«تماثيل الجان»... الحبُّ في لعبة فيديو

الكاتبة سمر نور تهدم الحدود بين الواقع والغرابة

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

«تماثيل الجان»... الحبُّ في لعبة فيديو

غلاف الرواية
غلاف الرواية

في رواية «تماثيل الجان» للكاتبة المصرية سمر نور، تتلاشى الحدود بين الواقع والغرابة، حيث يبدو العالم وكأنه يتحوّل تدريجياً إلى لعبة فيديو، والأبطال داخلها أطراف يختبرون انتصاراتهم وهزائمهم ضمن قواعد تلك اللعبة. في ظل هذا يبدو غياب «دنيا» هو الحدث الأبرز الذي يطلعنا عليه السرد منذ بدايته، ويظل غياب تلك البطلة اللغز الذي يشحذ شتات الذاكرة، ويكاد يكون البحث عنها هو المبرر الوحيد لاستعادة حياة أبطال الرواية، التي ارتبكت بفعل غيابها.
تبدو تقنية الرواية الصادرة عن «دار المحروسة» بالقاهرة، أقرب لألعاب الأحجيات، حيث يمكن بناء تصوّرات عن «دنيا» من خلال رواية «عمر» و«الجني» اللذين يشاركانها البطولة. ما يجعل سرد الرواية يبدو كأنه فصول متبادلة بين «ما رواه عمر» وبين «ما رواه الجني»، وفي توازٍ يتحدث فيه كل من البطلين بضمير المتكلم حول ما تركته فيهما «دنيا» من فراغ بغيابها، وما تركته كذلك لهما من سيرة وحضور.

وجه الحكاية
يطغى الشرود على شخصية عمر منذ مطلع الرواية؛ فالسير في الشوارع لا يستدعي لديه سوى وجه «دنيا» التي غابت، ومعها أحلامها الغارقة في فلسفة الفن، والتي لا تنفصل عن رؤيتها للعالم والواقع. حيث يتأمل وجوه السائرين في حي السيدة زينب الشعبي، مستدعياً في ظلالها لوحات الفنان التشكيلي عبد الهادي الجزار ووجوهه السحرية، التي كانت بمراحلها الفنية المتعددة تستغرق «دنيا» منذ كانت طالبة في كلية الفنون، لا سيما ذلك الموروث الشعبي المطلي بالأسطورة والفانتازيا الذي ميّز أعمال الجزار. يسير عمر في الشارع يتفحص وجوه السائرين والمجاذيب وكأنما يبحث بينها عن وجه دنيا «كنت أبحث عن بشر يطلون من لوحات مرحلته السحرية، كما تراها دنيا، تلك التي تمتلئ برموز من الموروث الشعبي حيث تحضر الخرافة بثقلها فتمنحك شعوراً مخيفاً نابعاً من داخلك».
في خضم رحلة بحثه عن دنيا، تتكشّف لعمر أسئلة تخص حياته وهشاشتها، فيعاني بعد اختفائها من مرض لا يعرف له اسماً، يُحاصره ويدفعه لمزيد من الضعف الذي يعيده للاقتراب من عائلته من جديد، في خضم بحثه عن تعافٍ ما من مأزقه، يجد ملاذاً داخل عائلته، ويراجع تعقيداتها الاجتماعية والموروثات التي تؤمن بها، التي لم يستطع الجزم بموقفه من غرابتها، يقترب من أفراد الأسرة، لا سيما الأب الذي أصيب بألزهايمر ولا يزال يشاهد الأفلام القديمة ويضحك عليها من قلبه. في حين يظل وسط خيوط مشاهداته لعائلته يبحث عن خيط يقوده لـ«دنيا» التي اختفت، ولم تغادره رائحة عطرها الأقرب لرائحة حلوى «غزل البنات» التي ارتبطت بها، فلم تعد تلك الرائحة نفسها سوى سؤال حول مصير الحب وجنون الفقد.

فلسفة الألعاب
تبدو ألعاب الفيديو في الرواية مركزية للتعرف على عالم «دنيا»، فهي، حسب رواية عمر، مُصممة ألعاب فيديو تحلم بتطوير لعبة فيديو وبيعها لشركة منتجة للألعاب، وتمارس شغفها بهذا المجال عبر قناتها الخاصة حول فلسفة ألعاب الفيديو على «يوتيوب» وهناك تقوم بالتعليق الصوتي على تلك الألعاب، حتى يكون صوتها نفسه أحد أسباب تعلق عمر بها، وتبدو الألعاب التي تُعلق عليها دنيا على مدار الرواية التي يستدعيها عمر بمثابة رموز تقترب بنا من درامية الحياة التي استغرقت دنيا ووجدت لها ملاذاً في ألعاب الفيديو، حيث الأسطورة والفانتازيا ويوتوبيا العدالة، يمكن لها أن تجتمع في عالم واحد، أو في لعبة فيديو.
أما البطل الآخر الموازي في السرد وهو «الجني»، فلم يظهر في الرواية بالسمات التراثية المهيبة المعهودة لدينا في ليالي «ألف ليلة وليلة»، فلم تكن لديه قدرات استعراضية على التخفي أو المناورة، بل على العكس يستدعي بضعف ورهافة بشرية قصة دنيا منذ كانت طفلة، ومعها يسرد حكايته المستوحاة من أسطورة عالم الجان، بوصفه الهارب الوحيد من بني جلدته «عشت وحيداً على الأرض. لم أعرف ما حدث لأهلي، إلا حين حكّت لي دنيا». كما يستدعي قصة التمثال الخشبي الذي أودعته داخله «دنيا» لحمايته بعد حادث داخل البيت، كما يروي، الحكايات التي صارت تسكنه وكانت تحكيها له دنيا منذ كانت طفلة وحتى كبرت وصارت هي كله تاريخه «حكايات، حكايات، كل معارفي مجرد حكايات. تُبنى حولها عالم كامل، ولا أعرف من أين بدأ كل هذا، ربما أكون مجرد فكرة خلقتها فتاة بائسة في ليلة خوف، فتاة صارت تسكنني، وتسكن عمر، تتلبسنا كأننا تماثيل».
مصير افتراضي
يفتح انصياع كل من عمر والجني لوجود «دنيا» الرواية على تأويلات أكبر لفكرة السيطرة التي تستحوذ بها دنيا على حياتهما كصانعة ألعاب ومبتكرة لشخصياتها، وليس كحبيبة غائبة، حيث تبدو بغيابها أكثر سيطرة على السرد، فيما يتراجع حضور «عمر» و«الجني» من أبطال لمجرد رواة يتحركون داخل متاهات «دنيا» بما يحمله اسم البطلة من مجاز واضح. حيث يبدو عالمهما أكثر قابلية للتداخل؛ ما يجعلنا أمام نسخة أخرى افتراضية للحكاية، تأخذنا من لغز اختفاء دنيا، لافتراض أننا أمام عالم تقوم دنيا بتحريكه عبر لعبة «تماثيل الجان» التي ابتكرت نسختها التجريبية انتظاراً لاستجابة شركة منتجة للألعاب لإنتاجها.
عبر الرواية، التي تقع في 194 صفحة، يصعب الجزم بأن هناك ثمة حقيقة مطلقة ترتبط بمصير أبطالها (عمر والجني ودنيا)، إلا أن الغرابة التي تتسق مع عالم الأبطال، تُرجح فانتازية أنهم عالقون داخل لعبة فيديو، أو أنهم شخصيات واقعية وخيالية استخدمتهم دنيا في بناء شخصيات لعبتها الخاصة، بكل ما تتيحه لهم من استعارات شكلية وصوتية وأسطورية، وحتى محاكاة لتاريخ الأرض التي عززتها بشخصية «الجني»، حيث الاختفاء لعبة أزلية بامتداد كائنات النور والنار والماء والطين وآلاف الأساطير التي حيكت حول مصائرهم. وجميعهم عناصر تطرحها في أجواء لعبتها الافتراضية التي تحمل اسم «تماثيل الجان»، التي تصير هي نفسها الدليل المادي الوحيد على حلم دنيا الذي تحقق ببرمجة لعبة فيديو من ابتكارها، ونعلم في نهاية الرواية أن الشركة المنتجة للألعاب التي خاطبتها قد وافقت على إنتاجها، فتحّل اللعبة نفسها محل صاحبتها.



«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.