من المؤسف أن وسائل الإعلام لا تتحدث عن الهجرة والمهاجرين إلا في أوقات الانتخابات عندما تحمى النفوس كثيرا. وعندئذ يستغل اليمين المتطرف هذه الظاهرة لتعبئة الرأي العام ضد العمال المغتربين أو العرب والمسلمين والأفارقة السود أيضا. نقول ذلك في حين أن دراسة موضوع حساس وخطير كموضوع الهجرة تحتاج إلى برودة أعصاب لمعالجته. السؤال المطروح بداية هو التالي: كم عدد المهاجرين في فرنسا؟ طبقا لبعض الإحصاءات يمكن القول بأنه يوجد في فرنسا نحو خمسة ملايين عربي أو مسلم مغترب. وهذا يعني أنهم يشكلون نسبة 8 في المائة من عدد سكان فرنسا. ونسبة أربعين في المائة من هؤلاء يحملون الجنسية الفرنسية؛ أي نحو المليوني نسمة. أما أولئك الذين لا يحملون الجنسية الفرنسية فيصل عددهم إلى 2.96 مليون نسمة؛ أي نسبة 60 في المائة من كل المهاجرين. بالطبع فهذه الأرقام تقريبية.
ينبغي العلم بأن الهجرات الوافدة إلى فرنسا للعيش فيها قديمة العهد؛ ففي القرون الوسطى كما في العصور الحديثة استقبلت فرنسا أناسا من مختلف الأنواع والأصناف. ولكن موجات الهجرة لم تكبر ولم تأخذ كل أبعادها إلا في نهاية القرن التاسع عشر مع الثورة الصناعية؛ فقد احتاجت فرنسا عندئذ إلى أيدٍ عاملة كثيرة لإدارة عجلات المصانع كما يقال. وبما أن فرنسا عانت آنذاك من نقص في الولادات، وبالتالي من تدهور في عدد السكان، فإنها اضطرت لاستقبال الموجة الكبرى الأولى من موجات الهجرة. وقد استمرت من عام 1870 حتى عام 1910. وبعد الحرب العالمية الأولى وسقوط مليون ونصف المليون قتيل في ساح الوغى، اضطرت فرنسا من جديد لاستقبال موجة ثانية من الهجرة الأجنبية نظرا لنقص الرجال لديها. وأصبحت عندئذ البلد الثاني لاستقبال المهاجرين في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية. ولكن هذه الهجرات الأولى كانت أوروبية في معظمها؛ أي إيطالية، وإسبانية، وبرتغالية، وبولونية، إلخ. لم يكن هناك عرب أو مسلمون إلا القليل.
ولكن بعد الحرب العالمية الثانية أيضا اضطرت فرنسا إلى استقبال الموجة الثالثة من الهجرة لنفس السبب، ثم لأن اليد العاملة الأجنبية أرخص ولا تسبب مشكلات واحتجاجات ومطالبات، على عكس العامل الفرنسي. وكانت الهجرة هذه المرة في معظمها من دول شمال أفريقيا وبعض دول أفريقيا السوداء. بمعنى آخر فإنها كانت عربية إسلامية أمازيغية في معظمها. وهي التي تشكل الآن التحدي الأكبر للمجتمع الفرنسي بعد أن وصلت هذه الهجرة إلى مستوى الجيل الثاني والثالث بل وحتى الرابع.
