صحيح، إن العقل الديكارتي هو نقلة هامة في تاريخية الفكر الفلسفي الأوروبي. نقلة إلى الذاتية. وهو انتقال هيأ شروط التحول من ميتافزيقا العقل - بمعناه الضيق - إلى إجرائيته وأداتيته. إلا أن ما سيتلو الديكارتية من توجهات فلسفية تجريبية، سينزع عن العقل ذلك السمو الإطلاقي، ويرهن تكوينه واشتغاله بالحواس في تعاطيها التجريبي مع الواقع. بل أفرغ العقل من محتواه البدهي الفطري، فاستحال إلى دفتر بيد التجربة. أي إلى مجرد صفحة بيضاء، تخط عليها التجربة الحسية. ومن ثم إذا كان العقل واحدا وموزعا بقسمة عادلة بين الناس، كل منهم أوتي منه الكفاية، حسب الديكارتية، فإنه في الفلسفة التجريبية معطى مختلف، تبعا لاختلاف الواقع وخصوصيات التجربة وتباين المكتسب.
فالعقل عند لوك، لوح فارغ تأتي التجربة لتخط عليه المبادئ والمعاني. وبما أن العقل لوح أردوازي فارغ وليس فيه أي أفكار فطرية، فإن السؤال المطروح في نظرية المعرفة: من أين يمنح العقل أفكاره؟ هو سؤال يقول عنه لوك: «عن هذا أجيب بكلمة واحدة: من التجربة». ولما كانت التجربة هي مصدر الأفكار وجب دراستها بإمعان. وفي سياق هذه الدراسة، ينتهي لوك إلى أن هناك نوعين من مصادر التجربة:
الأول، الإحساس الخارجي، وذلك بواسطة حواسنا التي تلتقط موضوعات خارجية.
والمصدر الثاني، هو الإحساس الداخلي الذي يتم به استشعار أفكار واعتمالات داخلية كالتفكير، والشك، والاعتقاد، والإرادة. وليس «هناك أي شيء في عقولنا لم يأت عن طريق أحد هذين السبيلين». غير أن لوك إن نوّع في مصدر التجربة على النحو السابق، فهو من جهة أخرى، حسم شأنه شأن الفلاسفة التجريبيين، في كون المصدر الوحيد للمعرفة هو التجربة ذاتها. إذ بها يمتلئ العقل، بل يتكون ويتشكل. فـ«لا وجود لأي شيء في العقل – يقول لوك - إلا وقد سبق وجوده في الحس»، ناقدا بذلك، العقلانية الديكارتية التي تزعم وجود أفكار فطرية بدهية في العقل، معتبرا ديكارت نفسه أخطأ في حق منهجه وتناقض معه، عندما جاوز به إلى البت في شأن الجسم ووظائفه. ذلك لأن ديكارت، حسب لوك، يكون متناغما مع فلسفته القائلة بفطرية العقل واستبطانه بدهيات مطلقة، وذلك فقط عندما «يغمض عينيه ويسد أذنيه». أما عندما يجاوز ذلك إلى البت في شأن الطب والتشريح، فإنه يتضاد مع مذهبه.
بل إن المبادئ البدهية التي يزعم ديكارت أنها غريزية وفطرية، لو كانت كذلك حقا، لعرفها الناس جميعهم. بينما الحاصل أن أغلبهم يجهلونها. فحتى المثقفون منهم، يجهل بعضهم معنى «الذاتية»، و«عدم التناقض». وعليه يستنتج جون لوك، أن العقل ليس «شيئا آخر غير ملكة استخلاص القضايا غير المعروفة من المبادئ أو القضايا المعروفة بالفعل.. من ثم فإنك إذا قلت إن العقل يكتشف هذه الحقائق المنطبعة على هذا النحو، فإنك تكون قد ذكرت أن استخدام العقل يكشف للإنسان ما عرفه من قبل.. ويتساوى هذا القول، في واقع الأمر، وقولك إن الناس يعرفونها ولا يعرفونها معا».
وينتهي إلى أن ليس ثمة في العقل أي معانٍ فطرية غريزية. فلو حللنا المعاني ودرسنا أصنافها سنجدها صنفين لا غير: «معانٍ بسيطة «وهي مكتسبة من التجربة، ومعانٍ مركبة»، ويرجعها لوك إلى التفكير أي إلى فعالية العقل، حيث إن العقل يكون في حالة المعاني البسيطة منفعلا، أي يتلقى من التجربة، بينما في حالة المعاني المركبة يكون فاعلا.
لكن إذا كان العقل عند لوك ذا وظيفة وشيء من التقدير، فإن هذا التقدير لن يستمر مع الفلسفة التجريبية اللاحقة عليه، حيث إذا كان لوك يقول: «إن الفهم في معظم الأحيان سالب»، فإنه يجوز لي أن أقول إن هيوم سيعتبر العقل/ الفهم سالبا في كل الأحيان. وذلك لأن الوظيفة المعطاة للعقل عند لوك، ستسحب منه مع هيوم، بفعل أطروحته الموسومة بـ«قانون تداعي المعاني» الذي بلوره وخلص به إلى جعل العقل لا وظيفة له غير التلقي، بعد أن كانت له مع لوك وظيفة الربط والتركيب للمعاني. فوظائف المضاهاة والتركيب والتجريد في فلسفة لوك، التي يقوم بها العقل، استبدل بها ديفيد هيوم قوانين التداعي التي هي «التشابه، والتقارن في المكان والزمان، والعلية».. «فالفكرة ترتبط بفكرة إما لتشابههما، وإما لأن الانطباعات التي هما نسختان عنها كانت متقارنة، وإما أخيرا، لأن إحداهما تمثل علة والأخرى معلولها». وهذه القوانين لا يعتبرها هيوم من فعل العقل، بل هي مجرد عادات ذهنية انطبعت في العقل بفعل تكرارها في التجربة. ومن ثم فوظيفة العقل هي انفعال لا فعل.
إلا أن مفهوم العقل الذي صاغته الفلسفة التجريبية اصطدم، هو الآخر، بمآزق واستحالات. كما أن النموذج الثاوي داخل نظرية المعرفة التجريبية، لم يستطع حسم الإشكالات الكبرى التي تصطدم بها مختلف التنظيرات الفلسفية التي تسعى إلى اختزال مفهوم العقل، واستدخاله - في تصورات وقوالب نظرية أحادية وآية ذلك، انه إذا كان العقل صفحة بيضاء، وإذا كان حصيلة تكوين بفعل التربية والتفاعل مع الواقع الطبيعي والثقافي والاجتماعي، فإن هذا إن كان يفسر بسهولة اختلاف العقول والأفهام، فإنه يلقى حرجا كبيرا في تفسير اتفاق العقول وتطابقها في بعض مبادئ التفكير ونتائجه. وإذا كان العقل مجرد صفحة بيضاء، وإذا كانت الحواس هي التي تكونه وتصوغه، أو بتعبير آخر، إذا كان العقل «سلبي» الدور، كما هو الحال مع ديفيد هيوم، وإذا كانت الحواس هي وحدها ذات بعد وظيفي فاعل، حسب الفلسفة التجريبية، فكيف نفسر اقتدار العقل على تخطيء الحواس وتصحيح معطياتها وتنظيم شتاتها؟
في الدلالة التجريبية للعقل
من محدودية فعالية العقل مع جون لوك إلى انتفائها مع هيوم
في الدلالة التجريبية للعقل
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة