الأرمن.. تأثيرهم وبصماتهم على المشرق العربي

تحكّموا بمصير الدولة الفاطمية وتولّى 8 منهم الوزارة.. وانتفعوا من الصفويين وحظوا برعاية بريطانية في العراق العثماني (2-2)

جامع الحاكم بأمر الله
جامع الحاكم بأمر الله
TT

الأرمن.. تأثيرهم وبصماتهم على المشرق العربي

جامع الحاكم بأمر الله
جامع الحاكم بأمر الله

في الحلقة الثانية من بحثنا في تاريخ الأرمن في العالم الإسلامي نتعرض للعلاقة مع مصر الفاطمية والمملوكية، وكذلك جوانب من تاريخ توطّنهم في العراق ومنطقة الخليج وإيران. ومما يلفت الدور السياسي الذي لعبه الأرمن الذين اعتنقوا الإسلام في كل من الدولتين الفاطمية في مصر والصفوية في إيران، ناهيك من بروزهم الإداري والتجاري والحرفي.

قد يبدو عنوان العلاقة مع الدولة الفاطمية لأول وهلة غريبا، لأن قلة نادرة من القراء ربما تعرف هذا الجانب من تأثير الأرمن في الكيانات السياسية التي قامت في العالمين العربي والإسلامي في العصر الوسيط، غير أنها حقيقة ذكرتها المصادر التاريخية، لا سيما في القرن الأخير من الحكم الفاطمي بين عامي 1074 و1163م.
هذه كانت حقبة عابرة لاتفاق دائم بين الأرمن الطائفيين المتعصبّين والمسلمين، نوقشت بمحتواها الشامل كظاهرة لما عُرف بـ«الفاطميين الأرمن»، وتُعدّ جزءًا من تيار تاريخي بدأ قبل رسوخ المسيحية في «أرمينيا الكبرى» بشرق هضبة الأناضول و«أرمينيا الأخيرة» في كيليكيا بغرب الأناضول وسواحل المتوسط خلال القرن الثالث الميلادي. ومنذ القرن الرابع وحتى القرن الخامس عشر شكّلت النزاعات والحركات مرحلة سياسية وثقافية كانت بعمومياتها مذاهب دينية اتخذت لها قرارات سياسية، وكثيرا ما كانت معاكسة للكنيسة الأرمنية في منظورها الشامل.
لكن جزءا من التاريخ الثقافي الأرمني خلال العصور الوسطى ظلّ مرتبطا بجذور شرق أوسطية، وتحديدا، بالمناخ الإسلامي، إلا أن المؤرخين الأرمن تجاهلوا هذا الارتباط واعتبروه مجرّد شوارد لا يُعتدّ بها، وغاب عن بالهم أنه الحلقة المفقودة للتاريخ الإسلامي الأرمني.
وهنا نشير إلى أن وثائق كتبها «الإسماني» هوفهان الأرضرومي (توفي عام 1293م) - والإسمانية (Nominalism) مذهب فلسفي يقول بأن المفاهيم المجرّدة لا وجود حقيقيا لها بل هي مجرد أسماء لا غير - تُعدّ خلاصة لأفكار ظهرت خلال القرن العاشر الميلادي هي «رسائل إخوان الصفاء»، أطلق عليها اسم «رؤية من كتابات المسلمين ومفكّريهم». وممّا قاله هوفهان «لمن يطلب المعرفة من الأرمن ألا يهمل ما يكتبه الأقوام الآخرون»، قاصدا المسلمين ومفكّريهم. كذلك لوحظ أنه كان يكتب عن تضامن شباب الأرمن بالأسلوب نفسه الذي كان الخليفة العباسي الناصر (1180 – 1225) يكتب به أفكاره عن «تشكيلات الفتوة» في بغداد التي لعب المفكّرون الإسماعيليون دورًا مهمًا في بعثها، وبالتالي، اعتُبرت كتابات هوفهان أول اتصال فكري بين الأرمن والمسلمين خلال العصور الوسطى.
أما كتُب «الإسماني» الآخر، كريكور التاتفي (1346 - 1409)، في الأدب الجدلي، فكانت تخاطب متكلّمي الفارسية من غُلاة المسلمين الشيعة، الذين كانوا مثل الأرمن المتعصبّين المعروفين منذ القرن الرابع. وعرض فيها سبعة قرون من التحالف العسكري والسياسي بين مسلمي تلك الأصقاع والأرمن، ومن ثم تهجير الأرمن إلى نواحٍ مختلفة من الإمبراطورية البيزنطية مثل قبرص وصقلية وصولا إلى بولندا، ما جعل غالبيتهم تعتنق الإسلام. ومن هذه الفئة جاء عدد من الوزراء الفاطميين من ذوي الأصول الأرمنية. وهنا ينبغي تذكّر أن التأثير الإسلامي أخذ ينمو ويحظى بقبول جماعي خلال فترة السيطرة الإسلامية على أرمينيا لمدة تقارب القرنين بعد موجة الفتوحات الإسلامية الأولى. ومن ثم انخرطت في النشاط العسكري مجموعات من المكوّن الأرمني، الذي كانت تغلب عليه حياة الزراعة والرّعي، ونمّت لديه المهارات القتالية والعسكرية، وقاتل بعض الأرمن غير المتعصبّين المعروفين بـ«الأرمن الشمسية» في بلاد الشام بالفعل ضد «الفرنجة» (أو الصليبيين) في الحملات الصليبية.
ولاحقا ازدادت هجرة الأرمن إلى بلاد الشام ومصر، ووفق المصادر الأرمنية فاقت أعداهم المائة ألف. وفي مصر بالذات بدأ نشاطهم نحو منتصف القرن الـ11 الميلادي انطلاقا من بروز دورهم في الجيوش الفاطمية، وتألف منهم ما سمي بـ«الجيوشية»، ثم تدرّجوا إلى حكم الولايات، ووصولا إلى التوزير، مع تعيين «أبي النجم» بدر الجمالي أول وزير أرمني مسلم عام 1074م.
لا بد لنا هنا من التوسّع في شرح هذه الفترة الأرمنية في مصر الفاطمية وما واكبها من أحداث أدت إلى بروزهم نتيجة النزاعات المستمرة بين الأتراك والبربر والأفارقة المنضوين في الجيوش الفاطمية، والتي أدت إلى أزمات شلّت مفاصل الحكم نتيجة المجاعة، فشارف الحكم على الانهيار، وبلغت أسوأ مراحلها إبان حكم الخليفة الفاطمي المستنصر بالله الذي امتد نحو 60 سنة.

