نحو دروب آمنة للتسامح

البصيرة الإنسانية تحتم القول بالهوية المركبة

نحو دروب آمنة للتسامح
TT

نحو دروب آمنة للتسامح

نحو دروب آمنة للتسامح

العنف هو سلوك موجه نحو هدف معين بقصد الإيذاء، أو بنية الإيذاء. وقد يكون ماديا أو معنويا. وقد تكون أسبابه نابعة من الطبيعة الإنسانية، على أساس أن العدوان أمر متجذر وأصيل في الإنسان. لكن هناك من يرى أن العنف قد يكون محركه ثقافيا، فنسمع بالقتل باسم الدين أو العرق أو اللون أو اللغة. إضافة إلى ذلك، هناك من يرى سببا آخر للعنف، يتجلى في اعتقاد البعض بأنهم يملكون الحقيقة، مما يعطيهم شعورا بالاستعلاء على الكل، واعتبار الآخر على ضلال، ومن ثم وجب تقويمه وردعه ولو بالتصفية الجسدية. الأمر الذي ينطبق على الناطقين باسم السماء ممن يعطون لأنفسهم فقط، جواز الحديث باسم الله. أما الآخرون فهم قاصرون عن الاتصال بالسماء، يحتاجون التوجيه والتقويم والإرشاد إلى السبيل. بل المراقبة والعقاب لكل من زاغ عن الجادة، المعتقد أنها الصواب.
سنحاول في هذه المقالة الوقوف عند ظاهرة التطرف الديني التي غالبا ما تفضي إلى العنف بكل أنواعه، مركزين على جوانب الحل لهذه الظاهرة التي تنخر بعض المجتمعات، مستلهمين بعض المرجعيات الكبرى باعتبارها أفقا للتفكير، مثل جون لوك وكانط وجاكلين روس.

