لينسكي: رواية «1984» تذكرنا بالدروس المؤلمة التي لم يتعلَّمها العالم

مقاصد وأفكار رواية جورج أورويل الأشهر

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

لينسكي: رواية «1984» تذكرنا بالدروس المؤلمة التي لم يتعلَّمها العالم

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

يسعى الكاتب البريطاني دوريان لينسكي في كتابه «وزارة الحقيقة»، الذي صدرت نسخته العربية حديثاً عن دار «كلمات» الكويتية بترجمة الناقد المصري نادر أسامة، لشرح وتفسير وسبر أغوار الأفكار والمقاصد التي دفعت الروائي البريطاني جورج أورويل لتأليف روايته «1984» التي كثيراً ما شُوِهت وأُهملت، ويعرف الناس ظاهرياً عنها أكثر مما يعرفونها بالفعل، وذلك بهدف التأكيد على أن رواية أورويل الأشهر لا بد أن تفهم بوصفها عملاً فنياً ووسيلة لفهم العالم، وليس مجرَد «منبع نافع لا ينضب للإحالات الشعبية الساخرة».
قسم لينسكي كتابه إلى جزأين تكون الأول من 9 فصول هي «التاريخ توقَّف» و«حمى اليوتوبيات»، و«العالم الذي نحن بصدده»، و«عالم ويلز»، و«إذاعة أورويل»، و«المهرطق»، و«حقائق مزعجة»، و«كل الكُتُب فاشلة»، و«تعلن الساعات الواحدة بعد الظهر». أما الجزء الثاني فقد تمحور حول عناوين مثل «الألفية السوداء»، و«هذا الذعر اللعين»، و«الهوس بأورويل»، و«أوقيانيا 2.0»، وفي نهاية الكتاب حرص المؤلف على وضع ملحق أوجز فيه رواية «ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون». وقد كان هدفه من تلخيص الأحداث أن يضع القارئ أمام قضايا كتابه التي تطرق لها، وما ارتكز عليه من رؤى، فضلاً عن توضيح ما كان يريده أورويل حقاً من كتابة روايته، والظروف التي أحاطت بكتابتها، وكيف غيَرت العالم على مدى السنوات الماضية بعد رحيل مؤلِفها في عام 1949. يتتبع لينسكي المراحل التي مرت بها الرواية، مشيراً إلى أن هناك من كتبوا سيراً عديدة لجورج أورويل، ومن تابعوا بدراساتهم الأكاديمية السياق الفكري للرواية، لكن لم تُجر محاولة واحدة من قبل لدمج الأمرين في سردٍ واحد، من أجل استكشاف صيرورتها.
ويقتفي المؤلف ما جرى قبل إصدار الرواية عام 1948 من أحداث جسام. فتحدث عن قصف لندن وأوروبا المنهكة بعد الحرب، وقوَات الحرس الوطني وهيئة الإذاعة البريطانية ولندن الثقافية، وصولاً إلى جزيرة جورا التي شهدت كتابة الرواية. وكان هدفه أن يهدم الأسطورة التي تقول إن الرواية كانت «نحيباً طويلاً سببه اليأس، الذي صدر عن رجل وحيد يحتضر غير قادر على مواجهة المستقبل». ولم يتوقف لينسكي عند هذا الحد، بل سعى للفت الانتباه إلى ما كان يفكِر فيه أورويل وهو يبدع روايته، وكيف تأتَى له هذا التفكير.
والمعروف، أن الرواية باعت عشرات ملايين النسخ، وتسرَّبت أيضاً إلى عقول عددٍ لا حصر له ممن لم يقرأها. وأصبحت العبارات والتركيبات التي صاغها أورويل متغلغلة في ثناياها مصطلحاتٍ أساسية في الخطاب السياسي، ولم تزل فعَّالة بعد عقود من الاستخدام وسوء الاستخدام، وجاء اسم الرواية ليهيمن على تقويم السنين، بينما حوَّلت الصِّفة المشتقَّة «أورويلي» اسم مؤلِّفها إلى مرادف واسع لكل ما كرهه وخافه يوماً، كما أثَّرت في عشرات الروايات والأفلام والمسرحيات والمسلسلات التلفزيونية والقصص المصوَّرة والألبومات والإعلانات والخطب والحملات الانتخابية والانتفاضات. وهكذا لم يقترب عمل أدبي آخر في القرن الماضي له نفس الوزن من ذلك الانتشار الثقافي، رغم ادعاء بعض الأصوات «أنها رواية سيِّئة، شخصياتها هزيلة وسردها مُضجر وحبكتها غير مقنعة».