بدر الجمالي

بدأت مسيرة بدر الجمالي صعودا مع تعيينه حاكما لدمشق عام 1063م (455هـ). وكان حقا من ألمع القادة العسكريين وأكثرهم حنكة وأقدرهم إدارة، وأثبت قدراته الاستثنائية عند توليه قيادة العسكر في عكا بفلسطين إبان فترة الصدامات مع السلاجقة الأتراك والطوائف المحلية المتمردة على الحكم الفاطمي الإسماعيلي. ونجح القائد اللامع في فرض الاستقرار على السواحل بين الشام ومصر، فاستنجد به الخليفة المستنصر عام 1073م. وحين عاد بدر إلى القاهرة رأى أن يكون على رأس أولوياته النظر في الشؤون الاقتصادية وتحسين أوضاعها والخروج من الضائقة المالية المطبقة على الدولة، والقضاء على محنة المجاعة، وبعدها إنقاذ البلاد من خطر السلاجقة ومنعهم من مهاجمة مصر نهائيا.
وحقق بدر الجمالي ما هدف إليه، وقضى على الخطر السلجوقي، فأطال عمر الحكم الفاطمي 100 سنة إضافية. وعندما توفي عام 1094م ترك للمستنصر حكما راسخا وقويا، وجاء شكره والامتنان له بما فاق المتوقّع إذ تزوّج المستنصر ابنته، وأعطيت الوزارة لابنه الأفضل من بعده. ومشى الأفضل على سيرة أبيه فشكّل معه عمليا «حكم الأرمن» الذي استمر نحو قرن.
وربما يلاحظ المتابع أن إخلاص الأرمن المسلمين لخلافة الفاطميين الإسماعيليين، على الخصوص، راجع لاحتمالين أساسيين:
الأول: العلاقات الوطيدة التي أرساها الداعية الإسماعيلي أبو حاتم الرازي (ت 932م)، الذي زار أرمينيا وتقرّب من أحبار الكنيسة الأرمنية وكان على معرفة وافية بمذاهبها واتجاهاتها، مما عزّز التقارب بين الفئتين.
والثاني: زواج الخليفة المستنصر من ابنة بدر الجمالي، الذي أثمر عن إنجاب ولده أحمد (الخليفة المستعلي بالله لاحقا) الذي كان الوزير الأفضل بن بدر خاله.
المستنصر، ثامن الخلفاء الفاطميين والإمام الثامن عشر للإسماعيليين، توفي بعد فترة وجيزة من وفاة بدر عام 1094م، مخلّفا أربعة أبناء هم: نزار وعبد الله وإسماعيل وأحمد. وعند وفاة المستنصر طالب الوزير الأفضل نزار – وكان في الخمسين من عمره حينئذٍ – بإبراز «النص» المكتوب لتوليته (وهذا مبدأ جعله الإمام جعفر الصادق شرطاً لانتقال الإمامة).
لكن نزار أخفق في ذلك وفرّ إلى الإسكندرية واستعان بمريديه، ومنهم حسن الصبّاح، الذي ادعى أن المستنصر كان قد أخبره شفاهةً حين كان في القاهرة عام 1086م بأحقّيّة نزار بالخلافة. غير أن الأفضل بن بدر بما لديه من سطوة ونفوذ أسند الخلافة إلى ابن أخته أحمد الذي سرعان ما حكم باسم المستعلي بالله – كما سبقت الإشارة – وكان له من العمر يومذاك 18 سنة. ثم هاجم الأفضل نزار ومناصريه، وبعد أسره جلبه إلى القاهرة وسجنه حتى مات في السجن (وفق رواية أتباع المستعلي).
وقع عند هذا المفصل الانشقاق الكبير في المذهب الإسماعيلي بين النزارية (يعرفون في الهند بـ«الخوجا»، وفي باقي العالم بـ«الآغاخانية») والمستعلية (الذين انقسموا إلى فرقتين هما «الحافظية» و«الطيبية» – «البهرة» في الهند – وهؤلاء بقوا ملتزمين النهج الفاطمي)، وظهور حركة الحشّاشين (Assassins) بزعامة حسن الصبّاح، ذي الأصول الحميرية اليمنية، في جبال شمال إيران - وهذا موضوع يطول شرحه.
لكن ما يمكن قوله هنا هو أن فترة توزير الأرمن المسلمين بدأت مع بدر الجمالي عام 1073م، وانتهت بعد مقتل ابن رزق (رزيق) آخر وزير أرمني ، عام 1163م. وتولّى خلالها ثمانية وزراء منهم. وللعلم، امتد العهد الفاطمي 262 سنة تولّى الخلافة خلالها 14 خليفة، حتى أفول نجمها عام 1171م، وتسلُّم الأيوبيين السلطة وإعادة صلاح الدين الأيوبي المذهب السنّي إلى مصر.

الأرمن والدولة الصفوية – إيران

لعب الشاه عباس (أعظم شاهات الصفويين) دورا كبيرا في توطين الأرمن في إيران عند نهاية القرن السادس عشر الميلادي ومطلع القرن السابع عشر – وتحديدا عام 1605م – وذلك إبان حروبه المستمرة ضد العثمانيين. وكان العثمانيون نتيجة إنهاكهم في حروب البلقان واجهوا موجة من الثورات والانتفاضات داخل دولتهم، سببها ضيق الناس من استمرار الحروب والتجنيد الإجباري والضرائب الباهظة المفروضة عليهم. ومنحت تلك الفترة الحرجة بين 1596 و1608م فرصة ذهبية استغلها الشاه عباس لنسف اتفاقيات السلام المعقودة بين الفريقين، عازيا ذلك إلى فقدان الأمان وتكرار تعديّات ولاة المناطق الحدودية على أراضي دولته.
استغل الشاه عباس تلك الظروف، وإن بدا لبعض الوقت وكأنه غير مكترث بما يحدث في الشمال مركزا جهوده جنوبا في التصدي للتوسع البرتغالي في الخليج. غير أنه سرعان ما باغت العثمانيين بالمسير شمالا نحو مدينة قزوين (العاصمة القديمة)، ثم احتلال اردبيل وتبريز. ومن هناك عبر بجيشه نهر آراس (آراكس) متوغّلا في أرض أرمينيا، حيث استسلمت مدنها له دون مقاومة، حتى غدا على مشارف العاصمة الأرمنية إريفان (يريفان). ولقد رافق الشاه الصفوي في زحفه هذا ممثل لإمبراطور النمسا رودولف الثاني الذي استقبله الأرمن بحرارة كونه – يومذاك - ممثل أقوى دولة مسيحية في أوروبا، وكانت تقاوم التوسّع العثماني في العالم المسيحي. ونظم الأرمن احتفالا مشهودا للجيش الصفوي حين دخل مدينة جلفا، التي كانت لتجّارها مصالح واسعة مع إيران.
وعلى صعيد تلك المعارك، استسلمت الحامية العثمانية في إريفان للصفويين طوعا بعد محاصرتها العاصمة الأرمنية، وتلقى الشاه الصفوي تهاني الإمبراطور أكبر، إمبراطور الهند المغولي. وكنتيجة للتوسع الصفوي بدأت الإمبراطوريات والممالك الأوروبية ترسل سفراءها إلى الشاه عباس، وكانت الغاية أن تتضامن كلها للانقضاض على العثمانيين الذين كانوا يقلقون أوروبا المسيحية. وفي المقابل، جرّد العثمانيون حملة عسكرية لصدّ تقدم جيش الشاه عباس قادها القائد (والصدر الأعظم لاحقا) سنان باشا.
وهنا، قرّر الشاه عباس الانسحاب، وطلب ذلك أيضا من الأرمن في إريفان ونخجوان وجلفا، وناشدهم ألا يتركوا أي مؤن أو طعام للجيش العثماني المتقدم، وبلغت أعداد الأرمن المنسحبين مع القوات الصفوية عبر نهر آراس نحو 60 ألف عائلة. حظي أرمن جلفا لذلك بمعاملة مُميزة من الشاه، فباتوا وسطاءه المفضّلين في توسيع تجارة الحرير الخام إلى أوروبا. وكان هذا الحرير يرسل إلى أسواق أوروبا عبر حلب مقابل عملات فضية، كما كان يرسل وفودا منهم إلى البندقية بإيطاليا للقيام بالمهمة نفسها، خصوصا أن الشاه عباس نفسه كان من أكبر المتاجرين بالحرير الخام، بل كان عمليا يحتكر تجارته في كل البلاد.
بناءً على ما سلف، تجدر الإشارة إلى تولّي الأرمن الوزارة حين ساءت الأحوال السياسية والاقتصادية في دولة الصفويين في أعقاب وفاة الشاه عباس، كما حصل لهم من قبل مع الفاطميين. إذ جرى توزير خليفة سلطان عام 1654م، وبعد وفاته خلفه محمد بك وهو مثل سلفه من الأرمن المسيحيين الذين تحوّلوا إلى الإسلام. ويمكن اعتبار عام 1605م بدء تاريخ استقرار الأرمن في إيران، ومن ثم ازداد تدفقهم، ومنها انتشروا لاحقا في عدد من الأقطار العربية بعد سقوط الدولة الصفوية عام 1722م التي كانت تحميهم.

الأرمن في العراق إبان الحكم العثماني

لعبت الأقلية الأرمنية دورًا مهمًا وكبيرًا في العراق، وتحديدًا في القطاع التجاري، منذ بداية القرن الميلادي السابع عشر مستفيدة من سياسة الصفويين وحمايتهم، وكانت تلك السياسة تقوم على تنشيط الحركة التجارية اعتمادًا على الأقليات الإثنية. وبالإضافة إلى الأرمن استفاد أيضا من هذا المناخ التجار اليهود والهنود (البانيان). وكانت الدولة الصفوية قد جعلت من عاصمتها أصفهان مركزا تجاريا رئيسيا لجذب المصالح الأوروبية في منافسة مباشرة مع النفوذ العثماني الذي كان يغطي العراق، ونجحت في التحالف مع بريطانيا بشل التوسع البرتغالي في الخليج والقضاء عليه نهائيا عام 1622م. وهنا من المفيد الإشارة إلى أنه إبان فترة الاحتلال الصفوي لبغداد تولى حكم المدينة ضابط من أصل أرمني هو بكداش باشا (1630 – 1635م). غير أن غروب شمس الصفويين عام 1722م حمل معه فقدان الأرمن الرعاية القوية التي حظوا بها نحو قرن من الزمن، لكنهم مع ذلك حافظوا قدر الإمكان على مكانتهم المالية والتجارية المهمة، وظل وضعهم طيبا قرنا آخر، أي طوال القرن التاسع عشر.
وتقرّ جميع المصادر بأن التجار الأرمن الذين استقروا في مدينة البصرة كانوا يسيطرون على معظم التجارة مع الهند، إذ تذكر تقارير وكالة الهند الشرقية البريطانية عام 1729م أنهم كانوا وراء عمليات الاستيراد من البنغال، وهو ما تثبته سجلات (Manifests) السفن البريطانية العاملة على خطوط الهند وموانئ الخليج. كذلك فإن السفن المغادرة من البصرة إلى سَورَت (Surat) كانت تحمل إرساليات من اللؤلؤ لحساب تجار أرمن. وكانت البصرة حينذاك مركزا رئيسيا لتجارة اللؤلؤ حتى إن اللؤلؤ في الهند كان ينسب إليها فيقال باللغة الهندية «موتي بصرة» أي لؤلؤ بصري. ثم إن السجلات نفسها تشير إلى تردد التجار الأرمن على الهند طوال القرن، وكذلك إلى العلاقات مع التجار الأرمن في حلب بشمال سوريا. والجدير بالذكر أن خط القوافل الذي يربط أوروبا والهند وشرق آسيا عبر البحر الأبيض المتوسط كان يمرّ بحلب ثم البصرة، ومنها إلى الهند فالشرق الأقصى.
أيضا، كانت المشاركات العائلية بين طوائف التجار البصريين تضع التجار الأرمن خلال السنوات الممتدة طوال القرن في المرتبة الثانية، بإحدى عشرة مشاركة، مباشرة خلف المسلمين العرب (16 مشاركة)، متقدمين على التجار الفرس بالمرتبة الثالثة (9 مشاركات). أما التجار اليهود فجاءوا في المرتبة الرابعة (5 مشاركات). وكان التنافس التجاري الأشد بين الأرمن واليهود.
ومعلوم أنه لا بد لطبقة التجار، من جميع الأطياف، من التمتّع بدعم الحكومات أو المؤسسات الضخمة لأسباب عرقية أو دينية أو طائفية. وفي هذا السياق نتوقف عند الروابط القوية التي قامت بين البريطانيين والأرمن. وكان يُعتقَد منذ القرن السابع عشر أن التجار الأرمن كانوا يشكلون عوائق أمام التجار الأوروبيين تمنعهم من التغلغل في الأسواق المحلية، فكانت منافستهم حادة إلى درجة العرقلة للتجار البريطانيين والهولنديين في مدن الإقليم وموانئها. ولغاية عام 1724م كان الوكيل البريطاني في البصرة يشكو من مزاحمة الأرمن التي «تصل إلى حد الضرر وفي كل مناسبة».
إلا أن التنافس تحوّل إلى تعاون وتوافق، خاصّة بعدما فقد الأرمن دعم الصفويين ورعايتهم، وهكذا تحوّلوا لتعويض سندهم السابق بصداقة البريطانيين ورعايتهم وحمايتهم. وحقا، كان البريطانيون راغبين في لعب هذا الدور، وكانوا يبرّرون ذلك بأنه يستحيل وجود تجارة مُربحة لبلد ما من دون مساندة من التجار المحليين. كما أن من عوامل نجاح هذه العلاقة إجادة اللغة وتحديد أو تنظيم مهمة الوكيل وهذا ما توافر للبريطانيين مع الأرمن.
وفي المقابل، أثبت البريطانيون القدرة على تأمين الحماية المطلوبة بامتياز عندما سُجن تاجر أرمني عام 1754م على أثر شرائه عبدا مسلما، وتمكّن الوكيل من إطلاق سراحه، وكانت تلك أول محاولة أثبتت فعليا مجال التعاون. وفي نهاية القرن أصبح كل التجار الأرمن محصّنين بالرعاية، بل والحماية، البريطانية وكأنهم جزء من الوكالة البريطانية.
أدى هذا الوضع الجديد إلى تفاقم الخلافات بين التجار الأرمن ومنافسيهم اليهود، والتي بلغت مداها الأقصى عام 1791م عندما عُثر على جثة تاجر يهودي مرمية قرب مكبّ للفضلات خارج حدود مدينة البصرة. ويومذاك اتهم اليهود رجلا أرمنيا بجريمة القتل، وعلّلوها بالكراهية الدينية المزمنة بين المسيحيين واليهود، وتجمّع مئات من اليهود أمام مقر المتسلّم مطالبين بقصاص القاتل. وبالفعل، أمر المتسلّم باعتقال عدد من الأرمن، إلا أنه عندما تناهى النبأ إلى أسماع الوكيل البريطاني قابل المتسلّم وأعلمه بأن الأرمن تحت حماية بريطانيا. وبعدها تعقّدت الأمور وانتقلت الشكوى إلى سليمان باشا، الوالي العثماني في بغداد، الذي أخذ جانب اليهود. وكانت النتيجة انسحاب الوكالة البريطانية وإغلاقها أعمالها وانتقالها إلى الكويت، وكان ذلك يوم 30 أبريل (نيسان) 1793م، وبقيت في الكويت لمدة سنتين.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الأرمن كانوا في تلك الفترة يشكلون غالبية المسيحيين في البصرة، غير أن نسبتهم تناقصت بفعل تزايد هجرات الكلدان (النساطرة الكاثوليك) خلال القرن التاسع عشر من بغداد وحلب، ثم هجرات الآثوريين (النساطرة الأرثوذكس) من محيط الموصل، للعمل أساسا على البواخر النهرية العاملة بين بغداد والبصرة، إضافة إلى السريان (اليعاقبة) الكاثوليك وبنسبة أقل السريان الأرثوذكس. ومجدّدا، ازدادت أعداد الأرمن بعد ما وصف بالمذابح الأرمنية بين 1911 و1917م. واستقرّ اللاجئون الأرمن في مدنٍ من خيام أقامتها لهم السلطات البريطانية بعد احتلال البصرة في نوفمبر (تشرين الثاني) 1914، إلا أن اللاجئين نقلوا لاحقا إلى مساكن خاصة بهم في ما عُرف بـ«كامب أرمن» (معسكر الأرمن)، بقيت من دون تغيير حتى ستينات القرن العشرين. وكان الأرمن يشكلون قوة عاملة من الكتبة وذوي المهارات الحرفية العالية عملت في شؤون الموانئ وشركات النفط وغيرها.

الأرمن والخليج

عموما لم يكن للأرمن شأن يذكر أو وجود مؤثر، بل كانت هناك مبادرات فردية وشذرات فردية، منها ما يلي:
في الكويت، كانت المقابلات بين الشيخ مبارك (الكبير) الصباح وقباطنة السفن الروسية تجري باللغة الفرنسية. وذكر قبطان المدمرة «أسكولد» (Askold) عند زيارته الكويت يوم 9 نوفمبر 1902م أن المترجم كان رجلا أرمنيا يعمل وكيلا لشركة بواخر في الكويت، ويسكن في بيت الشيخ مبارك، مما يعني أن الأرمن كانوا من القلة التي تجيد اللغات الأوروبية. وتذكر السجلاّت البريطانية أن أفرادا أرمن عملوا في تجارة التبغ وموظفين في شركات الملاحة الأجنبية.
وفي البحرين، كانت لعبد النبي آغا جعفر كازروني تجارة ناشطة، وكان على علاقة وثيقة بتجار أرمن في البصرة بينهم كاربيبيان ودرفيشيان، وفي جلفا الجديدة بأصفهان كذلك.
أما في بوشهر، بجنوب غربي إيران، فاشتهرت عائلة مالكام (مالكولم) التي كانت لها علاقات قديمة أولا في بندر عباس إبان حكم الصفويين، ثم لاحقا في بوشهر. وبرز من هذه العائلة جيمس آرتون (وارطان) مالكولم (1888 – 1952م) الذي درس في جامعة أكسفورد البريطانية العريقة وقبلها في مدرسة خاصة راقية تحت رعاية السير ألبرت ساسون من مؤسسي البنك الشرقي، وكان صديقا للسير مارك سايكس أحد «مهندسي» اتفاقية «سايكس – بيكو»، وكان ممثلا للمنظمة الأرمنية العالمية في لندن. ويذكر أن بعض التجار من بقايا فترة الصفويين استقروا في بوشهر تحت الحماية البريطانية عندما كانت مقرّ المقيمية السياسية للمعتمدين البريطانيين في الخليج.

مقتطفات عن الأرمن من «كتاب الظاهر بيبرس» ـ مصر

> إبان عهد السلطان المملوكي الظاهر بيبرس في مصر والشام، كانت تقوم ممالك مسيحية مجاورة منها في كيليكيا، بجنوب الأناضول، منها مملكة أرمينيا المتأخرة (1223 - 1280) التي توّج أول ملوكها الإمبراطور فريديريك الأول بارباروسا ملك ألمانيا عام 1198، وكان لعائلتها المالكة مصاهرة مع أمراء أنطاكية Antioch. ولقد قامت هذه المملكة بموازاة ممالكة الفرنجة (الصليبية) في شرق المتوسط وزالت بزوالها.
ومن ثَم، غدت كيليكيا حاضنة للدولة السلجوقية المسلمة في منتصف القرن الميلادي الثالث عشر، التي توسّعت لاحقًا لتشمل كل بلاد الأناضول، وكان السلطان ملك شاه من أبرز سلاطينها، وفي عهده غدت دولة مترامية الأطراف ضمت العراق وإيران، وبلغت من القوة حد إلحاق جيشها الهزيمة بجيش الإمبراطور رومانوس السادس.
بعدها احتلّ المغول أرمينيا عام 1232 في زحفهم الكبير الذي قوّض الدولة العباسية في بغداد يوم 10 فبراير (شباط) 1258. وكان الملك هيثوم الأول (ملك أرمينيا الصغرى 1227 – 1270) قد توقّع سيطرة المغول الآتية، التي تحققت بالفعل عام 1243. وعندما كُسر الجيش السلجوقي استسلم هيثوم دافعًا من الأموال ضرائب تبغي سلامة مملكته وحمايته من أعدائه، مع العلم بأن السلاجقة أعادوا بعد ذلك تنظيم صفوفهم، وتحالفوا مع الأمير الأرمني لامبروت. وعندها ساعد الملك الأرمني القائد المغولي هولاكو في هجومه على حلب في فبراير 1260، كما شاركه بنصيب كبير من الغنائم، وأعاد إليه هولاكو ما اغتصب من أراضيه.
وعندما أرسل الظاهر بيبرس - سلطان المماليك الذين خلفوا الأيوبيين في حكم مصر - جيشه إلى حلب عام 1262 لمهاجمة المغول شارك الملك الأرمني هيثوم المغول - الذين كان قد ساعدهم على احتلال سوريا - بالتصدي لجيش المماليك ومعه بعض القبائل العربية القاطنة في البادية السورية. ولكن ما أن حلّ شهر يونيو (حزيران) 1264م (شعبان 662ه) حتى أطبق جيش بيبرس على جيش الأرمن من جميع الجهات وألحق بالأرمن هزيمة شنعاء وفرّ ملكهم. ولاحقًا، اضطر هيثوم للتنازل عن قلاع عسكرية كثيرة، كما تنازل عن عرشه لابنه ليفون الثاني عام 1270 واعتزل في أحد الأديرة حتى وفاته.



أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
TT

أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)

بين مجاعة وشيكة، وفقر مدقع، وأمراض لا تذر كبيراً ولا صغيراً، يقع سكان قطاع غزة محاصرين بين ثالوث شر لا يرحم، وقوات عسكرية لا تملك أي إنسانية.

وبعد نحو 14 شهراً من المأساة، يرى شهود عيان أن مَن مات في القطاع استراح، أما من عاش، فهو يحيا تجربة الاقتراب من الموت كل لحظة؛ سواء من القصف، أو من الجوع والمرض والفقر. تحدثت «الشرق الأوسط» إلى كثير من أهالي القطاع المحاصر والنازحين والمسؤولين الأمميين للوقوف على واقعهم اليوم.

يتذكر محمد، وهو اسم مستعار طلب محدِّثنا استخدامه، كأغلب النازحين الذين فضلوا عدم تعريفهم خشية تعرضهم لمشكلات، أيامه قبل الخروج هرباً من القطاع في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، فيقول: «كنا نسمع في أجواء الحي القصف ليلاً، وصفير القذائف المتوالية بينما تسقط قبل انفجارها، لنجلس طوال الليل نحاول أن نعرف أين سقطت ومن مات... ثم نصحو لنخرج جميعاً إلى الشوارع من أجل معرفة الحقيقة، وعزاء أسر الضحايا، وتهنئة من لا يزال حياً».

وبدوره يروي إياد، لـ«الشرق الأوسط»، معاناة عائلته في غزة بعدما اضطر لتركهم خلفه، فيقول باكياً: «تحدث معي إخوتي وقالوا لي، لديك فرصة للخروج من غزة إلى مصر، اذهب ولا تقلق علينا ولا على أمك وأخواتك البنات، فالبقاء هنا لن يعني إلا أن نموت جميعاً. على الأقل يمكنك من هناك إرسال بعض المال لإعانتنا، أو حتى تقدر أن تسحبنا خلفك إلى مصر... وعلى الأسوأ، إذا متنا نجد أحداً يدفننا».

الهروب إلى الأمام

الدكتور محمد أبو دوابة، محاضر أكاديمي في الجامعات الفلسطينية وباحث في المجال النفسي والاجتماعي، تحدث إلى «الشرق الأوسط» عن وجهة نظره في ما يعانيه سكان غزة كأكاديمي عاصر جزءاً كبيراً من الأحداث على الأرض، وقال: «العوامل في قطاع غزة متداخلة، ولا يمكن الفصل بين الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والحلول المتاحة أصبحت لا تكفي لمشكلات الناس. وفي علم الاجتماع، عندما تكون هناك مشكلة وأنت في وسطها وتتحرك معها، فتراها من منظور... لكن إذا خرجت خارج الصندوق، تجد حالك تراها وأنت ثابت بشكل مختلف تماماً، وتشعر بالمعاناة التي يعانيها أهل غزة».

ظاهرة أخرى غريبة رصدها أبو دوابة وقال إنه يحاول دراستها، فقد لاحظ أن أهالي غزة ممن لديهم أولاد أو بنات صاروا يُقبلون على تزويج أبنائهم بكثافة، لا من أجل الفرح –«وهو إحساس قُتل عند الجميع»- حسب تعبيره؛ بل كنوع من أنواع تخفيف المسؤولية. فأهل البنت يريدون أن تدخل تحت غطاء الحماية الاجتماعية لزوجها، وأهل الولد يريدون أن يستقل عنهم.

ويتابع أبو دوابة: «لم يعد الزواج يمارَس بوصفه امتداداً ونواة للمجتمع لبناء الأسر، لكن هنا صار الوضع كله هروباً من الظروف الاقتصادية وتخفيف الأعباء على الأسر، فالوضع الاقتصادي ضرب نسيج المجتمع في مقتل. وفي العالم كله كلمة زواج تعني الفرح والسعادة والمستقبل والخلفة، فيما أهل غزة لا تمكنهم إقامة أفراح، ففي كل عائلة أكثر من شهيد وحالات ممتدة من الحداد، والفقر يحاصرهم من كل جانب».

أبرز القطاعات المتضررة في غزة (الشرق الأوسط)

ولادة تحت القصف

تجربة أخرى مريرة ترويها عزة، التي تقول إنها كانت في شهور الحمل الأخيرة وكان من المقرر أن تسافر مع زوجها قبل اشتعال الأزمة، لكن كل شيء تغير بعد بدئها.

تروي عزة: «تجربة آخر شهرين في الحمل كانت صعبة جداً في الحرب بسبب عدم توفر الغذاء الصحي للحامل وعدم وجود غاز الطهي، وأغلب الوقت شغالين على نار الحطب، وطبعا دخان كثير وكنت خايفة جداً على الجنين من دخان النار... والأكل اللي كان متوفر إما مكرونة أو عدس، ولو عاوزين حاجه دافية في البرد نشرب شاي من دون سكر».

وتواصل عزة شهادتها لـ«الشرق الأوسط»، فتقول: «وقت الولادة كان الاتصال مقطوعاً عن غزه كلها، ما فينا نكلّم الإسعاف لو صار وجع ولادة، وحتى سيارات الإسعاف كانت تُستهدف كثيراً... ولا فينا نطلع بالسيارة لأنه لا يوجد بنزين. وأي شخص عنده سيارة ومتوفر فيها بنزين كان يخاف يطلع ويخاطر بحياته لأنه بيتم قصف السيارات المدنية. وقتها بيتي كان بعيداً عن المستشفى وكان أفضل حل أروح بيت أهلي القريب نوعاً ما للمستشفى».

لكن لسوء الحظ تم إبلاغ المربع الذي يسكن فيه أهل عزة بالإخلاء، لأن الجيش الإسرائيلي سيتدخل برياً، فنزحت هي وأهلها مجدداً إلى بيتها. ومن شدة الرعب، لم تداهمها آلام الولادة، فذهبت إلى المستشفى للكشف، ليكتشفوا أن حالة الجنين ليست مطمئنة، فحجزوها 3 أيام لحين الولادة.

تقول عزة: «خلال هذه الأيام الثلاثة لم يكن هناك من غذاء سوى الحلاوة التي تدخل من خلال المساعدات. وضُرب المستشفى بقذيفة دبابة، لكنّ الله سلَّم. وعُدتُ إلى البيت لأجد أمراً آخر بالإخلاء، لم يكن أمامنا من خيار سوى الذهاب إلى المخيمات بابنتي حديثة الولادة... حيث البرد القارس، والأمطار تبلل كل شيء داخل الخيمة. ولا طعام إلا وجبة واحدة مكونة من نصف رغيف خبز، ومياه الشرب قليلة ولا يحبذ الشرب بعد الساعة السادسة مساءً لأنه غير مسموح بمغادرة الخيمة للحمامات مساءً... كل هذا أدى في النهاية لعدم تمكني من إرضاع طفلتي بشكل طبيعي، واضطررت لاستخدام الحليب الصناعي، الذي كنت أشك في صلاحيته بالأساس لكونه يباع في الشارع؛ لكن لم يكن أمامي أي خيارات».

أما بالنسبة للملابس، فتقول عزة إن سكان القطاع يتعاونون في توفير ملابس الأطفال المستعملة بعضهم لبعض، فيما كانت تضطر لإبقاء على حفاظة ابنتها لأكثر من 10 ساعات كونها غير متوافرة. وتضيف: «أساساً موضوع الصحة آخر ما يمكن أن تفكر فيه في المخيمات... الاستحمام متاح مرة كل أسبوعين، وغسيل الملابس باليد على شاطئ البحر، وطبعاً شيء مثل الفوط الصحية النسائية تَرَفٌ غير موجود من الأساس».

نساء بطلات و«قلة حيلة»

وضع النساء -بصورة خاصة- المأساوي، دفع «الشرق الأوسط» إلى التوجه إلى الدكتور معز دريد، المدير الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، الذي أوضح وجود أكثر من 155 ألف امرأة حامل أو مرضع داخل قطاع غزة حالياً، أغلبهن لا يجدن رعاية كافية بما يؤدي إلى تفاقم خطورة الأوضاع الصحية، وبينما تحاول الهيئات الأممية بكل السبل إيجاد وسائل لدعمهن ودعم غيرهن، إلا أنها تقف «قليلة الحيلة» في ظل الحصار ومنع دخول المساعدات، خصوصاً بعد حظر «أونروا» من ممارسة دورها، والتي كانت تعد العمود الفقري الأساسي للمؤسسات الأممية كافة داخل القطاع، ودورها بلا بديل ولا يعوَّض.

سيدة فلسطينية تُطعم طفلها وسط الأنقاض في منطقة نهر البارد جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

وقال دريد: «الوضع كارثي، وعدد القتلى في غزة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يناهز حالياً 45 ألف شخص، وهذا يعادل 6 أضعاف عدد القتلى خلال مجمل الأعوام الـ15 التي سبقت الأحداث الحالية. كما أن التركيبة الديمغرافية لهؤلاء الضحايا شهدت تغيراً فارقاً، إذ إن 70 في المائة منهم من النساء والأطفال، بعكس كل الأحداث والأعوام الماضية، مما يؤكد زيادة الاستهداف الأعمى للسكان دون التفرقة بين المدنيين وغيرهم... وهذا المعدل يساوي قتل ما يناهز 3 من السيدات والأطفال في كل ساعة يومياً منذ بداية الحرب!».

وأكد دريد أن بعض الأسر نزحت أكثر من 10 مرات من أجل الهرب من الضربات، ولا يوجد مكان آمن في غزة، والخدمات غير متوفرة، والأوضاع في غاية السوء.

وحول المساعدات التي تقدمها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في غزة، أوضح دريد أنها قدمت مساعدات غذائية ونقدية لنحو 75 ألف امرأة وأسرهن، «من بينهن 14 ألف امرأة مسؤولات بالكامل عن أسرهن نظراً لغياب أي عائل لأسباب الوفاة أو الاعتقال أو خلافه، إضافة إلى برامج الدعم النفسي والاجتماعي. كما تتعاون الهيئة مع منظمات فلسطينية في غزة تقودها النساء، واللاتي نثمن ونقدر دورهن وصمودهن في ظل الأوضاع والصعاب الحالية».

وأفاد دريد بأن المساعدات التي تصل إلى مستحقيها شحيحة جداً، ليس بسبب قلة التمويل أو تقاعس مقدمي الدعم، ولكن بسبب العوائق التي تفرضها قوى الاحتلال، وغياب القدرة على تأمين هذه المساعدات القليلة التي تعبر إلى داخل القطاع، وهو أيضاً ما يقع تحت مسؤولية قوة الاحتلال وفقاً للقانون الدولي.

وبعد نحو 14 شهراً من الحرب، يؤكد دريد أنه مع مستويات الفقر والبطالة والدمار الهائلة في غزة، ومع فقدان العائل الأساسي لنحو 8 آلاف من الأسر، تشير التحليلات إلى أن النساء فقدن روافد الدخل ومصادر الرزق بشكل فائق... ومع توحش التضخم، أصبحت حالة هؤلاء النساء مأساوية.

تجريف وجوع

وفي ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها أهالي القطاع، حاولت بعض القرى أن تلجأ إلى زراعة احتياجاتها الغذائية، بل نجح أهالي جباليا وبيت لاهيا، على سبيل المثال، في تحقيق ما يشبه الاكتفاء الذاتي زراعياً... لكنَّ القوات الإسرائيلية اجتاحت الأراضي ودمرت البنية التحتية عمداً، بما يشمل الأراضي وقنوات الري وحتى مزارع الإنتاج الحيواني والسمكي، وذلك تحت ستار البحث عن الأسلحة والأنفاق، حسب شهادات شهود عيان وخبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط»، إلى جانب فرض قيود على دخول البذور والأسمدة إلى القطاع.

رجل يختبئ خلف عمود فيما ينتشر الدخان والغبار نتيجة انفجار خلال غارة إسرائيلية استهدفت مدرسة في غزة (أ.ف.ب)

وعلى هامش إحدى الفاعليات الخاصة التي حضرتها «الشرق الأوسط» في القاهرة، قال عبد الحكيم الواعر، مساعد المدير العام والممثل الإقليمي لمنظمة الأغذية والزراعة في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، إن «التحدي الأكبر للمنطقة العربية بشكل عام فيما يخص الأمن الغذائي هو الحروب والنزاعات، وخلال النزاعات المطولة والممتدة مثل الوضع في غزة، يوجد أثر كبير على قطاع الزراعة والغذاء».

وأضاف الواعر أن «ذلك يعود إلى عدة عوامل، أولها هجران الناس والمزارعين أراضيهم، مما يتسبب في خلل المنظومة الزراعية، خصوصاً أنهم في حالة نزوح دائم من منطقة إلى أخرى. وذلك بالإضافة إلى الدمار المباشر لهذه الأراضي، فقد جرى تدمير نحو 70 في المائة من الأراضي الزراعية في غزة، سواء بالضرب المباشر خلال العمليات العسكرية أو عبر التجريف، وتأثراً بحركة الآليات الثقيلة... كما نضبت الثروة السمكية تقريباً داخل القطاع منذ 7 أكتوبر 2023، والثروة الداجنة انتهت بالكامل لأنه لا توجد إمدادات، وبقي جزء قليل جداً من الثروة الحيوانية، الذي نحاول كمؤسسات دولية دعمه بالمدخلات الضرورية مثل العلف والتحصينات والمغذيات. وبالإضافة إلى ذلك لا توجد مصادر مياه أو غذاء آمنة ونظيفة ولا كافية، والمساعدات الغذائية شبه متوقفة».

وأكد الواعر أن «كل سكان» غزة أصبحوا للمرة الأولى يقعون تحت خطر التهديد بالجوع، حيث إنهم إمَّا يقعون في الفئة الخامسة (المجاعة) أو الرابعة (الكارثة)، وهي الفئة التي لا يتحصل فيها الإنسان على وجبة واحدة يومياً بصفة منتظمة.

مكان غير صالح للحياة

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فلم يكفِ سكان قطاع غزة كل ما يمرون به، ليُنكَبوا بوقف إسرائيل دخول المساعدات الشحيحة بالأساس.

وحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع يواجه عراقيل كثيرة، ومن أصل 423 حركة مساعدات إنسانية تم التنسيق لها مع السلطات الإسرائيلية في الفترة من الأول إلى 20 أكتوبر الماضي، تم تسهيل 151 حركة فقط، ورُفضت 189، وعطلت البقية. وفيما يتعلق بحركة وصول المساعدات إلى شمال القطاع، قال المكتب الأممي إنه تم تسهيل 4 حركات فقط من أصل 66 حركة مخططاً لها في ذات الفترة.

التأثير الاقتصادي والشرائح التي شملها هامش الفقر (الشرق الأوسط)

من جانبه، أكد عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أن هناك تراجعاً بالغاً في مستويات الأمن الغذائي في قطاع غزة، وأن الوضع في الجنوب «على أبواب مجاعة حقيقية»، فيما دخل الشمال مجاعة فعلية، ودخلت المنظومة الصحية بشكل عام مرحلة الانهيار. وأشار إلى تكرار رفض طلبات دخول المساعدات الغذائية والطبية إلى القطاع من جانب الحكومة الإسرائيلية. وضرب مثالاً بأن الأسبوع الأول من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) شهد مرور 37 شاحنة يومياً فقط، من بينها شاحنات مياه وأدوية وخيام، وذلك لخدمة 2.3 مليون ساكن للقطاع.

ولفت المسؤول الأممي، خلال «مائدة مستديرة» حضرتها «الشرق الأوسط» بمكتب الأمم المتحدة في القاهرة، إلى نقطة أخرى مهمة تؤكد معاناة سكان القطاع، إذ إن مئات الآلاف من السكان صاروا مصابين باضطرابات نفسية وعقلية نتيجة ما يمرون به من مأساة، حيث قدمت «أونروا» أكثر من 800 ألف استشارة نفسية في غزة خلال الفترة الماضية. كما حذر من أن المياه في غزة غير صالحة للشرب على الإطلاق، وكل المياه ملوثة ولا يمكن تنقيتها بعد تدمير منظومة الصرف الصحي تماماً.

حصار من كل الجوانب

وتشير أحدث تقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، والصادرة في شهر نوفمبر إلى أن مستوى الفقر في دولة فلسطين بشكل عام قفز إلى 74.3 في المائة في عام 2024، مؤثراً على أكثر من 4.1 مليون شخص، من بينهم 2.61 مليون يدخلون تحت هذا الخط للمرة الأولى. فيما تشير التقديرات إلى قفزة متوقعة لما يُعرف باسم «مؤشر الفقر متعدد الأبعاد» -الذي يقيس الفقر وفقاً لعدد من الأبعاد مثل مستوى المعيشة والوصول إلى الخدمات وغيرها- من 10.2 في المائة (وفقاً لقياسات عام 2017) إلى 30.1 في المائة في عام 2024... وكل ذلك بالتزامن مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 35.1 في المائة مقارنةً بسيناريو عدم وجود حرب، وارتفاع البطالة إلى 49.9 في المائة (التقديرات الحالية من أغلب المسؤولين -وفي ظل غياب أرقام دقيقة- تشير إلى مستويات بطالة تفوق 85 في المائة من السكان).

فلسطينيون يجلسون وسط الأنقاض في موقع غارة إسرائيلية على منزل بالنصيرات وسط قطاع غزة (رويترز)

مؤشر خطير آخر تشير إليه البيانات، مع تدهور مؤشر التنمية البشرية في فلسطين إلى مستوى 0.643 نقطة فقط، وهو أدنى مستوى له على الإطلاق منذ بداية تسجيل البيانات في عام 2004، فيما هوى المؤشر في قطاع غزة تحديداً إلى 0.408 نقطة، ماحياً كل ما اكتسبه على مدار أكثر من 20 عاماً.

كما تشير «إسكوا» إلى أن عدد الإصابات في غزة تخطى 102 ألف شخص، فيما تخطى عدد القتلى 43 ألف شخص، من بينهم أكثر من 17 ألف طفل وأكثر من 7 آلاف امرأة.

تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تشير أيضاً إلى أن هناك نحو 1.9 مليون نازح داخلياً في قطاع غزة بما يمثل 90 في المائة من مجمل السكان البالغ عددهم نحو 2.1 مليون نسمة، خصوصاً أن نحو 87 في المائة من الوحدات السكنية في القطاع إما دُمِّرت وإما تضررت بشدة. وأن من بين هؤلاء السكان أكثر من 345 ألف في حالة مجاعة شديدة (المرحلة الخامسة)؛ و876 ألفاً في حالة خطرة (المرحلة الرابعة)، فيما يواجه 91 في المائة من السكان ظروفاً غذائية غاية في السوء تضعهم في المرحلة الثالثة على مقياس الأزمة الغذائية.

دمار البشر والحجر

وتوضح تقديرات تقارير «أوتشا» أن نحو 68 في المائة من الأراضي الزراعية في القطاع قد تم تدميرها، وكذلك 52 في المائة من الآبار الزراعية، و44 في المائة من المشاتل أو الصوب الزراعية، و70 في المائة من أسطول الصيد. وتابعت أن 95 في المائة من الماشية أيضاً ماتت، نتيجة إمّا القصف وإمّا عدم الرعاية وإمّا الاستهلاك من دون قدرة على الإحلال.

وتشير بيانات دولية أخرى إلى أن نحو 80 في المائة من المرافق التجارية في قطاع غزة، و68 في المائة من شبكة الطرق فيها دُمِّرت، وفقاً للحسابات والتقديرات حتى صيف العام الجاري. كما أن أكثر من 650 ألف طالب لا يحصلون على تعليم مستدام، خصوصاً مع احتياج أكثر من 87 في المائة من المباني في مدارس قطاع غزة لإعادة بناء.

أطفال فلسطينيون يجري إجلاؤهم من موقع تعرَّض لقصف إسرائيلي في خان يونس جنوب قطاع غزة (أ.ب)

وفي أبريل (نيسان) الماضي، أصدر البنك الدولي تقريراً بالاشتراك مع الأمم المتحدة، يقدِّر تكلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية في غزة في ثلاثة أشهر (من بداية الحرب حتى يناير «كانون الثاني» الماضي فقط) بنحو 18.5 مليار دولار، أي ما يعادل 97 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معاً عام 2022.

