«إلى الشباب»... حكاية الجهنمية اللبنانية في «منصة الشارقة للأفلام»

مخرجته ميرا مرعب لـ«الشرق الأوسط»: لم أخطط له

«إلى الشباب»... حكاية الجهنمية اللبنانية في «منصة الشارقة للأفلام»
TT

«إلى الشباب»... حكاية الجهنمية اللبنانية في «منصة الشارقة للأفلام»

«إلى الشباب»... حكاية الجهنمية اللبنانية في «منصة الشارقة للأفلام»

توشك غصة أثناء المشاهدة التحول إلى دمعة تواقة للارتماء على الخد، فالشريط اللبناني القصير «إلى الشباب» (To Youth) المشارك وحده من لبنان في الدورة الخامسة من «منصة الشارقة للأفلام» من 21 إلى 30 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، حقيقي في نبش الألم حيال معضلة معقّدة: البقاء أم الهجرة. مخرجته ميرا مرعب تجيد اقتحام عقول ملايين اللبنانيين الباحثين عن خلاص. تصوغ هواجسهم على شكل مواجهة مع المجهول، وتطرح قلق المعلّقين على حبل هواء. شريطها المؤثر ينطلق من سؤال يجر مائة سؤال: إن حصلتَ على «تيكيت» لمغادرة لبنان، فهل تتردد في توضيب الحقائب والهرع إلى المطار أم تركب الطائرة وتُلقي من شباكها نظرة أخيرة على المكان المُعذب؟
بدا البحر هادئاً، يتكئ على صفحته مركبان يترنحان، في نظرة سريعة للكاميرا من غرفة ميرا الغارقة في الارتباك. تعلم أن مراكب وطنها مخلعة، يتوه ركابها في الموانئ والبحار. مع ذلك، تراهن على خشبة وسط التلاطم تقودها إلى بر. حديثها مع الرجل الشريك (ألان الفغالي)، بوح يوجع كل لبناني يعصف به الليل الطويل، ولا منارة.
تسأله: «كيف فيك؟»، أي «كيف تستطيع؟»، كاستنكار لقدرته على حزم الأمتعة دون تردد حين تدق فرصة الباب. ميرا، الجانب العاطفي من اللبناني المغادر بالجسد، الباقي بالوجدان. فإن كان هو «لا يفكر مرتين»، فهي تفكر مئات المرات؛ في أمها وأبيها وذاكرتها والأماكن والروائح والأصوات.
هذا التشلع هو بطل شريط يجسد صراعاً مفتوحاً على مصراعيه بين الـ« surviving والـliving. العيش أو قلة الموت. في رأس ميرا تهيؤات قاتمة تضع أمامها احتمال ألا يكون الخارج هو الفردوس المنتظر... شكها، قلقها، عبوسها في وجه مصير لا تراه ضاحكاً وفق ما يصوره المتمسكون بقشة. على عكسهم؛ وإن اشتركت معهم في الفعل (الهجرة، أو النيّة حداً أدنى)، فهي ترفض حسم النتيجة وضمان الهناء في الجيب. انسلاخها عن مكانها يجعل كل الاحتمالات واردة.


ميرا مرعب أرادت شريطاً شخصياً مُنطلقه القلب

كادر الشريط، غرفة تتمايل ستائرها على وقع هواء يتسرب من نافذة مطلّة على البحر. في الغرفة ميرا وألان، بينهما جميع اللبنانيين العالقين بين فكي كماشة. تبكي فيبكون. تحبس الدمع فيحبسون. إنه نقاش الأيام الخالية من الجدوى، تخوضه المخرجة بأسئلتها وحنينها رغم الاعتراف بالمقتلة، مع شريكها الأقل منها هواجس وتعلقاً بالمكان. هي القلب وهو العقل. هي خطوة إلى الوراء تؤخر الخطى الأمامية، وهو القفزة دفعة واحدة إلى المستقبل. يمر الشريط فوق أنواع من المشاعر المتضاربة: الوطن، الانتماء، الإذعان، العتب، القبول، الرفض، القوة، الوهن البشري والأمل.
تستعيد مخرجته لحظات من أيام ماضية ترسخ في ذاكرتها المخلصة للتفاصيل. وعلى الجدار، صور مؤطرة لأحبة يراكم الانسلاخ عنهم ذنباً يُنغّص العمر. صدق الحوار هو الوجه الجميل للشريط، لكنه الوجه الباكي. جمال وأحزان في ملامح واحدة. تُخبر شريكها أنّ ثورة «17 أكتوبر» مدتها بالأمل للمرة الأولى، فـ«مات بسرعة». الانفجار حطّمها. تبوح له بمشاعر الغضب حيال تضليل العدالة، وبلسان الملايين تنطق بما نردده: «لسنا سعداء. البلاد تجرنا للقعر».
مع ذلك؛ «القرار صعب»! إنها العلاقة غير المتكافئة بالأشياء الخاصة: السرير، الغرفة، نداء الأم ورائحة طعامها، شِجار الإخوة… ميرا هي جميعنا؛ نحن الكائنات المعطوبة المتمسكة بعطبها. هي «التلذذ» بالعذاب رغم رفضه، واستحالة الانفصال كلياً عما يشكل الكينونة الإنسانية: الذاكرة، المحيط، الناس، التجارب، الدفء.


