«أبو الفنون» وأبناؤه.. مشكلة أجيال أم سوء فهم للعروض الجديدة في الكويت؟

بين مؤيد لمصطلح أزمة المسرح ومعترض عليه

عرض مسرحي كويتي (أرشيف)
عرض مسرحي كويتي (أرشيف)
TT

«أبو الفنون» وأبناؤه.. مشكلة أجيال أم سوء فهم للعروض الجديدة في الكويت؟

عرض مسرحي كويتي (أرشيف)
عرض مسرحي كويتي (أرشيف)

مشكلة المسرح تحديدًا أن جدليته تشبه جدلية الآباء والأبناء، فغالبًا ما يكون هناك عدم رضا على سلوك الأبناء، وغالبًا ما يلمح الآباء بأن جيلهم كان الأفضل.
ربما أن السينما الجديدة تمكنت بأعمالها من مسح كثير من الأفلام القديمة من ذاكرة الجمهور، وكذلك الرواية والقصة والشعر، ولكن على العكس من ذلك، لم تتمكن كثير من الأعمال المسرحية الجديدة من إلغاء سطوة وحضور الأعمال القديمة.
مثلاً في الكويت، ما زالت أعمال مسرحية سابقة قدمت منذ تأسيس المسرح الكويتي في أوائل الستينات، راسخة تمد لسانها لكثير من الأعمال الجديدة التي لم يُتح لها أن تحتل الخشبة بالقوة ذاتها التي احتلها أعمال مثل «علي جناح التبريزي وتابعه قفة»، و«حفلة على الخازوق» و«قاضي إشبيلية» و«صقر قريش» و«على هامان يا فرعون».. وغيرها من الأعمال التي تراها الفنانة المخضرمة سعاد عبد الله في حديثها مع «الشرق الأوسط» بأنها من الأعمال التي لم تتكرر، بينما يخالفها الرأي المخرج المسرحي الدكتور حسين المسلم، الذي قال بأن المسرح ما زال بخير، وهناك أعمال مسرحية جديدة متميزة، و«أبو الفنون ليس بأزمة»، بل هي إشاعات صدقها الجمهور. ولكن الدكتور سليمان أرتي، الأستاذ المساعد في المعهد العالي للفنون المسرحية، لديه رؤية وسطية، فهو يحلل الأمر وفق معادلة مسرح النخبة ومسرج الجمهور ويدعو للجمع بينهما، ويشيد بدور المؤسسين، ويطالب الأجيال أن تكف عن البكاء على الماضي وتبدأ عملها.. وفيما يلي تفاصيل هذه الآراء.

* خلل اجتماعي لدى المتلقي
الفنانة سعاد عبد الله عاصرت الأجيال المسرحية منذ بدايتها وشاركت بقوة في ترسيخ الوعي الثقافي المنوط بدور المسرح، لذلك فهي متمسكة بأن المسرح في أزمة، وتقرنه بالأزمات التي أصابت الأمة العربية ومنها الأزمات السياسية، وتصر على أن المسرحيات السابقة كانت أفضل، وهي التي عددت لنا الأسماء التي استشهدنا بها في مقدمة هذا الموضوع، وجاءت بها كأمثلة للتحدي على أن المسرح كان ثقافيًا بامتياز ومحفزًا للوعي الاجتماعي، وتقول: «هناك اليوم خلل اجتماعي لدى المتلقي نفسه نتيجة ظروفه الحياتية التي يعيشها وسعيه لكسب قوت يومه». وتضيف: «هذه حالة لا تخص الكويت فقط. وتساءلت الفنانة سعاد عبد الله: أين المسرح القومي في مصر وأيضا أين المسرحيات السورية التي كانت تضج بها المهرجانات، وخصوصًا في مهرجان قرطاج». وترى أن حال المسرح العربي اليوم مثل حال الربيع العربي، نسمع به ولم نره.

