«ليلتنا من ليالي العمر، النجمات بترقص فيها... ليلتنا لطلوع الفجر، مندبكها ومنغنيها»، بهذه الأغنية البهيجة والبديعة للكبير زكي ناصيف، افتتح غي مانوكيان حفله في «مهرجانات بيت الدين»، مساء أول من أمس (السبت)، معلناً أنه آتٍ إلى هنا بمهمة واحدة هي بث الفرح في قلوب من زحفوا بالآلاف للقائه، في قصر الأمير بشير التاريخي الذي بدا أسطورياً، بفضل إضاءة غاية في الإتقان، أضفت على ساحة «السلاملك» الداخلية، ألقاً خاصاً.
وبالفعل، لم يدّخر مانوكيان جهداً إلا وبذله، ليجعل من ساعة ونصف قضاهما على المسرح، تعويضاً فنياً مستحقاً عن آلام عامين من النكسات، لأناس جاءوه من كل لبنان ومن الدول العربية أيضاً من الأردن وسوريا والعراق، وعزف لهم من التراث العراقي والمصري، وشارك في الغناء والرقص.
هذا الموسيقي الذي يجعل البيانو شرقياً رغماً عنه، حين يعزف عليه، والأغنيات دائماً منتعشة حين يوزعها، تمكن من إجبار آلاف الحاضرين، على الانخراط فيما يشبه العرس اللبناني، أسهم الحاضرون جميعاً، في إحيائه، رقصاً وغناء، وتصفيقاً، ودبكاً.
لم يتوقف غي مانوكيان عن مخاطبة جمهوره (لجنة مهرجانات بيت الدين)
ترافقه فرقته الموسيقية التي يلازمه غالبية أعضائها من أكثر من عشرين سنة، وثمانية من المغنين، بما يشبه كورس صغير، أحيا غي مانوكيان حفلاً، تناسلت فيه المعزفات والأغنيات دون استراحة، ورافقه الجمهور بلا كلل وكأنما هو جزء من الكورس المرافق.
اختيرت المقطوعات، بطريقة تبقي على زخم الروح الاحتفالية التي أريدت من الحفل. بعد «ليلتنا من ليالي العمر»، تناسللت الأغنيات: «طلوا حبابنا طلوا»، و«نقيلي أحلى زهرة»، و«حلوة يا بلدي»، و«بحبك إنت وجاية»، و«سلم عليها يا هوا»، و«ما لي شغل في السوق» من الفولكلور العراقي، التي رددها الحضور بحماسة، تؤكد أن الأغنيات العربية الجميلة، تسافر كالنسمات بين البلدان الناطقة بالضاد.
تحدّث مانوكيان، عن فرحه بالعودة لإحياء حفلات في لبنان لمرة جديدة، وبعد غياب. قال إنه يعزف في هذا القصر للمرة الثالثة، وفي كل مرة، يكون ذلك في موقع مختلف؛ عام 2006 كان ذاك تحية لزكي ناصيف الذي استعاده في هذه الأمسية أكثر من مرة أيضاً، وسط حبور الحاضرين. لبناني مانوكيان حتى النخاع، لكنه أرمني أيضاً. «يصبح الإنسان لبنانياً بشكل أفضل حين تكون جذوره أرمنية، لأنه يعرف جيداً معنى أن تفقد أرضك»، قال الفنان الذي لم يتوقف عن مخاطبة الجمهور. موسيقى «الرقص الأرمني» الفرحة التي تستدعي فعلاً الانخراط جسدياً تفاعلاً معها، تعرفنا إليها بفضل أرتور العازف القادم من أرمينيا، بآلة نفخ «ترومبت» يختلط بصوتها الفرح والحزن معاً.
«قمرة يا قمرة»، موسيقى «ألف ليلة وليلة» لأم كلثوم، تردد صداها في سماء بيت الدين، «موعدنا أرضك يا بلدنا». خلطة فنية موسيقية، حضرت فيها أسماء كبيرة، بينهم ماجدة الرومي، وداليدا، وفيروز، وكارول سماحة، التي ردد الحاضرون مع الكورس أغنيتها الجميلة «واحشاني الدنيا يا بلدي». ومن ألبومه الجديد عزف مانوكيان وللمرة الأولى «تمادا» التي تعني بالأرمنية الأخ الكبير الذي يهبّ لنجدة الأخوة الآخرين. هو المرجع والملجأ والحضن الحامي، الذي أراد أن يستذكره مانوكيان في هذه الليلة، لأن لبنان في محنته بحاجة لـ«تمادا»، كما قال.
«عالعين موليتين» مع قرع الطبل، وفرقة مانوكيان التي تحتل الآلات الإيقاعية فيها موقعها الرئيس، انخرط الحضور في حالة رقص عارم بما في ذلك الكورس الذي ترك موقعه أمام الميكروفونات، ليؤدي وصلة دبكة صغيرة، تحمّس الجمهور أكثر، وإن كانت جرعات الحبور والانشراح، بقيت عالية من أول الحفل إلى آخره.
لكن الجزء الأخير من الحفل، حين نزل ضارب الإيقاع بطبلته الكبيرة وجال بين الحاضرين، كان ثمة ما نقل نقطة الارتكاز من المسرح إلى حيث يجلس الجمهور، وقد أصبح واقفاً وراقصاً، ومنتشياً، صارخاً، مجوداً الأداء، كي تخرج الأغنيات من أفواه الحاضرين متناسقة منسجمة مع الموسيقى.
جانب من حفل مانوكيان في «بيت الدين» (لجنة مهرجانات بيت الدين)
«عندك بحرية يا ريس» ثم جن الحضور مع «راجع، راجع يتعمر راجع لبنان»، وقبلها كانت «بتونس بيك» لوردة، لحظة انسجام مع الجمهور لا تضاهى.
قبل أن ينتهي الحفل، طلب مانوكيان من الحاضرين أن يغنوا، ويحملوا عنه إحياء جزء من الحفل. عزف «نسم علينا الهوا»، تعالت الأصوات من الحناجر. تحولت هذه الأغنية إلى ما يشبه النشيد الجميل الذي يتشاركه الحضور، بصوت واحد، ونفس واحد.
أمام جمهور جاء متحفزاً للمشاركة والانشراح، عزف مانوكيان على البيانو، جالساً كما هو معتاد، واقفاً، وهو يقفز، حمّس الجمهور، أدار الكورس، والفرقة الموسيقية، معاً.
مبهر كان الحفل، سواء لعفوية مانوكيان الذي قرر أن تكون مشاركته مجانية، أو لجنة المهرجانات التي جعلت كل حفلاتها هذه السنة مجانية، أو الجمهور الذي لم يرَ من حواجز أو موانع ليكون جزءاً من المشاركة الفنية مع من هم على المسرح. ذابت المسافات في باحة الحرملك، واختلطت العناصر بفعل كيمياء الحزن الدفين، والأسى العميق. للحظة، تناسى الجميع كل شيء، وأطلقوا رغبتهم في معانقة الأمل والبهجة، والاستسلام للحلم.
برفقة غي مانوكيان وفرقته، كان كل ذلك ممكناً، وجميلاً وممتعاً، في وقت واحد. علماً بأن حفلاً آخر لهذه الموسيقي الحيوية التي أراد أن يجعل من آلة غربية أداة للتعبير عن روح الشرق، أقيم مساء الأحد أيضاً، ليسدل الستار على برنامج «مهرجانات بيت الدين» المقتضب هذه السنة، على أمل سنة مقبلة خصبة.