بوستر الشريط اللبناني «إلى الشباب»

مشكلتها أنها في الوسط بين نارين: ويلها السفر ولو وفر الكهرباء والماء والإنترنت والأمان الاجتماعي، وويلها البقاء الجهنمي. الأفظع هو الاحتمال الافتراضي: «ماذا لو حدث مكروه في لبنان وأنا بعيدة عن أهلي؟ كيف أنجو وعائلتي في الجحيم؟ أحقاً هذه نجاة؟». شريكها يطالبها ببعض الأنانية: «فكّري بنفسك». أجوبته جاهزة عن أسئلة تشبه مُطهّراً يُرش على جرح ملتهب، نيّته الشفاء لكنه حارق.
يراقص الهواء الستارة، وصوت ميرا يفقد توازنه. تهبّ الغصة في كل موقف يتعلق بالوطن: «لماذا لا نكون كأي بلد آخر، فلا نضطر للبحث عن الكرامة في الخارج؟ لم يرتبط تقدمنا بهجرتنا؟ لم لا نتقدم على أرضنا وفي مدينتنا وبين مَن نحبهم؟».
تصبح قراءة الشعور بالذنب حاجة إلى فهم ما يجري: «لم نُعاقَب لأننا ولدنا هنا؟ أي خطيئة ارتكبنا؟ لم علينا أن نشهد على تهشم بيروت وشوارعها وذكرياتنا الحلوة؟». يتبنى شريكها فرضية أن الذكرى المقتولة تنمو مجدداً في مكان آخر. بشوارع أخرى، قد تتفتح ذكريات سعيدة. ما تدمّر قدره الوقوف على قدميه.
من حقيقة ألا شيء مضموناً في حياة متقلبة، غدارة، مراوغة؛ تسأله: «من يؤكد لنا أن المستقبل ينتظرنا في الخارج؟». اعترافه بالمغامرة لا يعني مجاراته قلقها: «أقله سنُوظّف بكفاءتنا وجهدنا سيقدر. أفضل البدء من الصفر في مكان يحترم حقوق الإنسان. البلد يموت ونحن نموت معه». هل يسافران؟ لا جواب. الشريط يهتم بقسوة ما قبل القرار... بما يسبق الوداع المخيف أو البقاء اللعين.
لم تخطط ميرا مرعب (26 عاماً) لولادته: «أردته لي وحدي. ذكرى من ذكرياتي. مسألته حميمية وشخصية، ومنطلقه القلب. ولد مما أعيشه كل يوم... من الصراع بيني وبين نفسي، ومع أهلي وشريكي. إنه السؤال الصعب: أأرحل أم أبقى؟ وفي البقاء، أي مستقبل؟».
لفرط ما يتخذ التخبّط مساحة داخلها، ترتئي ضرورة فلش القهر المكبوت، فيكون الشريط صوتاً لمن يشاركونها المشاعر. تقول لـ«الشرق الأوسط» إن من تعمّدت أن تُبعد الكاميرا عنها، فلا تشعر بأنها تحت وطأة الضوء: «لم يحمل البوح مخططاً، ولم نصوّر لغاية سينمائية. أردنا التشاور في كيفية بناء المستقبل. مكثنا في الغرفة ودار الحديث. لم نلجأ سوى إلى ميكروفون صممنا على نسيانه. الفيلم من دون سكريبت. مكتوب بنزف الأرواح».



اتهامات لحكومة نتنياهو بـ«تجويع الفلسطينيين»

أطفال نازحون يبحثون في صندوق قمامة بدير البلح وسط قطاع غزة الأحد (أ.ف.ب)
أطفال نازحون يبحثون في صندوق قمامة بدير البلح وسط قطاع غزة الأحد (أ.ف.ب)
TT

اتهامات لحكومة نتنياهو بـ«تجويع الفلسطينيين»

أطفال نازحون يبحثون في صندوق قمامة بدير البلح وسط قطاع غزة الأحد (أ.ف.ب)
أطفال نازحون يبحثون في صندوق قمامة بدير البلح وسط قطاع غزة الأحد (أ.ف.ب)

في الوقت الذي تحذر فيه «منظمة العمل الدولية» من انهيار الوضع الاقتصادي في الضفة الغربية، بفعل الفقر المدقع والجوع، كشفت مصادر أمنية في تل أبيب عن أن قيادة الجيش وأجهزة الأمن الأخرى تحاول إقناع حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بإعادة منح تصاريح العمل لنحو 150 ألفاً من سكان الضفة للعمل في إسرائيل، ولكن من دون جدوى.