* إشاعات صدقها الجمهور
لكن على العكس من ذلك، كان للمخرج الدكتور حسين المسلم رأي آخر، فهو يقول لـ«الشرق الأوسط»: «إن كلمة أزمة مسرح هي جملة فضفاضة، انتشرت ظلمًا، ويرجع انتشارها لأسباب كثيرة، وبرأيي العلمي والواقعي لا توجد أزمة». وحين سألناه عن الأسباب التي أدت لانتشار هذه العبارة، أجاب: «هذه العبارة ذكرت على لسان العاجزين عن إنجاز مسرح جديد وحقيقي، أو مسرح يساير التطورات الحديثة للمسرح، من مؤلفين ومخرجين، وعندما أقول المسرح، فإنني أقصد كل العروض التي تقدم على خشبة المسرح ولا أقصد نوعًا معينًا»، ويقسم الدكتور المسلم التقييم المسرحي إلى حقبتين فيقول: «كي يكون حكمنا علميًا وعمليًا، فنحن نحتاج إلى دراسة مقارنة للعروض التي قدمت في الستينات والسبعينات ولغاية عام 1985، ثم من هذا التاريخ وحتى يومنا الحالي، عندها سوف نعرف إن كان هناك أزمة أم لا، وسنجد أن المسرح تطور، وهناك آمال جيدة قدمت، مثل أعمال المخرج سليمان البسام»، ويأتي الدكتور المسلم بمثال آخر عن نفسه، فيقول بأن لديه مسرحية عنوانها «رسالة»، ترجمت للإنجليزية وعرضت في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأميركية، وحازت على إعجاب الجمهور وأبلغته أستاذة متخصصة بالدراما هناك بأنها سوف تدرسها ضمن منهج متخصص بالمسرح لطلبتها، ويضيف: «إذن لا يجوز إطلاق العبارة بهذه العمومية».
ويوجه الدكتور المسلم بوصلة الحديث نحو النقد المسرحي، فينفي وجود نقاد مسرحيين حقيقيين اليوم للعرض المسرحي، ويقول: «لا يوجد متتبعين جادين للفعل المسرحي أو الحركة المسرحية في الكويت، وحتى خارجها، فالنقاد الحقيقيون يبنون آراءهم على أسس علمية، بينما ما يكتب اليوم هو تصيد للأخطاء بغرض الإثارة الصحافية». ويطالب الدكتور المسلم بدعم حكومي للمسرح، وأيضا بدعم شعبي من قبل أعضاء مجلس الأمة، ويقول بأن المجلس طيلة سنواته لا يوجد في محاضره ما يخص وضع المسرح في الكويت.
أما الدكتور سليمان أرتي، الأستاذ المساعد في المعهد العالي للفنون المسرحية، فقد أمسك عصا الموضوع من الوسط، فيقول: «أعتقد أن الكويت تعيش حالة مشابهة لكثير من دول العالم مثل مصر وأميركا وأوروبا، فالظروف تكاد تكون متشابهة في أن إيقاع الحياة بدأ يتغير وأصبحت المعادلات التشكيلية والموضوعية يتجاوز دورها الإطار البصري والفكري».
لذلك - يضيف الدكتور أرتي - «دعني أبدأ من أوروبا دائما يتكلمون عن دور المسرح كمؤسسة ثقافية تتعايش مع واقعها الثقافي وتتفاعل معه وتتأثر فيه، لذلك كان البحث عن معادلات تشكيلية وبصرية عندها ابتداء من بداية المسرح المعاصر بعد الحرب العالمية الثانية كالمسرح العبثي والملحمي والسياسي ومسرح العلبة والتجريب».

