الأرمن.. تأثيرهم وبصماتهم على المشرق العربي

تحكّموا بمصير الدولة الفاطمية وتولّى 8 منهم الوزارة.. وانتفعوا من الصفويين وحظوا برعاية بريطانية في العراق العثماني (2-2)

جامع الحاكم بأمر الله
جامع الحاكم بأمر الله
TT
20

الأرمن.. تأثيرهم وبصماتهم على المشرق العربي

جامع الحاكم بأمر الله
جامع الحاكم بأمر الله

في الحلقة الثانية من بحثنا في تاريخ الأرمن في العالم الإسلامي نتعرض للعلاقة مع مصر الفاطمية والمملوكية، وكذلك جوانب من تاريخ توطّنهم في العراق ومنطقة الخليج وإيران. ومما يلفت الدور السياسي الذي لعبه الأرمن الذين اعتنقوا الإسلام في كل من الدولتين الفاطمية في مصر والصفوية في إيران، ناهيك من بروزهم الإداري والتجاري والحرفي.

قد يبدو عنوان العلاقة مع الدولة الفاطمية لأول وهلة غريبا، لأن قلة نادرة من القراء ربما تعرف هذا الجانب من تأثير الأرمن في الكيانات السياسية التي قامت في العالمين العربي والإسلامي في العصر الوسيط، غير أنها حقيقة ذكرتها المصادر التاريخية، لا سيما في القرن الأخير من الحكم الفاطمي بين عامي 1074 و1163م.
هذه كانت حقبة عابرة لاتفاق دائم بين الأرمن الطائفيين المتعصبّين والمسلمين، نوقشت بمحتواها الشامل كظاهرة لما عُرف بـ«الفاطميين الأرمن»، وتُعدّ جزءًا من تيار تاريخي بدأ قبل رسوخ المسيحية في «أرمينيا الكبرى» بشرق هضبة الأناضول و«أرمينيا الأخيرة» في كيليكيا بغرب الأناضول وسواحل المتوسط خلال القرن الثالث الميلادي. ومنذ القرن الرابع وحتى القرن الخامس عشر شكّلت النزاعات والحركات مرحلة سياسية وثقافية كانت بعمومياتها مذاهب دينية اتخذت لها قرارات سياسية، وكثيرا ما كانت معاكسة للكنيسة الأرمنية في منظورها الشامل.
لكن جزءا من التاريخ الثقافي الأرمني خلال العصور الوسطى ظلّ مرتبطا بجذور شرق أوسطية، وتحديدا، بالمناخ الإسلامي، إلا أن المؤرخين الأرمن تجاهلوا هذا الارتباط واعتبروه مجرّد شوارد لا يُعتدّ بها، وغاب عن بالهم أنه الحلقة المفقودة للتاريخ الإسلامي الأرمني.
وهنا نشير إلى أن وثائق كتبها «الإسماني» هوفهان الأرضرومي (توفي عام 1293م) - والإسمانية (Nominalism) مذهب فلسفي يقول بأن المفاهيم المجرّدة لا وجود حقيقيا لها بل هي مجرد أسماء لا غير - تُعدّ خلاصة لأفكار ظهرت خلال القرن العاشر الميلادي هي «رسائل إخوان الصفاء»، أطلق عليها اسم «رؤية من كتابات المسلمين ومفكّريهم». وممّا قاله هوفهان «لمن يطلب المعرفة من الأرمن ألا يهمل ما يكتبه الأقوام الآخرون»، قاصدا المسلمين ومفكّريهم. كذلك لوحظ أنه كان يكتب عن تضامن شباب الأرمن بالأسلوب نفسه الذي كان الخليفة العباسي الناصر (1180 – 1225) يكتب به أفكاره عن «تشكيلات الفتوة» في بغداد التي لعب المفكّرون الإسماعيليون دورًا مهمًا في بعثها، وبالتالي، اعتُبرت كتابات هوفهان أول اتصال فكري بين الأرمن والمسلمين خلال العصور الوسطى.
أما كتُب «الإسماني» الآخر، كريكور التاتفي (1346 - 1409)، في الأدب الجدلي، فكانت تخاطب متكلّمي الفارسية من غُلاة المسلمين الشيعة، الذين كانوا مثل الأرمن المتعصبّين المعروفين منذ القرن الرابع. وعرض فيها سبعة قرون من التحالف العسكري والسياسي بين مسلمي تلك الأصقاع والأرمن، ومن ثم تهجير الأرمن إلى نواحٍ مختلفة من الإمبراطورية البيزنطية مثل قبرص وصقلية وصولا إلى بولندا، ما جعل غالبيتهم تعتنق الإسلام. ومن هذه الفئة جاء عدد من الوزراء الفاطميين من ذوي الأصول الأرمنية. وهنا ينبغي تذكّر أن التأثير الإسلامي أخذ ينمو ويحظى بقبول جماعي خلال فترة السيطرة الإسلامية على أرمينيا لمدة تقارب القرنين بعد موجة الفتوحات الإسلامية الأولى. ومن ثم انخرطت في النشاط العسكري مجموعات من المكوّن الأرمني، الذي كانت تغلب عليه حياة الزراعة والرّعي، ونمّت لديه المهارات القتالية والعسكرية، وقاتل بعض الأرمن غير المتعصبّين المعروفين بـ«الأرمن الشمسية» في بلاد الشام بالفعل ضد «الفرنجة» (أو الصليبيين) في الحملات الصليبية.
ولاحقا ازدادت هجرة الأرمن إلى بلاد الشام ومصر، ووفق المصادر الأرمنية فاقت أعداهم المائة ألف. وفي مصر بالذات بدأ نشاطهم نحو منتصف القرن الـ11 الميلادي انطلاقا من بروز دورهم في الجيوش الفاطمية، وتألف منهم ما سمي بـ«الجيوشية»، ثم تدرّجوا إلى حكم الولايات، ووصولا إلى التوزير، مع تعيين «أبي النجم» بدر الجمالي أول وزير أرمني مسلم عام 1074م.
لا بد لنا هنا من التوسّع في شرح هذه الفترة الأرمنية في مصر الفاطمية وما واكبها من أحداث أدت إلى بروزهم نتيجة النزاعات المستمرة بين الأتراك والبربر والأفارقة المنضوين في الجيوش الفاطمية، والتي أدت إلى أزمات شلّت مفاصل الحكم نتيجة المجاعة، فشارف الحكم على الانهيار، وبلغت أسوأ مراحلها إبان حكم الخليفة الفاطمي المستنصر بالله الذي امتد نحو 60 سنة.

