلاطين الذي أسدى لهم كل هذه الخدمات أن يكون له مكانا لائقا، حتى بعد موت الفيل شوتا هرما؟
لقد جاءت هذه الرواية بدرجة أقل إبداعا من الروايات الأخرى التي دفعت بالروائية إلى مقدمة الروائيين الأتراك، ربما لأن شخصية مروض الفيل جاهان لم تكن مقنعة، وإقحامها في التاريخ العثماني وإبرازها كشخصية حقيقية التي قد تخفى على القارئ العادي حقيقة وجودها من عدمه. لكن هذا لا ينتقص من متعة القراءة لرواية تسافر ببطلها وبنا عبر قارات ثلاث، على مدى عمره المديد.



الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

المؤرخة أود دو كيروس
المؤرخة أود دو كيروس
TT

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

المؤرخة أود دو كيروس
المؤرخة أود دو كيروس

لعل من أهم سمات الكتابات النقدية المواكبة لتحولات الفن المعاصر عبر العالم، تلك التي تقرنه دوماً بمسعى الانزياح الجذري بدلالات كلمة «فن»، على نحو يجعله معاكساً في كثير من الأحيان لتقاليد التشكيل البصري الخاضع للقواعد، في الرسم والصباغة والنحت، ومناهضاً لثقافة التحفة المرتكزة على مفاهيم فلسفية، متصلة بأذواق نخب محدودة ذات تكوين فني متين. لتنتقل إلى كونها شاملة لـ«أغراض» تجارية متباينة، موجهة لطبقة جديدة من الأثرياء، منفصلة عن المعايير الجمالية والأكاديمية المستقرة، وخاضعة لنوازع استهلاك المنتج الفاخر، وما يتصل به من رغائب إبراز الرفاه. وهو الفهم الذي يبرز للنظر انتقال الفن من وضع «التعبير الثقافي» إلى كونه تمثيلاً «لانتماء طبقي».

في هذا السياق، يتموضع كتاب «الفن المعاصر، التلاعب والجغرافيا السياسية» (منشورات إيرول، باريس، 2025) - Art contemporain, manipulation et géopolitique- وهو الإصدار الأخير للناقدة ومؤرخة الفن الفرنسية أود دو كيروس Aude de Kirros، التي اكتسبت شهرتها عبر العقود الثلاثة الأخيرة بوصفها من أكبر الباحثات المرتابات في واقع الفن اليوم، ومن أشد المعترضين على اختراقات الفن المعاصر لقواعد التشكيل البصري، ومن أكثر النقاد تشدداً في تحليل معايير تصنيف الأعمال ومنحها معادلات مالية. هي القادمة إلى عوالم الأروقة والمتاحف ومزادات الأعمال الفنية من مسار تعليمي توزع بين معهد الدراسات السياسية، وكلية الحقوق، ومحترفات الحفر (الغرافيك) في باريس، لتنتج أعمالاً بنكهة فلسفية لا تخفي تولعها بالسياسة والاقتصاد والسوسيولوجيا، من قبيل: «الفن الخفي، المنشقّون عن الفن المعاصر»، و«السنوات السوداء للرسم: 1983 – 2013»، و«قداسة الفن المعاصر، الأساقفة والمفتشون والمفوّضون»، و«خديعة الفن المعاصر، طوباوية مالية». إصدارات جعلت إسهاماتها المكثّفة في الحياة الفنية تتجلى عبر إدراك ناضج لعمق التحوّلات التي شهدها الفن عبر أصقاع الكون.

يتناول الكتاب موضوع الفن المعاصر في صلاته بما يمكن وسمه بـ«صناعة القيمة»، عبر تحليل نقدي لسوق الفن المعاصر، يضع تحت مجهر الاختبار السياقات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية، متجاوزاً التحليل المستند إلى قراءة وتأويل مرتكزات الخطاب الجمالي البحت؛ إذ تناقش أود دو كيروس تلك المرتكزات بوصفها عتبات لما بعدها، انطلاقاً من افتراض نقدي يرى أن الفن المعاصر، خاصة الأعمال التي تباع بأسعار خيالية، لا تعكس في وضعها ذاك «ذوقاً» أو «تعبيراً فنياً» فقط، عبر صور لا تخلو من تطرف، بل إنها غدت، على نحو ظاهر، تتخطى منطلقات الأسلوب «المفاهيمي»، الزاهد في أشكال اللوحة والمنحوتة المأثورتين، لتتحول إلى أداة نافذة شديدة التأثير في أيدي النخب والمؤسسات المالية والجهات الحكومية، توظفها بحرص ووفق شروط معقدة لخدمة مصالحها الخاصة. وبتعبير الباحثة في إحدى فقرات الكتاب: «لقد توقّف الفن المعاصر عن أن يكون مجرد مفهوم صرف، محصور تداوله في دائرة صغيرة من (السعداء المعدودين) الذين يتغذّون على غموضه. وأصبح فنّاً (جامعاً لكل شيء)، يضمّ كل المفاهيم: الفن، والموضة، والتصميم، وما سوى ذلك» (ص 16).

