كيف نتذكر الحروب؟

كتابان يعيدان طرح أسئلة تستمر طويلاً بعد وقف إطلاق النار

كيف نتذكر الحروب؟
TT

كيف نتذكر الحروب؟

كيف نتذكر الحروب؟

لطالما كانت مسألة تذكر الحروب واحدة من الموضوعات الساخنة داخل الأوساط الأكاديمية خلال العقود الأخيرة ـ ما يعد في حد ذاته أمراً جيداً. ويساعدنا فحص هذا الموضوع على الوصول إلى فهم أفضل لما حدث في الحرب وكيف أصبحنا نفكر فيها. فيما يخصّ الأميركيين، على سبيل المثال، تظل مسألة كيفية تذكر وإحياء ذكرى حربنا الأهلية على نحو صائب وملائم سؤالاً حياً، بل إنه متفجر.
ومن الممكن أن تتسم ذاكرتنا بتفاوتات. مثلاً، كثيراً ما ننسى على الصعيد الجمعي أنه حتى بعد استسلام روبرت إي. لي في أبوماتوكس في 9 أبريل (نيسان) 1865، استمر القتال لما يزيد على أسبوع آخر في نورث كارولينا. في كتابه «قلوب تمزقت إرباً: صدمة الحملة الأخيرة للحرب الأهلية في نورث كارولينا»، تولى إرنست إيه. دولار جورنيور الاضطلاع بمهمة مؤثرة تمثلت في رصد وتصوير مشاعر الرعب التي سادت تلك الفترة، عندما تردى الصراع وتحول إلى حرب الجميع ضد الجميع.
لقد نشر قادة الكونفدرالية جنودهم ضد اللصوص من وحدات قوات المتمردين. وسار الجنود الفيدراليون الساعون للانتقام لمقتل الرئيس أبراهام لينكولن في 15 أبريل في تجمع بنيويورك، لتتصدى لهم المدافع المحملة بقذائف مزدوجة قادرة على تمزيق أجساد ضحاياها إرباً. من ناحيتهم، شعر المدنيون أصحاب البشرة البيضاء بالرعب من جميع الجنود، وكان ثمة سبب وجيه وراء هذا الرعب. وكان جنود الكونفدرالية قد قتلوا الرجال المستعبدين من أصحاب البشرة السمراء الساعين لنيل حريتهم.
من ناحيته، يشعر دولار، مدير متحف مدينة رالي، بتعاطف مفرط بعض الشيء تجاه المنظور «الانفصالي»، ويصف انتفاضات العبيد باعتبارها «سلوكاً شائناً»، كما لو كان السعي إلى نيل الحرية خطيئة. في الوقت نفسه، أشار إلى أنه عندما أقيم نصب الوحدة التذكاري في دورهام في عشرينات القرن الماضي لإحياء ذكرى استسلام الكونفدراليين في نهاية المطاف داخل ولاية كارولينا الشمالية، في 26 أبريل 1865، عارضه على نطاق واسع الأشخاص الذين اعترضوا على فكرة تذكر استسلام الجنوب.
ومثلما تكشف مثل هذه المشاحنات، تستمر الخلافات حول معنى النزاعات لفترة طويلة بعد توقف إطلاق النار. جدير بالذكر هنا أن الحرب الأهلية انتهت منذ نحو 157 عاماً، ومع ذلك، لا يزال الأميركيون يتجادلون فيما بينهم حول كيفية تذكرها. هل كان روبرت لي، على سبيل المثال، نبيلاً من فيرجينيا أم هو رجل دونما قلب في تعامله مع الأسرى؟ وهل ينبغي نصب تماثيل له داخل مدننا؟
يتناول كتابان جديدان مثل هذه التساؤلات من خلال دراسة الموضوع الثري المتعلق بالجنازات الأميركية في القرن التاسع عشر. في كتاب «الحب والواجب: الأرامل الكونفدراليات والسياسة العاطفية للخسارة»، تصف أنجيلا إيسكو إلدر، من بين أمور أخرى، كيف جابهت الكثير من نساء الجنوب الواقع الصعب والتحول إلى أرامل بسرعة خلال الحرب الأهلية. على سبيل المثال، تزوجت هيتي كاري بالعقيد الكونفدرالي جون بيغرام في كنيسة القديس بولس الأسقفية في ريتشموند بفيرجينيا، في 19 يناير (كانون الثاني) 1865، وبعد ثلاثة أسابيع من اليوم التالي، حضرت جنازته في نفس المبنى الذي شهد مراسم الزواج.
بالنسبة للبعض، مرت حالة الفجيعة بسرعة. مثلاً، تزوجت فاني فرانكلين هارجريف في منتصف الحرب وفقدت زوجها وتزوجت مرة أخرى بعد 19 شهراً. على الجهة المقابلة، احترفت نساء أخريات دور الأرملة، ما خلق، وفقاً لتسمية إلدر، «مهنة ما بعد الحرب». من بين هؤلاء فلورا كوك ستيوارت، التي كانت متزوجة بجي إي بي ستيوارت، قائد سلاح الفرسان، التي ظلت ترتدي ملابس الحداد لمدة 59 عاماً. كما أصبحت ماري آنا جاكسون، أرملة توماس «ستونوول» جاكسون، مناصرة قوية لـ«القضية الخاسرة»، ونشرت سيرة ذاتية عن زوجها حظيت بشعبية.
من وجهة نظر إلدر، المؤرخ في جامعة كونفيرس في ساوث كارولينا، فإنه من المثير للاهتمام أن إحياء ذكرى القتلى الكونفدراليين كان حدثاً مثيراً للجدل بعد الحرب، ولكن ليس للأسباب التي يجري النظر فيها اليوم. بدلاً من ذلك، كان السؤال المطروح آنذاك ما إذا كان ينبغي إنفاق الأموال العامة على إقامة النصب التذكارية لـ«أبطال الحروب» أو تخصيصها بدلاً من ذلك لدعم الأرامل وأطفال القتلى الفقراء؟
أيضاً، كان تكريم الموتى السود في الحرب الأهلية قضية محفوفة بالمخاطر. على سبيل المثال، في الخمسينات من القرن الماضي، ومن أجل إفساح المجال لتشييد مركز تسوق، شقت بلدية مدينة بالتيمور طريقاً عبر أجزاء من مقبرة تضم رفات قدامى المحاربين السود في الحرب الأهلية. ومن غير الواضح ما حدث في نهاية الأمر لجثامينهم.
والأهم من ذلك، أحبطت محاولة لإحياء ذكرى القائد العظيم لإلغاء الرق فريدريك دوغلاس في الولاية داخل مبنى الكابيتول الأميركي عام 1895.
وفي كتاب «في مشهد حزين: الجنازات العامة والذاكرة في عصر الحرب الأهلية»، تتناول سارة جيه بورسيل، المؤرخة لدى جرينيل كوليدج، جنازات دوغلاس وثمانية أميركيين بارزين آخرين في القرن التاسع عشر. وتشير إلى أن المدافن وخدمات النصب التذكارية كانت في ظاهرها غير حزبية، ولكنها غالباً ما كانت تستخدم لمحاولة الإشارة إلى إرث الحرب. على سبيل المثال، أثارت وفاة روبرت إي لي عام 1870 جدلاً حول ما إذا كان ينبغي إنزال علم الولايات المتحدة تكريماً لرجل شن حرباً ضد الأمة. بالطبع ينبغي، كما شعر الكثيرون، أن تشيد به إحدى الصحف في ولاية ويست فيرجينيا على أنه «أعظم مواطن أميركي».
وتستمر الصراعات. ويذكر أنه أقيمت جنازة دوغلاس في كنيسة بالعاصمة واشنطن بحضور نحو 2000 شخص داخل المبنى ومئات آخرين خارجها. وذكرت بورسيل أن أعضاء من جماعة «براود بويز» القومية البيضاء أحرقت لافتة تحمل عبارة «حياة السود مهمة» في الكنيسة نفسها. وبعد أسابيع قليلة من الحادث، اقتحم متظاهرون يمينيون مبنى الكابيتول ولوّح بعضهم بعلم الكونفدرالية.
* عن نيويورك تايمز. والكاتب توماس إي ريكس ـ كاتب عمود متخصص في التاريخ العسكري بمجلة «بوك ريفيو»، ومؤلف كتاب «شن حرب (خيرة): التاريخ العسكري لحركة الحقوق المدنية، 1954ـ 1968».



كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر
TT

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث؛ لكنه يتوقف بشكل مفصَّل عند تجربة نابليون بونابرت في قيادة حملة عسكرية لاحتلال مصر، في إطار صراع فرنسا الأشمل مع إنجلترا، لبسط الهيمنة والنفوذ عبر العالم، قبل نحو قرنين.

ويروي المؤلف كيف وصل الأسطول الحربي لنابليون إلى شواطئ أبي قير بمدينة الإسكندرية، في الأول من يوليو (تموز) 1798، بعد أن أعطى تعليمات واضحة لجنوده بضرورة إظهار الاحترام للشعب المصري وعاداته ودينه.

فور وصول القائد الشهير طلب أن يحضر إليه القنصل الفرنسي أولاً ليستطلع أحوال البلاد قبل عملية الإنزال؛ لكن محمد كُريِّم حاكم الإسكندرية التي كانت ولاية عثمانية مستقلة عن مصر في ذلك الوقت، منع القنصل من الذهاب، ثم عاد وعدل عن رأيه والتقى القنصل الفرنسي بنابليون، ولكن كُريِّم اشترط أن يصاحب القنصل بعض أهل البلد.

تمت المقابلة بين القنصل ونابليون، وطلب الأول من الأخير سرعة إنزال الجنود والعتاد الفرنسي؛ لأن العثمانيين قد يحصنون المدينة، فتمت عملية الإنزال سريعاً، مما دعا محمد كُريِّم إلى الذهاب للوقوف على حقيقة الأمر، فاشتبك مع قوة استطلاع فرنسية، وتمكن من هزيمتها وقتل قائدها.

