يعرف الشاعر والمترجم التونسي معز ماجد، مؤسس مهرجان «سيدي بوسعيد»، كأحد الأصوات الشعرية في تونس، وهو صوت إبداعي للشعر الحديث في الثقافتين العربية والفرنسية. أصدر عدداً من أعماله الأدبية باللغة الفرنسية، كما أشرف ونقل إليها عدداً من الدواوين الشعرية، ومن أهمها «أنطولوجيا الشعر السعودي المعاصر»، التي ضمت قصائد لشعراء سعوديين حداثيين، وصدرت عن دار «آل دانتي» الفرنسية، وهي إحدى مبادرات «جسور الشعر»، لتقديم الشعر السعودي من خلال الترجمة التي يتبناها «مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي» (إثراء).
ويشارك معز ماجد، ضمن نخبة من المفكرين والأدباء والمبدعين التونسيين، في «معرض الرياض الدولي للكتاب»، الذي تحلّ تونس «ضيف شرف» في دورته العام الحالي، وبهذه المناسبة، أجرت «الشرق الأوسط» الحوار التالي معه.
> كيف ترون اختيار تونس «ضيف شرف» لهذه الدورة من المعرض؟
- هو بطبيعة الحال شرف للثقافة التونسية أن يُحتفى بها في أهم معرض كتاب في العالم العربي، ويشكل هذا فرصة للمثقف التونسي، حتى يتسنى له الوصول إلى المتلقي في الخليج العربي، خصوصاً الالتقاء بالمثقفين السعوديين بهذه المناسبة.
وكلنا نعلم أن المنتوج الثقافي في تونس يشكو من ضعف في سبل ترويجه خارج حدود الوطن، لذلك تمثل هذه المناسبة فرصة ثمينة لا بد من استغلالها للتعريف بجديد الثقافة التونسية.
> كيف ترون التواصل الثقافي بين السعودية وتونس؟ أي فضاءات يوفرها المعرض للمثقفين التونسيين للتعبير عن إبداعاتهم والتواصل مع المثقفين السعوديين والعالم من خلال مشاركاتهم في المعرض؟
- التواصل الثقافي بين السعودية وتونس له تاريخه منذ عقود، فيكفي أن نذكر أن عدداً من المبدعين التونسيين لهم حظوة لدى الجمهور السعودي، على غرار لطفي بوشناق، وأنور براهم في الموسيقى، وناصر خمير وكوثر بن هنية في السينما، وآدم فتحي في الترجمة والشعر، وكذلك نجا المهداوي في الفنون التشكيلية.
فعاليات ثقافية في مركز إثراء بالظهران
ومن جهة أخرى، من المعلوم أن الجمهور التونسي مطَّلع على تجارب سعودية مرموقة على غرار منجز أحمد الملا الشاعر والمحرك الثقافي الفريد من نوعه في السينما، وطبعاً أسماء، مثل محمد عبده في الموسيقى، وعبد الرحمن منيف في الرواية، وكذلك سعيد السريحي في النقد. وبمناسبة مشاركة تونس «ضيف شرف» في «معرض الرياض»، فلقد خصص المنظمون مشكورين عدداً من الأمسيات والحوارات والسهرات الموسيقية للوفد التونسي، حتى يتسنى التعريف بالمبدعين التونسيين وأعمالهم. ونأمل أن تنال برمجة الوفد التونسي استحسان الجمهور السعودي.
الأصوات الشعرية السعودية
> أنت مدير مهرجان «سيدي بوسعيد»، الذي اختار السعودية «ضيف شرف» في دورته الثامنة (يونيو «حزيران» 2022)، بمشاركة عدد من الأصوات الشعرية الحديثة، وأصدرت «أنطولوجيا الشعر السعودي المعاصر» باللغة الفرنسية، وضمت قصائد لشعراء سعوديين حداثيين، كيف رأيت التجربة الشعرية الحديثة في السعودية؟
- لقد تعرّفت على عدد من التجارب الشعرية الجديدة في السعودية من خلال مشاركتي شاعراً في عدد من المهرجانات الشعرية العالمية، على غرار «لوديف وسيت» بفرنسا، خصوصاً بصفتي مشرفاً على مهرجان «سيدي بوسعيد» في تونس. ومنذ بداية معرفتي بهذه التجارب، انبهرت بعمق وحداثة عدد من هذه النصوص التي تمتاز بنفَسٍ تقدمي مذهل.