في الجزء الأول من الكتاب، بدا اهتمام لينسكي واضحاً بتتبع سيرة أورويل والعالم الذي عاش فيه والناس الذين التقاهم، والأخبار التي تابعها، والكتب التي قرأها. كما خصص ثلاثة فصول لمصادر إلهام «ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون» الأساسية، ومنها رواية «نحن» للكاتب الروسي يفجيني زامياتن، كما عقد على مدار الكتاب بعض المقارنات بين الوضع السياسي زمن كتابتها ونظيره الحالي، سواء بشكل مباشر، أم بطريقة غير مباشرة.
ثم تناول دلالة تعبير «أورويلي» تواودر تعريفين متضادين، الأول يطلق على العمل الأدبي الذي يعكس أسلوب أورويل وقِيَمه، وقد ميزه بوصفه أنه «ذو طابع أورويلي»، أما الثاني فكان يستحضر عندما يدور الحديث عن مصادرة الحريات وتشويه الديمقراطية والانتهاكات الإنسانية، والقمع والتضييق ومراقبة أدق خصوصيات البشر.
كان هدف المؤلف في «وزارة الحقيقة» أن يرسم للقارئ صورة دقيقة عن موقف أورويل من قضايا عصره الحيوية، ووقت وسبب تغيُّر بعض هذه المواقف، وذكر أن الرواية التي يحتفي بها الاشتراكيون والمحافظون والفوضويون والليبراليون والكاثوليك والمدافعون عن الحريَّات من كل صنف، لا يمكن أن تكون مجرَّد «فكر سياسي متخفٍّ في صورة رواية» كما زعم ميلان كونديرا. إنها قطعاً ليست حكاية رمزية محدَّدة مثل «مزرعة الحيوان»، يتوافق كل عنصر فيها مع العالم الحقيقي كالقفل ومفتاحه. لكنها عادة ما توصف بأنها رواية «ديستوبية». كما أنها تعتبر عملاً ساخراً، يحمل نبوءة وتحذيراً وأطروحة سياسية، ورواية خيال علمي وكتاب جاسوسية شائق، ورواية رعب نفسي وكابوس قوطي، ونصاً من نصوص ما بعد الحداثة وقصَّة حب، كما أنها تخلق معاناة كبيرة لقرائها وتمنحهم طمأنينة أقل من أي نص نموذجي آخر تتم دراسته».
«1984» حسب لينسكي، أوَّل رواية ديستوبية تُكتب مع إدراك أن الديستوبيا صارت أمراً واقعاً، وقت أن شيد رجال في ألمانيا والكتلة السوفياتية، دولاً ظلامية وأجبروا رجالاً ونساءً على العيش والموت بين جدرانها الحديدية. ورغم انتهاء تلك الأنظمة فإن ما كتبه أورويل يواصل رسم وتحديد كوابيسنا، ويذكرنا بجميع الدروس المؤلمة التي يبدو أن العالم لم يتعلَّمها، خاصة تلك المتعلِّقة بهشاشة الحقيقة في وجه السلطة الغاشمة.
الرواية، حسب المؤلف، ليست كئيبة كما تبدو، فقد حاول أورويل أن يوحي ببصيص أملٍ للقرَّاء، ورغم اتهام نقَّاد الرواية أورويل بأنه رسم مستقبلاً إنسانياً مروِّعاً، لا يمكنك فعل أي شيء حياله. لكن لا شيء في حياة أورويل وعمله يدعم اليأس. على العكس من ذلك، فقد استخدم باستمرار عزيمته في مواجهة الحقائق غير السارة بغيَة بث مزيد من الوعي، بما في ذلك وعيه الذاتي، ولاجتثاث الأكاذيب والمغالطات التي ابتُليت بها الحياة السياسية والتي تهدِّد الحرية.
لم يكن أورويل ليتكلَّف كل هذا العناء المدمِّر لكتابة روايته، إذا كان كل ما يريد إبلاغه للقرَّاء هو أنهم محكوم عليهم بالهلاك. بل على العكس، لقد أراد أن يحفِّز، لا أن يشلَّ الحركة، العالم الغربي لمقاومة نشطة أكثر وعياً للفيروس الشمولي الذي يتعرَّض له.
ويخلص لينسكي إلى أن «1984» لا تزال هي الكتاب الذي نرجع إليه عندما تُشوَّه الحقيقة، وتُحرَّف اللغة، ويُستغلُّ النفوذ، ونكون في حاجة لمعرفة إلى أي مدى قد تسوء الأمور؛ فقد كان صاحبها نافذ البصيرة بما يكفي لاستبيان هذه الشرور، وموهوباً بما يكفي لإدراجها في رواية وُصفت بأنها مخطوطة مستقبلية مُروِّعة عن أسوأ مخاوفنا.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.