بدر الجمالي

بدأت مسيرة بدر الجمالي صعودا مع تعيينه حاكما لدمشق عام 1063م (455هـ). وكان حقا من ألمع القادة العسكريين وأكثرهم حنكة وأقدرهم إدارة، وأثبت قدراته الاستثنائية عند توليه قيادة العسكر في عكا بفلسطين إبان فترة الصدامات مع السلاجقة الأتراك والطوائف المحلية المتمردة على الحكم الفاطمي الإسماعيلي. ونجح القائد اللامع في فرض الاستقرار على السواحل بين الشام ومصر، فاستنجد به الخليفة المستنصر عام 1073م. وحين عاد بدر إلى القاهرة رأى أن يكون على رأس أولوياته النظر في الشؤون الاقتصادية وتحسين أوضاعها والخروج من الضائقة المالية المطبقة على الدولة، والقضاء على محنة المجاعة، وبعدها إنقاذ البلاد من خطر السلاجقة ومنعهم من مهاجمة مصر نهائيا.
وحقق بدر الجمالي ما هدف إليه، وقضى على الخطر السلجوقي، فأطال عمر الحكم الفاطمي 100 سنة إضافية. وعندما توفي عام 1094م ترك للمستنصر حكما راسخا وقويا، وجاء شكره والامتنان له بما فاق المتوقّع إذ تزوّج المستنصر ابنته، وأعطيت الوزارة لابنه الأفضل من بعده. ومشى الأفضل على سيرة أبيه فشكّل معه عمليا «حكم الأرمن» الذي استمر نحو قرن.
وربما يلاحظ المتابع أن إخلاص الأرمن المسلمين لخلافة الفاطميين الإسماعيليين، على الخصوص، راجع لاحتمالين أساسيين:
الأول: العلاقات الوطيدة التي أرساها الداعية الإسماعيلي أبو حاتم الرازي (ت 932م)، الذي زار أرمينيا وتقرّب من أحبار الكنيسة الأرمنية وكان على معرفة وافية بمذاهبها واتجاهاتها، مما عزّز التقارب بين الفئتين.
والثاني: زواج الخليفة المستنصر من ابنة بدر الجمالي، الذي أثمر عن إنجاب ولده أحمد (الخليفة المستعلي بالله لاحقا) الذي كان الوزير الأفضل بن بدر خاله.
المستنصر، ثامن الخلفاء الفاطميين والإمام الثامن عشر للإسماعيليين، توفي بعد فترة وجيزة من وفاة بدر عام 1094م، مخلّفا أربعة أبناء هم: نزار وعبد الله وإسماعيل وأحمد. وعند وفاة المستنصر طالب الوزير الأفضل نزار – وكان في الخمسين من عمره حينئذٍ – بإبراز «النص» المكتوب لتوليته (وهذا مبدأ جعله الإمام جعفر الصادق شرطاً لانتقال الإمامة).
لكن نزار أخفق في ذلك وفرّ إلى الإسكندرية واستعان بمريديه، ومنهم حسن الصبّاح، الذي ادعى أن المستنصر كان قد أخبره شفاهةً حين كان في القاهرة عام 1086م بأحقّيّة نزار بالخلافة. غير أن الأفضل بن بدر بما لديه من سطوة ونفوذ أسند الخلافة إلى ابن أخته أحمد الذي سرعان ما حكم باسم المستعلي بالله – كما سبقت الإشارة – وكان له من العمر يومذاك 18 سنة. ثم هاجم الأفضل نزار ومناصريه، وبعد أسره جلبه إلى القاهرة وسجنه حتى مات في السجن (وفق رواية أتباع المستعلي).
وقع عند هذا المفصل الانشقاق الكبير في المذهب الإسماعيلي بين النزارية (يعرفون في الهند بـ«الخوجا»، وفي باقي العالم بـ«الآغاخانية») والمستعلية (الذين انقسموا إلى فرقتين هما «الحافظية» و«الطيبية» – «البهرة» في الهند – وهؤلاء بقوا ملتزمين النهج الفاطمي)، وظهور حركة الحشّاشين (Assassins) بزعامة حسن الصبّاح، ذي الأصول الحميرية اليمنية، في جبال شمال إيران - وهذا موضوع يطول شرحه.
لكن ما يمكن قوله هنا هو أن فترة توزير الأرمن المسلمين بدأت مع بدر الجمالي عام 1073م، وانتهت بعد مقتل ابن رزق (رزيق) آخر وزير أرمني ، عام 1163م. وتولّى خلالها ثمانية وزراء منهم. وللعلم، امتد العهد الفاطمي 262 سنة تولّى الخلافة خلالها 14 خليفة، حتى أفول نجمها عام 1171م، وتسلُّم الأيوبيين السلطة وإعادة صلاح الدين الأيوبي المذهب السنّي إلى مصر.

الأرمن والدولة الصفوية – إيران

لعب الشاه عباس (أعظم شاهات الصفويين) دورا كبيرا في توطين الأرمن في إيران عند نهاية القرن السادس عشر الميلادي ومطلع القرن السابع عشر – وتحديدا عام 1605م – وذلك إبان حروبه المستمرة ضد العثمانيين. وكان العثمانيون نتيجة إنهاكهم في حروب البلقان واجهوا موجة من الثورات والانتفاضات داخل دولتهم، سببها ضيق الناس من استمرار الحروب والتجنيد الإجباري والضرائب الباهظة المفروضة عليهم. ومنحت تلك الفترة الحرجة بين 1596 و1608م فرصة ذهبية استغلها الشاه عباس لنسف اتفاقيات السلام المعقودة بين الفريقين، عازيا ذلك إلى فقدان الأمان وتكرار تعديّات ولاة المناطق الحدودية على أراضي دولته.
استغل الشاه عباس تلك الظروف، وإن بدا لبعض الوقت وكأنه غير مكترث بما يحدث في الشمال مركزا جهوده جنوبا في التصدي للتوسع البرتغالي في الخليج. غير أنه سرعان ما باغت العثمانيين بالمسير شمالا نحو مدينة قزوين (العاصمة القديمة)، ثم احتلال اردبيل وتبريز. ومن هناك عبر بجيشه نهر آراس (آراكس) متوغّلا في أرض أرمينيا، حيث استسلمت مدنها له دون مقاومة، حتى غدا على مشارف العاصمة الأرمنية إريفان (يريفان). ولقد رافق الشاه الصفوي في زحفه هذا ممثل لإمبراطور النمسا رودولف الثاني الذي استقبله الأرمن بحرارة كونه – يومذاك - ممثل أقوى دولة مسيحية في أوروبا، وكانت تقاوم التوسّع العثماني في العالم المسيحي. ونظم الأرمن احتفالا مشهودا للجيش الصفوي حين دخل مدينة جلفا، التي كانت لتجّارها مصالح واسعة مع إيران.
وعلى صعيد تلك المعارك، استسلمت الحامية العثمانية في إريفان للصفويين طوعا بعد محاصرتها العاصمة الأرمنية، وتلقى الشاه الصفوي تهاني الإمبراطور أكبر، إمبراطور الهند المغولي. وكنتيجة للتوسع الصفوي بدأت الإمبراطوريات والممالك الأوروبية ترسل سفراءها إلى الشاه عباس، وكانت الغاية أن تتضامن كلها للانقضاض على العثمانيين الذين كانوا يقلقون أوروبا المسيحية. وفي المقابل، جرّد العثمانيون حملة عسكرية لصدّ تقدم جيش الشاه عباس قادها القائد (والصدر الأعظم لاحقا) سنان باشا.
وهنا، قرّر الشاه عباس الانسحاب، وطلب ذلك أيضا من الأرمن في إريفان ونخجوان وجلفا، وناشدهم ألا يتركوا أي مؤن أو طعام للجيش العثماني المتقدم، وبلغت أعداد الأرمن المنسحبين مع القوات الصفوية عبر نهر آراس نحو 60 ألف عائلة. حظي أرمن جلفا لذلك بمعاملة مُميزة من الشاه، فباتوا وسطاءه المفضّلين في توسيع تجارة الحرير الخام إلى أوروبا. وكان هذا الحرير يرسل إلى أسواق أوروبا عبر حلب مقابل عملات فضية، كما كان يرسل وفودا منهم إلى البندقية بإيطاليا للقيام بالمهمة نفسها، خصوصا أن الشاه عباس نفسه كان من أكبر المتاجرين بالحرير الخام، بل كان عمليا يحتكر تجارته في كل البلاد.
بناءً على ما سلف، تجدر الإشارة إلى تولّي الأرمن الوزارة حين ساءت الأحوال السياسية والاقتصادية في دولة الصفويين في أعقاب وفاة الشاه عباس، كما حصل لهم من قبل مع الفاطميين. إذ جرى توزير خليفة سلطان عام 1654م، وبعد وفاته خلفه محمد بك وهو مثل سلفه من الأرمن المسيحيين الذين تحوّلوا إلى الإسلام. ويمكن اعتبار عام 1605م بدء تاريخ استقرار الأرمن في إيران، ومن ثم ازداد تدفقهم، ومنها انتشروا لاحقا في عدد من الأقطار العربية بعد سقوط الدولة الصفوية عام 1722م التي كانت تحميهم.

الأرمن في العراق إبان الحكم العثماني

لعبت الأقلية الأرمنية دورًا مهمًا وكبيرًا في العراق، وتحديدًا في القطاع التجاري، منذ بداية القرن الميلادي السابع عشر مستفيدة من سياسة الصفويين وحمايتهم، وكانت تلك السياسة تقوم على تنشيط الحركة التجارية اعتمادًا على الأقليات الإثنية. وبالإضافة إلى الأرمن استفاد أيضا من هذا المناخ التجار اليهود والهنود (البانيان). وكانت الدولة الصفوية قد جعلت من عاصمتها أصفهان مركزا تجاريا رئيسيا لجذب المصالح الأوروبية في منافسة مباشرة مع النفوذ العثماني الذي كان يغطي العراق، ونجحت في التحالف مع بريطانيا بشل التوسع البرتغالي في الخليج والقضاء عليه نهائيا عام 1622م. وهنا من المفيد الإشارة إلى أنه إبان فترة الاحتلال الصفوي لبغداد تولى حكم المدينة ضابط من أصل أرمني هو بكداش باشا (1630 – 1635م). غير أن غروب شمس الصفويين عام 1722م حمل معه فقدان الأرمن الرعاية القوية التي حظوا بها نحو قرن من الزمن، لكنهم مع ذلك حافظوا قدر الإمكان على مكانتهم المالية والتجارية المهمة، وظل وضعهم طيبا قرنا آخر، أي طوال القرن التاسع عشر.
وتقرّ جميع المصادر بأن التجار الأرمن الذين استقروا في مدينة البصرة كانوا يسيطرون على معظم التجارة مع الهند، إذ تذكر تقارير وكالة الهند الشرقية البريطانية عام 1729م أنهم كانوا وراء عمليات الاستيراد من البنغال، وهو ما تثبته سجلات (Manifests) السفن البريطانية العاملة على خطوط الهند وموانئ الخليج. كذلك فإن السفن المغادرة من البصرة إلى سَورَت (Surat) كانت تحمل إرساليات من اللؤلؤ لحساب تجار أرمن. وكانت البصرة حينذاك مركزا رئيسيا لتجارة اللؤلؤ حتى إن اللؤلؤ في الهند كان ينسب إليها فيقال باللغة الهندية «موتي بصرة» أي لؤلؤ بصري. ثم إن السجلات نفسها تشير إلى تردد التجار الأرمن على الهند طوال القرن، وكذلك إلى العلاقات مع التجار الأرمن في حلب بشمال سوريا. والجدير بالذكر أن خط القوافل الذي يربط أوروبا والهند وشرق آسيا عبر البحر الأبيض المتوسط كان يمرّ بحلب ثم البصرة، ومنها إلى الهند فالشرق الأقصى.
أيضا، كانت المشاركات العائلية بين طوائف التجار البصريين تضع التجار الأرمن خلال السنوات الممتدة طوال القرن في المرتبة الثانية، بإحدى عشرة مشاركة، مباشرة خلف المسلمين العرب (16 مشاركة)، متقدمين على التجار الفرس بالمرتبة الثالثة (9 مشاركات). أما التجار اليهود فجاءوا في المرتبة الرابعة (5 مشاركات). وكان التنافس التجاري الأشد بين الأرمن واليهود.
ومعلوم أنه لا بد لطبقة التجار، من جميع الأطياف، من التمتّع بدعم الحكومات أو المؤسسات الضخمة لأسباب عرقية أو دينية أو طائفية. وفي هذا السياق نتوقف عند الروابط القوية التي قامت بين البريطانيين والأرمن. وكان يُعتقَد منذ القرن السابع عشر أن التجار الأرمن كانوا يشكلون عوائق أمام التجار الأوروبيين تمنعهم من التغلغل في الأسواق المحلية، فكانت منافستهم حادة إلى درجة العرقلة للتجار البريطانيين والهولنديين في مدن الإقليم وموانئها. ولغاية عام 1724م كان الوكيل البريطاني في البصرة يشكو من مزاحمة الأرمن التي «تصل إلى حد الضرر وفي كل مناسبة».
إلا أن التنافس تحوّل إلى تعاون وتوافق، خاصّة بعدما فقد الأرمن دعم الصفويين ورعايتهم، وهكذا تحوّلوا لتعويض سندهم السابق بصداقة البريطانيين ورعايتهم وحمايتهم. وحقا، كان البريطانيون راغبين في لعب هذا الدور، وكانوا يبرّرون ذلك بأنه يستحيل وجود تجارة مُربحة لبلد ما من دون مساندة من التجار المحليين. كما أن من عوامل نجاح هذه العلاقة إجادة اللغة وتحديد أو تنظيم مهمة الوكيل وهذا ما توافر للبريطانيين مع الأرمن.
وفي المقابل، أثبت البريطانيون القدرة على تأمين الحماية المطلوبة بامتياز عندما سُجن تاجر أرمني عام 1754م على أثر شرائه عبدا مسلما، وتمكّن الوكيل من إطلاق سراحه، وكانت تلك أول محاولة أثبتت فعليا مجال التعاون. وفي نهاية القرن أصبح كل التجار الأرمن محصّنين بالرعاية، بل والحماية، البريطانية وكأنهم جزء من الوكالة البريطانية.
أدى هذا الوضع الجديد إلى تفاقم الخلافات بين التجار الأرمن ومنافسيهم اليهود، والتي بلغت مداها الأقصى عام 1791م عندما عُثر على جثة تاجر يهودي مرمية قرب مكبّ للفضلات خارج حدود مدينة البصرة. ويومذاك اتهم اليهود رجلا أرمنيا بجريمة القتل، وعلّلوها بالكراهية الدينية المزمنة بين المسيحيين واليهود، وتجمّع مئات من اليهود أمام مقر المتسلّم مطالبين بقصاص القاتل. وبالفعل، أمر المتسلّم باعتقال عدد من الأرمن، إلا أنه عندما تناهى النبأ إلى أسماع الوكيل البريطاني قابل المتسلّم وأعلمه بأن الأرمن تحت حماية بريطانيا. وبعدها تعقّدت الأمور وانتقلت الشكوى إلى سليمان باشا، الوالي العثماني في بغداد، الذي أخذ جانب اليهود. وكانت النتيجة انسحاب الوكالة البريطانية وإغلاقها أعمالها وانتقالها إلى الكويت، وكان ذلك يوم 30 أبريل (نيسان) 1793م، وبقيت في الكويت لمدة سنتين.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الأرمن كانوا في تلك الفترة يشكلون غالبية المسيحيين في البصرة، غير أن نسبتهم تناقصت بفعل تزايد هجرات الكلدان (النساطرة الكاثوليك) خلال القرن التاسع عشر من بغداد وحلب، ثم هجرات الآثوريين (النساطرة الأرثوذكس) من محيط الموصل، للعمل أساسا على البواخر النهرية العاملة بين بغداد والبصرة، إضافة إلى السريان (اليعاقبة) الكاثوليك وبنسبة أقل السريان الأرثوذكس. ومجدّدا، ازدادت أعداد الأرمن بعد ما وصف بالمذابح الأرمنية بين 1911 و1917م. واستقرّ اللاجئون الأرمن في مدنٍ من خيام أقامتها لهم السلطات البريطانية بعد احتلال البصرة في نوفمبر (تشرين الثاني) 1914، إلا أن اللاجئين نقلوا لاحقا إلى مساكن خاصة بهم في ما عُرف بـ«كامب أرمن» (معسكر الأرمن)، بقيت من دون تغيير حتى ستينات القرن العشرين. وكان الأرمن يشكلون قوة عاملة من الكتبة وذوي المهارات الحرفية العالية عملت في شؤون الموانئ وشركات النفط وغيرها.