في الحقيقة، هذا ليس بالغريب على الشعر السعودي؛ فالجزيرة العربية هي مهد حضارة شعرية بامتياز، ومن الطبيعي أن تكون الحركة الشعرية فيها متجددة، مسائلة لذاتها ولهويتها، وحتى راديكالية في بعض الأحيان شكلاً ومضموناً.
وأثناء تجربتي في ترجمة الشعر السعودي الحديث تأكد لي ذلك، وتعرفتُ بعمق أكثر على أصوات شعرية تحاكي الكونية، ويمكن اعتبارها في مقدمة ركب تجديد الحراك الشعري في العالم العربي.
جانب من الفعاليات الثقافية في إثراء بالظهران
> ما الأصوات الشعرية السعودية التي تركت تأثيراً في المغرب العربي؟
- طبعاً لن أتحدث هنا عن الشعر الجاهلي، وعن كبار شعراء العصور القديمة، لأن ذلك ليس سياقنا، وإن كان تأثيرهم كبيراً في الشعر المغاربي إلى يومنا هذا.
ولكن من بين الشعراء السعوديين الذين لهم تأثيرهم في الكتابة الحديثة في تونس يمكن طبعاً أن نذكر ما نسميه نحن «جماعة الشرقية»، الذين لهم علاقات وطيدة بجيل الشعراء الجدد في المغرب العربي، وأعني طبعاً أحمد الملا، ومحمد الحرز، وغسان الخنيزي، وإبراهيم الحسين. ويمكن أيضاً أن نذكر صالح زمانان وكتابته الجريئة المخالفة لما تعودنا عليه. والمرحوم علي الدميني، الذي حزن لرحيله عدد كبير من الشعراء في ربوعنا.
ولعل من مزايا مهرجان «سيدي بوسعيد»، العام الحالي، أنه قدَّم طيفاً مهماً من شعراء المملكة إلى الجمهور التونسي الذي انبهر بهذه التجارب وتفاعل معها.
ولقد وصلتني بعد اختتام الدورة رسائل من عدد من الأصدقاء في تونس، الذين أثنوا على تجارب شعرية سعودية فريدة لم يعرفوها في قبل، مثل عبد الله ثابت، وزياد السالم، وهاشم الجحدلي، وغيرهم.
المشهد الثقافي التونسي
> ماذا يميز المشهد الثقافي التونسي؟ نعلم أن هناك نشاطاً أدبياً وشعرياً ونقدياً، ولكن قلّة منه تصل إلينا.
- المشهد الثقافي التونسي أحد أعمدة المجتمع المدني في البلاد. والكل يعلم الدور الذي لعبه في إنقاذ البلاد من الوقوع بين مخالب «الإسلام السياسي»، في العشرية الأخيرة.
ولعل الساحة الثقافية هي الوحيدة التي بقيت عصية عن الاختراق من طرف «الإخوان»، إذا ما استثنينا بعض الأسماء غير الوازنة في المشهد.
من ناحية أخرى، تجدر الإشارة إلى أن الإبداع التونسي كثيراً ما يصل إلى العالمية في مجالات متعددة؛ في الموسيقى، على سبيل المثال، يُعد كل من أنور براهم وضافر يوسف، من بين النجوم العالميين. في الفنون التشكيلية تجارب ثامر الماجري (40 سنة)، وسليمان الكامل، اخترقت السوق العالمية في باريس ونيويورك ولندن.
السينما التونسية تحصد سنوياً جوائز كبرى في «برلين» و«كان» و«فينيسيا»، وحتى في «الأوسكار»، في هوليوود، ومن بين الأسماء اللامعة نذكر كوثر بن هنية وعلاء الدين سليم.
في الأدب والنقد والشعر والترجمة، هنالك أيضاً أسماء لها منجزات مهمة، بيد أن الأعمال التي تصل إليكم تكاد تكون كلها منشورة خارج تونس، إما في الشرق أو في أوروبا.
