«أبو الفنون» وأبناؤه.. مشكلة أجيال أم سوء فهم للعروض الجديدة في الكويت؟

بين مؤيد لمصطلح أزمة المسرح ومعترض عليه

عرض مسرحي كويتي (أرشيف)
عرض مسرحي كويتي (أرشيف)
TT

«أبو الفنون» وأبناؤه.. مشكلة أجيال أم سوء فهم للعروض الجديدة في الكويت؟

عرض مسرحي كويتي (أرشيف)
عرض مسرحي كويتي (أرشيف)

مشكلة المسرح تحديدًا أن جدليته تشبه جدلية الآباء والأبناء، فغالبًا ما يكون هناك عدم رضا على سلوك الأبناء، وغالبًا ما يلمح الآباء بأن جيلهم كان الأفضل.
ربما أن السينما الجديدة تمكنت بأعمالها من مسح كثير من الأفلام القديمة من ذاكرة الجمهور، وكذلك الرواية والقصة والشعر، ولكن على العكس من ذلك، لم تتمكن كثير من الأعمال المسرحية الجديدة من إلغاء سطوة وحضور الأعمال القديمة.
مثلاً في الكويت، ما زالت أعمال مسرحية سابقة قدمت منذ تأسيس المسرح الكويتي في أوائل الستينات، راسخة تمد لسانها لكثير من الأعمال الجديدة التي لم يُتح لها أن تحتل الخشبة بالقوة ذاتها التي احتلها أعمال مثل «علي جناح التبريزي وتابعه قفة»، و«حفلة على الخازوق» و«قاضي إشبيلية» و«صقر قريش» و«على هامان يا فرعون».. وغيرها من الأعمال التي تراها الفنانة المخضرمة سعاد عبد الله في حديثها مع «الشرق الأوسط» بأنها من الأعمال التي لم تتكرر، بينما يخالفها الرأي المخرج المسرحي الدكتور حسين المسلم، الذي قال بأن المسرح ما زال بخير، وهناك أعمال مسرحية جديدة متميزة، و«أبو الفنون ليس بأزمة»، بل هي إشاعات صدقها الجمهور. ولكن الدكتور سليمان أرتي، الأستاذ المساعد في المعهد العالي للفنون المسرحية، لديه رؤية وسطية، فهو يحلل الأمر وفق معادلة مسرح النخبة ومسرج الجمهور ويدعو للجمع بينهما، ويشيد بدور المؤسسين، ويطالب الأجيال أن تكف عن البكاء على الماضي وتبدأ عملها.. وفيما يلي تفاصيل هذه الآراء.

* خلل اجتماعي لدى المتلقي
الفنانة سعاد عبد الله عاصرت الأجيال المسرحية منذ بدايتها وشاركت بقوة في ترسيخ الوعي الثقافي المنوط بدور المسرح، لذلك فهي متمسكة بأن المسرح في أزمة، وتقرنه بالأزمات التي أصابت الأمة العربية ومنها الأزمات السياسية، وتصر على أن المسرحيات السابقة كانت أفضل، وهي التي عددت لنا الأسماء التي استشهدنا بها في مقدمة هذا الموضوع، وجاءت بها كأمثلة للتحدي على أن المسرح كان ثقافيًا بامتياز ومحفزًا للوعي الاجتماعي، وتقول: «هناك اليوم خلل اجتماعي لدى المتلقي نفسه نتيجة ظروفه الحياتية التي يعيشها وسعيه لكسب قوت يومه». وتضيف: «هذه حالة لا تخص الكويت فقط. وتساءلت الفنانة سعاد عبد الله: أين المسرح القومي في مصر وأيضا أين المسرحيات السورية التي كانت تضج بها المهرجانات، وخصوصًا في مهرجان قرطاج». وترى أن حال المسرح العربي اليوم مثل حال الربيع العربي، نسمع به ولم نره.