رغم هذا الانتصار الأولي، ظهر ضعف المماليك الذين كانوا الحكام الفعليين للبلاد حينما تمت عملية الإنزال كاملة للبلاد، كما ظهر ضعف تحصين مدينة الإسكندرية، فسقطت المدينة بسهولة في يد الفرنسيين. طلب نابليون من محمد كُريِّم تأييده ومساعدته في القضاء على المماليك، تحت دعوى أنه -أي نابليون- يريد الحفاظ على سلطة العثمانيين. ورغم تعاون كُريِّم في البداية، فإنه لم يستسلم فيما بعد، وواصل دعوة الأهالي للثورة، مما دفع نابليون إلى محاكمته وقتله رمياً بالرصاص في القاهرة، عقاباً له على هذا التمرد، وليجعله عبرة لأي مصري يفكر في ممانعة أو مقاومة نابليون وجيشه.

وهكذا، بين القسوة والانتقام من جانب، واللين والدهاء من جانب آخر، تراوحت السياسة التي اتبعها نابليون في مصر. كما ادعى أنه لا يعادي الدولة العثمانية، ويريد مساعدتهم للتخلص من المماليك، مع الحرص أيضاً على إظهار الاحترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين؛ لكنه كان كلما اقتضت الضرورة لجأ إلى الترويع والعنف، أو ما يُسمَّى «إظهار العين الحمراء» بين حين وآخر، كلما لزم الأمر، وهو ما استمر بعد احتلال القاهرة لاحقاً.

ويذكر الكتاب أنه على هذه الخلفية، وجَّه نابليون الجنود إلى احترام سياسة عدم احتساء الخمر، كما هو معمول به في مصر، فاضطر الجنود عِوضاً عن ذلك لتدخين الحشيش الذي حصلوا عليه من بعض أهل البلد. ولكن بعد اكتشاف نابليون مخاطر تأثير الحشيش، قام بمنعه، وقرر أن ينتج بعض أفراد الجيش الفرنسي خموراً محلية الصنع، في ثكناتهم المنعزلة عن الأهالي، لإشباع رغبات الجنود.

وفي حادثة أخرى، وبعد أيام قليلة من نزول القوات الفرنسية إلى الإسكندرية، اكتشف القائد الفرنسي كليبر أن بعض الجنود يبيعون الملابس والسلع التي حملها الأسطول الفرنسي إلى السكان المحليين، وأن آخرين سلبوا بعض بيوت الأهالي؛ بل تورطت مجموعة ثالثة في جريمة قتل سيدة تركية وخادمتها بالإسكندرية، فعوقب كل الجنود المتورطين في هذه الجريمة الأخيرة، بالسجن ثلاثة أشهر فقط.

يكشف الكتاب كثيراً من الوقائع والجرائم التي ارتكبها جنود حملة نابليون بونابرت على مصر، ويفضح كذب شعاراته، وادعاءه الحرص على احترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين.

لم تعجب هذه العقوبة نابليون، وأعاد المحاكمة، وتم إعدام الجنود المتورطين في هذه الحادثة بالقتل أمام بقية الجنود. وهكذا حاول نابليون فرض سياسة صارمة على جنوده، لعدم استفزاز السكان، وكان هذا جزءاً من خطته للتقرب من المصريين، وإرسال رسائل طمأنة إلى «الباب العالي» في الآستانة.

وكان من أول أعمال نابليون في الإسكندرية، وضع نظام حُكم جديد لها، استند إلى مجموعة من المبادئ، منها حرية الأهالي في ممارسة شعائرهم الدينية، ومنع الجنود الفرنسيين من دخول المساجد، فضلاً عن الحفاظ على نظام المحاكم الشرعية، وعدم تغييرها أو المساس بقوانينها الدينية، وكذلك تأليف مجلس بلدي يتكون من المشايخ والأعيان، وتفويض المجلس بالنظر في احتياجات السكان المحليين.

ورغم أن بعض بنود المرسوم تُعدُّ مغازلة صريحة لمشاعر السكان الدينية، فإن بنوداً أخرى تضمنت إجراءات شديدة القسوة، منها إلزام كل قرية تبعد ثلاث ساعات عن المواضع التي تمر بها القوات الفرنسية، بأن ترسل من أهلها رُسلاً لتأكيد الولاء والطاعة، كما أن كل قرية تنتفض ضد القوات الفرنسية تُحرق بالنار.

وفي مقابل عدم مساس الجنود الفرنسيين بالمشايخ والعلماء والقضاة والأئمة، أثناء تأديتهم لوظائفهم، ينبغي أن يشكر المصريون الله على أنه خلصهم من المماليك، وأن يرددوا في صلاة الجمعة دعاء: «أدام الله إجلال السلطان العثماني، أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك، وأصلح حال الأمة المصرية».