يعتقد بعض الناس أنهم مفوضون من الله مباشرة، وأنهم هم المؤهلون لإرشاد الناس إلى السماء. فيهبون أنفسهم سمة القداسة إلى درجة يصبح الخارج عنهم في غي وضلال. وقد يقتلونه بدم بارد باسم طهرانية مزعومة. وقد يزداد الأمر سوءا عندما يتملك هؤلاء الناس السلطة، فتصبح لهم مخالب للبطش بكل من يخالف توجههم أو مذهبهم. ولنا في تاريخ أوروبا وبالضبط إنجلترا القرن السادس عشر والسابع عشر، درس كبير يمكن الاستفادة منه، حيث ظهرت صراعات وتطاحنات ما بين الكاثوليك والبروتستانت بشكل تناوبي، تغذيها إمكانات السلطة لدى كل طرف، إلى درجة الاضطهاد والفتنة التي نجمت عنها تلك الحرب الأهلية المشهورة سنة 1642. الأمر الذي أدى ببعض الفلاسفة إلى التفكير في حلول لهذه الحروب باسم الدين، ومن بينهم الفيلسوف جون لوك، الذي سيكتب «رسالة في التسامح»، ويقصد التسامح الديني. وكانت البذرة الأساس لحرية المعتقد التي ستصبح ركنا ركينا في المنظومة الحقوقية للزمن الحديث، حيث سيؤكد فيها على فكرة أن: لكل واحد أن يختار ويسمح للآخر، وفي هدوء، أن يختار طريقه إلى السماء، من دون حقد أو ضغينة. كما سيدافع لوك عن استقلالية الفرد الدينية إلى أبعد مدى. فليس للحاكم المدني أي سلطة على أفراد شعبه فيما يتصل بالدين، لأن أمور الدين تخص الفرد والله فقط. يقول لوك: «كلها بين الله وبيني أنا». ويصرح أيضا بأنه: «ليس من المعقول أن يكل الناس إلى الحاكم المدني سلطة أن يختار لهم الطريق إلى النجاة، إنها مسألة خطيرة لا يمكن التسليم بها». فالحاكم مسؤول على المحافظة على الخيرات المدنية وهي: الحياة والحرية والمساواة وحق الملكية فقط، ولا شأن له بعالم الروح. بل يرى لوك أن المرء إذا ما أخطأ في العبادة، فإنه لا يضر بأحد آخر غيره. إذن لوك يرى أن نجاة الروح من اختصاص الفرد نفسه. فهو من هذه الناحية، حر طليق، وهو أعلم بالدرب الآمن لنجاته. إضافة إلى ذلك، يوصي لوك الحاكم المدني بألا يمنع الناس من ممارسة شعائرهم وطقوسهم الدينية. فالمخالف لنا في الدين يجب علينا عدم قهره باستخدام القوة ضده كي يغير دينه، بل علينا في مقابل ذلك، أن نقنعه بأن «يصير صديقا للدولة». وبهذا نجد أن أفكار لوك كانت دعامة أساسية نحو اللائكية، بجعله نجاة الروح خلاصا فرديا، وضمان الخيرات الدنيوية خلاصا جماعيا.
كانط: الدين التاريخي سبب في التطرف الديني
إن كانط لا يعول أبدا على الدين النظامي التاريخي. فهو مرتبط عنده بالضرورة بالصراع. لأن كل من لا يعترف به سوف يسمى كافرا، وتنزل عليه الكراهية. أما الذي يبتعد عنه قليلا، فهو ضال وينبغي تحاشيه. أما ومن يعترف به ويختلف عنه، فيما هو جوهري، فيسمى هرطقيا.
ويعول كانط على خلاف ذلك على الدين المحض، فهو الوحيد الأجدر في لم شمل البشرية وإبعادها عن العنف والتضارب. لهدا يدعو كانط إلى ضبط اللغة جيدا في مسألة الدين، والتي يجب فصلها عن المعتقد. فمن الأنسب أن نقول إن هذا الإنسان على معتقد المسيحية أو اليهودية أو الإسلام. فهذه حسب كانط، ليست دينا بل معتقدات، لأن الدين الحق واحد. وهو لا يرتكز على الوحي القادم من التاريخ، بل هو متعال يقوم على أساس العقل.
إن كانط لا يستنكف عن التذكير بالبون الشاسع ما بين الدين التاريخي العرضي والدين الأخلاقي المتعالي. فهو ومن دون ملل، يرسم الحدود الواضحة بين الشعائر التي هي مجرد «قشور» دينية مرهونة بظروف الزمان والمكان، ودين الأخلاق العقلي الشمولية، التي يمكن تبليغها وتعميمها لكل البشر، ما دام العقل هو أعدل قسمة بين الناس. كما أننا نجد أن كانط يوجه نعوتا جد سلبية للدين التاريخي، أو الدين النظامي. فمثلا يسميه بدين السخرة والارتزاق والذل، وليس إيمان الأحرار. فالإيمان الشعائري هو إيمان الكفارة التي تنوب عن، أي هو إيمان تسديد الدين بحيث يعتقد صاحبها أن السبيل إلى إرضاء الرب هو الاكتفاء بالعبادات. لكن حقيقة الأمر، هي أن هذه العبادات لا تمتلك أي قيمة خلقية لأنها أفعال قائمة على الخوف أو الرجاء، والتي يمكن لإنسان شرير أن يقوم بها. أما إيمان العقل، فهو إيمان خارج إطار تقنيات التعبد، بحيث يصبح للمرء إمكانية أن يكون مرضيا عنه من قبل الرب، بأن يسير في الحياة مستقبلا بسيرة حسنة. بمعنى آخر، يريد كانط أن يقول: إذا ما تساءلنا حول ما السبيل كي يرضى الله عنك؟ فالجواب هو أن تعمل بجهد وكد وفق سيرة حسنة، وأن تنصاع لقوانين العقل العملي باعتبارها أوامر إلهية مقدسة، وبعدها تنتظر الأمل الرباني.