الشعر والترجمة
> تكتب الشعر باللغة الفرنسية؛ صدر لك نحو 5 مجموعات شعرية، 3 منها بالفرنسية؛ آخرها مجموعة «أناشيد من الضفة الأخرى»، عن دار «فاتا مورغانا» في باريس. أي فضاء تشرّعه أمامك اللغة الفرنسية لتحلق في سماء الشعر؟
- في الواقع، لم يكن اختيار اللغة الفرنسية لغة كتابة اختياراً نابعاً عن تفكير استراتيجي، أو تمحيص، كل ما في الأمر هو أنني كنتُ قارئاً نهماً لبودلير، ورامبو، وفيرلين، ونيرفال، وغيرهم من الشعراء الفرنسيين في القرن الـ19، فاتجهَتْ كتاباتي الأولى بشكل شبه طبيعي إلى اللغة هذه، رغم أنني قرأتُ في الفترة نفسها عيون الأدب العربي المتعلق بعصر النهضة (ميخائيل نعيمة، وإيليا أبو ماضي، وبشارة الخوري، وغيرهم...). في الوقت نفسه، لم أشعر للحظة واحدة في حياتي بأنني يمكن أن أكون شاعراً فرنسياً، ولم أسعَ قط إلى ذلك. كيف يمكنني أن أكون شاعراً فرنسياً، في حين أنني أشعر بانتماء عميق للهوية التونسية، وأعيش في تونس، وأستلهم منها عوالمي الشعرية؟
لكن، هنالك سؤال محوري: هل نحن محكومون بأن تكون لنا هوية لغوية موحدة؟ ألا يجوز لمبدع عربي أن ينقض على لغات أخرى وثقافات مستجلبة ليطور نفسه وهويته؟
لماذا حين يكتب سيوران بالفرنسية، في حين أنه روماني، يجد الجميع أن الأمر طبيعي؟ وماذا عن صمويل بيكيت الآيرلندي الذي يكتب بالفرنسية؟ وعن ميلان كونديرا؟ وكذلك، جبران خليل جبران؛ ألم يكن من رواد الحركة الأدبية العربية، في حين أنه يكتب بالإنجليزية؟ أليس من حقنا أن ننهل من لغات وثقافات العالم من دون أن تُنزع عنا ثقافتنا وهويتنا العربية؟
> ماذا بالنسبة إليك، هل تمّثل اللغة هوية؟
- بالنسبة إلى كتونسيّ، فإن اللغة العربية هي أيضاً لغة غزاة، وكلتا اللغتين العربية والفرنسية من اللغات المستجلَبة في ربوعنا. ولكن عظمة هذا الوطن (تونس) تكمن في أن هذه الأرض، وهذا الشعب، قادران على احتواء غزاته وهضمهم ليصبحوا جزءاً منه، وسطراً إضافياً في مدونة تاريخه. فالرومان، ثم البيزنطيون، وبعدهم العرب، فالهلاليون، والأتراك، ومن ثَم الأوروبيون، كلهم انصهروا فينا. من هذا المنطلق، يمكن اعتبار اللغة الفرنسية من بين ممتلكات الهوية التونسية، تماماً مثل اللغة العربية التي لا تتميز عنها إلا بالأقدمية.
دعني أذكرك بالمقولة الشهيرة للرائع كاتب ياسين: «اللغة الفرنسية غنيمة حرب».
> كنت تقول إنه ليس مهماً اللغة التي نكتب بها الشعر؛ فالمهم أن «نصل إلى النشوة المبتغاة!»... هل تصلح جميع اللغات أن تكون قوالب توصلنا للنشوة... أليس هذا تعميماً وتبسيطاً... أليست اللغة مخزوناً ثقافياً وحضارياً وتاريخياً ونفسياً؟
- يقول الشاعر والفيلسوف الكراييبي إدوارد غليسان (Édouard Glissant): «أنا أكتب في حضرة كل لغات العالم»، هذه الجملة التي تبدو كأنها صيحة حرب، هي في الواقع طريق للنجاة، إذ إنها تفتح باب الكونية أمام جيل كامل من الكتاب الذين يكتبون بالفرنسية.
هذه اللغة كانت في الأصل لغة شعب مهيمن مستعمر باطش، لكن وقع عليها الاستحواذ من طرف جيل من الأدباء أتوا إليها من خارج مجموعتها الأصلية، ومن ثم وظفوها ليقولوا كينونتهم.
هذه الجملة ترن وكأنها صدى لأحد أجمل أبيات الشاعر الهندي العظيم طاغور: «نحن أجلاف الشرق العراة - سوف نظفر يوماً بحرية نهبها إلى الإنسانية جمعاء».
في الحقيقة، أنا أجد نفسي في تناغم مع هذا الطرق لمفهوم اللغة، فأنا أنتمي إلى جيل له علاقة مختلفة باللغة الفرنسية مقارنة بالأجيال السابقة من الأدباء التونسيين، ومن بينهم والدي.