* الجمع بين النخبوي والترفيهي
ويريد الدكتور أرتي تحقيق المعادلة بين المسرح النخبوي والتجاري أو الترفيهي، فيقول: «أعتقد بأن عملية الفصل بين الجانبين التجاري والثقافي هي عملية غير مدروسة، فإذا أردنا رواجا أكبر لمنتجنا الثقافي فيجب أن لا نقدم المسرح على أنه مسرح النخبة فقط، بل هو أداة تواصل جماهيرية بالدرجة الأولى»، ويرد ذلك إلى أن: «مشكلتنا في الوطن العربي بنيوية من النص إلى الجمهور لم نجتهد لإعطاء بديل ناجح ومؤثر ويصل إلى قلب الجماهير وإذا كان الاجتهاد بوجود مهرجانات فإن الأهم من المهرجان هو الفكر الذي يقدمه هذا المهرجان.. على كثرة الظروف التي مر بها الوطن العربي لم يستفد المسرحيون كثيرا منها».
ويؤكد الدكتور أرتي بأن هناك أزمة ليس لأننا لم نستطع التأقلم مع المسرح الحالي، بل فيما سوف نفعله بالمستقبل، لأن المعادلات البصرية تتطور، فهل نحافظ على المسرح بشكله الكلاسيكي أم ننجح بتحقيق التوليفة الذكية التي تجمع ما بين عمليات الإمتاع البصري والفكري وبين المضمون الفني الجاد.. كذلك فإن غياب رأس المال والتشجيع وغياب المسرح كمؤسسة ثقافية يكرس الأزمة، ويعتقد الدكتور أرتي بأن من الخطأ إلقاء اللوم دائما على الدولة، ويقول: «الأجدى هو تحقيق التواصل بين المسرح والمؤسسات الاقتصادية على غرار الدول المتقدمة لأن الدولة لا تصنع الفنان أو المفكر، بل المثقف هو الذي يصنع المجتمع، والدولة ليست هي البديل عن المثقف. انظر إلى الدول الأوروبية ليس للحكومات أي دور داعم للثقافة أو المسرح ماديا على الأقل ولكن هناك تواصل حقيقي موجود بين بنية المسرح كبنية ثقافية تتعايش مع واقعها السياسي والاجتماعي وبين المؤسسات الاقتصادية».
ويتساءل الدكتور أرتي: «هل مطلوب من المسرح كي لا يكون في أزمة أن يكون له دور تنوير أم يقتصر على الترفيه؟»، ويجيب: «برأيي أن يكون للمسرح الدور التنويري والجماهيري في آن واحد، فبريخت عندما عمل مسرحًا تنويرًا لم يكن مملاً فقدم الترفيه والسينما داخل المسرح وهناك اليوم تقنيات حديثة يمكن أن تعطيك بدائل حتى عن الديكور وغيره».

* أواخر الأعمال الجميلة
ويرى أرتي أيضا بأن أزمات المسرح الكويتي تكمن في النص وباعتقاده أن من آخر النصوص الجميلة التي تم تقديمها على المسرح هي مسرحية «دقت الساعة» و«مضارب بني نفط» وحامي الديار و«ضحية بيت العز» و«سيف العرب».
والأزمة أيضا هي على مستوى الإنتاج والمسارح الأهلية التي لا تتحرك بقوة، ويطالبها الدكتور أرتي بتقديم مشروع يقنعنا بجدوى المسرح ولا تكتفي بطلب الدعم من المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. ويقول: «المسارح الأهلية تحولت إلى ديوانيات، والرقابة ليست عائقا لأنها لم تقدم أعمالا ترقى إلى مستوى أن ترفضها الرقابة من الناحية السياسية.. الرقابة ترفض ما يخدش الحياء».
ويشيد الدكتور أرتي بدور المؤسسين ويقول عنهم: «أدوا ما عليهم وأوصلوا المسرح الكويتي إلى مستويات كبيرة والدور على الأجيال الجديدة. التي عليها أن لا تبكي على الماضي، بل أن تنطلق من مبدأ أن المسرح صناعة، وهو ما نفتقده».
ومن أبرز رواد الحركة المسرحية في الكويت بالإضافة لزكي طليمات، المخرج صقر الرشو، ومحمد النشمي، وعبد العزيز السريع، وسليمان الشطي، وفي التمثيل إبراهيم الصلال، ومريم الغضبان، وسعد الفرج، وعبد الحسين عبد الرضا، وآخرون.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.