يمتد الكتاب على 4 فصول، ومقدمة، وخلاصات، وفهارس، في أزيد من 350 صفحة، تتخذ العناوين الفرعية التالية: «فنون في زمن الحرب» وهو الفصل الأول المشتمل على مبحثين، تدرس في الأول «البدايات الطوباوية للفن العالمي ما بين 1917 - 1991»، وتعالج في الثاني «التحوّل ذو الطابع الهيمني للفن ما بين 1990 - 2000 »، وتخصص الفصل الثاني: لـ«الحقبة العالمية في عقدي 2000- 2020» وتتناول فيه عبر مبحثين قضايا: «أوج النموذج الهيمني»، ثم «بزوغ العصر متعدد الأقطاب»، وتتناول في فصل ثالث: «خرائطية الفن المعاصر: من الهيمنة إلى التنافس»، وفي الفصل الرابع والأخير الموسوم بـ«قوى جديدة وتقنيات جديدة: ثورة الفن عالمياً»، تخوض في تحولات العقود الفنية الأخيرة عبر مبحثين، أولهما عن: «آخر حروب الفن، سنوات 2010–2020»، والثاني عن «التحولات النسقية للفن المعاصر ما بين 2020–2024».

والحق أن التحليل النقدي في هذا الكتاب، الذي لا يخلو من نبرة سجالية ملحوظة، يذهب في مجمله إلى تبني نظرة تاريخية محكومة ببنية الصراع السياسي - الاقتصادي، حيث يوَظَّف الفن المعاصر، من جهة، من حيث هو نتاج لقضايا العنصرية والعولمة وتغير المناخ والتحول الجنسي... ومن جهة ثانية، بوصفه حصيلة للتحكم المؤسساتي، وهو ما يبرر الانتشار السريع لتيارات الفن المعاصر المتفاقمة عبر العالم، وسعيها لإخضاع ما سواها. ولا غرابة بعد ذلك أن لا تالو الباحثة جهداً في إبراز أن عالماً يفيض بالصور والعروض والاحتفالات الفنية، التي روّجت لها إقامات فنية وأروقة ومتاحف شهيرة عبر العالم من نيويورك إلى سيدني، ومن لندن إلى باريس ومن داكار إلى دبي،... أصبح معها الفن المعاصر المدعوم مؤسساتياً والمسنود مالياً، عبر سياسات حكومية شتى، الأكثر حضوراً، على نحو يغمر المشهد بشكل شبه كلي، حيث بات يشكل واجهة براقة تحجب خلفها ما تبقى من تجارب فنية أخرى.

وغير عصي عن البيان أن هذا الوهج المتصل لا يكشف حقيقة الفن، بل يخلق واجهة مكتفية بذاتها، بحيث يبدو كل ما يقع خارج دائرة الضوء كأنه غير موجود أصلاً. وشيئاً فشيئاً تنزلق أعمال استثنائية كثيرة من داخل هذا المشهد المزدحم إلى منطقة العتمة، لا لأنها تعجز عن التأثير، بل لكونها تفتقد لمجال يسمح لها بالتجلي. ومع مرور الوقت، لا تتوارى هذا التجارب إلى الخلفية فحسب، بل تُدفَع إلى حالة من الانمحاء تجعل وجودها نفسه موضوعاً للشك، ويحتاج من يشتغل عليها إلى إثبات أنها ما تزال حية.

ولا ينفصل الدور التحكمي للمؤسسات الفنية الكبرى من إقامات وأروقة ومتاحف، التي تسلط أود دو كيروس عليها الضوء، عن وظائف المُموِّلين الخواص، وبعض الحكومات في تشكيل الذوق العام، والتلاعب بقيمة الأعمال الفنية، ما يُرسخ هيمنة المركز الغربي على المشهد الفني العالمي من جهة، ولا يترك لمفاهيم من قبيل «الجمهور الفني» و«جامعي الأعمال الفنية» و«تلقي المعارض»، دلالات واضحة، خارج ما تكسبها إياه تلك المؤسسات والسياسيات المتصلة بها، بحيث يتجلى الأمر كما تبرزه الباحثة في أكثر من موضع في الكتاب، من حيث هو «صناعة» لاعبين كبار، لهم قدم في الواجهة البراقة لأعمال «التركيب الفني» و«الهوت كوتير» و«تصاميم المجوهرات» و«أعمال الديكور»... وقدم في الخلفية المعتمة للمال ورهاناته ومضارباته ومآزقه.

ولا جرم بعد ذلك أن تكون «صناعة القيمة» تعريفاً مهذباً لما يمكن أن يكون عليه «التلاعب بسوق التحف»، وسرعان ما تكشف الباحثة الفرنسة، التي تعلن عن نفسها كأحد أصوات مقاومة هذا الدور التحكمي، عن آليات التلاعب التي تُمارس في هذا القطاع، من خلال وسطاء يجعلون القيمة تبدو غير طبيعية، بل «مُؤمَّنة» من خلال شبكة مغلقة، يتم فيها تحديد الأسعار وتضخيمها، عبر تكتلات من جامعي التحف والمستشارين وصالات المزادات الكبرى، ما يخلق نوعاً من التداول من الداخل (délit d’initiés)؛ إنها شبكة الوسطاء نفسها التي تنتهي إلى قولبة «العمل الفني» وأصحابه، باعتبارهم «منتجات» يتم الترويج لهم، وفقاً لمنطق السوق، بدلاً من الجدارة الفنية. ما دامت أعمال الفن المعاصر لم تعد تقيَّم، بناء على معايير جمالية أو فنية، بل أصبحت تدار باعتبارها منتجاً مالياً مشتقاً، داخل سوق يمكن وسمها حسب الباحثة بـ«يوتوبيا مالية» (Utopie financière) تُنتج قيمة لأشياء قد لا تمتلكها في الأصل.

يتبنى الكتاب في مجمله نظرة تاريخية محكومة ببنية الصراع السياسي ــ الاقتصادي

وتدريجياً تخلص أود دو كيروس، عبر مباحث الكتاب وفصوله، إلى محصلة، تتولى فيها تلك المؤسسات المتحكمة في القيم الفنية وما يوازيها من أنصبة مالية، تشريع سوق لا يعكس حقيقة المنجز، بل حقيقة افتراضية متواضع عليها من قبل سلسلة الوسطاء، الأمر الذي سيسهل معه أن تتحول الأعمال الفنية التي باتت لها تلك القدرة التجريدية الكبرى للقيم المنقولة، إلى جعل سوق الفن ملاذاً مالياً، يعتبر مرتادوه من رجال أعمال، ومنتهزي فرص، ومغامرين، الأعمال الفنية بمنزلة أصول آمنة مربحة، خاصة بعد الأزمات الاقتصادية الكبرى، مثل أزمة 2008، التي لاحظت الكاتبة بصددها أن سوق الفن (على عكس الأسواق الأخرى) استمر في تسجيل مبيعات قياسية، ما دلّ على انفصاله عن الاقتصاد الحقيقي وتحوله إلى مكان آمن لاستثمار الأرصدة الجامدة، بالقدر نفسه الذي مثّل فيه فضاءً تبادلياً استثنائياً لغسيل الأموال، والتهرب الضريبي. وبتعبير الباحثة، فـ«جيل جامعي التحف الفنية الذي كان يحدّد الذوق في نهاية القرن العشرين لم يعد موجوداً. كان هذا الجيل أنغلوساكسونياً وأوروبياً، غنياً ومثقفاً أو راغباً في أن يكون كذلك. أما الموجة الجديدة فهي تتجاوزه في الثراء، ولم تعد لكلمة (فن) في عرفها المعنى نفسه... لهذا من الطبيعي أن تتكيّف دور المزادات لتقدم لهذا الجيل الجديد مزيجاً بارعاً، وغير متجانس، مما قد يرغب في استهلاكه؛ من العمل الفني إلى حقيبة اليد، ومن غرض التصميم إلى الموضة» (ص 15- 16).

ولعل تحول دلالة «الفن»، واختلال توازن القيمة الإبداعية والمالية، وخضوع أثمان التحف لتحكم مؤسسات كبرى، مع اتساع سوق الفن ليشمل صناعات فاخرة شتى تغري بالاستثمار، كلها عوامل أسهمت بحسب كتاب «الفن المعاصر: التلاعب والجغرافيا السياسية» في الرهان على القوة الناعمة للفن، ليس داخل الاقتصاد فقط، بل ضمن سياقات جيوسياسية متعددة، حيث أضحى سوق الفن ساحة معركة غير مباشرة بين القوى التقليدية (أوروبا والولايات المتحدة) والقوى الصاعدة (الصين ودول الخليج)، هذه الأخيرة التي دخلت مضمار المنافسة بخطط مستقبلية لتَبْيِئَةِ منتجات الفن المعاصر ضمن محيطها، ليس بهدف اكتساب شرعية ثقافية مضافة فقط، بل بقصد تحدي الهيمنة الغربية القديمة. إنه التنافس ذاته الذي ضاعف من أسعار الأعمال الفنية، وحوّلها إلى «سلاح» في أيدي النخب المالية والسياسة المتصارعة. وبتعبير موجز، فقد مثّلت الجغرافيا السياسية للفن، بحسب أود دي كيروس، السبيل إلى الكشف عن «تحوّل العمل الفني من كونه قيمة جمالية إلى رمز للقوة»، ونقطة ارتكاز في شبكات النفوذ العالمية التي تربط بين الإبداع والمال، والسلطة، والعلاقات الدولية في عالمنا المعاصر.


«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد
TT

«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد

رغم أن الطبعة الجديدة التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة من كتاب «جحا الضاحك المضحك»، توحي بعمل مخصص لأشهر شخصية ساخرة في التراث العربي، فإن عباس محمود العقاد (1889 – 1964) اختار كمفكر من طراز خاص أن يكرس المساحة الكبرى من كتابه لمناقشة «فلسفة الضحك» عبر حقب زمنية مختلفة.

البداية كانت من عند أفلاطون؛ إذ ذكر المضحكين والمضحكات وهو يبحث عن مكانهم في «مدينته الفاضلة» أو جمهوريته المثالية التي أراد أن يقصرها على الأفاضل والمأمونين، وأن يجنبها عوارض النقص والرذيلة، فبدا له أن الشعر موكل بالجانب الضعيف من الإنسان، بغير تفرقة بين شعر المأساة وشعر الملهاة.

ويرى الفيلسوف اليوناني الأشهر أن الإنسان الكريم يأبى أن يستسلم للبكاء إذا أصيب في عزيز عليه بشكل شخصي، لكنه لا يبالي أن يبكي أو يحزن إذا رأى هذا المنظر معروضاً عليه في مسرحية مفجعة؛ لأن البكاء يخدعه في هذه الحالة ويوقع في روعه أنه يبكي لغير مصابه فيتغلب على نفسه في سبيل غيره. والإنسان الكريم يأبى أن يتفوه بالعبارات الكوميدية أو التراجيديات المضحكة، ولكنه يستسلم للضحك إذا سمعها محكية في رواية هزلية يمثلها المسرحيون أمامه.

وليس بالشيء الجيد، وفقاً له، أن يكون في «الجمهورية الفاضلة» إنسان يغلب على وقاره الضحك أو البكاء على نحو يحطّ من منزلة البشر في صورتهم المثالية. إن نزلاء جمهوريته «يجب أن يتساموا على مشاهد الهزل التي لا تليق إلا بالعبيد والأجراء». ومن هنا أثنى على المصريين؛ لأنهم يعلمون الأبناء الموسيقى والرقص قياماً بالشعائر والطقوس في المعابد، ولكنهم لا يسمحون للشعراء بخلط الألحان بالأغاني المبتذلة، أو تركيب القصائد الموزونة على رقص الخلاعة والمجون.

وكانت خلاصة رأيه في كتاب «الجمهورية» وكتاب «القوانين» أن الشعراء يحسنون صناعة القصائد ويستحقون من أجل ذلك أكاليل الغار «ولكن ليلبسوها ويخرجون من المدينة الفاضلة إلى حيث يشاءون».

ولم يذكر أفلاطون سبب الضحك إلا في كلمات قليلة خلال هذه المباحث الأخلاقية، وهو يرى في تلك الكلمات أن الضحك مرتبط بالجهل الذي لا يبلغ مبلغ الإيذاء، وأن الشعراء يضحكوننا حتى يحاكوا أولئك الجهلاء، ولكنهم «إذا طرقوا موضوع الملحمة أو المأساة عظموا الطغيان وجعلوا رواياتهم حكاية لأعمالهم، فلا أمان لهم في محاكاة الجهل ولا في محاكاة الطغيان».

وكان أرسطو أدق من أستاذه في تعبيراته وتصنيفاته لأقسام الشعر؛ لأنه وضع فيها مبحثاً خاصاً بـ«المسرحيات المضحكة» التي تتبع تطورها منذ أن كانت نوعاً من الهجاء والأغاني الشهوانية إلى أن أصبحت موضوعاً للإضحاك والتسلية. وهو يرى أن الضحك نوع من أنواع الدمامة أو التشوّه، لكن بدرجة لا تبلغ حد الإيلام. وفي نبذة منسوبة إليه من رسالة مقطوعته، طُبعت في برلين سنة 1899، يؤكد على الدور التطهري للضحك قائلاً:

«إن الملهاة تطهر النفس كما تطهرها المأساة؛ لأن النفس المطبوعة على الرحمة أو على حسن الذوق تجد في المأساة والملهاة منصرفاً لما تنطوي عليه من العطف والشوق إلى الكمال واجتنابه التشويه».

ويرى العقاد أن كلا الفيلسوفين قد أخطأ في فهم المأساة والملهاة على أنها نوع من التقليد والمحاكاة؛ لأن «الشعر المسرحي يعرض الفواجع بتمثيل أناس يحاكون المصابين بها في حركاتهم وأقوالهم، وكذلك يفعل بالمضحكات والملهيات. ويندر بين فلاسفة القرون الوسطى من نظر إلى الضحك نظرة جدية ورآه يتضمن حكمة تجعله جديراً بالبحث عنه وعن أسبابه، لانصرافهم إلى البحث في الأصول الدينية وأسرار ما وراء الطبيعة. ولعل فلاسفة اليونان الأقدمين كانوا على هذا الرأي، ولم يبحثوا ولو بعض البحث في الضحك وأسبابه إلا في طريق بحثهم عن التراجيديا والكوميديا مع رجوع هذه في أساسها إلى سير الأرباب وطقوس المعابد».

ويرى العقاد أنه «إذا كنا نعيب على الثقافة القديمة قلة البحث في الضحك وأسبابه، فإن الثقافة الحديثة كانت على النقيض، حيث اهتمت به على نحو يكاد يكون مبالغاً فيه باعتباره مؤشراً على مزاج هذه الأمة أو تلك، ويكشف عن طبيعتها باعتباره مكوناً أصيلاً من مكونات الثقافة العامة، ولا يقل أهمية في ذلك عن الأدب والتراث الشعبي. ومن أبرز الأمثلة لذلك كتاب (الضحك) الذي صدر للفيلسوف الفرنسي هنري برغسون عام 1911، والذي تجاوز عدد مراجعه الأربعين مرجعاً».

ويعود هذا الإفراط في الكتابة عن الضحك، كما يرى العقاد، إلى سبب مهم يتمثل في نشأة علم الذوق أو علم الجمال الذي ينظر في الفروق بين الجميل والجليل والمضحك كما تعرضها الفنون الجميلة، لا سيما الأدب المسرحي؛ إذ أصبح البحث عن المضحك والمبكي والحسن والقبيح مقروناً بالبحث فلسفياً عن المقدس والقداسة في شعور الإنسان وممارساته.

ويرى برغسون، كما يضيف العقاد، أننا «لا نضحك إذا رأينا إنساناً يتصرف تصرف الآلة ويقيس الأمور قياساً آلياً لا محل فيه للتميز المنطقي، ولكننا نضحك في الجماعة عامة ولا نضحك منفردين؛ لأن الضحك تنبيه اجتماعي أو عقوبة اجتماعية لمن يغفل عن العرف المتبع في المجلس أو في المحفل أو في الهيئة الاجتماعية بأسرها. والضحك عنده إنساني بمعاني الكلمة، فلا يُشاهَد في غير الإنسان، ولا يستثيرنا في غير عمل إنساني أو عمل نربطه بالإنسان».

كما أننا لا نضحك من منظر طبيعي أو من جماد كائناً ما كان، إلا إذا ربطناه بصورة إنسانية وجعلناه شبيهاً بإنسان نعرفه أو منسوباً إلى عمل من أعمال الناس، وقد نضحك من قبعة نراها، فلا يكون الضحك منها نفسها، بل من الإنسان الذي يلبسها ونتصور هيئته فيها، كما يقول.

ومن شروط الأمر المضحك عند الفيلسوف برغسون أن يحصل في جماعة أو يرتبط بالتصرف الجماعي، فقلما يضحك الإنسان على انفراد إلا إذا استحضر العلاقة الاجتماعية في ذهنه. وقلما ننظر إلى أحد يضحك على انفراد إلا خامرنا الشك في عقله، ما لم يكن له عذر نعلمه!


تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني
TT

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

في روايته الجديدة «ولا غالب» الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة، يقدم الكاتب الكويتي عبد الوهاب الحمادي معالجة فنية ودرامية جديدة لتاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني يعلي من قيمة التسامح وقبول الآخر ويستنكر منطق الإقصاء بين الشرق والغرب.

على تلال غرناطة تلتقي أربع شخصيات معاصرة تطاردها أزماتها الشخصية في زماننا الحالي وقد دلفت عبر «بوابة الزمن» لتستيقظ في عام 1492 عشية سقوط المدينة حيث وجدوا أنفسهم أمام مهمة إنقاذ غرناطة من مصيرها المحتوم كآخر قلاع العرب في بلاد الأندلس. تمنح الرواية الشخصيات أحد خيارين: تغيير مجرى التاريخ أو أن يصبحوا ضحاياه الجدد، لكن كيف لأربعة غرباء يحمل كل منهم ندوب صدمته الخاصة أن يغيروا مصير الأمة الأندلسية؟

وسبق أن صدر للمؤلف عدة أعمال منها «سنة القطط السمان» التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة كتارا للرواية العربية، كما صدر له كتاب «دروب أندلسية» في أدب الرحلات.

من أجواء الرواية نقرأ:

على تل أخضر أمامي، استوى قصر الحمراء مثل شيخ شاحب ممدد على سرير مستشفى، لم يقتص المرض من وسامة تالدة. لطخت الشمس الآفلة غيوماً، تلتحف سماء غرناطة بلون النارنج. نظرت إلى الساعة في معصمي، قاربت السابعة أعدت لف الشال المغمور بعطرها حول رقبتي أحميها من صقيع نهايات ديسمبر فغمرتني رائحة الليمون. أغمدت كفي في جيبي، ضحكة شبان ورائي ونغمات عازف غيتار يصدح بغناء إسباني مكلوم. جميع الأعين وفرقعات آلات التصوير تحاول أن تقتنص جمال الشيخ على سريره الأخضر، لولا الحمراء لما أمسى لهذا المكان معنى لهم ولولاك ياصاحبة العطر، لما كان للحمراء معنى لي.

فهمت الآن لماذا كنت ياغادة تحبين هذه المدينة الواقعة خارج خريطة السياحة العربية غرناطة، ولماذا كنت تقرئين قبل النوم كتباً مصورة عن الأندلس أو تنصتين لبرامج إذاعية تاريخية وتتنهدين في أواخر أبيات الشعر، أو ترهفين لوديع الصافي وفيروز يتناجيان موشحاً، غصة في قلبي لن تزول لفتوري عن تحقيق رغبتك في زيارة هذا المعلم.

تغافلت أن القدر قد يسلب منا من نحب وقد يسلبنا أنفسنا. كنت أؤجل وكنت ترضين بأعذار انشغالي: عيادة مكتظة، سعال مرضي، حالات طارئة تنزف، خفارات ليلية مرهقة، نحيب أطفال، إعداد أوراق مؤتمرات طبية، بل وتجدين أعذاراً تقنعك أو هكذا كنت تتظاهرين لأنك تدركين أن التاريخ لا محل له في تلافيف دماغي.أحب تنفس عطر الليمون عندما تدنين مني وتلقبيني هامسة بصانع المعجزات، صانع المعجزات الذي رحلت يا غادة بين يديه، أغمضت عينيك إلى الأبد دون أن يقدر على فعل أي شيء».