ما حدود العلاقة بين الرواية بوصفها فناً تخيلياً، والسياسة باعتبارها واقعاً مجتمعياً متغيراً؟ وكيف يواجه الأديب خطر تحول روايته إلى منشور احتجاجي له طابع آيديولوجي بعيد عن الجمالية الفنية؟
يسعى كتاب «الاتجاه السياسي في الرواية المصرية في القرن العشرين» لمؤلفه دكتور علاء الدين سعد جاويش، الصادر عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب» إلى الإجابة عن هذا السؤال، عبر رصد نماذج تطبيقية روائية تحمل تجليات العلاقة الملتبسة بين هذا النوع الأدبي وبين السياسة.
يركز المؤلف - وهو أستاذ جامعي - على الربع الأخير من القرن العشرين، لافتاً إلى أنه يمثل الحقبة التي شهدت أهم القضايا والتحولات السياسية، مصرياً وإقليمياً ودولياً. ويقدم تعريفه الخاص للرواية السياسية؛ مشيراً إلى أنها رواية تناقش قضية سياسية ظاهرة أو خفية، وهي رواية معتقد تدعو إلى آيديولوجيات خاصة، وتناهض غيرها من الاتجاهات السياسية في المجتمع، محاولة طرح رؤى لا تخلو من مغامرات فكرية وآراء مخالفة ومعارضة للفكر السائد.
وعلى الرغم من أن الرواية السياسية تأتي غالباً في إطار المذهب الواقعي، فإنها قد تخرج عنه وتأتي في إطار المذهب الرومانسي، من خلال الرواية التاريخية التي تتحدث عن وقائع سياسية قديمة؛ لكنها تحمل إسقاطاً على الواقع المعيش. أما بطل الرواية السياسية فهو بطل إشكالي، يتحرك في إطار قضية آيديولوجية قد يقدر على حلها، وقد يخفق.
وحول القول بأن الرواية السياسية العربية لم تظهر في مصر إلا بعد الحرب الثانية، يرى المؤلف أن هذا الرأي فيه كثير من الخطأ. فالرواية المصرية منذ نشوئها على يد محمد حسين هيكل في «زينب»، تحمل على عاتقها هموماً سياسية جمة. وكذلك رواية «عودة الروح» لتوفيق الحكيم الصادرة عام 1932، تحمل تخيلاً سياسياً ومضموناً يعكس رغبة الشعب المصري في الخلاص من الاستعمار. وهناك أيضاً رواية «كفاح طيبة» لنجيب محفوظ الصادرة عام 1939، وهي رواية تخيل سياسي استلهم التاريخ الفرعوني ليحفز المصريين على مناهضة الإنجليز.
ويتوقف جاويش أمام رواية «اللجنة» لصنع الله إبراهيم؛ مشيراً إلى صدورها عام 1979، وموضوعها الأساسي يتمثل في محاولة انضمام الراوي الذي يمثل الشخصية الرئيسية إلى «لجنة» بيدها القرار وتمتلك المقدرات، على الرغم من علمه أن الانضمام إليها دليل نقص في الموهبة، إذ يقول: «رغم خطورة اللجنة وضخامة نفوذها، فإن البعض منهم يعتبرون عضويتها دليلاً على نضوب الموهبة والفشل التام»، هذا الإقرار من الراوي يدل أولاً على أنه مأزوم وفي مأزق بسبب وضعه الاجتماعي والاقتصادي وكذا السياسي، فهو يحتاج للصعود، ومتلهف إلى الانضواء تحت أعلام لجنة متحكمة غامضة، ولديه دراية كاملة بكل الأشياء التي تحرك العالم اليوم، وخصوصاً في الجانب الرأسمالي والإمبريالي.
ويستعرض المؤلف إمكانات الشخصية المحورية وإلمامها بمختلف المعارف والثقافات؛ لكن وقوف المثقف أمام اللجنة يشبه وقوف الدفاع أمام المحكمة التي تتخذ موقفاً عدائياً منه؛ حيث يجاهد لتبرئة نفسه. وبعد هذا اللقاء ترسل إليه اللجنة برقية تقول فيها: «ننتظر منك بحثاً عن ألمع شخصية عربية معاصرة»، فتتجلى في هذا الطلب قدرة صنع الله إبراهيم، فالبحث الذي تريده اللجنة تم توظيفه لإبراز صورة كاملة للمجتمع المصري والعربي، وذلك عندما يستطلع برأيه الخاص الوجوه العربية كلها، التي يحاول أن ينتقي منها تلك الشخصية اللامعة التي فاقت أقرانها. وهنا يحمل الخطاب الروائي نقداً لاذعاً موجهاً إلى الساسة والزعماء والكُتاب والفنانين والعلماء والأدباء والشعراء ورموز الفكر.
وحسب المؤلف، فإن الرمز في الرواية واضح، والمعادل الموضوعي للجنة واضح، وهو يتمثل في حفنة من المستفيدين من النظام الحاكم في تلك الفترة على حساب بقية الشعب؛ حيث يرى صنع الله أن الناس تعيش في غفلة عما يحاك ضدها من أطماع إمبريالية ورأسمالية خطيرة.
وتعد رواية «يوم قتل الزعيم» لنجيب محفوظ، النموذج التطبيقي الثاني الذي نال عناية الباحث؛ حيث يرى أن هذا العمل تحديداً ينتقد من خلال ظروف شخصياته الرئيسية العصر الساداتي كله، منذ الفقرة الأولى في الرواية. ونجد هنا الرواة جميعاً يلقون بعديد من التهم على هذا العصر، باعتباره عصر الانفتاح الاقتصادي العشوائي. يقول الراوي في نبرة سخرية حادة: «يجمعنا في الصباح الفول المدمس وحده أو الطعمية، هما معاً أهم من قنال السويس، سقيا لعهد البيض والجبن والبسطرمة والمربى، ذلك عهد بائد أو (ق.ا) أي قبل الانفتاح».
وتبرز الرواية عديداً من المتغيرات الساخنة التي طفت على سطح الواقع السياسي في ذلك الوقت، مثل قضية الهجرة إلى الخارج، والعدل المفقود، والديمقراطية، واغتراب الأجيال الجديدة، فالهم الأساسي الذي يستحوذ على عقول وقلوب الشخصيات هنا يتمثل في الضياع والصراع بين الطبقات القديمة التي أفرزها مجتمع ما قبل عهد السادات، وبين نظيرتها التي أفرزها الواقع بعد ذلك. والشيء الذي تؤكد عليه الرواية هو أن قضية العدالة الاجتماعية التي تبنتها ثورة 23 يوليو (تموز) انتهت بعد ما يقرب من ثلاثين عاماً إلى إخفاق وتراجع، وعادت المظالم الاجتماعية إلى الواجهة. ولم تكن إشارة العنوان -ضمنياً- إلى يوم مقتل السادات بالشيء الهين؛ بل كان يحمل كثيراً من الدلالات، فالجميع محكمون في إساره كشخصية غائبة وحاضرة في الوقت نفسه، من خلال تأثيره على شخصيات العمل. واللافت أن تلك الشخصيات متنوعة وتعيش حالة من الصراع الطبقي، مثل «الأستاذة علياء» التي يعمل أبوها سائقاً للتاكسي على الرغم من أنه في مكانة أدبية مرموقة؛ لكن شظف العيش وغلاء المعيشة جعلاه يعمل في مهنة أقل في السلم الاجتماعي.
«الرواية والسياسة»... علاقة خطرة
يتناول نماذج تطبيقية صدرت في الربع الأخير من القرن الماضي
«الرواية والسياسة»... علاقة خطرة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة