اقترن افتتاح السنة السياسية الجديدة في تونس، مطلع الشهر الجاري، بإعلان غالبية القنوات الإذاعية والتلفزيونية عن صعوبات مالية «غير مسبوقة»، وعن إلغاء البرامج الحوارية السياسية التعددية التي ميزت المشهد الإعلامي والسياسي التونسي منذ مطلع 2011. وهي خطوة انتقدتها نقابة الصحافيين التونسيين وهيئات حقوقية وفسرتها بـ«تضييق هامش الحريات الإعلامية» في البلاد.
في الوقت نفسه، كشفت تقارير هيئات رسمية ومستقلة فرض «عقوبات جديدة» ضد عدة قنوات تلفزيونية وإذاعية وإحالة مزيد من الصحافيين والفنيين والعاملين في قطاع الإعلام على البطالة، بعد عقد أسست فيه مئات المؤسسات الإعلامية التي وظّفت الآلاف منهم، وفي مرحلة تنافس خلالها رجال الأعمال والسياسيون على الاستثمار في قطاع الإعلام للتأثير بالانتخابات ومؤسسات صنع القرار. وفي ضوء هذا الواقع يتساءل متابعون عن كيفية تطور المشهد الإعلامي في تونس وسط استفحال الأزمة الاقتصادية، واعتماد الدستور الجديد، وصدور قرارات بسحب رخص قنوات وفرض خطايا مالية ضد أخرى بينها التلفزيون الرسمي للدولة والإذاعات الأكثر شعبية. كذلك تحوم علامات استفهام حول عودة أبرز القنوات الإذاعية والتلفزيونية إلى «بيت الطاعة» بعد عشر سنوات عرفت تراوحاً بين توسيع هامش الحريات من جهة، واتهام بعض الإعلاميين والمؤسسات الإعلامية بقلة احترام «قواعد المهنة» وأيضاً بـ«الفلتان» وتجاوز كل «الخطوط الحمراء» الثقافية والأخلاقية والسياسية.
آمال بلحاج علي - صلاح الدين الدريدي - حافظ الغريبي
أجندات بعيدة عن المهنة
صلاح الدين الدريدي، الخبير الدولي في الإعلام والأستاذ في جامعة الصحافة وعلوم الأخبار التونسية، اعتبر في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «فشل» مؤسسات الإعلام التونسية عموماً، والقنوات التلفزيونية والإذاعية الخاصة خصوصاً، في تحقيق الأهداف التي رسمتها منذ 2011 «ناجم أساساً عن تدهور مستوى غالبية الصحافيين مهنياً»... وخضوعهم لـ«دورات تدريب صورية مولتها مؤسسات غربية لأسباب أمنية وسياسية، واستفادت منها بعض اللوبيات والمافيات داخل البلاد وخارجها»، حسب قوله.
وأكد الدريدي على كون «الأجندات الأجنبية» ومعضلة «المال السياسي والتمويلات الخارجية» من بين أسباب خلط الأوراق وإضعاف المستوى المهني للمشرفين على قطاع الإعلام والعاملين فيه منذ 2011. ومن ثم، ذكر أن «تضخم عدد القنوات الإذاعية والتلفزيونية والصحف الإلكترونية والورقية» بعد سقوط حكم الرئيس زين العابدين بن علي لم تصاحبه إصلاحات توفق بين «المهنية والحرية» وتبتعد عن التوظيف الحزبي والسياسي والمالي والشخصي «للسلطة الرابعة»، وعن مخطط إرجاعها إلى «بيت الطاعة» و«غلق قوسي الحرية».
«لوبيات» مالية سياسية
تسبب كل ذلك في موجات طرد لمئات الصحافيين والتقنيين والعمال من قنوات كانت تصنف «الأكثر مشاهدة أو استماعاً» كانت تابعة لمؤسسات يمتلك أغلب أسهمها رجال أعمال مقربون من الرئيس الأسبق بن علي وعائلته، حيث كان بينهم صهراه مروان المبروك وصخر الماطري والمستثمرون الخواص نبيل القروي والعربي نصره وسامي الفهري. ولقد انتقلت ملكية جانب من تلك الأسهم بعد ثورة 2011 إلى الحكومة أو إلى شخصيات مقربة من الرئيس السابق الباجي قائد السبسي، زعيم حزب «نداء تونس»، أو من زعيم حزب «قلب تونس» رجل الأعمال نبيل القروي، أو من رئيس البرلمان المنحل راشد الغنوشي ورجال أعمال جُدد لعبوا دوراً سياسياً إعلامياً كبيراً في العشرية الماضية منهم الرئيس السابق للنادي الرياضي الصفاقسي المنصف السلامي والسياسي المخضرم والمدير العام السابق في وزارة الداخلية عمر صحابو. ويضاف إلى هؤلاء عن ثلة من رجال وسيدات الأعمال الذين لا علاقة لهم بقطاع الإعلام أسسوا قنوات إذاعية وإلكترونية وطنية وجهوية تزايد تأثيرها على الشباب وعلى توجهات المجتمع والدولة، بينها قنوات «راديو ماد» و«كاب إف إم» و«أي إف أم» و«الديوان». وبجانبها عشرات القنوات الجهوية و«الجمعياتية» و«الحقوقية» التي تلقى بعضها علانية دعماً مالياً من مفوضية الاتحاد الأوروبي وصناديق أوروبية وأميركية وكندية. ومن هنا اتهم هشام السنوسي، نائب رئيس «الهيئة العليا للإعلام السمعي البصري»، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» بعض القنوات الخاصة بالحصول على «تمويل مشبوه» من رجال أعمال فاسدين في الداخل، ومن شركات أجنبية عربية وتركية، «مع رفض تقديم تقارير مالية شفافة حول مسالك التمويل والصرف واحترام قوانين البلاد».