* روس: الهوية المركبة والاعتراف بالمختلف
ينطلق المتطرف عموما وفي المجال الديني خصوصا، من اعتقاد مفاده أن مسألة الهوية الإنسانية تتسم، أو يجب أن تتسم، بالصفاء والطهر، وأن الآخر المختلف يدنسها. لذلك وجب اجتثاثه من الذات وطرده. فهو غريب ودخيل ومشوش لنقاء الهوية.
وقبل الخوض في موضوع الهوية الشائك والملغوم، نحتاج بداية، إلى تحديد من هو الغير الغريب؟ إنه غالبا نعت نطلقه على الأجنبي، والمتطفل، والمستعمر المهدد لاستقرار الجماعة وانسجامها، ولكن أيضا يطلق على المختلف عنا: دينا ولونا وعرقا ولغة وحزبا ونقابة. وإذا ما سألنا عما هو رد الفعل الطبيعي تجاه الغريب؟ فسيكون الجواب: الحذر والنفور والكراهية والحقد والنبذ والإقصاء والحرب. وهو مشهد يمكن تلمسه حتى في مملكة الحيوان، التي بالأكيد لنا ما يربطنا بها. ويكفي لذلك ضرب المثال التالي: أليس الديك المهيمن على الدجاجات يحارب أي ديك ذكر وافد عليه حد التقاتل. بل أليس الأسد عندما يهاجم عرين أسد آخر يأكل أشباله لأنهم لا يمتون بصلة إلى صلبه. لكن نحن الكائنات الإنسانية، وٳن كانت لنا حيوانية في شق، فنحن نخجل من ذلك، ونتوق إلى عالم ثقافي يرفع مستوى الإنسان إلى ما يستحقه. فنسعى إلى خلق الحق سياسيا. ونتوق إلى مملكة تسودها العدالة. كما أننا نريد بلوغ النبل الأخلاقي كأقصى تمظهر للإنسان. وإذا كان الأمر كذلك، فإن العدوان تجاه الغريب، الذي هو الجذر الأصيل في الإنسان، يجابه ويقاوم من طرف الإنسان نفسه. بعبارة أخرى، إذا كان الإنسان بالطبيعة يتجه نحو النفور من الغريب، فهو بالثقافة يتجه نحو التقرب منه. وهو ما يفسر لنا مساعي الأديان والحكماء نحو خلق عالم سلمي من التآخي ما بين بني آدم مهما كانت اختلافاتهم، التي غالبا لا يسمع صوتها لسوء الحظ.
سأقف في هذه المسألة عند موقف طريف لفيلسوفة بلغارية اسمها جوليا كريستيفا. وهي من مواليد 1941. وصاحبة كتاب عنوانه «غرباء في دواخلنا»، كتبته لتبرز أن من نسميه الغير الغريب الأجنبي، هو في حقيقة أمره يستوطن الذات. فالآخر ينطلق غريبا في بدايته عن ذواتنا، ليصبح بعد ذلك جزءا لا يتجزأ منها. فمثلا إذا سالت عن من هو المغربي؟ فيستحيل عليك أن تقول إنه عربي فقط، أو إنه أمازيغي فقط. فالهوية النقية الصافية الخالصة لا محل لها من الوجود. فالمغربي في عمقه، هو مزيج من عناصر عدة. إنه: أمازيغي، وعربي، وإسلامي، وأندلسي، وأفريقي. بل حتى غربي، على أساس أن في المغرب برلمانا ودستورا وحكومة ومنظمات حقوقية بالمقاييس الغربية. إذن، نعم نحن نتحرك بهوية واحدة، ولكنها هوية مخصبة وهجين من عناصر تشكلت مع التاريخ، وهو الأمر الذي جعل جوليا كريستيفا تقول: «الغريب يسكننا على نحو غريب».
إذا ما سلمنا بفكرة جوليا كريستيفا، نصل إلى النتيجة التالية: عوضا عن بغض الغريب الأجنبي وكرهه، وجب التسامح معه والقبول به. لأننا أصلا، نحمل الأجانب في دواخلنا. وإذا لم نفعل ذلك، فلنستعد لتمزق الذات الجماعية. وهذا ما يفسر لنا الحروب الطائفية داخل الذات نفسها. لأن الجماعة في هذه الحالة، لم تستوعب كون الأجنبي قابعا في نفس هذه الذات.
إذن، عندما يكبر الإنسان ويصل إلى سن الرشد، قد يسلك في حياته كما لو أنه يتملك هوية صافية ينعتها بالأنقى والأصفى، وبكل ما يمت إلى الطهرانية بصلة. فنجده يدافع باستماتة، عن هذه الهوية، ويعتبر كل ما عداها من الهويات ناقصا أو مهددا له، إلى درجة العنف حد التصفية الجسدية. لكن لو تأمل المرء ذاته، لاكتشف أن ما يسميه الغير المختلف، هو في حقيقته، يعتمل في جوفه، ولو لا شعوريا. فكل إنسان في حقيقته، لا يحمل طبقة واحدة يدعي أنها هي هويته، بل يحمل طبقات أخرى متراصة، منها البارز ومنها المخفي الذي يكاد يظهر، وكلها هويات قادمة من عمق التاريخ الذي جاء به الآخر، بأي سبيل يسمح بالتلاقح، أو التثاقف بين الذات والغير، سواء كان بالغزو أو عن طريق التجارة أو الترجمة.
ولتعضيد فكرة جوليا كريستيفا، سأستحضر الكاتب الشهير أمين معلوف، في مؤلفه «الهويات القاتلة» المكتوب بالفرنسية والمترجم إلى العربية، من طرف نبيل محسن، الذي يقول في مقدمته: إنه يجيب دائما عندما يسأل: هل يشعر، وهو الكاتب اللبناني الذي غادر لبنان منذ 1976. بالاستقرار في فرنسا؟ إنه لبناني أم فرنسي؟ بكونه «هذا وذاك»! ويؤكد على أن هذا الجواب ليس فيه حرص على التوازن والمساواة، وإنما لو أجاب عكس ذلك، فسيكون كاذبا. فأمين معلوف لديه دائما إحساس أنه على تخوم بلدين، وبلغتين أو ثلاث. وتجتاح ذاته تقاليد متعددة. وهذا كله هو هويته. ويضيف متسائلا: هل سأكون أكثر أصالة إن اقتطعت جزءا من ذاتي؟ فهو إذن لبناني وفرنسي معا. فالهوية وكما يردد دائما في كتابه الشيق، هي نعم هوية واحدة لكن بعناصر متعددة. والتنكر لهذه العناصر هو تمزيق للذات وفتح الباب للعنف على مصراعيه.



الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
TT

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)

دعا الشاعر السوري أدونيس من منفاه في فرنسا الأربعاء إلى "تغيير المجتمع" في بلده وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي فيه بعد سقوط الرئيس بشار الأسد.

وقال أدونيس (94 عاما) خلال مؤتمر صحافي في باريس قبيل تسلّمه جائزة أدبية "أودّ أولا أن أبدي تحفّظات: لقد غادرتُ سوريا منذ العام 1956. لذلك أنا لا أعرف سوريا إذا ما تحدّثنا بعمق". وأضاف "لقد كنت ضدّ، كنت دوما ضدّ هذا النظام" الذي سقط فجر الأحد عندما دخلت الفصائل المسلّحة المعارضة إلى دمشق بعد فرار الأسد إلى موسكو وانتهاء سنوات حكمه التي استمرت 24 عاما تخلّلتها منذ 2011 حرب أهلية طاحنة.

لكنّ أدونيس الذي يقيم قرب باريس تساءل خلال المؤتمر الصحافي عن حقيقة التغيير الذي سيحدث في سوريا الآن. وقال "أولئك الذين حلّوا محلّه (الأسد)، ماذا سيفعلون؟ المسألة ليست تغيير النظام، بل تغيير المجتمع". وأوضح أنّ التغيير المطلوب هو "تحرير المرأة. تأسيس المجتمع على الحقوق والحريات، وعلى الانفتاح، وعلى الاستقلال الداخلي".

واعتبر أدونيس أنّ "العرب - ليس العرب فحسب، لكنّني هنا أتحدّث عن العرب - لا يغيّرون المجتمع. إنّهم يغيّرون النظام والسلطة. إذا لم نغيّر المجتمع، فلن نحقّق شيئا. استبدال نظام بآخر هو مجرد أمر سطحي". وأدلى الشاعر السوري بتصريحه هذا على هامش تسلّمه جائزة عن مجمل أعماله المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية.

ونال أدونيس جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس وتحمل اسم شاعر كتب باللغتين الكتالونية والإسبانية.