فأنا مثلاً لست قاصراً باللغة العربية، عكس عدد من الأدباء المغاربة الذين يكتبون بالفرنسية. كما أنني مولود في سنة 1973، وهذا يعني أنني لم أعرف الاستعمار، لذلك فإن علاقتي باللغة الفرنسية وثقافتها ليست علاقة المضطهد الذي يتشبه بجلاده. علاقتي بهذه اللغة وهذه الثقافة هي علاقة متوازنة وندّية إلى حد ما.
> صدر كتابك الأول «الظل... الضوء» 1997. ومن ثَم مجموعتك الثانية «أحلام شجرة كرز مزهرة» في تونس، واخترت النشر في فرنسا، في تجربتك الأولى، هناك مَن رأى التحاماً «بالمصادر العميقة للأصالة»، وفي التجربة الثانية «رغبة في الانفتاح والتحرر من القيود» إلى أي درجة تجد مصداقية لهذه النقلة في تجربتك؟
- أملي هو ألا تكون كتابتي باللغة الفرنسية عاملاً يبعدني عن هويتي وثقافتي، بل مصدر ثراءٍ للأدب العربي الذي قد يجد في كتابتي عوالم غير مألوفة لديه جراء هذا التلاقح اللغوي.
تكون تجربتي فاشلة بلا شك لو أنني صرتُ كاتباً فرنسياً يكتب أدباً مألوفاً في الثقافة الفرنسية.
> لديك عدد من المبادرات، بينها «مهرجان سيدي بوسعيد». هناك مَن يرى أن المبدع عليه أن يتفرغّ للإبداع قبل أن تستهلك طاقته المؤسسات والمناشط، فما رأيك؟
- لكي تكتب أدباً ذا معنى يجب عليك أن تعيش. فما معنى أن ينعزل المبدع للكتابة فحسب؟ ما عساه أن يكتب في حين أن لا حياة ولا تجربة له؟
أنا أعتبر نفسي فاعلاً ثقافياً يسعى للتأثير في مجتمعه، وهذا أمر أساسي بالنسبة لي. عملي على تغيير الواقع الثقافي في بلادي هو أمر أساسي وحيوي بالنسبة لي، وهو علاوة على ذلك يمكّنني من التواصل مع شعراء ومثقفين من جميع أنحاء العالم، مما يطور كتابتي ونظرتي للعمل الإبداعي. فكتابتي تتطور وتتغذى من كل هذه التجارب واللقاءات. وأنا أرى أن هنالك تشابهاً بين دوري الذي ألعبه اليوم في تونس، وما كان يقوم به الشاعر الفرنسي شارل بيغي (Charles Péguy) في بداية القرن الـ20 في باريس.
لو كانت السلطات التونسية على وعي بأهمية هذا النضال الثقافي، لمدت يد المساعدة لترسيخ ما ينجزه المجتمع المدني في خدمة ثقافة البلاد. لكن لعل التاريخ ينصفنا يوماً ما.
> نقلتَ عن الشاعر الأميركي جاك هيرشمان، قوله إن «الشعر هو مستقبل الإنسانية»، هل ينجح الشعر وسط طوفان الحروب والدمار والكراهيات في جلب السلام لهذا العالم؟
- جاك هيرشمان كان شاعراً استثنائياً وصديقاً عزيزاً. وما يمكن أن أقوله هو أنه كان فعلاً يؤمن بأن الشعر هو مستقبل الإنسانية، وأنه قادر على تغيير العالم وهزيمة الإمبريالية الرأسمالية. يمكنني أن أشهد أنه كان على يقين بذلك حتى في سن الـ85 بعد حياة من النضال المستمر. قد يبدو ذلك طوبوياً، لكنني أخيّر أن أكون طوباوياً فاعلاً في مجتمعه على أن أكون واقعياً منتكساً.
في حديث لي مع الشاعر الكوبي الكبير فيكتور رودريغس نونيس، قال لي جملة قد تكون تفسيراً لما كان يقوله هيرشمان: «إن ما يهمني في الشعر هو أنه الشيء الوحيد تقريباً الذي عجز النظام الرأسمالي عن تحويله إلى بضاعة. وهو في الآن ذاته الشيء الوحيد أيضاً الذي فشل الثوريون، بمن في ذلك أكثرهم صدقاً، في احتوائه وترويضه».