* إشاعات صدقها الجمهور
لكن على العكس من ذلك، كان للمخرج الدكتور حسين المسلم رأي آخر، فهو يقول لـ«الشرق الأوسط»: «إن كلمة أزمة مسرح هي جملة فضفاضة، انتشرت ظلمًا، ويرجع انتشارها لأسباب كثيرة، وبرأيي العلمي والواقعي لا توجد أزمة». وحين سألناه عن الأسباب التي أدت لانتشار هذه العبارة، أجاب: «هذه العبارة ذكرت على لسان العاجزين عن إنجاز مسرح جديد وحقيقي، أو مسرح يساير التطورات الحديثة للمسرح، من مؤلفين ومخرجين، وعندما أقول المسرح، فإنني أقصد كل العروض التي تقدم على خشبة المسرح ولا أقصد نوعًا معينًا»، ويقسم الدكتور المسلم التقييم المسرحي إلى حقبتين فيقول: «كي يكون حكمنا علميًا وعمليًا، فنحن نحتاج إلى دراسة مقارنة للعروض التي قدمت في الستينات والسبعينات ولغاية عام 1985، ثم من هذا التاريخ وحتى يومنا الحالي، عندها سوف نعرف إن كان هناك أزمة أم لا، وسنجد أن المسرح تطور، وهناك آمال جيدة قدمت، مثل أعمال المخرج سليمان البسام»، ويأتي الدكتور المسلم بمثال آخر عن نفسه، فيقول بأن لديه مسرحية عنوانها «رسالة»، ترجمت للإنجليزية وعرضت في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأميركية، وحازت على إعجاب الجمهور وأبلغته أستاذة متخصصة بالدراما هناك بأنها سوف تدرسها ضمن منهج متخصص بالمسرح لطلبتها، ويضيف: «إذن لا يجوز إطلاق العبارة بهذه العمومية».
ويوجه الدكتور المسلم بوصلة الحديث نحو النقد المسرحي، فينفي وجود نقاد مسرحيين حقيقيين اليوم للعرض المسرحي، ويقول: «لا يوجد متتبعين جادين للفعل المسرحي أو الحركة المسرحية في الكويت، وحتى خارجها، فالنقاد الحقيقيون يبنون آراءهم على أسس علمية، بينما ما يكتب اليوم هو تصيد للأخطاء بغرض الإثارة الصحافية». ويطالب الدكتور المسلم بدعم حكومي للمسرح، وأيضا بدعم شعبي من قبل أعضاء مجلس الأمة، ويقول بأن المجلس طيلة سنواته لا يوجد في محاضره ما يخص وضع المسرح في الكويت.
أما الدكتور سليمان أرتي، الأستاذ المساعد في المعهد العالي للفنون المسرحية، فقد أمسك عصا الموضوع من الوسط، فيقول: «أعتقد أن الكويت تعيش حالة مشابهة لكثير من دول العالم مثل مصر وأميركا وأوروبا، فالظروف تكاد تكون متشابهة في أن إيقاع الحياة بدأ يتغير وأصبحت المعادلات التشكيلية والموضوعية يتجاوز دورها الإطار البصري والفكري».
لذلك - يضيف الدكتور أرتي - «دعني أبدأ من أوروبا دائما يتكلمون عن دور المسرح كمؤسسة ثقافية تتعايش مع واقعها الثقافي وتتفاعل معه وتتأثر فيه، لذلك كان البحث عن معادلات تشكيلية وبصرية عندها ابتداء من بداية المسرح المعاصر بعد الحرب العالمية الثانية كالمسرح العبثي والملحمي والسياسي ومسرح العلبة والتجريب».