كما أشار التقرير إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه كامل منذ الأسبوع الأول للصراع. ومع تدمير أو تعطيل 92 في المائة من الطرق الرئيسية، وتدهور البنية التحتية للاتصالات، أصبح إيصال المساعدات الإنسانية الأساسية إلى السكان صعباً للغاية.

ويؤكد التقرير أن «الدمار خَلَّفَ كمية هائلة من الحطام والأنقاض تقدر بنحو 26 مليون طن قد تستغرق سنوات لإزالتها والتخلص منها»، أما على المستوى الإنساني، فقال: «تعرضت النساء والأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة للقدر الأكبر من الآثار التراكمية الكارثية على صحتهم البدنية والنفسية والعقلية، مع توقع أن يواجه الأطفال الأصغر سناً عواقبَ سوف تؤثر على نموهم وتطورهم طوال حياتهم».

وأفاد التقرير بأنه مع تضرر أو تدمير 84 في المائة من المستشفيات والمنشآت الصحية، ونقص الكهرباء والمياه لتشغيل المتبقي منها، لا يحصل السكان إلا على الحد الأدنى من الرعاية الصحية أو الأدوية أو العلاجات المنقذة للحياة. وتعرَّض نظام المياه والصرف الصحي تقريباً للانهيار، وأصبح لا يوفر سوى أقل من 5 في المائة من خدماته السابقة، مما دفع السكان إلى الاعتماد على حصص مياه قليلة للغاية للبقاء على قيد الحياة. وبالنسبة إلى نظام التعليم فقد انهار، حيث أصبح 100 في المائة من الأطفال خارج المدارس النظامية.

وفيما يخص الحالة الصحية والغذائية في القطاع، أشارت التقارير الأممية إلى أن 96 في المائة من الأطفال في عمر 6 إلى 23 شهراً، والنساء، لا يحصلون على احتياجاتهم الأساسية من العناصر الغذائية الكافية نتيجة النقص الحاد في التنوع الغذائي. مقدرةً أن نحو 50 ألف طفل من أبناء القطاع يحتاجون إلى علاج لسوء التغذية خلال العام الجاري.

وفيما يخص وضع القطاع الطبي، تشير الإحصاءات إلى أن 19 مستشفى (من بين مجموع 36 مستشفى) خرجت عن العمل، فيما تعمل الـ17 مستشفى الباقية بصورة جزئية؛ إما نتيجة تضرر بنيتها التحتية، وإما نتيجة الافتقار إلى المعدات والأدوات الأساسية وإما نتيجة نقص في طواقم العمل الطبية... ونتيجة لذلك، فإن نحو 14 ألف مريض في حالات متباينة يحتاجون للإخلاء الطبي خارج القطاع من أجل إنقاذ حياتهم.

آلام مضاعَفة

الأوضاع الصحية السيئة التي يشير إليها الجميع داخل قطاع غزة، وسط بنية تحتية تعاني من دمار هائل، جعلت «الشرق الأوسط» تسأل منظمة «أطباء بلا حدود» حول الوضع هناك، وهل تمارس المنظمة عملها بشكل طبيعي؟

الدكتور أحمد أبو وردة، مدير الأنشطة الطبية في مستشفى ناصر بخان يونس، أجاب قائلاً: «بالطبع لا، نحاول في (أطباء بلا حدود) بذل كل ما بوسعنا لتقديم أفضل خدمة طبية ممكنة للمرضى والمصابين بالوضع الحالي؛ لكن الكل يعلم صعوبة دخول المستلزمات والمعدات الطبية والأدوية منذ إغلاق معبر رفح».

ويشير أبو وردة إلى أنه لا يوجد حالياً سوى نحو 1000 موظف في كل أفرع المنظمة في قطاع غزة، مؤكداً أن «الحاجة كبيرة جداً وهناك فجوات في بعض التخصصات حتى اليوم».

ومع استهداف المستشفيات، فإن عدد الأسرّة المتاحة للمرضى صارت محدودة للغاية، ويتم التعامل مع الحالات حسب الأولوية الصحية، حسب أبو وردة، الذي يوضح أن أعداد الحالات من ذوي الأمراض المزمنة، خصوصاً داخل المخيمات صارت «مهولة»، حيث إن «معظم سكان القطاع متكدسون في منطقة صغيرة للغاية بظروف بيئية وصحية سيئة للغاية، ويتردد يومياً على عيادات الرعاية الأولية آلاف المرضى من ضمنهم الأمراض المزمنة، وفي ظل الوضع الحالي الكثير من أدويتهم غير متوفرة».

تجويع ممنهَج وفساد

شاهِد آخر من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم وسام، قال: «بدأت الحرب في أكتوبر، وكانت بالتوازي معها هناك حرب اقتصادية تمثلت في جميع مناحي الحياة لأول مرة في تاريخ المعارك العسكرية ضد الفلسطينيين... من قطع جميع أواصر الحياة والضرب العنيف على كل أوتار الاقتصاد؛ يعني آلة القتل الإسرائيلية تطول الناس من ناحية، ومن الأخرى تقطع الكهرباء ليتم دفع الصناعة بالكامل إلى الشلل وتوقف التجارة بالكامل بعد إغلاق المعابر ليصبح هناك نقص حاد في الموارد السلعية».

وسام، الذي يعمل بأحد المراكز الحكومية ذات الصلة بالتجارة، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن الوضع صار خطيراً بالفعل حالياً، لأن المخزون السلعي الاستراتيجي انخفض بشكل حاد، ليصبح لا يكاد يكفي 72 ساعة إثر الإغلاق الكامل للمعابر وقطع الإمدادات. ويتابع وسام: «فيما يخص الغاز مثلاً، فقد أصبح يدخل القطاع بشكل متقطع. والاعتماد حالياً على ما يدخل بشكل مباشر لأن الخزانات أصبحت بلا قيمة، فما يدخل ينفد في ذات اللحظة».

أطفال يحملون أواني معدنية ويتزاحمون للحصول على الطعام من مطبخ يتبع الأعمال الخيرية في خان يونس بقطاع غزة (إ.ب.أ)

أيضاً هناك أزمة أخرى، فالمواد السلعية التي تمر ليست منتظمة ولا منسَّقة، وعن ذلك يقول: «ما بيعطوك كامل المواد من احتياجاتك مرة واحدة... اليوم ممكن يمر منظفات وشغلات ثانوية ويقطعوا عنك اللحم والأرز والمواد الأساسية، عشنا آخر 10 أيام على هذه الشاكلة. بتلاقي أيام تانية نزلّك لحم ودجاج لكن بشكل أقل من الكميات المطلوبة، وبيصير سعرها عالي طبعاً. وهذا شكل مقنن لقطع المصادر الغذائية الأساسية وتوصيل الناس إلى مراحل كبيرة من سوء التغذية، وبتلاقي الناس كلها هزيلة وتعبانة لأنهم ما بيحصلوا على وجبة كاملة... لازم يكون في نقص في شيء».

فساد داخلي؟

لم يكن وسام وحده الذي يشير إلى الفساد، ورغم أن الكل يُدين الطرف الإسرائيلي سواء في المجازر أم الحصار والتجويع لسكان قطاع غزة، إضافةً إلى مسؤولية دولة الاحتلال عن توصيل المساعدات وفقاً للقانون الدولي، فإن كثيراً من قاطني القطاع والهاربين منه يُدينون الإدارة المحلية في قطاع غزة بأنها جزء من الأزمة، سواء بالضلوع في استغلال الوضع، أو السكوت عن الفساد.

وأشار عدد كبير ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» إلى أن الإدارة المحلية تسيطر على توزيع المساعدات الأممية، لكنَّ الفساد يتسلل إلى جانب من هذه المنظومة حيث تكثر السرقات للمستودعات، إضافةً إلى فرض ضرائب باهظة و«إتاوات» على مرور أي بضائع داخل القطاع... وكل ذلك أدى إلى حالة شح شديدة بالأسواق، وتضخم متوحش كسر ظهور سكان قطاع غزة.