الأرمن والخليج

عموما لم يكن للأرمن شأن يذكر أو وجود مؤثر، بل كانت هناك مبادرات فردية وشذرات فردية، منها ما يلي:
في الكويت، كانت المقابلات بين الشيخ مبارك (الكبير) الصباح وقباطنة السفن الروسية تجري باللغة الفرنسية. وذكر قبطان المدمرة «أسكولد» (Askold) عند زيارته الكويت يوم 9 نوفمبر 1902م أن المترجم كان رجلا أرمنيا يعمل وكيلا لشركة بواخر في الكويت، ويسكن في بيت الشيخ مبارك، مما يعني أن الأرمن كانوا من القلة التي تجيد اللغات الأوروبية. وتذكر السجلاّت البريطانية أن أفرادا أرمن عملوا في تجارة التبغ وموظفين في شركات الملاحة الأجنبية.
وفي البحرين، كانت لعبد النبي آغا جعفر كازروني تجارة ناشطة، وكان على علاقة وثيقة بتجار أرمن في البصرة بينهم كاربيبيان ودرفيشيان، وفي جلفا الجديدة بأصفهان كذلك.
أما في بوشهر، بجنوب غربي إيران، فاشتهرت عائلة مالكام (مالكولم) التي كانت لها علاقات قديمة أولا في بندر عباس إبان حكم الصفويين، ثم لاحقا في بوشهر. وبرز من هذه العائلة جيمس آرتون (وارطان) مالكولم (1888 – 1952م) الذي درس في جامعة أكسفورد البريطانية العريقة وقبلها في مدرسة خاصة راقية تحت رعاية السير ألبرت ساسون من مؤسسي البنك الشرقي، وكان صديقا للسير مارك سايكس أحد «مهندسي» اتفاقية «سايكس – بيكو»، وكان ممثلا للمنظمة الأرمنية العالمية في لندن. ويذكر أن بعض التجار من بقايا فترة الصفويين استقروا في بوشهر تحت الحماية البريطانية عندما كانت مقرّ المقيمية السياسية للمعتمدين البريطانيين في الخليج.

مقتطفات عن الأرمن من «كتاب الظاهر بيبرس» ـ مصر

> إبان عهد السلطان المملوكي الظاهر بيبرس في مصر والشام، كانت تقوم ممالك مسيحية مجاورة منها في كيليكيا، بجنوب الأناضول، منها مملكة أرمينيا المتأخرة (1223 - 1280) التي توّج أول ملوكها الإمبراطور فريديريك الأول بارباروسا ملك ألمانيا عام 1198، وكان لعائلتها المالكة مصاهرة مع أمراء أنطاكية Antioch. ولقد قامت هذه المملكة بموازاة ممالكة الفرنجة (الصليبية) في شرق المتوسط وزالت بزوالها.
ومن ثَم، غدت كيليكيا حاضنة للدولة السلجوقية المسلمة في منتصف القرن الميلادي الثالث عشر، التي توسّعت لاحقًا لتشمل كل بلاد الأناضول، وكان السلطان ملك شاه من أبرز سلاطينها، وفي عهده غدت دولة مترامية الأطراف ضمت العراق وإيران، وبلغت من القوة حد إلحاق جيشها الهزيمة بجيش الإمبراطور رومانوس السادس.
بعدها احتلّ المغول أرمينيا عام 1232 في زحفهم الكبير الذي قوّض الدولة العباسية في بغداد يوم 10 فبراير (شباط) 1258. وكان الملك هيثوم الأول (ملك أرمينيا الصغرى 1227 – 1270) قد توقّع سيطرة المغول الآتية، التي تحققت بالفعل عام 1243. وعندما كُسر الجيش السلجوقي استسلم هيثوم دافعًا من الأموال ضرائب تبغي سلامة مملكته وحمايته من أعدائه، مع العلم بأن السلاجقة أعادوا بعد ذلك تنظيم صفوفهم، وتحالفوا مع الأمير الأرمني لامبروت. وعندها ساعد الملك الأرمني القائد المغولي هولاكو في هجومه على حلب في فبراير 1260، كما شاركه بنصيب كبير من الغنائم، وأعاد إليه هولاكو ما اغتصب من أراضيه.
وعندما أرسل الظاهر بيبرس - سلطان المماليك الذين خلفوا الأيوبيين في حكم مصر - جيشه إلى حلب عام 1262 لمهاجمة المغول شارك الملك الأرمني هيثوم المغول - الذين كان قد ساعدهم على احتلال سوريا - بالتصدي لجيش المماليك ومعه بعض القبائل العربية القاطنة في البادية السورية. ولكن ما أن حلّ شهر يونيو (حزيران) 1264م (شعبان 662ه) حتى أطبق جيش بيبرس على جيش الأرمن من جميع الجهات وألحق بالأرمن هزيمة شنعاء وفرّ ملكهم. ولاحقًا، اضطر هيثوم للتنازل عن قلاع عسكرية كثيرة، كما تنازل عن عرشه لابنه ليفون الثاني عام 1270 واعتزل في أحد الأديرة حتى وفاته.



«الحرب نائمة فلا توقظوها»... نصفُ قرنٍ على «نيسان» لبنان

0 seconds of 11 minutes, 10 secondsVolume 90%
Press shift question mark to access a list of keyboard shortcuts
00:00
11:10
11:10
 
TT
20

«الحرب نائمة فلا توقظوها»... نصفُ قرنٍ على «نيسان» لبنان

«بوسطة عين الرمّانة» التي كانت بمثابة الشرارة الأولى لاندلاع الحرب اللبنانية (أ.ف.ب)
«بوسطة عين الرمّانة» التي كانت بمثابة الشرارة الأولى لاندلاع الحرب اللبنانية (أ.ف.ب)

انقضى نصف قرنٍ على ما قيل إنها الشرارة الأولى للحرب الأهلية في لبنان، حادثة «بوسطة عين الرمّانة». يحلو للبعض الظن أن القلوب ما عادت ملآنة، فيما يخشى البعض الآخر من أن تكون «الحرب نائمة تحت الوسائد». لكن المؤكّد أن البوسطة التي أُطلق عليها الرصاص في 13 أبريل (نيسان) 1975 استحالت صدأً.

«بوسطة عين الرمّانة» التي كانت بمثابة الشرارة الأولى لاندلاع الحرب اللبنانية (أ.ف.ب)
«بوسطة عين الرمّانة» التي كانت بمثابة الشرارة الأولى لاندلاع الحرب اللبنانية (أ.ف.ب)

ظهيرة ذلك الأحد المشمس، تعرّضت حافلة تقلّ مجموعة من منظّمة التحرير الفلسطينية لإطلاق نار من عناصر حزب الكتائب في منطقة عين الرمّانة ذات الغالبية المسيحية. سقط 27 شخصاً من أصل 30 كانوا يستقلّون الحافلة. وكان قد سبق ذلك وفي اليوم والمكان نفسَيهما، إطلاق نار استهدف مرافقي مؤسس حزب الكتائب بيار الجميّل، مما أدّى إلى مقتل عددٍ منهم. وحُكي أنّ الهدف الأساسيّ كان اغتيال الجميّل نفسه.

حتى اليوم، ما زالت الآراء والمعلومات متضاربة بين الطرفين بشأن خلفيات الحادثة ونتائجها. غير أنّ التاريخ الحديث يعتبرها النقطة المفصليّة التي أطلقت صفّارة الحرب في لبنان، وكل ما تلاها من دويّ وحطام ودماء.

في الذكرى الخمسين لـ«13 نيسان»، تعود «الشرق الأوسط» إلى ذلك اليوم الدامي، فتستضيف مجموعةً ممّن شهدوا عليه. بعضهم وقف على جبهة القتال، ومنهم من حاول إخماد النار، ومنهم مَن وثَّق بعينَيه وذاكرته وندوبِه.

أين كنت في ذلك اليوم، وما كان تمَوضعك السياسيّ؟ وهل تعلَّم اللبنانيون درس الحرب الأهلية؟ سؤالان طرحناهما على ضيوفنا الشهود والآتين من عوالم السياسة، والثقافة، والتعليم، والحقوق، والإعلام.

ياسمين (نانو) جمهوري – مقاتلة سابقة ومسؤولة حالية في حزب الكتائب

تتذكّر ياسمين جمهوري ذلك اليوم بوضوح. «كنّا متّجهين إلى المطار لإيصال والدي الذي كان مسافراً، وفي الطريق لاحظنا انتشاراً عسكرياً فلسطينياً». كانت رئيسة قسم بعبدا الكتائبيّ، والمعروفة بـ«نانو»، في الـ13 آنذاك. رغم سنّها الصغير، كانت قد انتسبت للحزب المسيحيّ، «بما أنّ الانتماء الكتائبي في بيتنا يسري في العروق أباً عن جدّ، وأماً عن جدّة».