وقالت هذه المصادر إن قادة أجهزة الأمن يحاولون، منذ عدة شهور، إعادة العمال، لكن اليمين الاستيطاني المتطرف في الحكومة بقيادة وزير المالية، بتسلئيل سموترتش، ووزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، يعارض ذلك بشدة متذرعاً بأسباب أمنية، وهو ما يعده قادة الجيش «وقاحة فظة»، فالمفترض أن الجيش والمخابرات هما اللذان يحددان ماهية الأسباب الأمنية. وعلاوة على ذلك فإن هناك 22 ألف عامل فلسطيني من الضفة الغربية يعملون حالياً في المستوطنات الإسرائيلية القريبة من بلدات سكنهم. فلماذا لا يشكل هؤلاء خطراً أمنياً، بينما في إسرائيل نفسها يشكلون خطراً؟ ويزداد قلق قادة الأجهزة الأمنية في عقاب قرار منظمة العمل الدولية إجراء مداولات حول الموضوع.

وبحسب صحيفة «هآرتس»، فإن منظمات عمالية دولية قدمت مؤخراً لمنظمة العمل الدولية (آي إل أو) التابعة للأمم المتحدة، شكوى ضد إسرائيل، تتهمها فيها بالعمل منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، على منع ملايين الفلسطينيين من العمل وكسب الرزق والعيش بكرامة. وفي إطار نقاش الهيئة القضائية الخاصة التي تم تشكيلها لهذا الغرض، يتم التدقيق في احتمال خرق إسرائيل لمواثيق دولية وقعت عليها، على رأسها ميثاق ضمان الحق في الحصول على الأجر الأساسي (العمل).

وتقول هذه المنظمات إن العمال الفلسطينيين يوجدون منذ 14 شهراً في حالة غير طبيعية وهم في نظر القانون ما زالوا يعدون مشتغلين ويستحقون أجورهم، لأنهم يحرمون بشكل قسري من الذهاب إلى أماكن عملهم.

ويقول الكاتب والباحث في الشؤون الدولية، إساف ش. بوندي: «رغم أنه لا توجد صلاحية لمنظمة العمل الدولية لفرض عقوبات مادية، فإن الجلسة التي يتوقع عقدها تدل على حجم الكارثة، ويمكن أن تؤثر على مكانة إسرائيل في العالم المتقدم، وفي الوقت نفسه في إسرائيل هناك صمت مدوٍ. يتجاهلون حقيقة أن مسؤولية إسرائيل عن إعالة الفلسطينيين تنبع من السيطرة العسكرية في الضفة الغربية وفي قطاع غزة».

وأضاف: «خلال عشرات السنين رسخت سياسة الحكومة اعتماد الفلسطينيين على سوق العمل في إسرائيل، مع المنع المتعمد والمنهجي لتطور الاقتصاد الفلسطيني. الوسائل هي تقييد وحشي لحركة البضائع والأشخاص، ومنع تطوير إقليمي صناعي، الأمر الذي حول العمل في إسرائيل إلى البديل الأكثر فائدة والمفضل لدى الكثيرين. ولهذا كله، يعد منع دخول الفلسطينيين إلى أماكن عملهم في إسرائيل، التي أقيلوا منها بغير إرادتهم، والتي يعتمدون عليها في كسب الرزق، خرقاً للمواثيق الدولية، وعلى رأسها ميثاق توفير الحماية للأجور من عام 1949. هذا الخرق خطير بشكل خاص في حال طال أمده».

وتابع بوندي: «إزاء صدمة الموت والجوع والفقر في غزة، فإن هذه الحقائق القاسية تصبح باهتة. ولكن الدمج بين (الصور) يكشف السياسة التي لا تخلق الجوع في غزة فقط، بل عملياً هي تجوع الفلسطينيين في الضفة الغربية أيضاً. هذه السياسة لا يوجد لها أي منطق أمني أو اقتصادي».

وأكد: «في جهاز الأمن قالوا في الفترة التي أعقبت 7 أكتوبر إنه يجب السماح للعمال الفلسطينيين بالدخول للعمل في إسرائيل لتخفيف الأزمة في المناطق ومنع الغليان الاجتماعي النابع منها. أيضاً المشغلون هم بحاجة إلى العمال في فرع البناء والصناعة والتمريض والسياحة. ومحاولة الحكومة تجنيد مهاجري عمل أجانب بوصفه بديلاً فشلت. دعوات المشغلين لإعادة العمال الفلسطينيين يبدو أنها جبهة أخرى فشلت فيها الحكومة، والنصر المطلق الوحيد الذي يلوح في الأفق هو النصر على الاقتصاد الإسرائيلي نفسه». ودعا الخبير الدولي الإسرائيليين إلى الاستيقاظ من غفوتهم، والعمل على «تغيير هذه السياسة المدمرة».