إن اليمين المتطرف يستخدم مشكلة المغتربين كسلاح فعال للحصول على أصوات الناخبين الفرنسيين. وللأسف فإن متطرفي الجالية يقدمون له الحجج على طبق من ذهب؛ فهو يحذر السكان من خطورة الأجانب عليهم وأنهم يأكلون خبزهم اليومي. ويرفع اليمين المتطرف الشعار التالي: فرنسا للفرنسيين. وهناك حجة أخرى يستخدمها ألا وهي أن الهجرات السابقة؛ أي الإيطالية والبولونية والبرتغالية، كانت مسيحية أوروبية، وبالتالي يسهل امتصاصها ودمجها في المجتمع لأنها تنتمي إلى نفس الحضارة والدين. هذا في حين أن الهجرات الأخيرة كانت مغاربية أو عربية إسلامية أو أفريقية، وبالتالي فيستعصي دمجها داخل الحضارة الفرنسية. ولكن هذا اليمين المتطرف ينسى أن الشعب الفرنسي كان يستخدم ضد موجات المهاجرين الأولى - وهي أوروبية - نفس المحاجات السلبية التي يستخدمها الآن ضد العرب والمسلمين. فقد كان يكره الإيطاليين ويتهمهم بأنهم جاءوا لسرقة خبزه اليومي، وأنهم متخلفون، وسخون، لا يحبون فرنسا. ويكفي أن نفتح جرائد تلك الحقبة التي تعود إلى أوائل القرن العشرين لكي نتأكد من ذلك. عندئذ سنجد نفس الشتائم واللعنات التي استخدمت ضد الإيطاليين تُستخدم ضد المغاربة حاليا. وهذا ما يؤكده المطرب الشهير إيف مونتان الذي هو من أصل إيطالي. انظروا الكتاب الجميل الذي صدر عنه بعنوان «كما ترى. لم أنس ولن أنسى».. بالطبع بعد أن أصبح نجما عالميا لم يعد أحد يمارس ضده أو ضد عائلته أي عنصرية، بل على العكس أصبحوا يفتخرون به ويتباهون. ولكن قبل ذلك؟
وبالتالي فما أشبه الليلة بالبارحة! ثم من قال بأن المسلمين أو العرب لا يندمجون في المجتمع الفرنسي أو الأوروبي عموما؟ الكثيرون اندمجوا بمئات الآلاف حاليا. فهناك العمال المحترفون، والأطباء، والصيادلة، وأساتذة الجامعات، والمهندسون، ورؤساء الشركات، بل وحتى النواب والوزراء! وزيرة التربية والتعليم في فرنسا حاليا مغربية: نجاة فالو بلقاسم. وعمدة مدينة روتردام في هولندا السيد أحمد أبو طالب هو مغربي أيضا، إلخ.. وروتردام مدينة ضخمة وليست بلدة صغيرة.. وبالتالي فوصوله إلى سدة السلطة فيها يعتبر شبه معجزة. وهذا يعني أن المسلم الحضاري المستنير قادر على قيادة أوروبا وليس فقط على الاندماج فيها. إنه مؤهل للتفاعل مع مجتمع الحداثة إذا ما أتيحت له الفرصة لكي يثبت جدارته وكفاءاته. وقد تصدى أحمد أبو طالب مؤخرا للمتطرفين داخل الجالية قائلا: «إما أن تقبلوا بالقوانين الهولندية والأوروبية عموما، وإما أن تغادروا هذه البلاد فورا، فلا أحد يجبركم على البقاء فيها أو العيش في ظل قوانينها». وأضاف: «عندما تصبح مواطنا هولنديا فهذا يعني أنك قبلت ضمنيا بالدستور الهولندي والقيم الأساسية للمجتمع التنويري الحديث. وهي قيم حضارية لا تكفيرية. إنها تقر بحق الاختلاف في الرأي والمعتقد. فهنا توجد عدة أديان وعدة مذاهب لا دين واحد أو مذهب واحد، وكلها تتعايش بشكل سلمي وأخوي؛ فلا أحد يكفر أحدا أو يعتدي على أحد لأنه لا ينتمي إلى دينه أو طائفته ومذهبه. والجميع لهم الحق في ممارسة طقوسهم وشعائرهم دون استثناء، سواء أكانوا مسيحيين من سكان البلاد الأصليين أو مسلمين أو يهودا أو بوذيين.. إلخ. كما يحق لهم عدم ممارستها على الإطلاق دون أن يخشوا على وظيفتهم أو حياتهم أو حقوقهم المدنية. فالتدين أو عدم التدين مسألة شخصية، ولكن ليس الإخلال بالواجب. هنا يكمن مكتسب الحداثة الذي لا يقدر بثمن. وبالتالي فكفانا أوصياء على الدين أو متاجرون به». ثم وصف المتطرفين الهولنديين الذين يذهبون إلى منطقة الشرق الأوسط لمشاركة الدواعش القتل والذبح بأنهم خانوا المبادئ الإنسانية وقيم العالم المتحضر. وقال لا شيء يبرر قطع رؤوس الأبرياء باسم الله! الإسلام الوسطي العقلاني الصحيح لا يقر هذا إطلاقا. والمسلمون لا يمكن أن يقبلوا بأن تُستغل عقيدتهم بمثل هذا الشكل الفاضح. ولحسن الحظ فإن غالبية المسلمين في هولندا لا تصطف خلف هذا الفكر الهمجي المتطرف. هذا كلام رجل عاقل ومسؤول وحريص على مصلحة جالياتنا المهاجرة ويعرف كيف يدافع عنها بشكل مقنع وحضاري.