ويرى خبير اقتصادي من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم الدكتور وليد، أن «حماس» تسيطر على السيولة النقدية داخل القطاع، حيث أشارت تقديرات إسرائيلية إلى أن حجم الأموال التي جمعتها «حماس» خلال عام من الحرب تتجاوز 750 مليون دولار، من بيع المساعدات عدا عن الضرائب التي جمعتها، بالإضافة إلى السيولة النقدية التي قامت ببيعها. علماً أن الحركة سيطرت على خزانة بنك فلسطين المحدود التي كانت تحتوي على ما يقرب من 140 مليون دولار في بداية الحرب، حسب مصادر محلية ودولية.

آفاق مالية غائمة

وفيما يخص القطاع المالي في غزة إثر كل هذه التحديات العنيفة، تبلغ قيمة محفظة البنوك في غزة نحو مليار دولار، وتبلغ قيمة قطاع التمويل الأصغر في المنطقة نحو 54 مليون دولار، حسب تقارير الأمم المتحدة.

ونفّذت سلطة النقد الفلسطينية وقفاً مؤقتاً للقروض حتى سبتمبر (أيلول) 2024، على الرغم من أن التأثير على كفاية رأس المال والسيولة كان كبيراً. وتقدَّر الخسائر المباشرة التي تكبَّدتها مرافق القطاع المالي في غزة بأكثر من 14 مليون دولار، بالإضافة إلى التأثير الإجمالي للظروف الاقتصادية المتدهورة على المحفظة المصرفية.

فلسطينيون يلتقطون رزم مساعدات أُلقيت من الجو على شمال غزة (أرشيفية - أ.ف.ب)

وهناك أيضاً مخاوف بشأن استعادة السيولة النقدية المتاحة في غزة قبل الحرب. وتؤكد التقارير أنه «لمعالجة نقص السيولة، قدمت سلطة النقد الفلسطينية بعض المساعدات، لكن مشكلات السيولة والوصول إلى الخدمات المالية لا تزال قائمة. ويظل انكشاف النظام المصرفي على القطاع العام مرتفعاً، حيث تجاوز مستوى 2.5 مليار دولار في يوليو (تموز) 2024. وتشير النسبة المتزايدة من الشيكات المرتجعة -التي تصل إلى 9 في المائة من قيمة جميع الشيكات في الربع الأول من عام 2024، حتى 25 في المائة في بعض الحالات- إلى ملف مخاطر مالية كلية متنامٍ».

وفي تقرير للبنك الدولي، صدر في مايو (أيار)، أكد أن وضع المالية العامة للسلطة الفلسطينية قد تدهور بشدة في الأشهر الأخيرة قبل صدوره، مما يزيد بشكل كبير من مخاطر انهيار المالية العامة. وأشار إلى «نضوب تدفقات الإيرادات إلى حدٍّ كبير بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إيرادات المقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي. وتؤدي الفجوة الآخذة في الاتساع بسرعة بين حجم الإيرادات والمصروفات لتمويل الحد الأدنى من الإنفاق العام إلى أزمة في المالية العامة».

وأوضح التقرير أنه في نهاية عام 2023، وصلت الفجوة التمويلية إلى 682 مليون دولار، وأنه من المتوقع أن تتضاعف هذه الفجوة خلال الأشهر المقبلة لتصل إلى 1.2 مليار دولار. وأفاد بأن زيادة المساعدات الخارجية وتراكم المتأخرات المستحقة للموظفين العموميين والموردين هي خيارات التمويل الوحيدة المتاحة للسلطة الفلسطينية.

وفقد الاقتصاد الفلسطيني ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ أكتوبر 2023. يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية. وختم التقرير بعبارة: «ومع ضبابية المشهد وعدم اليقين بشأن آفاق عام 2024، من المتوقع حدوث انكماش اقتصادي آخر يتراوح بين 6.5 و9.6 في المائة».

7 عقود ضائعة

وفي تقديرات أخرى لـ«إسكوا»، فإنه في حال دخول الاقتصاد الفلسطيني إلى السيناريو الأسوأ مع عدم التعافي المبكر من آثار الحرب، واستمرار التضييق الإسرائيلي على السكان وبقاء مستوى المساعدات على وضعها الحالي، فإنه من المتوقع تهاوي الناتج المحلي الإجمالي بنحو 20.1 في المائة في 2025، وصولاً إلى 34 في المائة في 2034، مقارنةً بأوضاع ما قبل الحرب.

في تقرير آخر صادم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، صدر في أكتوبر الماضي بمناسبة مرور عام على حرب غزة، أكد أن «آثار الحرب أدت إلى تراجع التنمية في غزة بما يناهز 69 عاماً»، وأنه «دون رفع القيود الاقتصادية، وتمكين جهود التعافي، والاستثمار في التنمية، لن يقدر الاقتصاد الفلسطيني على استعادة مستويات ما قبل الحرب والتقدم للأمام بالاعتماد على تدفق المساعدات الإنسانية وحدها».

مقتل أكثر من 10 أشخاص إثر قصف إسرائيلي على منزل في بيت لاهيا شمال قطاع غزة (أ.ف.ب)

ويشير التقييم إلى أن خطة شاملة للتعافي وإعادة الإعمار، تجمع بين المساعدات الإنسانية والاستثمارات الاستراتيجية في التعافي وإعادة الإعمار، إلى جانب رفع القيود الاقتصادية وتعزيز الظروف المواتية لجهود التعافي، من شأنها أن تساعد في إعادة الاقتصاد الفلسطيني إلى المسار الصحيح ليستعيد توافقه مع خطط التنمية الفلسطينية بحلول عام 2034 -ولكنَّ هذا السيناريو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت جهود التعافي غير مقيدة.

وقال أخيم شتاينر، مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: «تؤكد التوقعات الواردة في هذا التقييم الجديد أنه في قلب المعاناة الإنسانية والخسائر الفادحة في الأرواح، تَلوح في الأفق إرهاصات أزمة إنمائية خطيرة تُعرِّض مستقبل الأجيال الفلسطينية القادمة للخطر». وأضاف: «يشير التقييم إلى أنه حتى لو تم تقديم المساعدات الإنسانية كل عام، فإن الاقتصاد قد لا يستعيد مستوى ما قبل الأزمة لمدة عقد أو أكثر. ويحتاج الشعب الفلسطيني إلى استراتيجية قوية للإنعاش المبكر يتم تنفيذها حالما تسمح الظروف على الأرض، كجزء لا يتجزأ من مرحلة المساعدة الإنسانية، من أجل إرساء الأسس للتعافي المستدام».

معركة الصبر والصمود

وحول الوضع النفسي حالياً لسكان غزة، يقول الدكتور محمد أبو دوابة: «المعروف عن الشعب الفلسطيني قدرته على الصمود، لا أتحدث عن المقاومة العسكرية، بل على مقاومة الظروف الصعبة... فهل ما وصلنا إليه يعد حالة يأس؟ في رأيي -وبعد عام كامل من الأزمة وظروف يمكن أن تضرب هذه الروح في مقتل- إننا بشر نُبدع في (آليات الصبر واستراتيجيات الصمود)».

وحول تجربته الشخصية، يقول أبو دوابة: «في بداية الأزمة، عملت متطوعاً في مستشفى الأقصى متخصصاً نفسياً... لكن كم كانت المهمة صعبة جداً، مثلاً ماذا يمكن أن نقول لشخص كل عائلته استُشهدت؟ وكان لي منذ سنوات ورقة بحثية في مؤتمر حول الصحة النفسية، أتكلم فيها عن (اضطرابات ما بعد الصدمة)، وأن ما يحدث في غزة هو صدمة مستمرة (Ongoing trauma) وليست صدمة عبرت بالفعل... ولكن هذه المرة فإن طول أمد هذه الصدمة المستمرة يجعلنا نشعر أن الناس بدأوا يصرخون بأنهم بشر وليسوا صامدين أو ناجين، فالناجي من الموت في غزة شخص يموت من الصدمة أكثر من 100 مرة في اليوم».