التمويل وتوزيع الإعلانات
في السياق ذاته، أوردت الإعلامية آمال بلحاج علي في لقاء مع «الشرق الأوسط» أن «معضلة توزيع الإعلانات العمومية على وسائل الإعلام زادت أزمات القطاع خطورة، واعتبرت أن القنوات الإذاعية والتلفزيونية والصحف التي انهارت وتمر بصعوبات (تحتاج إلى حل فوري لمعضلة التمويل عبر الإعلانات العمومية وحصتها من بقية الإعلانات)». وأردفت: «إذا لم تضمن وسيلة الإعلام حاجياتها من التمويل القانوني عبر الإعلانات، فإنها قد تلجأ إلى رجال أعمال لديهم أجندتهم الخاصة... أو إلى المال السياسي الداخلي والأجنبي، ما يمكن ينال من السيادة الوطنية للبلاد ومن مصداقية الإعلام والإعلاميين وإشعاعه محلياً وعالمياً».
الملاحظة نفسها أثارها مدير القناة التلفزيونية الخاصة «الجنوبية» أبو بكر الصغير في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، قال فيه إن معظم القنوات الإذاعية والتلفزيونية لم تعد تتلقى تمويلاً مباشراً أو غير مباشر من الدولة ولم تحصل على «حصتها» من إعلانات الدولة، التي كانت توزع قبل 2011 من قبل هيئة حكومية تشرف عليها وزارة الإعلام ورئاسة الجمهورية... «لكن تلك الهيئة ووزارة الإعلام وقع حلهما مباشرة بعد سقوط حكم بن علي دون تأسيس آلية جديدة تشرف على هذا الملف».
معركة بقاء
وذهب حافظ الغريبي، مدير صحف مؤسسة «دار الصباح» سابقاً ونائب رئيس نقابة المؤسسات الصحافية، أبعد، معتبراً أن «المؤسسات الإعلامية تواجه معركة بقاء بأتم معنى الكلمة، في ظل شح الموارد وهجمة الرداءة مع وجوب الحفاظ على المهنية والمصداقية والاستقلالية».
وسجل الغريبي أن المشرفين على نقابة رجال الأعمال أصحاب المؤسسات الإعلامية يحاولون منذ أعوام «دق ناقوس الخطر والتنبيه لخطورة الوضع والإعداد لمعالجته من خلال تنظيم القطاع وتطوير تشريعاته... لكنهم لم يجدوا من الحكومات المتعاقبة إلا التسويف ومحاولة استغلال الإعلام خدمة لأهدافهم السياسية الضيقة... والدليل أن مشروع تعديل القانون المنظم للصحافة ينام في الرفوف منذ 2018، رغم قبول كل الأطراف به، وكذلك الحال لعديد المشاريع التي ساهم إعلاميون فيها خلال الأعوام الماضية رغم الظرف الصحي الصعب».
وما يُذكر أن البرلمان المنحل ناقش مشاريع عديدة لتعديل المشهد الإعلامي والصبغة القانونية للهيئات التي تشرف عليه، والتي أسست بعد ثورة 2011. بيد أن كل تلك المشاريع تعطلت بسبب حدة الخلافات حولها بين رؤساء النقابات والمنظمات المهنية وببعض الأطراف السياسية.
تمرد «المنظومة القديمة»
أخيراً، في حين تتبادل الأطراف المالية والسياسية المشرفة على قطاع الإعلام التونسي الاتهامات حول أسباب الانهيار المهني والمالي، يغلف الغموض مستقبل «الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي البصري» التي يرأسها أستاذ الإعلام النوري اللجمي. إذ سحب منها دستور 25 يوليو (تموز) الماضي صفة «مؤسسة دستورية»، ويتحدث البعض عن احتمال حلها لأنها أصبحت في خلافات مع السلطة ومع قادة كثرة من المؤسسات التلفزيونية والإذاعية العريقة، بينها القناة الرسمية «الوطنية» وعدد من القنوات الخاصة مثل «الحوار التونسي» و«نسمة» و«حنبعل» و«الزيتونة». وتعقد المشهد بعدما تحدت مجموعة كبيرة من المؤسسات التي لم تحصل على ترخيص بالبث من هذه «الهيئة»، فقررت متابعة بثها عبر شركات دولية استوديوهات خارج البلاد. وفعلاً، نجحت هذه القنوات في أن تتواصل مع الجمهور التونسي ومع ضيوفها عبر الإنترنت وتأجير أجهزة إرسال عبر الأقمار الصناعية التي لا تخضع للسلطات المحلية، الأمر الذي يؤكد أن المفاهيم القديمة «للسيادة الوطنية» و«دور السلطة الرابعة» والمهنية والحياد قد تجاوزها الزمن في عصر الثورة الاتصالية والمعلوماتية الدولية وبعد تزايد تأثير «المالي السياسي» المحلي والأجنبي.