لكن ينبغي الاعتراف بأن المسألة أعوص من ذلك وأكبر بكثير. إنها تتجاوزنا جميعا ولا حل لها في المدى المنظور. ينبغي العلم بأن الأصولية الظلامية الداعشية وغير الداعشية تمثل أكبر مشكلة للفكر العربي، وقد تكسر ظهره للوهلة الأولى. وبالتالي فمواجهتها قد تستغرق عشرات السنين. ولن تكون المعركة الفكرية أقل شراسة من المعركة العسكرية الدائرة حاليا. ولكن المسار الحضاري الذي هضمته الشعوب الأوروبية خلال ثلاثة قرون لا يمكن أن تهضمه الشعوب العربية أو الإسلامية خلال ثلاثة عقود!
أحيانا يخيل إلي أن المتطرفين الذين حطت بهم الطائرة فجأة في مجتمعات الحداثة أو ما بعد الحداثة يشبهون أوروبيّي العصور الوسطى الغابرة وقد خرجوا من قبورهم بقدرة قادر ورأوا ما رأوه فصعقوا وجن جنونهم. ما هذا المجتمع الكافر؟ ما هذا المجتمع المتحرر من كل دين أو تدين؟ الكنائس فارغة وقد تحولت إلى ما يشبه المتاحف! لقد اختفى الدين المسيحي كليا من الساحة العامة للمجتمع. ما هذا المجتمع المليء بالحريات الدينية والسياسية بل وحتى الجنسية؟ هل يعقل هذا؟ (تذكروا سيد قطب عندما سافر إلى أميركا ورأى ما رآه وكانت الصدمة المروعة!). ولذلك لووا أعناقهم وفضلوا العودة إلى قبورهم سالمين، ناجين بأرواحهم من هذا المجتمع الشيطاني النجس الرجس. أبالغ بطبيعة الحال بل وأهلوس إلى حد ما، ولكن فقط لتوضيح الصورة. ألا تعلمون بأن الظلامية المسيحية، وبخاصة في نسختها البابوية الكاثوليكية، حاربت الحداثة طيلة ثلاثة قرون متواصلة؟ فلماذا لا تحاربها ظلاميتنا الداعشية طيلة أربعين أو خمسين سنة على الأقل. إنكم واهمون إذا ما اعتقدتم أننا سنخرج من هذه المحنة في ظرف سنوات معدودات. نحن دخلنا الآن في نفق مظلم نرى بداياته ولا نرى نهاياته. ولا أقول ذلك لتثبيط عزيمتكم أو للتمتع بإحباطكم والتلذذ بتعذيبكم وإنما فقط على سبيل «تشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة» كما يقال. فأنا شخصيا لن أستسلم حتى ولو بلغ السيل الزبى. وقد وطنت نفسي على المقاومة حتى النفس الأخير. هنا تكمن مقاومتي الحقيقية، قضيتي الأساسية. والله ستكون روحي رخيصة في سبيلها. أنا مسؤول عنها شخصيا أمام ملايين العرب والمسلمين.
المتطرفون.. مشكلة تواجه المثقفين العرب المغتربين
يشبهون أوروبيّي العصور الوسطى الغابرة وقد خرجوا من قبورهم
المتطرفون.. مشكلة تواجه المثقفين العرب المغتربين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة