يثير الضوء الفضول على نحو ما، لا سيّما أنه طيف لا يمكن لمسه ولا يمكن بأي شكل من الإشكال أن ندرك حقيقته، فنتساءل إن كان هو تنويراً، أم إدراكاً، أم كليهما. وفق ذلك تشكّلت الأعمال الفنية لمعرض «من الشعاع إلى الشغف» في الرياض، المصاحب لاحتفالية «نور الرياض 2022» التي انطلقت أمس، وتتقاطع أعمال هذا المعرض العالمي في أنها تحمل رسائل ومضامين تحاول إنقاذ الكوكب وإيقاظ البشرية بالفنون، لإنارة طريق المستقبل من خلال التحوّل الإبداعي للضوء. ومن العتمة إلى النور، يتنقل الزائر في تسلسل بديع لأعمال دمجت بين الضوء وشتى المعارف، الهندسية والرياضية والفيزيائية وكذلك الاجتماعية والنفسية، ليبدو الضوء هو نقطة الارتكاز الأصيلة في هذه الأعمال التي اشتغل عليها الفنانون لتحويل ما يعيشونه بشكل يومي في العالم الواقعي إلى أعمال فنية اصطناعية توظّف التقنيات التكنولوجية.
رحلة ضوئية
تتحدث القيّم الفني المشارك للمعرض غيداء المقرن، لـ«الشرق الأوسط»، عن قصة المعرض المقسّم لثلاثة مسارات متدرجة، تبدأ من تقنيات الضوء مروراً بعمارة الضوء وأخيراً إدراك الضوء، مبينة أن المرحلة الأولى تمثلت في العمل المشترك من خلال الحوار مع الفنانين للتفكير في كيفية صياغة هذا الحدث الفني الفريد من نوعه.
تصف المقرن المعرض بأنه «رحلة ضوئية»، مبينة أن بعض الأعمال المشاركة كانت جاهزة لدى الفنانين وتم اختيارها من ضمن مجموعة كبيرة، وبعض الأعمال الأخرى طُلبت من الفنانين لتُصنع خصيصاً للمعرض، وتردف «لم نحدد الموضوع، بل اكتفينا بتحديد القصة»، مشيرة إلى التسلسل المذهل للأعمال، بالقول «كل عمل له قيمة فريدة ضمن هذا التسلسل القصصي».
جاءت البداية من الشرارة، كما توضح، حيث يبدأ مسار تقنيات الضوء حافلاً بالإشعاع، ويتدرج الأمر إلى أن ينتهي في آخر الرحلة في غرفة تخلق حالة من الإدراك لدى المتلقي، بحيث يخرج من المعرض وهو يفكر في الأفكار كافة التي طرحها الفنانون، تقول المقرن «هذا التسلسل يبدأ من الشرارة والحرارة، ممثلاً بعمل (البركان) للفنان معاذ العوفي، وهو أول أعمال المعرض، وينتهي بحالة جميلة من الإدراك والتفكير في كل ما حدث».
المعرض الذي يستمر إلى شهر فبراير (شباط) المقبل، نحو ثُلث المشاركين فيه هم من الفنانين السعوديين والنسبة المتبقية هي لفنانين عالميين من شتى أرجاء الأرض، وتشير المقرن خلال حديثها لـ«الشرق الأوسط» إلى الزهو بإنتاج الفنان السعودي، والحالة العامة التي تُشكل لغة فنية عالمية لهذا المعرض، وتضيف «اللافت أيضاً أن الفنانين المحليين منهم أسماء كبيرة وأخرى ناشئة، بما يضمن تبادل التجارب والمعارف والحوار بين عدة أجيال أيضاً».
النهر
في مشهد يثير التساؤلات، قدم الفنانة والمخرج الأميركي دوغ أيتكين عمله «النهر»، الذي يتكون من ثلاث شخصيات تطل على مشهد صحراوي، وتنظر نحو مركز محدد. وهذا العمل الفني الذي تم تصميمه خصيصاً لنور الرياض، يصوّر شكلاً لشخصيات بشرية ليس لها هوية ولا تعريف، وداخل هذه الأشكال يرى المتلقي الضوء والحركة والطاقة. ومما يدهش مرتاد المعرض هو ربط هذا كله بحالة البشر اليوم مع التكنولوجيا، كما أوضحت المقرن في قراءتها لهذا العمل؛ مما عكس حالة عالية من الانتباه لدى الزوار تجاه ما يحدثه التقوقع التكنولوجي داخلنا اليوم، وهو ما ينسجم مع هويّة الفنان باعتبار أيتكين هو باحث في وسائل الإعلام، بما في ذلك التصوير والنحت والصور المتحركة والتركيبات الفنية والتدخلات المعمارية بأسلوب يتخطى التصنيفات الشكلية. ويحاول أيتكين تخيل الفن الذي يمكن أن يكون، وما يمكن أن تحققه التجربة الفنية من خلال الأعمال الفنية التي يكون فيها الزمان والمكان والذاكرة عناصر مرنة.
الازدهار
الفنان الأميركي جون إدمارك يقدم عمله الإبداعي «الازدهار» الذي يعد نهجاً جديداً من النحت ينبض بالحياة عند تدويره تحت ضوء شديد. ففي هذا العمل تتحرك الأزهار التي تأتي على شكل منحوتات مطبوعة ثلاثية الأبعاد عندما يتم تدويرها تحت الإضاءة الساطعة تتحرّك وكأنها منحوتة واحدة.
يستوقف هذا العمل زائر المعرض الذي لا يعي حقيقته؛ فالأمر يبدو أشبه بالخداع الضوئي البصري، إلا أن الفكرة تكمن في أن تأثير الأزهار يأتي من خلال دورات متتالية تستخدم النسبة نفسها التي تستخدمها الطبيعة لتشكيل الأنماط الحلزونية التي تظهر في أكواز الصنوبر وعباد الشمس.
نمو
الفنان السعودي ناصر التركي له تأثير كبير على مجتمع الفنون الجميلة في المملكة، وهو يقدم في هذا المعرض عمله اللافت «نمو» الذي يلقي الضوء على رحلة السعودية من خلال الطاقة، بدءاً من التنقيب عن البترول وآبار النفط والاعتماد عليها كمصدر للتحول الاقتصادي والتكنولوجي، مروراً بسعيها الحالي في البحث عن مصادر للطاقة وحلول الطاقة المتجددة لهدف تحقيق «رؤية 2030» في التنمية المستدامة.
يروى عمل «نمو» قصة هذا الطموح الوطني الذي لا حدود له، والمستوحى من برج منصة حفر آبار النفط من خلال حركة لولبية مضيئة متعددة الأوجه تعكس بعض الرموز والدلالات لموجات الضوء وغيرها من خصائصه، كما أنه رمز لأداة الحفر الحلزونية لمضخات الحرارة المترابطة بالطاقة الحرارية للأرض.
مناجاة
الفنانة السعودية زهرة الغامدي تقدم في هذا المعرض أحدث أعمالها «مناجاة»، وهي فنانة تحمل رسالة فنية في إنقاذ الكوكب من أي أخطار محتملة، وهو ما بدا واضحاً في عملها الكروي الذي جمعت فيه كماً هائلاً من الأغصان الميتة، لتستكشف من خلاله نداء الأرض إلى البشر وأن يحسنوا معاملتها.
تقول الغامدي «تتحوّل الأرض إلى كتلة شوكية مخيفة ومشعة، تتسم بالقسوة والجفاف، وتحمل بداخلها بصيصاً من الضوء ينعكس على محيطها تعبيراً عن الأمل الذي تسعى إليه من مطالبة البشر بالتغيير». وينسجم عمل «مناجاة» مع التسلسل الفني للغامدي التي تحرص دائماً على الاستعانة بمكونات الأرض الطبيعية في تشكيل أعمالها.
نظريات الخيال
تتعاون الفنانة البحرينية نور علوان مع المصمم الفني البحريني عبد الله بوحجي ليشكلا «نظريات الخيال»، وهو عمل يعكس تجربة مكانية مبهجة تعزز التعاطف والإدراك، يتألف من مرايا خفيّة ينبعث منها ضوء ملون، حيث يتم تشغيلها للتناوب بعيداً عن الاقتراب من الأشخاص، وعندما يتمكن شخصان من الوقوف على جانبي مرآة دوارة، تتوقف المرآة عن الحركة وتنطفئ الأضواء.
وأثار هذا العمل شغف الزوار للوقوف والتجربة لمرات عدة، حيث يمكن لكليهما رؤية انعكاساتها في آن واحد؛ لذلك لا يتم تشغيل المرآة إلا عندما يقف شخصان معاً لاستخدامها، مما يعبر عن إيمان الفنانَين بضرورة التلاحم البشري بدلاً من العزلة والوحدة، وهذا العمل يأتي باعتباره تعاوناً فنياً متعدد الأبعاد، يشكل مزيجاً تأملياً واستكشافياً.
كريولومين
الفنانة البلغارية إيلي جوتيفا تقدم عملها «كريولومين»، وهو تركيب فني على صورة طبعات بيانية محدثة ببيانات العواصف اليومية في الواقع المعزز. وقامت بتصميم هذه التركيبات الفوتوغرافية من خلال تعريض الورق الحساس للضوء خلال العواصف، ثم مسحه ضوئياً وتعديله رقمياً لإظهار العناصر غير المرئية في الورق المادي للكشف عن القطبية بين المواد والمساحات الرقمية، في كتلة جليدية تذوب فوق ورق الجلاتين الفضي لتكشف عن خصائصها الحرارية في الفضاء الرقمي.
تشرح جوتيفا لـ«الشرق الأوسط» كيفية رؤية المشهد من خلال التطبيق الإلكتروني في الهاتف المحول، حيث تتباعد تكوينات العمل وكأنها تسبح في فضاء مفتوح، وهو ما يعكس خبرة جوتيفا الواسعة في التصوير الفوتوغرافي والوسائط الرقمية، ومدى تأثرها بالبحوث المعاصرة في مجالات ميكانيكا الكم والفيزياء العصبية والآلة.