ياسمين «نانو» جمهوري بالزيّ العسكري في مطلع الثمانينيات (أرشيف جمهوري)
ياسمين «نانو» جمهوري بالزيّ العسكري في مطلع الثمانينيات (أرشيف جمهوري)

عادت العائلة من المطار إلى البيت حيث سمعت خبر استهداف «البوسطة» عبر الراديو. تروي جمهوري: «لم أتفاجأ كثيراً لأننا كنا نلاحظ تحركات مريبة في المنطقة. لكن لم أفهم شيئاً كفتاة في الـ13 من عمري». كل ما تعرفه أنها وخلال أيام، حملت البندقية هي وفتيات أخريات ووقفن لحراسة مراكز الحزب، «فيما الشباب يقاتلون على الجبهات».

خضعت «نانو» لتدريبات عسكرية وشاركت في معركة كفرشيما، ثم تمركزت على المدفعيّة في الـ19 من عمرها خلال معركة زحلة. حدث ذلك بالتزامن مع تخصصها في إدارة الأعمال المعلوماتيّة في الجامعة اليسوعية. «كنّا الجبهة المساندة للشباب في منطقة عيون السيمان، نحضّر ملابسهم وطعامهم ونقوم بالحراسة ليلاً». وتضيف جمهوري: «كل ما قمت به كان انطلاقاً من إيماني بلبنان وتجذّري بأرضه. لم أندم يوماً، وإذا اقتضى الأمر فسأحمل السلاح من جديد». لكنها في المقابل تؤكّد أنها من الجيل الذي تعلّم دروس الحرب، «أما بعض القادة السياسيين فلم يفعل».

«ما زلت أبكي كلما ذكرت اسم رفيقي منير الذي استُشهد عندما كنا في الـ14 من العمر» - ياسمين جمهوري
«ما زلت أبكي كلما ذكرت اسم رفيقي منير الذي استُشهد عندما كنا في الـ14 من العمر» - ياسمين جمهوري

أسعد الشفتري - مسؤول أمني سابق في حزبَي الكتائب والقوات ونائب رئيس جمعية «محاربون من أجل السلام»

في 13 أبريل 1975، كان أسعد الشفتري طالب هندسة في الـ20 من عمره يجلس إلى مائدة الغداء مع أهله في بيتهم في بيروت. «رنّ جرس الهاتف وجاء صوت الرفيق في حزب الكتائب سليم صادر لينبئني بما حصل». توجّه الشفتري فوراً إلى مركز الحزب، وبدأت رحلة تجهيز شبكة التواصل والتنصّت الخاصة بالحزب. يروي مستذكراً: «بعد الحادثة، انطلقت إلى منطقة فرن الشباك المحاذية لعين الرمانة، حيث ركّبت أول جهاز لا سلكي على سطح أحد المباني.»

أسعد الشفتري بالزيّ الحربي وفي لقطة مع الرئيس اللبناني الراحل بشير الجميّل (أرشيف الشفتري)
أسعد الشفتري بالزيّ الحربي وفي لقطة مع الرئيس اللبناني الراحل بشير الجميّل (أرشيف الشفتري)

كانت تلك من بين أولى المهمات، التي تلاها ما هو أصعب وأكثر تعقيداً، إذ أصبح الشفتري أحد الرؤوس الأمنية في حزب الكتائب، ولاحقاً في القوات اللبنانية. أسأله عن أفظع ما رأى خلال تلك المرحلة فيجيب: «كانت مجموعة من مقاتلي حزب الكتائب متّجهة إلى إحدى مناطق التماس في بيروت. جهّزتهم بالأدوات اللاسلكية للتواصل معنا، ثم لمحت الموت في عيون اثنين منهم. هذان الشابان لم يعودا أبداً من المهمة. شعرت بذنبٍ ما زال يرافقني حتى اللحظة».

يحاول الشفتري محو هذا الذنب «بتأسيس حياة أفضل للأجيال اللاحقة كي لا يخوضوا هذه الحروب»، وفق تعبيره. يبوح بأنه «نادم على ارتكابات كثيرة»، لكنه راضٍ عن واقعه الجديد: «أنا الآن متسامح، ولديّ قناعة بأنّ العنف لا يؤدّي إلى حلول». برأيه، فإنّ «اللبنانيين لم يتعلموا الدرس لأن السلطة لم تؤسس لعدالة انتقالية تأخذنا من الحرب إلى السلام».

يكرّس أسعد الشفتري وقته منذ ربع قرن لإعادة بناء السلام من خلال ورش تدريبية ومحاضرات
يكرّس أسعد الشفتري وقته منذ ربع قرن لإعادة بناء السلام من خلال ورش تدريبية ومحاضرات

زياد صعب - مقاتل سابق في الحزب الشيوعي ورئيس جمعية «محاربون من أجل السلام»

لم يُسمع أزيز رصاص عين الرمانة في منطقة برج حمّود، حيث كان يمضي زياد صعب ظهيرة الأحد على سطح منزله. كان على العنصر الشاب في الحزب الشيوعي أن ينتظر زيارة رفيقٍ له حتى يخبره بما حدث. يروي لـ«الشرق الأوسط»: «كنت في الـ16 ومتعطشاً للقتال. وفور سماعي الخبر سألت متى ننطلق». يتابع صعب: «جمعت الشباب وذهبنا إلى أحد المنازل القريبة، وجهّزنا السلاح المخبأً هناك».

كانت لديه ثقة قائد ميدانيّ، بينما مَن في سنّه جالسون إلى مقاعد الدراسة. «لم تكن هناك مدرسة ثانوية في منطقتنا. ظننّا أن العلم ممنوع علينا، ولم نجد سوى العنف بديلاً عن العلم كوسيلة للتغيير. وعندما فُتحت لنا مدرسة وصرت مسؤولاً عن شؤون الطلاب، كانت الحرب قد اندلعت فانتقل التلاميذ من الصفوف إلى الجبهات».

زياد صعب على الجبهة في منطقة الرميلة (أرشيفه الخاص)
زياد صعب على الجبهة في منطقة الرميلة (أرشيفه الخاص)

ما زال مشهد «الجثة الأولى» عالقاً في ذاكرته: «حدث ذلك في يونيو (حزيران) 1975. كان صديقاً من عمري... اختفى قبل أيام، وذهبت للبحث عنه في منطقة سن الفيل فوجدته جثة ملقاة أرضاً، بعد أن تعرّضت للتعذيب والتشويه».

يندم على 15 سنة أمضاها محارباً، ويتأسف على لبنانيين تعلموا الدرس لكنهم لا يقومون بأي فعلٍ من أجل التغيير. أما هو فيحاول التعويض من خلال جمعية «محاربون من أجل السلام». أسسها إلى جانب محاربين قدامى من الأحزاب التي كانت متناحرة خلال الحرب. جمع زياد صعب أعداء الجبهات فباتوا رفاق السِلم.

أسس زياد صعب مع عدد من المحاربين القدامى جمعية «محاربون من أجل السلام»
أسس زياد صعب مع عدد من المحاربين القدامى جمعية «محاربون من أجل السلام»

فؤاد السنيورة - الرئيس السابق للحكومة اللبنانية

في 13 أبريل 1975 كان فؤاد السنيورة في بيته في صيدا، ولم يعلم بالحادثة التي وقعت ظهراً سوى في المساء. «كان حدثاً جللاً خصوصاً أنه كان قتلاً متعمداً»، يقول الرئيس السابق للحكومة اللبنانية لـ«الشرق الأوسط»: «لكننا لم نتصور أن تنجرف الأمور بعده إلى ما هو أدهى بكثير».

لطالما كان هوى السنيورة عروبياً، لكنه في تلك الآونة لم يكن منضوياً تحت لواء أي حزب: «كنت قد انسحبت من حركة القوميين العرب في منتصف الستينيات». تفرّغ للأنشطة الثقافية والتدريس. وفي أحد أيام خريف 1975، وفيما كان يقود سيارته برفقة زميله الأستاذ الجامعيّ د. حسن صعب من شارع بلِس إلى منطقة القنطاري، حصل ما لن ينساه مدى العمر.

الرئيس فؤاد السنيورة يتلو الفاتحة على ضريح الرئيس رفيق الحريري (موقعه الرسمي)
الرئيس فؤاد السنيورة يتلو الفاتحة على ضريح الرئيس رفيق الحريري (موقعه الرسمي)

يروي السنيورة: «كانت نافذة السيارة مفتوحة فسمعت صوتاً ينادي: وقّف... وقّف. تبيّن أن هناك حاجزاً لمسلّحين من حزب الكتائب. خرج من خلف «الدشمة» شخص ملثّم ومسلّح وقال: «يا دكتور حسن كنت رح قوّسكن لو ما عرفتك... أنت استاذي بالجامعة. الله معكن». تركت تلك الحادثة أثراً كبيراً في نفسه، خصوصاً أنها «كانت مؤشّراً إلى انضمام جيل كامل من الشباب للحرب الأهلية».

اليوم، وبعد 50 عاماً على تلك اللحظة، يرى السنيورة أن «ثمة لبنانيين استخلصوا العِبَر من الحرب ومنهم مَن لم يفعل». لكن المؤكّد في نظره، هو أنّ «المجتمع اللبناني ما عاد راغباً في خوض حروبٍ أهلية بعد الآن، والدليل احتضانه بعضاً لبعض خلال العدوان الإسرائيلي الأخير».

السنيورة في مظاهرة 14 مارس 2005 (موقعه الرسمي)
السنيورة في مظاهرة 14 مارس 2005 (موقعه الرسمي)

أكرم شهيّب - قياديّ في الحزب التقدّمي الاشتراكي، نائب حالي ووزير سابق

لم يكن أكرم شهيّب قد انتسب بعد إلى الحزب التقدّمي الاشتراكي، يوم وردَ إلى دارة أهله في عاليه نبأ بوسطة عين الرمانة. كان الشاب منخرطاً في مجال التعليم بعد أن استكمل دراسته في جامعة القاهرة، غير أنّ الهوى السياسيّ في البيت كان اشتراكياً، و«كمال جنبلاط القامة الوطنية والمرجع».

يخبر شهيّب أن الخبر لم يفاجئه كثيراً حينها، «لأنّي كنتُ في جوّ الاستنفار النفسي الحاصل في معظم المناطق اللبنانية». يتابع: «صحيح أن بوسطة عين الرمانة كانت الشرارة الأولى، لكن لو لم تندلع في عين الرمانة لاندلعت في مكان آخر. الأوضاع الإقليمية والمحلية كانت ستفرض الحرب عاجلاً أم آجلاً».

النائب والوزير السابق أكرم شهيّب (أرشيفه الخاص)
النائب والوزير السابق أكرم شهيّب (أرشيفه الخاص)

من السنوات الدامية تلك، أكثر ما يؤلم أكرم شهيّب «رفاقٌ أصيبوا في الحرب وما زالوا على الكرسي المتحرك حتى اليوم. الظلم الذي تعرضوا له يحزّ في نفسي. هذا مشهد من الحاضر يذكّرنا يومياً بمأساة الماضي».

لا يندم الرجل، الذي خاض الحرب والسِلم إلى جانب الحزب التقدمي الاشتراكي ورئيسه وليد جنبلاط، على شيء قام به. «كنت أسعى في مراحل للدفاع عن النفس، هذا كان دوري وكنت مثل الجميع أعتبر أنني كنت على حق والآخر على خطأ».

يعتبر شهيّب أنّ «مصالحة الجبل» عام 2000، والتي بادر إليها وليد جنبلاط والبطريرك صفير «وضعت اللبنة الأساسية لتضميد الجراح». يبدو مطمئناً إلى أن اللبنانيين تعلّموا الدرس، لكنّ «غليان المنطقة» يقلقه لأنه «ينذر بما هو أصعب».

شهيّب برفقة وليد جنبلاط في مطلع الثمانينيات (أرشيفه الخاص)
شهيّب برفقة وليد جنبلاط في مطلع الثمانينيات (أرشيفه الخاص)

إلياس عطا الله - قيادي سابق في الحزب الشيوعي، أمين سر حركة اليسار الديمقراطي ونائب سابق

عقب حادثة بوسطة عين الرمانة، لم يكن الياس عطا الله يتوقّع أنّ «تتدهور الأمور إلى هذا الحدّ وأن تكون تلك مقدّمة لحرب أهلية». يخبر «الشرق الأوسط» أنه كان حينها في الـ28 من عمره ورئيس فرع كلية التربية في الجامعة اللبنانية في اتحاد الشباب الديمقراطي.

«في أحد الأيام، وفيما كنت متّجهاً سيراً على الأقدام إلى الجامعة سمعت قصفاً للطيران، وكنت في نقطة قريبة من المدينة الرياضية. بالنسبة لي، كان هذا المشهد بداية الحرب في لبنان»، يروي إلياس عطا الله.

إلياس عطا الله متوسطاً إحدى المظاهرات في بيروت في السبعينيات (أرشيفه الخاص)
إلياس عطا الله متوسطاً إحدى المظاهرات في بيروت في السبعينيات (أرشيفه الخاص)

أمّا الصورة التي لا تُمحى من مخيّلته فسُجّلت في نهاية 1975: «كنت في مهمة حزبية في منطقة حيّ السلّم عندما رأيت كتبَ مكتبة جامعتي مرميّةً في الوحل أرضاً... سُرقت من الجامعة ورُميت مع كراسٍ وصحون محطّمة». يتابع عطا الله: «لا شيء آلمَني بقدر ما فعل هذا المشهد، خصوصاً أنني شاركت في تجهيز جزء من تلك المكتبة».

مع أنه لم يحارب ولم يطلق النار وفق ما يؤكّد، بل كان منسّق عمليات جبهة المقاومة الوطنية، غير أنّ إلياس عطا الله «نادم على التكيّف مع الحرب، وعلى مساري فيها». يضيف متأسفاً: «ذاك لم يكن أنا، بل شخص آخر». وبعد، هو يستبعد أن تكون الحرب قد انتهت في أذهان اللبنانيين، «لا سيّما أن الوعي الجماعي معتاد على الفساد والكسل».

إلياس عطا الله والكاتب إلياس خوري يوم اغتيال الصحافي سمير قصير (أ.ف.ب)
إلياس عطا الله والكاتب إلياس خوري يوم اغتيال الصحافي سمير قصير (أ.ف.ب)

رشيد درباس - وزير سابق ونقيب المحامين في طرابلس سابقاً

في الحقبة التي شهدت اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، كان ابنُ طرابلس الوزير السابق رشيد درباس يجاهر بهواه الفلسطيني وبانتمائه للحركة الوطنية اللبنانية.

كان في بغداد يوم 13 أبريل 1975 مشاركاً في مؤتمر اتحاد المحامين العرب. ولدى عودته بعد أيام سالكاً الطريق البحري بالتاكسي من مرفأ بيروت إلى عاصمة الشمال، لم يلحظ ما يقلقه أو ينبئه بتدهور الأوضاع.

تولّى رشيد درباس وزارة الشؤون الاجتماعية ما بين 2014 و2016 (موقع رئاسة الحكومة اللبنانية)
تولّى رشيد درباس وزارة الشؤون الاجتماعية ما بين 2014 و2016 (موقع رئاسة الحكومة اللبنانية)

لكن ما لم يكن في الحسبان حصل، وامتدّ النزيف إلى طرابلس حيث اختبر درباس الحرب على طريقته. هو الفلسطينيّ العروبيّ الهوى سرعان ما أصابه الخذلان. يبوح لـ«الشرق الأوسط»: «أندم لأنني انغمست إلى أذنيّ، ليس قتالاً، إنما التصاقاً بالحركة الوطنية والقيادات الفلسطينية. أصابتني اليقظة يوم حوصر مرفأ طرابلس من الزوارق السورية، فتبيّن لي أن المقاومة الوطنية ليست خطاً واحداً كما كنت أظنّ، وأنّ الجيش السوري بات رديفاً للقوى اليمينية التي كنا نحارب»، يتابع: «لديّ الشجاعة اليوم لأقول إنني لم أكن متبصّراً».

رشيد درباس مصافحاً وليد جنبلاط (أرشيفه الخاص)
رشيد درباس مصافحاً وليد جنبلاط (أرشيفه الخاص)

اختبر درباس محاولات القتل والخطف، مما اضطرّه إلى السفر إلى قبرص عام 1977 والابتعاد عن عائلته؛ «لم أشارك في جنازة أبي الذي توفّي في غيابي وما زال هذا الجرح في قلبي. طعنتني كذلك خسارة عدد كبير من الأصدقاء شهداءَ في تلك الحرب».

وفق درباس، فإنّ «اللبنانيين تعلموا الدرس لكن القوى السياسية لم تتخلص من ارتباطاتها الخارجية».

مي كحّالة - صحافية وأول مستشارة إعلامية لرئاسة الجمهورية اللبنانية

كانت مي كحّالة تمضي ذاك الأحد المشمس مع عائلتها في بيتهم الجبليّ. «سمعنا بأنّ أمراً ما حدث في عين الرمانة، فعدنا أدراجنا إلى منزلنا في سن الفيل شرقي بيروت. شاهدنا على طريق العودة وعلى مقربة من المنزل حواجز فلسطينية. لكن ليس سوى مساءً حتى عرفنا التفاصيل عبر إذاعة مونتي كارلو، ولم ننم في تلك الليلة من أزيز الرصاص».

تخبر الإعلامية والمستشارة الإعلامية السابقة لرئاسة الجمهورية: «ربيت في بيت لا انتماء سياسياً لديه، لذا لم أستوعب ما يجري، إلى أن بدأت القوى الفلسطينية المحيطة بالبيت تتحرّك. أقفلت طرقات كثيرة وصار التنقّل صعباً. عشت قلقاً كبيراً لكني كنت أعتقد دائماً أنها مرحلة وستمرّ».

مي كحالة أول مستشارة إعلامية لرئاسة الجمهورية برفقة الرئيس الراحل إلياس الهراوي (أرشيفها الخاص)
مي كحالة أول مستشارة إعلامية لرئاسة الجمهورية برفقة الرئيس الراحل إلياس الهراوي (أرشيفها الخاص)

من البيت المسالم مباشرةً إلى الميدان، انتقلت كحّالة مراسلةً حربيّة لصحيفة «النهار»؛ «كان الاتّكال على الصحافيات الإناث أكثر في تلك المهمات حينذاك، بما أنّ الذكور كانوا عرضةً للخطف والقتل على الهوية. خاطرتُ كثيراً، وأكبر مخاطرة كانت محاولة العبور إلى الجنوب لتغطية الاجتياح الإسرائيلي. هناك، علقنا بين نار القنص الإسرائيلي والجهات التي كانت تردّ عليه».

أما أفظع مشهد فهكذا سجّلته ذاكرتها: «كنت أعبر من منطقة المتحف باتجاه المحكمة العسكرية حيث تنتظرني سيارة من الجريدة. رأيتُ جندياً مختبئاً خلف دبّابته ويومئ لي من البعيد بأن أركض. ركضت فوجدت جثة أرضاً وتجمّدت بدل أن أهرب من القنص. ما زلت أذكر وجه الرجل المقتول حتى الآن...».

تأسف كحّالة لأن اللبنانيين لم يتعلموا الدرس، «فهم ما زالوا يتقاتلون ثم يعودون للعيش معاً».

«لم يتعلّم اللبنانيون درس الحرب لأنهم ما زالوا يتقاتلون ثم يعودون للعيش معاً» - مي كحّالة
«لم يتعلّم اللبنانيون درس الحرب لأنهم ما زالوا يتقاتلون ثم يعودون للعيش معاً» - مي كحّالة

عبد الحليم كركلّا - المؤسّس والمدير الفني لمسرح كركلّا

تركت «الشرارة الأولى» للحرب الأهلية ندوباً عميقة في جسد فرقة «كركلّا» للرقص. يروي مؤسّس المسرح العريق، عبد الحليم كركلّا، لـ«الشرق الأوسط» كيف انهمر الرصاص على سيارات الراقصين أثناء عودتهم من افتتاح مسرحية «غرائب العجائب وعجائب الغرائب» في 13 أبريل 1975.

«13 نيسان» 1975 افتتاح مسرحية «غرائب العجائب وعجائب الغرائب» في قصر الأونيسكو في بيروت (أرشيف مسرح كركلّا)
«13 نيسان» 1975 افتتاح مسرحية «غرائب العجائب وعجائب الغرائب» في قصر الأونيسكو في بيروت (أرشيف مسرح كركلّا)

بغصّةٍ ما زالت ترافقه حتى اليوم، يقول كركلّا: «طال الرصاص عدداً من الراقصين مما أدّى إلى إصابة نجمة الفرقة أميرة ماجد بالشلل، كما اخترقت رصاصة جسد ملكة جمال لبنان مارسيل حرّو التي كانت معنا».

لكن التحدّي الأكبر بالنسبة إلى كركلّا كان «الحفاظ على تركيبة الفرقة كي لا تتفرّق كما تفرّق لبنان، خصوصاً أنّها تعكس صورة الوطن المتنوّع». يتابع: «صرنا نهرب من الأماكن الخطرة إلى الأماكن الآمنة. من بيروت إلى جونية». لم يتوقف المسرح خلال الحرب اللبنانية لا في الداخل ولا في الخارج. «وعندما بدأت القذائف تطال مركزنا في جونية، انتقلنا إلى طرابلس. ومن طرابلس إلى بعلبك حيث تابعت الفرقة تدريباتها. ثم من بعلبك إلى الشوف بدعوة من رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط».

عبد الحليم كركلّا ووليد جنبلاط في قصر المختارة (أرشيف مسرح كركلّا)
عبد الحليم كركلّا ووليد جنبلاط في قصر المختارة (أرشيف مسرح كركلّا)

أما أفظع مشهد عالق في ذاكرة كركلّا، فهو انهمار القنابل والقذائف حول سيارات الفرقة، خلال انتقالها «من المكان الذي كنا نظنه آمناً إلى مكان أكثر أماناً»، وفق تعبيره. هو الذي استطاع الحفاظ على الفرقة وعروضها حتى في أعتى أيام الحرب، يرجو أن «يكون اللبنانيون قد تعلموا الدرس لأنهم يحبون الازدهار والثقافة والحرية».

«أفظع مشاهد الحرب كان انهمار القنابل والقذائف حول الفرقة خلال تنقّلاتها» عبد الحليم كركلّا
«أفظع مشاهد الحرب كان انهمار القنابل والقذائف حول الفرقة خلال تنقّلاتها» عبد الحليم كركلّا

عصام خليفة - مؤرّخ وباحث أكاديمي وأستاذ جامعي وناشط نقابي

«بوسطة» من نوعٍ آخر استقلّها عصام خليفة في 13 أبريل 1975، فأستاذ التاريخ في ثانوية البترون كان يرافق طلّابه في رحلة إلى البقاع والليطاني. «في طريق العودة، عبرنا صيدا وبيروت من دون أن ندري بما حدث. وصلنا مساءً لنجد الأهالي متجمهرين ينتظرون أولادهم بقلق، وهناك اكتشفنا ما حدث. كان الجو محتقناً فلم أتفاجأ كثيراً بالخبر».

كان خليفة قد أسس «حركة الوعي» التي نشأت من قلب الجامعة اللبنانية. يشرح: «كنا مع عدالة القضية الفلسطينية لكن رفضنا التدخل الفلسطيني بالشأن اللبناني، خصوصاً التمدد العسكري على حساب السيادة. كنا متمايزين عن اليسار واليمين اللبنانيَين».

أفظع ما شاهد وما زال محفوراً في ذاكرته حصل فيما كان يدرّس في بيروت: «كنت عائداً إلى شقّتي بعد الدوام، حاولت فتح الباب فلم أفلح. فتحت الباب امرأة تحمل بندقية وسألتني: (من أنت). أنا الذي لم أحمل السلاح يوماً، أجبتها بأني صاحب الشقة فقالت: (إذا عدت إلى هنا ستموت)».

يتابع خليفة: «في تلك الآونة، حاولنا من خلال مجموعات وحركات ثقافية تغييرية أن نجمع الناس من كل الأطراف لتتحاور ضد الحرب والعنف. نظمنا تظاهرات نقابية وثقافية وحاولنا إزالة السواتر الفاصلة بين «شرقية» و«غربية». ناضلت من أجل السلام لذلك لا أندم على شيء. لكن لو تعلّم اللبنانيون الدرس من الحرب لما راهنوا على الخارج حتى الآن».

المؤرّخ والباحث الأكاديمي د. عصام خليفة (إكس)
المؤرّخ والباحث الأكاديمي د. عصام خليفة (إكس)

علويّة صبح - كاتبة وصحافية لبنانية

تخبر الروائية والصحافية اللبنانية علويّة صبح أنها في 13 أبريل 1975، كانت في منزل ذويها في منطقة السبتيّة شرقي بيروت. كانت حينها طالبةً جامعيّة يساريّة الهوى، تتخصص في الأدبَين العربي والإنجليزي. «كنت أؤمن بالعلمنة وبنظام مدني، وافترضت أن الحزب الشيوعي والحركة الوطنية هدفهما ذلك. لكن لاحقاً تملّكتني خيبة وانزويت وابتعدت».

لم تكن تعرف حينها أنّ خيبات الحرب ليست عقائديّة فحسب، بل قد تتحوّل في أي لحظة إلى صدماتٍ ترافق المرء مدى العمر. تقول إنها لا تزال تكتب عن الحرب كي تمحوها من ذاكرتها الشخصية.

بطاقة الانتساب إلى الجامعة اللبنانية الخاصة بعلويّة صبح (أرشيفها الخاص)
بطاقة الانتساب إلى الجامعة اللبنانية الخاصة بعلويّة صبح (أرشيفها الخاص)

ما لم تستطع محوه حتى اللحظة هو هذا المشهد: «سمعتُ نداءاتٍ في منطقة برج حمّود، حيث كنّا قد انتقلنا، تطلب المساعدة في نقل جثث ضحايا مدنيّين إلى المسجد». تبرّعت علويّة صبح لأداء المهمة، فملأت المقاعد الخلفيّة وسطح سيارتها بالجثث ونقلتهم. «كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها جثة. توهّمت الشجاعة وعندما وصلت إلى البيت أخبرت الحكاية لأهلي بفخر وكأنني بطلة، لكن الكوابيس التي أصابتني تلك الليلة دفعتني إلى الصراخ وأنا نائمة. وما زال هذا المشهد القاسي يلازمني منذ ذلك الحين».

أما أكثر ما يؤلمها اليوم فهو أن أبناء بلدها لم يتعلّموا الدرس، بل احترفوا صناعة الطائفية. تتساءل: كيف يُشفى المجتمع من ندوبه إن لم يقُم أي زعيم بنقدٍ ذاتيّ وظلّ متمسكاً بأنه على صواب وسواه على خطأ؟

«نقلت جثث مدنيين في سيارتي وما زال المشهد يرافقني إلى اليوم» - علويّة صبح
«نقلت جثث مدنيين في سيارتي وما زال المشهد يرافقني إلى اليوم» - علويّة صبح

ندى عبد الصمد - إعلامية لبنانية

يوم تعرّضت «البوسطة» لإطلاق الرصاص، كانت ندى عبد الصمد في الـ10 من العمر. تروي لـ«الشرق الأوسط»: «شعرت بأن أمراً كبيراً حدث لأنّ معارف أهلي بدأوا بالتوافد إلى منزلنا في بيروت. كان والدي منتسباً إلى الحزب الشيوعي، أما والدتي فمنخرطة في لجنة حقوق المرأة في الحزب».

يكرّ شريط الذكريات في رأس الإعلامية اللبنانية: «طريق الذهاب والعودة من وإلى المدرسة تحت القصف. نشوء التنظيمات المسلحة الصغيرة بعد حرب الفنادق، وتَمركُز بعضها تحت بيتنا. أذكر كيف كانوا يشتبكون... مثل «الصاعقة»، و«أبو كوسا» وغيرهما ممّن كان تمويلهم فلسطينياً».

أما أبشع المشاهد فسُجّل يوم السبت الأسود في 6 ديسمبر (كانون الأول) 1975: «رافقت والدي إلى مركز عمله في شركة الكهرباء. وفي الطريق إلى هناك من جهة المرفأ رأينا جثتين، بالتزامن مع بداية المجازر على الهوية...».

الإعلامية اللبنانية ندى عبد الصمد
الإعلامية اللبنانية ندى عبد الصمد

في اعتقاد ندى عبد الصمد، مهّدت حرب الـ75 الدرب لفرزٍ مذهبيّ، «فاتخذت الأحزاب طابعاً طائفياً بعد أن كانت مختلطة ومتنوعة». انطلاقاً من ذلك، فهي ليست مطمئنّة إلى أنّ اللبنانيين تعلّموا درس الحرب، بل تذهب إلى حدّ القول: «أعتقد أنهم قد يكررونها لكن بأشكال ثانية، لا سيّما أنّ لبنان بتركيبته الطائفية يؤسس لحروب مذهبية بسبب المحاصصة القائمة». وتتابع ندى عبد الصمد: «المشكلة هي في أننا ما زلنا ننتج الأشخاص أنفسهم والأنظمة ذاتها».

باترك باز - مصوّر صحفي

«كنت في الـ11 من عمري. أذكر أننا في الأيام التالية للحادثة، وأنا عائد إلى البيت في باص المدرسة، رأيت انتشاراً مسلّحاً في منطقة فرن الشباك المحاذية لعين الرمانة. ما زلت أرى أمام عينيّ أقنعة المسلّحين وهي تغطّي وجوههم». هكذا يتذكّر باتريك باز الأيام التي تلت حادثة عين الرمّانة.

مع الوقت، أراد أن يصبح مثل هؤلاء المسلّحين. يوضح: «كانوا المرجع القوي الوحيد، وكأطفال رغبنا في تقليدهم». لاحقاً، عندما اتّسع وجود مسلّحي الكتائب وصار تحت بيت باز في منطقة التباريس، بات المقاتلون يلعبون كرة القدم مع أطفال الحيّ. «مشهد لا أنساه من تلك الفترة ولعلّه أفظع ما شهدت: أحد هؤلاء الشبان شاركَنا اللعب ثم اتجه صوب الجبهة ليعود من جديد، إنما محمّلاً على كتفَي رفيقه».

المصوّر باتريك باز في سن الـ18 (أرشيفه الخاص)
المصوّر باتريك باز في سن الـ18 (أرشيفه الخاص)

من طفلٍ يلاعب الكرة إلى فتىً يحمل السلاح، تحوّل باتريك باز في غضون أشهر. «حملت السلاح لأول مرة في الـ14 من عمري وكنت أذهب إلى المدرسة والمسدّس على خاصرتي تحت القميص. ومع الشبان المقاتلين كنا نتدرب عليه بإطلاق النار على أهداف وهمية».

«سرت الحرب في دمي فقررت أن أعيشها من دون إطلاق النار على أحد» - باتريك باز
«سرت الحرب في دمي فقررت أن أعيشها من دون إطلاق النار على أحد» - باتريك باز

إلّا أنّ الوعي الذي اكتسبه بعد خروجه من لبنان لسنتَين خلال الحرب، ساهم في تغيير سلوكه. «من جبهة القتال انتقلت إلى جبهة التصوير واستبدلت بالرشّاش الكاميرا في سن الـ18. عبر العدسة أردت أن أعيش الحرب من دون أن أطلق النار على أحد»، يقول باز.