* الجمع بين النخبوي والترفيهي
ويريد الدكتور أرتي تحقيق المعادلة بين المسرح النخبوي والتجاري أو الترفيهي، فيقول: «أعتقد بأن عملية الفصل بين الجانبين التجاري والثقافي هي عملية غير مدروسة، فإذا أردنا رواجا أكبر لمنتجنا الثقافي فيجب أن لا نقدم المسرح على أنه مسرح النخبة فقط، بل هو أداة تواصل جماهيرية بالدرجة الأولى»، ويرد ذلك إلى أن: «مشكلتنا في الوطن العربي بنيوية من النص إلى الجمهور لم نجتهد لإعطاء بديل ناجح ومؤثر ويصل إلى قلب الجماهير وإذا كان الاجتهاد بوجود مهرجانات فإن الأهم من المهرجان هو الفكر الذي يقدمه هذا المهرجان.. على كثرة الظروف التي مر بها الوطن العربي لم يستفد المسرحيون كثيرا منها».
ويؤكد الدكتور أرتي بأن هناك أزمة ليس لأننا لم نستطع التأقلم مع المسرح الحالي، بل فيما سوف نفعله بالمستقبل، لأن المعادلات البصرية تتطور، فهل نحافظ على المسرح بشكله الكلاسيكي أم ننجح بتحقيق التوليفة الذكية التي تجمع ما بين عمليات الإمتاع البصري والفكري وبين المضمون الفني الجاد.. كذلك فإن غياب رأس المال والتشجيع وغياب المسرح كمؤسسة ثقافية يكرس الأزمة، ويعتقد الدكتور أرتي بأن من الخطأ إلقاء اللوم دائما على الدولة، ويقول: «الأجدى هو تحقيق التواصل بين المسرح والمؤسسات الاقتصادية على غرار الدول المتقدمة لأن الدولة لا تصنع الفنان أو المفكر، بل المثقف هو الذي يصنع المجتمع، والدولة ليست هي البديل عن المثقف. انظر إلى الدول الأوروبية ليس للحكومات أي دور داعم للثقافة أو المسرح ماديا على الأقل ولكن هناك تواصل حقيقي موجود بين بنية المسرح كبنية ثقافية تتعايش مع واقعها السياسي والاجتماعي وبين المؤسسات الاقتصادية».
ويتساءل الدكتور أرتي: «هل مطلوب من المسرح كي لا يكون في أزمة أن يكون له دور تنوير أم يقتصر على الترفيه؟»، ويجيب: «برأيي أن يكون للمسرح الدور التنويري والجماهيري في آن واحد، فبريخت عندما عمل مسرحًا تنويرًا لم يكن مملاً فقدم الترفيه والسينما داخل المسرح وهناك اليوم تقنيات حديثة يمكن أن تعطيك بدائل حتى عن الديكور وغيره».

* أواخر الأعمال الجميلة
ويرى أرتي أيضا بأن أزمات المسرح الكويتي تكمن في النص وباعتقاده أن من آخر النصوص الجميلة التي تم تقديمها على المسرح هي مسرحية «دقت الساعة» و«مضارب بني نفط» وحامي الديار و«ضحية بيت العز» و«سيف العرب».
والأزمة أيضا هي على مستوى الإنتاج والمسارح الأهلية التي لا تتحرك بقوة، ويطالبها الدكتور أرتي بتقديم مشروع يقنعنا بجدوى المسرح ولا تكتفي بطلب الدعم من المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. ويقول: «المسارح الأهلية تحولت إلى ديوانيات، والرقابة ليست عائقا لأنها لم تقدم أعمالا ترقى إلى مستوى أن ترفضها الرقابة من الناحية السياسية.. الرقابة ترفض ما يخدش الحياء».
ويشيد الدكتور أرتي بدور المؤسسين ويقول عنهم: «أدوا ما عليهم وأوصلوا المسرح الكويتي إلى مستويات كبيرة والدور على الأجيال الجديدة. التي عليها أن لا تبكي على الماضي، بل أن تنطلق من مبدأ أن المسرح صناعة، وهو ما نفتقده».
ومن أبرز رواد الحركة المسرحية في الكويت بالإضافة لزكي طليمات، المخرج صقر الرشو، ومحمد النشمي، وعبد العزيز السريع، وسليمان الشطي، وفي التمثيل إبراهيم الصلال، ومريم الغضبان، وسعد الفرج، وعبد الحسين عبد الرضا، وآخرون.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!